آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-01-8
الصفحات: ٤٦٣
وفيه : أوّلا : أنّ المقام ليس من باب الشّكّ في المحصّل ؛ وذلك ، لعدم تعلّق الأمر في مثل الصّلاة بالأغراض والملاكات الخارجة عن قدرة العبد المكلّف حتّى يجب تحصيلها ، بل إنّما تعلّق بعدّة من أجزاء الصّلاة وشرائطها المقدورة للمكلّف ، فيكون كاشفا عن الغرض والملاك الكامن فيها على مسلك العدليّة القائلين بابتناء الأوامر والخطابات على الأغراض والملاكات.
وثانيا : لو سلّم ذلك ، فالصّلاة ـ أيضا ـ لو اتي بها بجميع حدودها وقيودها ، لكانت علّة توليديّة مؤثّرة بالنّسبة إلى الأغراض والملاكات ، فالمحصّل هنا ـ أيضا ـ يكون تحت اختيار المكلّف وإرادته بلا حاجة إلى توسيط إرادة اخرى.
وعليه : فبناء على فرض تعلّق الأمر بالأغراض والملاكات ، يكون مقتضى الأصل فيها هو الاشتغال.
هذا ، مضافا إلى أنّه يمكن أن يقال : بالاشتغال ، بناء على القول بالإعداد ـ أيضا ـ بتقريب : أنّ عدم تحقّق السّبب ، كما أنّه قد ينشأ من قبل المولى ، كذلك قد ينشأ من قبل العبد المكلّف بعدم إتيانه للمعدّ ، وعليه ، فيجب على العبد سدّ عدمه النّاشي من قبله بإتيان كلّ ما يحتمل دخله على وجه الإعداد.
(المورد الخامس : دوران الواجب بين النّفسي والغيري)
والصّناعة تقتضي أن يذكر حكم هذا المورد في المبحث الآتي وهو تقسيم الواجب بالنّفسى والغيري ، كما فعل به المحقّق الخراساني قدسسره حيث إنّه قدسسره تعرّض
مبحث مقتضى الأصل عند الشّكّ في نفسيّة الواجب وغيريّته هناك (١) ولهذا يرد عليه بأنّ تعرّضه هنا (٢) ـ أيضا ـ تكرار بلا طائل.
وكيف كان ، فالكلام هنا يقع تارة فيما يقتضيه الأصل اللّفظي ، واخرى فيما يقتضيه الأصل العملي.
أمّا الأصل اللّفظي ، فينبغي قبل الورود فيه ، الإشارة إجمالا إلى تعريف كلّ واحد من الواجب النّفسي والغيري ، وسيأتي تفصيل ذلك في مبحث تقسيمات الواجب.
أمّا الواجب النّفسي ، فيقال في تعريفه : أنّه الواجب الّذي تعلّق به الوجوب لنفسه وقامت مصلحته بنفسه.
وأمّا الواجب الغيري ، فيقال في تعريفه : أنّه الواجب الّذي تعلّق به الوجوب للتّوصّل إلى واجب آخر ، كالواجبات المقدّميّة.
أو يقال : إنّ الواجب النّفسي هو ما يكون وجوبه مطلقا غير مقيّد بوجوب واجب نفسي آخر ، بخلاف الواجب الغيري ، فإنّ وجوبه مقيّد مشروط بوجوب آخر نفسي ، كما أنّ المادّة وهي الواجب مقيّدة مشروطة بأمر آخر.
إذا عرفت ذلك ، فاعلم ، أنّه لا ريب في أنّ مقتضى الأصل اللّفظي وهو إطلاق الدّليل وعدم تقييده بما إذا وجب شيء آخر نفسي ، هو كون الواجب نفسيّا عند الشّكّ المذكور ؛ ضرورة ، أنّ الواجب الغيري ، حيث كان قيدا وشرطا للواجب النّفسي ، يحتاج بيانه إلى مئونة زائدة والإطلاق يدفعه وينفيه ، ونتيجة ذلك هو
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٧٠ و ١٧١.
(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١١٦.
النّفسيّة لا الغيريّة.
ثمّ إنّ النّفسيّة ، إمّا تثبت بإطلاق نفس الدّليل الواجب النّفسي وهو المسمّى بإطلاق المادّة ، وإمّا تثبت بإطلاق دليل الواجب المشكوك كونه نفسيّا أو غيريّا وهو المسمّى باطلاق الهيئة ، والأوّل ، نظير قوله تعالى : «أقيموا الصّلاة» حيث إنّ مقتضى إطلاق المادّة وهي الصّلاة وعدم تقييدها بالطّهارة ـ مثلا ـ هو كون الطّهارة ـ عند الشّكّ في أنّها نفسيّة أو غيريّة ـ واجبة نفسيّة ، والثّاني ، نظير الأمر بالطّهارة ، فإنّ مقتضى إطلاق الهيئة وهو وجوب الطّهارة وعدم تقييدها بوجود واجب آخر نفسي ، هو كونها ـ عند الشّكّ المذكور ـ نفسيّة ، ولا غرو في إثبات نفسية الطّهارة بالدّليلين من جهة كونها من لوازم الإطلاق فيهما ؛ إذ تقرّر في محلّه ، أنّ اللوازم في باب الاصول اللّفظية يكون حجّة.
