وعن أبي هريرة : أنّه أوى إلى فراشه فقال : (يا ليت أمّي لم تلدني ، فقالت امرأته ميسرة : إنّ الله عزوجل قد أحسن إليك ، هداك إلى الإسلام. قال : أجل ؛ ولكنّ الله تعالى قد بيّن لنا أنّا لواردون النّار ، ولم يبيّن لنا أنّا خارجون منها).
وقال بعضهم : الورود هو الإشراف على النار بلا دخول ؛ لأن موضع المحاسبة يكون قريبا من النار ، وقد قال الله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ)(١) ولم يكن موسى دخل الماء ، واستدلّوا بما روي أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : [لن يدخل النّار ـ إن شاء الله تعالى ـ واحد شهد بدرا أو الحديبية](٢).
وعن مجاهد أنه قال : (الحمّى حظّ كلّ مؤمن من النّار) (٣). فعلى هذا من حمّ من المسلمين فقد وردها ، لأن الحمّى من فيح جهنّم.
وعن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنّه عاد مريضا من وعك كان به ، فقال له : [أبشر ؛ إنّ الله يقول : هي ناري أسلّطها على عبدي المؤمن لتكون حظّه من النّار](٤).
قال الزجّاج : (والحجّة القاطعة على أنّهم لا يدخلون النّار قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ)(٥)) وهذه حجّة لا معارض لها (٦).
__________________
وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم. ورواه الترمذي مرفوعا في السنن : كتاب تفسير القرآن : باب ومن سورة مريم : الحديث (٣١٥٩) ؛ وقال : هذا حديث حسن.
(١) القصص / ٢٣.
(٢) رواه الإمام أحمد في المسند : ج ٣ ص ٣٩٦.
(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧٩٨٠). و (النار) ضبطت من رواية الطبري لأنها سقطت من أصل المخطوط.
(٤) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٢ ص ٤٤٠. والترمذي في السنن : كتاب الطب : باب تطييب نفس المريض : الحديث (٢٠٨٨). ولفظه كما أخرجه ابن ماجة في السنن : كتاب الطب : الحديث (٣٤٧٠).
(٥) الأنبياء / ١٠١ و ١٠٢.
(٦) قاله الزجاج نقلا عن أبي إسحق ، كما في معاني القرآن وإعرابه : ج ٣ ص ٢٧٩.
قوله تعالى : (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) (٧١) ؛ الحتم : القطع بالأمر ، والمقضيّ هو الذي قضى بأنه يكون. قوله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ؛) أي الذين اتّقوا الشرك وصدّقوا ، (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (٧٢) ؛ أي ونذر المشركين فيها جثيّا على الرّكب.
قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ؛) معناه : وإذا تتلى على الكفّار آيات القرآن المنزّلة قالوا (لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ ؛) أي الدّينين ، (خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) (٧٣) ؛ خير مسكنا وخير مجلسا في الدّنيا ، فكذلك يكون في الآخرة.
يعني أنّ مشركي قريش كانوا يقولون لفقراء المؤمنين : أيّ الفريقين خير مقاما ؛ نحن أم أنتم؟ والمقام والمسكن والمنزل والنّديّ والنادي : مجلس القوم ومجتمعهم ، وكانوا يلبسون أحسن الثّياب ، ثمّ يقولون مثل هذا للمؤمنين.
فأجابهم الله تعالى بقوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) (٧٤) ؛ أي وكم أهلكنا قبل قريش من الأمم الخالية هم أحسن أموالا وأحسن منظرا ، والأثاث : المال ، جمع الإبل والغنم والعبيد والمتاع ، وقال الحسن : (الأثاث : اللّباس ، والرّئيّ : المنظر).
وقرئ (وريا) بغير همز من الرّيّ الذي هو ضدّ العطش ، والمراد : أن منظرهم مرتو من النعمة كأنّ النعيم بيّن فيهم ؛ لأن الرّيّ يتبعه الطراوة ، كما أنّ العطش يتبعه الذّبول.
قوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ؛) أي قل لهم يا محمّد : من كان في العماية عن التوحيد ، ودين الله فليمدد له الرّحمن ؛ أي ليزد في ماله وعمره وولده ، ويقال : ليدعه الله في طغيانه حتى إذا وصل الآخرة لم يكن له فيها نصيب. وهذا اللفظ أمر ؛ ومعناه الخبر.
قوله تعالى : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ؛) يعني الذين مدّهم الله في الضلالة. وأخبر عن الجماعة لأنّ لفظ (مَنْ) يصلح للجماعة.
ثم ذكر ما يوعدون ، فقال : (إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ) يعني القتل والأسر والقيامة والخلود في النار ، (فَسَيَعْلَمُونَ) حينئذ (مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً ؛) أي أهم أم المؤمنون ؛ لأن مكانهم جهنم ، ومكان المؤمنين الجنّة. قوله تعالى : و (وَأَضْعَفُ جُنْداً) (٧٥) ؛ هذا ردّ عليهم في قولهم : أيّ الفريقين خير مقاما ، وأحسن نديّا.