هذا ، ولكن ذهب الإمام الرّاحل قدسسره إلى عدم إمكان إثبات النّفسيّة من الإطلاق ، سواء في المادّة أو الهيئة ، فقال في وجه ذلك ، ما هذا لفظه : «إنّ النّفسيّة متباينة مع الغيريّة ، كلّ منهما يمتاز عن الآخر بقيد وجوديّ أو عدميّ ، فالنّفسي ما يكون البعث إليه لذاته أو لا لغيره ، والغيرى بخلافه ، ويحتاج كلاهما في مقام التّشريع والبيان إلى قيد زائد ولو من باب زيادة الحدّ على المحدود ....
وعلى أيّ حال ، لم يكن النّفسي هو نفس الطّبيعة ، والغيري هي مع قيد ، لا عقلا ، وهو واضح ، ولا عرفا ؛ ضرورة ، أنّ تقسيم الوجوب إلى النّفسي والغيري صحيح بحسب نظر العرف». (١)
__________________
(١) مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٢٨٣ و ٢٨٤.
وفيه : أنّ النّفسيّة والغيريّة وإن كان لكلّ واحد منهما قيد على حدة يمتاز به أحدهما عن الآخر ، وهذا ممّا يحكم به العقل والعرف ، إلّا أنّ الأوامر الشّرعيّة المتعلّقة بالأفعال مطلقا لها ظهور تامّ عرفا في أنّها إنّما صدرت لانبعاث المكلّف نحو امتثال تلك الأفعال لذاتها ، وأنّ الأفعال مطلوبة شرعا لأجل نفسها ، لا للتّوصل إلى واجب آخر الّذي هو المطلوب عند الشّارع.
وعليه : فنفس إطلاق الخطابات المتوجّهة إلى العرف كاف في حمل ما تعلّق به الأمر على كونه واجبا نفسيّا بلا حاجة إلى بيان زائد بالنّسبة إلى قيديّة قوله : «لذاته» مثلا ، وليس مرجع هذا الكلام إلى أنّ النّفسي هو نفس الطّبيعة ، والغيرى هي مع قيد كى يقال : ببطلانه ـ وإلّا لزم عدم صحّة تقسيم الوجوب إلى النّفسي والغيري ؛ إذ يرجع حينئذ إلى تقسيم الشّيء إلى نفسه وغيره ، مع أنّ التّقسيم المذكور صحيح عرفا بلا ارتياب ـ بل مرجعه إلى أنّ القيد المأخوذ من ناحية الواجب النّفسي ليس من القيود الّتي تحتاج إلى بيان ذلك ، بل العناوين المأخوذة في الأوامر إذا أطلقت ظاهرة في أنّ المطلوب الشّرعيّ هو طبيعتها لأجل نفسه لا لغيره ، وهذا الظّهور كاف في الحكم بأنّ مقتضى الإطلاق هو حمل الواجب على النّفسيّة.
هذا تمام الكلام في مقتضى الأصل اللّفظي ، وأمّا مقتضى الأصل العملي ، فسيجيء البحث عنه في مبحث مقدّمة الواجب ، إن شاء الله.
(المورد السّادس : دوران الواجب بين التّعييني والتّخييري)
والكلام هنا ـ أيضا ـ يقع تارة في مقتضى الأصل اللّفظي ، واخرى في مقتضى الاصل العملي.
أمّا الأصل اللّفظي ، فالتّحقيق فيه يحتاج إلى تنقيح معنى الواجب التّخييري ، فنقول : إنّ الأقوال فيه ثلاثة :
أحدها : أنّ الواجب التّخييري هو ما يختاره المكلّف في مقام الامتثال ، نظير كفّارة التّخيير ، فإذا اختار المكلّف أحد الأبدال الثّلاثة من العتق والصّيام والإطعام كان هو الواجب في حقّه ، وكذلك في موارد التّخيير بين القصر والإتمام ، فأيّهما اختار المكلّف يكون واجبا.
ثانيها : أنّ الواجب التّخييري هو أنّ كلّ واحد من الطّرفين ، أو الأطراف واجب تعيينيّ متعلّق للإرادة مستقلّا ، لكن يسقط وجوب كلّ بفعل الآخر ، فيئول هذا إلى اشتراط وجوب كلّ بعدم إتيان الآخر.
ثالثها : أن الواجب التّخييري هو أنّ أحد الطّرفين أو الأطراف واجب لا بعينه والتّطبيق إنّما هو بيد المكلّف ، فيشترك مع الواجب التّعيينيّ ، حيث إنّ الواجب فيه ـ أيضا ـ أحد أطراف متصوّرة فيه ، والتّطبيق إنّما هو بيد المكلّف ، فإذا اختار ـ مثلا ـ الصّلاة في أوّل الوقت ، كان هو الواجب في حقّه دون سائر الأفراد.
نعم ، يفرق بينهما بوجهين :
أحدهما : أنّ التّخيير في الواجب التّخييري شرعيّ ، بمعنى : أنّه يلزم ذكر البدلين أو الأبدال من ناحية الشّرع الأنور ، بخلاف الواجب التّعيينيّ ، فإنّ التّخيير فيه عقليّ ، بمعنى : أنّ العقل يحكم بجواز اختيار أحد الأفراد.
ثانيهما : أنّ متعلّق الوجوب في التّعييني هو الطّبيعة المتأصّلة والجامع الحقيقى ، وفي التّخييري هو الطّبيعة الانتزاعيّة والجامع العنواني ، نظير عنوان «أحدهما» أو «أحدها» ، ولا منع في تعلّق الأمر بهذا الجامع ، كما لا منع في تعلّق الصّفات الحقيقيّة به ،
كالعلم والإرادة ونحوهما ، فكما أنّه لا واقع للمعلوم بالإجمال أو المراد كذلك ، سوى عنوان «أحدهما» أو «أحدها» كذلك لا واقع للمأمور به بالإجمال ، سوى هذا العنوان.