قوله تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ؛) أي يزيدهم هذا بالإيمان والشّرائع ، ويزيدهم هدى بالأدلّة والحجج والطاعات التي تدعو إلى الحسنات. قوله تعالى : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ ؛) قد تقدّم تفسيرها ، سميت باقيات ؛ لبقاء ثوابها للإنسان. قوله تعالى : (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً ؛) أي أنفع من مقامات الكفّار التي يفتخرون بها ، (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) (٧٦) ؛ أي وأفضل مرجعا في الآخرة ، وأفضل ما يردّ على صاحبه.
قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) (٧٧) أنزلت هذه الآية في العاص بن وائل ، قال خبّاب بن الأرتّ : (كان لي دين على العاص ابن وائل ، فحسب دينه منه ، فقال : لا أقضيك حتّى تكفر بمحمّد ، قال : لا والله ؛ لا أكفر بمحمّد حيّا ولا ميّتا ولا حين أبعث ، قال : فدع مالك ، فإذا بعثت أعطيت مالا وولدا وأعطيك هنالك ـ قال ذلك مستهزءا ـ قال : فذكرت ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فأنزل الله هذه الآية) (١).
وقال الحسن : (نزلت في الوليد بن المغيرة) ، ومعنى : لأوتينّ مالا وولدا : لئن كان ما يقول محمّد في الآخرة حقّا لأعطينّ مالا وولدا في الآخرة. ومن قرأ (وولدا) بالضمّ ؛ فمعناه واحد ، كالحزن والحزن ، وقيل : إنه جمع الولد كما يقال أسد وأسد.
قوله تعالى : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (٧٨) ؛ أي أعلم ذلك غيبا أم عهد الله إليه عهدا بما تمنّى؟! وقال ابن عبّاس : (ومعناه : ما غاب عنه حتّى يعلم أفي الجنّة هو أم لا). وقال الكلبيّ : (أنظر ما في اللّوح المحفوظ).
__________________
(١) خرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٠١٢). وفي الدر المنثور : ج ٥ ص ٥٣٦ ؛ قال السيوطي :
(أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس) وذكره بلفظ قريب منه.
قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ،) قال ابن عبّاس : (معناه أم قال : لا إله إلّا الله ؛ فأرحمه بها) (١). وقال قتادة : (أقدّم عملا صالحا يرجوه) (٢) ، (كَلَّا ؛) أي ليس الأمر على ما قال : أنه يولّي المال والولد. ويجوز أن يكون معناه : كلّا إنّه لم يطّلع الغيب ، ولم يتّخذ عند الرحمن عهدا.
قوله تعالى : (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ ؛) أي سنأمر الحفظة بإثبات ما يقول لنجازيه به في الآخرة ، (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) (٧٩) ؛ أي نزيده عذابا فوق العذاب. قوله تعالى : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ؛) أي نرثه المال والولد بعد إهلاكنا إياه ، فلا يعود بعد ذلك إليه ، كما لا يعود المال إلى من خلفه بعد موته ، (وَيَأْتِينا ؛) في الآخرة ، (فَرْداً) (٨٠) ؛ أي وحيدا خاليا من المال والولد.
قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (٨١) ؛ أي واتّخذ أهل مكة من دون الله أصناما آلهة ؛ ليكونوا لهم أعوانا وشفعاء في الآخرة. والعزّ : الامتناع من الضمّ ، فهم اتخذوا هذه الآلهة ؛ ليصيروا بها إلى العزّ في زعمهم فلا يصيبهم سوء ، وذلك أنّهم رجوا منها الشفاعة والنّصرة والمنع من عذاب الله.
قوله : (كَلَّا ؛) أي لا يمنعهم منّي شيء ، (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ ؛) أي يجحد الآلهة عبادة المشركين لها كما قالوا : (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ)(٣). قوله تعالى : (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) (٨٢) ؛ أي يصيرون أعوانا عليهم يكذّبونهم يلعنونهم يتبرّأون منهم.
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (٨٣) ؛ أي ألم تعلم أنّا خلّينا بين الشياطين والكفار وسلطانهم عليهم ، فلم نعصم الكفار من القبول (٤) منهم ، وتسمّى التخلية إرسالا في سعة اللغة. قوله تعالى : (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) أي
__________________
(١) في الدر المنثور : ج ٥ ص ٥٣٦ ؛ قال السيوطي : (ابن أبي حاتم).
(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٠١٧٠) بلفظ : (بعمل صالح قدّمه).
(٣) القصص / ٦٣.
(٤) في المخطوط : (القبور) وهو تصحيف والصحيح كما أثبتناه.