وبالجملة : الحكم الشّرعي ليس بحذائه في الواقع ، شيء ، ولا واقع له موضوعيّا سوى اعتبار الشّارع ، فكما يصحّ تعلّقه بالجامع الذّاتي ، كذلك يصحّ تعلّقه بالجامع الانتزاعيّ العنواني ، وكما أنّ الشّرع يعتبر الفعل المعيّن ذا الأفراد على ذمّة المكلّف ، كذلك يعتبر أحد الفعلين ، أو الأفعال عليها ، بلا فرق بينهما.
إذا عرفت ذلك : تبيّن لك أنّ مقتضى الأصل اللّفظي في دوران الواجب بين كونه تعيينيّا أو تخييريّا هو حمله على التّعيينيّ لا التّخييريّ على جميع الأقوال المتقدّمة.
أمّا على القول الأوّل ، فلأنّ اشتراط وجوب كلّ باختيار المكلّف في الواجب التّخييريّ ، قيد زائد يحتاج إلى بيان زائد ومئونة زائدة ، فمقتضى الإطلاق وعدم نصب القرينة على تقييد الوجوب واشتراطه باختياره هو عدم الاشتراط ، فينتج كون الواجب تعيينيّا.
وأمّا على القول الثّاني ، فلأنّ اشتراط وجوب كلّ بعدم إتيان الآخر فيه ، هو ـ أيضا ـ من القيود الزّائدة الّتي تحتاج إلى بيان زائد ، والإطلاق وعدم القرينة عليه يقتضي عدمه ، والنّتيجة إذا حمل الواجب على التّعيينيّ.
وأمّا على القول الثّالث ، فلرجوع الشّكّ بين التّعيينيّ والتّخييريّ إلى الشّكّ في متعلّق التّكليف من حيث السّعة والضّيق ، وأنّه هل هو الجامع العنواني لشيئين ، أو الأشياء ، أو خصوص ما ورد به الأمر؟ مثل ما إذا ورد الأمر بعتق رقبة فشكّ في كونه تعيينيّا ، بحيث يختصّ الواجب به ، أو تخييريّا بحيث يكون الواجب هو الجامع بينه وبين الصّيام والإطعام ، وحيث إنّ إرادة التّخيير تحتاج إلى بيان زائد ، وهو ذكر
العدل ، بكلمة : «أو» والمفروض عدمه ، نستكشف عدم العدل للواجب ، واقعا ، فيكون الواجب تعيينيّا.
وبعبارة اخرى : إنّ التّخييريّة نوع من التّقييد ؛ إذ بقاء الوجوب على ذمّة المكلّف وعدم سقوطه عنها في الواجب التّخييري مقيّد بعدم الإتيان بفرد من أفراد الجامع ، وواضح ، أنّ مقتضى الإطلاق وعدم أخذ هذا القيد في الكلام ، هو إرادة أنّ الواجب أمر خاصّ يكون بقاء الوجوب فيه مقيّدا بعدم الإتيان به فقط ، لا بإتيان غيره أو عدمه. هذا تمام الكلام في مقتضى الأصل اللّفظي.
وأمّا مقتضى الأصل العملي ، فالكلام فيه ، سيجيء في مبحث الاشتغال والبراءة ، إن شاء الله تعالى.
(المورد السّابع : دوران الواجب بين العيني والكفائي)
والبحث هنا يقع في مقامين :
الأوّل : فيما يقتضيه الأصل اللّفظي.
الثّاني : فيما يقتضيه الأصل العملي.
أمّا الأوّل : فالكلام فيه يحتاج إلى البحث عن معنى الوجوب الكفائي.
فنقول : إنّ الأقوال فيه أربعة :
أحدها : أنّ التّكليف فيه متوجّه إلى واحد معيّن عند الله تعالى ، لكن يسقط عنه بفعل غيره لوحدة الغرض ، فإذا حصل بفعل الغير سقط الأمر لا محالة ؛ لدوران الأمر مدار الغرض ، حدوثا وبقاء ، ثبوتا وسقوطا.
ثانيها : أنّه متوجّه إلى مجموع المكلّفين بما هو مجموع على نحو العامّ المجموعي ، نظير ما إذا تعلّق تكليف واحد شخصيّ بالمركّب من الأمور الوجوديّة والعدميّة على نحو العموم المجموعي ، كالصّلاة ؛ وذلك ، إذا كان الغرض المتوقّع منه واحدا.
ثالثها : أنّه متوجّه إليهم على نحو العامّ الاستغراقي ، فيجب على كلّ واحد واحد منهم ، غاية الأمر ، وجوبه على كلّ مشروط بترك الآخر.
رابعها : أنّه متوجّه إلى أحدهم لا بعينه وهو الّذي يعبّر عنه بصرف الوجود ، وهذا هو الحقّ.
توضيحه : أنّ غرض المولى بالنّسبة إلى الطّبيعة ، كما يتصوّر على وجهين ، أحدهما ، أن يتعلّق بصرف وجودها ، ثانيهما ، أن يتعلّق بمطلق وجودها ، كذلك ، غرضه بالنّسبة إلى المكلّفين ، فهو ـ أيضا ـ على وجهين :
الأوّل : أن يتعلّق بصدور الفعل عن جميع المكلّفين ، وهذا هو المسمّى بالواجب العينيّ ، فلا يسقط عن أحد بفعل الآخر.
والثّاني : أن يتعلّق بصدوره عن صرف وجودهم ، وهذا هو المسمّى بالواجب الكفائي ، فيسقط عن الباقي بفعل بعض ؛ إذ المفروض ، أنّ عنوان صرف الوجود ينطبق على كلّ واحد منهم ، فإذا أتى به بعضهم ، يحصل الغرض ويسقط الأمر قطعا ، وله نظائر في العرف والشّرع.
أمّا العرف ، فكأمر المولى أحد عبيده بفعل من دون تعلّق غرضه بصدوره من شخص خاصّ منهم ، فيحصل الغرض ويسقط الأمر إذا قام به أيّ واحد منهم.
أمّا الشّرع ، فكالأمر بالدّفن والكفن ونحوهما ، حيث إنّ المطلوب هنا مجرّد وجود ذلك في الخارج من أيّ واحد من المكلّفين كان ؛ وذلك ، لوحدة الغرض
وتساوي نسبته إلى كلّ واحد منهم ، والتّخصيص بفرد دون فرد ممّا لا مخصّص له.
ومن هنا ظهر : أنّه لا وجه للقول الأوّل ، وكذا الثّاني ، والثّالث ؛ إذ المفروض ، أنّ الغرض يحصل بفعل واحد من المكلّفين ، فلا معنى للتّخصيص بصدوره من واحد معيّن ، كما هو مقتضى القول الأوّل ، أو التّخصيص بصدوره من المجموع بما هو المجموع ، أو من واحد واحد ، كما هو مقتضى القول الثّاني والثّالث.
إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّ مقتضى الأقوال المذكورة ، هو اعتبار القيد والاشتراط في ناحية الواجب الكفائي ، وعليه ، فبناء على الجميع ، لا مناص عند دوران الواجب ، بين أن يكون كفائيّا أو عينيّا من حمل الواجب إذا أطلق في كلام الشّارع على الواجب العينيّ.
أما على القول الأوّل ، فلأنّ توجّه التّكليف إلى شخص معيّن يشترط بعدم قيام غيره ، ولا ريب ، أنّ هذا الاشتراط يحتاج إلى بيان زائد ، فإذا فرض الإطلاق في واجب ، كان مقتضاه حمله على العينيّ الّذي لا يسقط التّكليف فيه عن شخص بفعل غيره.
وأمّا على القول الثّاني ، فلأنّ المجموعيّة وكون كلّ واحد من المكلّفين جزءا لموضوع التّكليف ، تحتاج إلى بيان زائد ، وواضح ، أنّ مقتضى الإطلاق هو كون كلّ واحد من أفراد المكلّفين موضوعا للتّكليف مستقلّا ، وهذا هو المسمّى بالواجب العينيّ.
وأمّا على القول الثّالث ، فلأنّ المفروض فيه ، هو أنّ التّكليف وإن توجّه إلى كلّ واحد واحد إلى المكلّفين ، لا المجموع ، إلّا أنّه مشروط بترك الآخر ، وأنت تعلم ، أنّ إرادة هذا الاشتراط في واجب ، تحتاج إلى مئونة زائدة ، فيستكشف من الإطلاق ،
أنّ المولى أراد الواجب العينىّ ، ومقتضاه ، أنّ التّكليف متوجّه إلى كلّ واحد واحد منهم ، سواء فعله الآخر ، أم تركه.
وأمّا على القول الرّابع ، فلأنّ مرجعه إلى القول الثّالث المذكور في الواجب التّخييري ، والفرق بينهما ، أنّ التّخيير هناك إنّما هو في الأفعال ، وهنا في الأشخاص.
وعليه : فكما أنّ إرادة الجامع هناك وهو عنوان أحد الشّيئين أو الأشياء ، ممّا يحتاج إلى بيان زائد (ذكر العدل بكلمة : «أو») وإذا لم يبيّن ، يحمل الإطلاق على إرادة التّعيين ، كذلك الجامع هنا وهو عنوان أحد الأشخاص ، فإنّ إرادته لا بدّ من بيان زائد وهو ذكر الأعدال من الأشخاص ، وحيث لم يذكر ، فمقتضاه حمل الإطلاق على الواجب العينيّ.
ولك أن تقول : إنّ مقتضى ظاهر الأمر المتوجّه إلى شخص ، أو صنف ، هو دخل هذا الشّخص أو الصّنف بعنوانه ، في موضوع الحكم ، إلّا أن يكون هناك قرينة على عدم الدّخل ، فإذا اطلق ، ولم تذكر القرينة ، يستكشف كونه دخيلا ، ولازم هذا الإطلاق عينيّة الواجب ، لا الكفائيّة ، ومن المقرّر في محلّه ، أنّ لوازم الأمارات ، ومنها الاصول اللّفظيّة ، حجّة.
هذا كلّه في الأصل اللّفظي ، أمّا الأصل العملي ، فالكلام فيه ـ أيضا ـ سيأتي في مبحث الاشتغال والبراءة ، إن شاء الله تعالى.
(المورد الثّامن : الأمر عقيب الحظر)
هنا أقوال أربعة :
الأوّل : أنّ الأمر الواقع عقيب الحظر أو توهّمه ، يقتضي الإباحة وهو
المنسوب إلى المشهور (١) بين الأصحاب.
الثّاني : أنّه يقتضي الوجوب ، وهو المنسوب إلى عدّة من العامّة. (٢)
الثّالث : أنّه يقتضي الرّجوع إلى الحكم الّذي كان قبل الحظر ، من الوجوب أو الإباحة أو الاستحباب ، إن علّق الأمر بزوال علّة الحظر ، لا مطلقا ، وهو المنسوب الى بعض. (٣)
الرّابع : أنّه لا يقتضي شيئا من المذكورات ، بل يصير حينئذ مجملا ، وهو الحقّ المختار ، بلا فرق فيه بين ما اختاره المشهور ، من أنّه يدلّ على الوجوب بالوضع ، وبين ما اخترناه سابقا ، من أنّه يدلّ عليه عند العقلاء بقيام الحجّة للمولى على العبد بمجرّد صدور الأمر ، بحيث لو ترك لا يكون محذورا.
والسّرّ فيه : أمّا بناء على المختار ، فلأنّ نفس صدور الأمر إنّما يقوم به الحجّة للمولى عند العقلاء إذا لم تقم معه قرينة صارفة عن الدّلالة المذكورة ، ومن المعلوم ، أنّ وقوع الأمر عقيب الحظر ، أو توهّمه ممّا يصلح للصّارفيّة عندهم.
وبعبارة اخرى : ليس للعقلاء فيما إذا ورد الأمر عقيب الحظر حكم بصحّة احتجاج المولى على العبد بمجرّد صدور هذا الأمر ، ونتيجة ذلك ، هو كون الأمر المذكور مجملا ؛ إذ بعد ارتفاع اقتضائه للوجوب ، لا مقتضي له للدّلالة على الاستحباب ، أو الإباحة ، أو التّابعيّة لما قبل الحظر ، كما هو واضح ، بل يحتاج حمله على كلّ واحد من هذه الأحكام إلى قرينة معيّنة ، والمفروض ، أنّها مفقودة.
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١١٦.
(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١١٦ ؛ ومحاضرات في اصول الفقه : ج ٢ ، ص ٢٠٥.
(٣) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١١٦ ؛ ومحاضرات في اصول الفقه : ج ٢ ، ص ٢٠٥.
وأمّا بناء على مختار المشهور ، فلأنّ حمل الأمر على معناه الموضوع له ، إنّما يصحّ إذا لم يحتفّ الكلام بما يصلح للقرينيّة ، وأمّا عند احتفافه به ، كما في المقام حسب الفرض ، فلا مجال للحمل المذكور.
نعم ، بناء على اعتبار أصالة الحقيقة تعبّدا ، لا مانع من حمل الأمر على الوجوب في مثل المقام ؛ إذ لا موجب لرفع اليد عن التّعبّد بمجرّد احتفاف الكلام للقرينة ، ولكنّ التّحقيق خلافه ، لما بيّن في محلّه ، من أنّ أصالة الحقيقة حجّة من باب الظّهور ، لا التّعبّد ، فإذا لا يبقى الظّهور بعد اقترانه بما يصلح للقرينيّة.
(المورد التّاسع : المرّة والتّكرار)
قد وقع الخلاف بين الأعلام في أنّ الأمر ، هل يدلّ على المرّة أو التّكرار ، أم لا يدلّ على شيء منهما؟ والتّحقيق يقتضى التّكلّم في مقامين :
الأوّل : في تحرير محلّ النّزاع ، فعن صاحب الفصول قدسسره أنّ النّزاع إنّما هو في خصوص الهيئة ، إمّا هي بوحدتها ، أو مع مادّتها.
وأمّا المادّة وحدها ، فهي خارجة عن مورد الكلام ؛ ضرورة ، أنّها لا تدلّ على المرّة أو التّكرار ، واستشهد له بنصّ جماعة ، وبحكاية السّكّاكي ، الاتّفاق على أنّ المصدر المجرّد من اللّام والتّنوين لا يدلّ إلّا على الماهيّة من حيث هي. (١)
__________________
(١) راجع ، الفصول الغرويّة ، ص ٥٧ ؛ وراجع ، مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٢٨٤ ؛ ومفتاح العلوم : ص ٩٣.
وقد أورد عليه صاحب الكفاية ، بما حاصله : أنّ المصدر ليس مادّة للمشتقّات الّتي منها الأمر ، بل هو ـ أيضا ـ من المشتقّات ، فحينئذ لا يدلّ ثبوت الاتّفاق المحكي ، في المصدر على أنّه ثابت في المادّة ـ أيضا ـ ولازم ذلك هو كون المادّة ـ أيضا ـ داخلا في مورد النّزاع. (١)
ولكن أجاب عنه الإمام الرّاحل قدسسره ، بأنّ صحّة مقالة صاحب الفصول قدسسره ليست مبتنية على كون المصدر مادّة للمشتقّات ، بل تصحّ على القول بكونه من المشتقّات ـ أيضا ـ وذلك ، لأنّ الاتّفاق على عدم دلالة المصدر على المرّة والتّكرار ، اتّفاق على عدم دلالة مادّة المصدر عليهما ـ أيضا ـ ولازمه ، عدم دلالة مادّة الأمر عليهما لوحدة الموادّ في المشتقّات. (٢)
وفيه : أنّ دعوى تحقّق الاتّفاق المذكور في جميع موادّ المشتقّات ومنها الأمر ، إنّما تصحّ إذا ثبت الاتّفاق على أحد أمرين :
أحدهما : كون المصدر مادّة للمشتقّات.
ثانيهما : كون مادّة المصدر هو عين مادّة سائر المشتقّات ، وأنت ترى ، أنّ الاتّفاق المذكور غير ثابت ؛ وذلك لوجود الاختلاف في كلا الأمرين ، كما لا يخفى على المتتبّع ، وعليه ، فلا ينحصر النّزاع في الهيئة ، بل يعمّها والمادّة ، أيضا.
المقام الثّاني : في أنّ المرّة ظاهرة في معني الدّفعة (٣) ، لا الفرد (٤) ؛ والتّكرار
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١١٧.
(٢) راجع ، مناهج الوصول : ج ١ ، ص ٢٨٥.
(٣) المعبّر عنها بالفارسيّة ب «يكبار».
(٤) المعبّر عنه بالفارسيّة ب «يك دانه ، يك عدد».
ظاهر في معنى الدّفعات (١) ، لا الأفراد. (٢)
والفرق بينهما ، أنّ تحقّق الشّيء دفعة ، أو دفعات ، عبارة عن وجوده بحركة واحدة أو حركات متعدّدة ، والتّحقّق كذلك أعمّ من وجود فرد أو أفراد في الخارج ، كما إذا قال المولى لعبده : «ائتني بماء وطعام» فإذا أتاهما العبد دفعة واحدة ، يتحقّق هنا الشّيئان بحركة واحدة ، وعليه ، فالنّسبة بين المعنيين عموم من وجه ، قد يجتمعان في تحقّق شيء واحد مع حركة واحدة أو الشّيئين أو الأشياء بحركات متعدّدة ، وقد يفترق أحدهما عن الآخر ، كما إذا تحقّق شيء واحد بحركات متعدّدة ، أو تحقّق الشّيئين أو الأشياء بحركة واحدة.
ثمّ إنّ النّزاع يجري في كلا المعنيين ، خلافا لصاحب الفصول قدسسره ، حيث إنّه ذهب أنّ مورد النّزاع هو المعنى الأوّل (الدّفعة والدّفعات) مدّعيا ، بأنّ مرادهم لو كان هو المعنى الثّاني (الفرد والأفراد) يكون هذا المبحث متفرّعا على المبحث الآتي ، من أنّ الأمر ، هل يتعلّق بالطّبيعة أو بالأفراد؟ فينبغي أن يجعل تتمّة لذلك المبحث ؛ إذ على القول بتعلّق الأمر بالطّبائع لا يبقى المجال لهذا البحث.
وأمّا على القول بتعلّقه بالأفراد ، فيقال : هل المراد تعلّقه بالفرد الواحد ، أو المتعدّد ، بخلاف ما إذا كان مرادهم هو المعنى الأوّل ، فإنّ هذا المبحث أجنبيّ عن البحث الآتي ؛ ضرورة ، أنّ النّزاع في الدّفعة والدّفعات صحيح مطلقا ، سواء قلنا في ذلك المبحث بتعلّق الأمر بالطّبائع ، أو تعلّقه بالأفراد. (٣)
__________________
(١) المعبّر عنها بالفارسيّة ب «چند بار».
(٢) المعبّر عنها بالفارسيّة ب «چند دانه ، چند عدد».
(٣) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١١٩ ؛ ومناهج الوصول : ج ١ ، ص ٢٨٧.
ولكن أجاب عنه المحقّق الخراساني قدسسره ونعم ما أجاب ، فقال ما حاصله : إنّه لا علقة بين البحثين ، بناء على المعنى الثّاني ـ أيضا ـ وذلك لوجهين : أحدهما : أنّ المراد بالطّبيعة هناك هو الفرد ، حيث إنّ تعلّق الطّلب بها إنّما يكون بلحاظ وجودها في الخارج ؛ إذ هي من حيث هي ، ليست إلّا هي ، لا مطلوبة ولا غير مطلوبة.
نعم ، على القول بتعلّق الأمر بالطّبائع ، تكون خصوصيّة الفرد وتشخصّه لازم للمطلوب وخارج عنه ، بخلاف القول بتعلّقه بالأفراد ، فإن الخصوصيّة الفرديّة مقوّم له.
وكيف كان ، يراد بالطّبيعة هنا ، الفرد ، لا نفسها من حيث هي.
ثانيهما : أنّ المراد بالفرد أو الأفراد هنا ، هو وجود واحد أو وجودات متعدّدة ، فبهذين الوجهين يصحّ النّزاع هنا بالمعنى الثّاني حتّى على القول بتعلّق الأمر بالطّبيعة هناك ، بأن يقال ، هل المراد تعلّق الأمر بالوجود الواحد من الطّبيعة ، أو بالوجودات المتعدّدة من الطّبيعة؟ (١)
فتحصّل : أنّه كما يصحّ النّزاع هنا بالمعنى الأوّل مطلقا ، سواء قلنا هناك بتعلّق الأمر بالطّبائع أو بالأفراد ، كذلك يصحّ النّزاع هنا بالمعنى الثّاني مطلقا ، وكما يحتاج إلى إفراد كلّ من البحثين ، بناء على أنّ معنى المرّة والتّكرار هي الدّفعة والدّفعات ، كذلك يحتاج إلى أفراده ، بناء على أنّ معناهما هو الفرد والأفراد.
ثمّ إنّه قد يتوهّم أنّ هذه المسألة هي عين المسألة الإجزاء ، لكن باسم وعنوان آخر ، فمن يقول : بإجزاء الإتيان بالمأمور به على وجهه أداء وقضاء ، يريد بذلك ،
__________________
(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٢٠.
كفاية المرّة ، وهذا هو القول بالمرّة ، ومن يقول : بعدم الإجزاء ، يريد عدم كفاية المرّة ، بل لا بدّ من التّكرار وإعادة العمل مرّات ، وهذا هو القول بالتّكرار. (١)
وفيه : أنّ ما يراد من مسألة المرّة والتّكرار هو تعيين المطلوب بالأمر وتشخيص المأمور به ، بأنّه هل هو الدّفعة أو الدّفعات ، أو الوجود الواحد ، أو الوجودات مع قطع النّظر عن الإجزاء وعدمه؟ وهذا بخلاف ما يراد من مسألة الإجزاء ، فإنّه راجع إلى أنّ الإتيان بالمأمور به أيّا كان من الدّفعة ، أو الوجود الواحد أو غيرهما ، هل يجزي عن الإعادة ثانيا ، أم لا؟
وعليه : فبحث المرّة والتّكرار صغرويّ ، وبحث الإجزاء كبرويّ ، فأين الاتّحاد بينهما!
إذا عرفت ما ذكرنا ، فنقول : إنّ مقتضى التّحقيق هو ما قال به المحقّق الخراساني قدسسره : من عدم دلالة الأمر على المرّة والتّكرار ؛ وذلك ، لأنّ الأمر مركّب من المادّة والهيئة ، ولا يدلّ شيء منهما على المرّة والتّكرار.
أمّا المادّة ، فلأنّها لا تدلّ إلّا على الحدث ، وأمّا الهيئة ، فلأنّها لا تدلّ ، إلّا على البعث والإغراء ، فلا دالّ آخر يدلّ عليهما.
نعم ، لو فرض وجود قرينة دالّة على إفادة الأمر لأحدهما ، كان هي المتّبع ، نظير مقدّمات الحكمة ، فتارة يستفاد منها مطلوبيّة المادّة على نحو صرف الوجود ، فتنتج دلالته على المرّة ، وأخرى على نحو الطّبيعة السّارية ، فتنتج دلالته على التّكرار ، وهذا غير أنّ الأمر بنفسه يدلّ على شيء منهما.
__________________
(١) راجع ، كتاب بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٢٥٥.
وبالجملة : ليس شيء من المرّة والتّكرار داخل في متعلّق الأمر ، فإن استفدنا أحدهما بدليل خارجي ، فهو ، وإلّا فالمرجع هو الأصل اللّفظي وهو الإطلاق إن احرز أنّ المولى كان في مقام البيان ، وإلّا ، فلو كان في مقام الإهمال أو الإجمال ، فالمرجع هو الأصل العملي.
أمّا الأصل اللّفظي ، فلا إشكال في التّمسّك به لإثبات المرّة ، بمعنى : الدّفعة في الأفراد الطّوليّة ؛ بتقريب : أنّ متعلّق الأمر هو صرف الطّبيعة وهو يحصل بالمرّة أو التّكرار ، وحيث إنّ الامتثال مرّة موجب لحصول الغرض الملازم لسقوط الأمر به ، والتّكرار قيد زائد محتاج إلى البيان ، والمفروض فقده ـ لعدم نصب قرينة تدلّ عليه ـ فمقتضى الإطلاق هو المرّة.
وكذا لا إشكال في التّمسّك به لإثبات المرّة ، بمعنى : الفرد في الأفراد العرضيّة ، بتقريب : أنّ الطّبيعة صادقة بإتيان فرد منها وهو يستدعي حصول الغرض المستلزم لسقوط الأمر ، والتّكرار ، بمعنى : الأفراد يحتاج إلى بيان زائد ، وحيث إنّه لم يرد بيان بالنّسبة إليه ، فالإطلاق يقتضي المرّة بهذا المعنى ، أيضا.
وأمّا الأصل العملي ، فالمقام من مجاري البراءة بالنّسبة إلى الزّائد على المرّة بكلا المعنيين من الدّفعة والفرد ، ونتيجته عدم التّكرار في الأفراد الطّوليّة وعدم التّعدّد في الأفراد العرضيّة ، بل يكتفي بالدّفعة الواحدة وبالفرد الواحد.
وبالجملة : الطّبيعة المأمور بها تحصل بالإتيان بها مرّة واحدة وبوجود واحد ، فيحصل الغرض حينئذ وهو موجب لسقوط الأمر ، ولا دليل على اعتبار أمر زائد ، وهذا واضح ، لا إشكال فيه ، إنّما الإشكال في الامتثال بعد الامتثال ، بأن يأتي المأمور به ثانيا بعد إتيانه أوّلا ، ففيه وجوه وأقوال :
أحدها : القول بالجواز مطلقا.
ثانيها : القول بعدمه مطلقا.
ثالثها : القول بالتّفصيل ، بين ما إذا كان امتثال الأمر علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى ، وبين ما إذا لم يكن كذلك.
وهذا ما ذهب إليه المحقّق الخراساني قدسسره حيث قال : «... مع الإتيان بها مرّة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط الأمر فيما إذا كان امتثال الأمر علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى ، بحيث يحصل بمجرّده ، فلا يبقى معه مجال لإتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر ، أو بداعي أن يكون الإتيانان امتثالا واحدا ... وأمّا اذا لم يكن الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض ، كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضّأ فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضّأ فعلا ، فلا يبعد صحّة تبديل الامتثال بإتيان فرد آخر أحسن منه ، بل مطلقا ، كما كان له ذلك قبله». (١)
والتّحقيق يقتضي صحّة القول الثّاني (عدم الجواز مطلقا).
والوجه فيه : أوّلا : أنّه على تقدير تعلّق الأمر بالطّبيعة وعدم وجود دليل على لزوم التّكرار والإتيان بها ثانيا ، يحصل الامتثال بمجرّد إيجاد تلك الطّبيعة في ضمن فرد ما ؛ لانطباقها عليه قهرا ؛ إذ ليس الامتثال إلّا الإتيان بما ينطبق عليه الطّبيعة المأمور بها.
ومن المعلوم : أنّه إذا حصل الامتثال ، حصل الغرض الموجب لسقوط الأمر به ـ أيضا ـ فإذا لا يبقى مجال للامتثال ثانيا ، بل يلزم منه الخلف ؛ إذ الامتثال بداعي
__________________
(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٢٢.
هذا الأمر ثانيا ، مستلزم لعدم حصول الغرض بالامتثال أوّلا ، وهذا خلاف ما فرض من حصول الغرض بالامتثال الأوّل.
لا يقال : إنّ الامتثال ثانيا إنّما هو بداعي أمر آخر غير الأمر الأوّل.
لأنّه يقال : هذا ـ أيضا ـ خلاف ما هو المفروض في المقام من عدم أمر آخر في البين.
وثانيا : أنّه لو لم يكن الامتثال الأوّل مسقطا للأمر ، وافيا بالغرض ، لم يكن الثّاني ـ أيضا ـ كذلك ؛ لوحدة حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز.
وثالثا : أنّه لو لم يسقط الأمر ولم يحصل الغرض بالامتثال الأوّل ، لما كان لجواز الامتثال ثانيا ومرّة اخرى معنى ؛ ضرورة ، أنّه بعد فرض بقاء الأمر الأوّل وعدم حصول الغرض به صار كالعدم ، فيكون الثّاني امتثالا ابتداء.
والحاصل : أنّ الأمر الواحد ، له امتثال واحد ، فإن سقط الأمر به لحصول الغرض ، فهو ، وإلّا وجب امتثاله ثانيا ؛ لدوران الأمر مدار الغرض حدوثا وبقاء ، فكما أنّ حدوثه موجب لحدوث الأمر ، كذلك بقاءه موجب لبقائه ، فلا معنى للامتثال بعد الامتثال.
وبعبارة اخرى : أنّ الامتثال الأوّل لو كان صحيحا ، فالثّاني لغو ، فلا يعدّ امتثالا ثانيا بعد امتثال ، وأمّا لو كان باطلا غير واف للغرض ، لكان الثّاني الوافي للغرض ، امتثالا فقط ، لا امتثالا ثانيا بعد امتثال ، والظّاهر ، أنّ في كلام المحقّق الخراساني قدسسره خلطا بين الغرضين : الأوّل : ما يكون مترتّبا على وجود المأمور به من دون دخل شيء آخر فيه.
الثّاني : ما يكون مترتّبا على فعل الآمر.
أمّا الأوّل : فهو حاصل في المثال المذكور في كلامه قدسسره حيث إنّ الغرض فيه ليس إلّا تمكين المولى من الشّرب والتّوضي ، والمفروض حصوله بإتيان الماء.
وأمّا الثّاني : فهو وإن لم يكن حاصلا ، حيث إنّ غرض الآمر في المثال منحصر برفع العطش والوضوء وهما متوقّفان على شربه وتوضّيه ، والمفروض ، أنّه لم يفعلها ، إلّا أنّه غرض آخر زائد على الإتيان بالمأمور به ، وليس العبد مأمورا إلّا بتحصيل الغرض المترتّب على وجود المأمور به ، وهو تمكين المولى من الشّرب والوضوء ، لا أنّه مأمور بتحصيل رفع عطشه أو وضوءه ؛ إذ هما خارجان عن تحت اختيار العبد.
ثمّ إنّه قد يتوهّم (١) ، أنّه يجوز الامتثال بعد الامتثال في موردين :
أحدهما : في صلاة الآيات ، حيث إنّه ورد أنّ من صلّى الآيات ، فله أن يعيد صلاته ما دامت الآية باقية ، كصحيحة معاوية بن عمّار ، قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : «صلاة الكسوف إذا فرغت قبل أن ينجلي ، فأعد». (٢)
ثانيهما : في الصّلوات اليوميّة ، حيث إنّه ورد أنّ من صلّى ، فرادى فأقيمت الجماعة ، فله أن يعيدها ، كما ورد عن عمّار ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام : «عن الرّجل يصلّي الفريضة ، ثمّ يجد قوما يصلّون جماعة ، أيجوز له أن يعيد الصّلاة معهم؟ قال :
نعم ، وهو أفضل ، قلت : فإن لم يفعل؟ قال : ليس به بأس». (٣)
__________________
(١) راجع ، محاضرات في الاصول : ج ٢ ، ص ٢١٠.
(٢) وسائل الشّيعة : ج ٥ ، كتاب الصّلاة ، الباب ٨ من أبواب الصّلاة الكسوف والآيات ، الحديث ١ ، ص ١٥٣.
(٣) وسائل الشّيعة : ج ٥ ، كتاب الصّلاة ، الباب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ٩ ، ص ٤٥٦.