تزعجهم إلى معصية الله تعالى إزعاجا ، وتغريهم إغراء. وقال القتيبيّ : (تحرّكهم إلى المعاصي). وأصله الحركة والغليان ، ومنه الحديث المرويّ : [ولجوفه أزيز كأزيز المرجل](١).
قوله تعالى : (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ؛) أي لا تعجل بمسألة إهلاكهم ، (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) (٨٤) ؛ أي نعدّ أنفاسهم نفسا بعد نفس ، كما نعدّ أيّامهم وآجالهم.
قوله تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) (٨٥) ؛ أي اذكر لهم يا محمّد اليوم الذي نجمع فيه من اتّقى الله في الدّنيا ؛ أي اجتنب الكبائر والفواحش إلى دار الرّحمن ؛ وهي موضع الكرامة والثواب. قوله تعالى : (وَفْداً) أي ركبانا ، قال ابن عبّاس : (يؤتون بنوق لم تر الخلائق مثلها ، عليها رحال الذهب وأزمّتها الزّبرجد ، فيركبون عليها حتّى يقربوا أبواب الجنّة) ، وإنّما وحّد الوفد لأنه مصدر.
قوله تعالى : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ ؛) أي يحثّهم على السير إلى جهنم ، وقوله تعالى : (وِرْداً) (٨٦) ؛ أي عطاشى مشاة حفاة عراة قد تقطّعت أعناقهم من العطش ، والورد : الجماعة التي ترد الماء ، ولا يرد أحد الماء إلّا بعد العطش.
قوله تعالى : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ ؛) أي لا يقدرون على الشفاعة ، (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (٨٧) ؛ أي لكن من اتّخذ عند الرحمن عهدا وهم المؤمنون ، فإنّهم يملكون الشفاعة. قال ابن عبّاس : (شهادة أن لا إله إلّا الله). و (مَنِ) في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. قال ابن عبّاس : (لا يشفع إلّا من قال : لا إله إلّا الله ، وتبرّأ من الحول والقوّة إليه ، ولا يرجو إلّا الله عزوجل).
وعن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول ذات يوم : [أيعجز أحدكم أن يتّخذ كلّ صباح ومساء عند الله عهدا؟!] قالوا : كيف؟ قال : يقول : [اللهمّ فاطر السّموات والأرض ، عالم الغيب والشّهادة ، إنّي أعهد إليك في هذه الدّنيا بأنّي أشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك ، وأنّ محمّدا عبدك ورسولك ، وأنّك إن تكلني
__________________
(١) أخرجه أبو داود في السنن : كتاب الصلاة : الحديث (٩٠٤). والنسائي في السنن : كتاب السهو : باب البكاء في الصلاة : ج ٣ ص ١٣ وتقدم تخريجه وإسناده حسن.
إلى نفسي ، تقرّبني من الشّرّ وتباعدني من الخير ، وإنّي لا أثق إلّا برحمتك ، فاجعله لي عهدا توفّينه يوم القيامة ، إنّك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش ، فإذا كان يوم القيامة ، نادى مناد : أين الّذين لهم عند الله عهد فيدخلون الجنّة](١).
قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) (٨٩) ؛ أي قال المشركون : الملائكة بنات الله ، وقالت النّصارى : المسيح ابن الله ، وقالت اليهود : عزيز ابن الله. يقال لهم : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) أي منكرا عظيما.
قوله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ؛) أي يتشقّقن من عظم هذا القول ، (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ ؛) فتصّدّع ، (وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) (٩٠) ؛ أي يسقط بعضها على بعض بشدّة صوت ، بأن سمّوا ، (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١ وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) (٩٢) ؛ قرأ أهل الحجاز والكسائي : (يَتَفَطَّرْنَ) بالتاء مشدّدة ، وقرأ نافع (يكاد) بالياء لتقدّم الفعل. قال المفسرون : اتخذ الرحمن ولدا ، اقشعرّت الأرض ، وغضبت الملائكة ، وأسعرت جهنم ، وفزعت السموات والأرض والجبال.
قوله تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (٩٣) أي ما من أحد في السّموات والأرض إلّا سيأتي الرحمن مقرّا بالعبودية ، ويأتيه يوم القيامة عبدا ذليلا. يعني أن الخلق كلّهم عبيده ، وأن عيسى والعزير من جملة العبيد.
قوله تعالى : (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) (٩٤) ؛ أي لقد علم عددهم وأفعالهم ، ولا يخفى عليه شيء منهم مع كثرتهم. قوله تعالى : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (٩٥) ؛ لا أنصار لهم ولا أعوان ولا مال ولا ولد ، كلّ امريء مشغول بنفسه لا يهمّه غيره.
__________________
(١) أخرجه الطبراني في الكبير : الحديث (٨٩١٨). والحاكم في المستدرك : كتاب تفسير القرآن : باب تفسير آية (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) : الحديث (٣٤٧٨) ؛ وقال : هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وفي مجمع الزوائد : ج ١٠ ص ٨٤ ؛ قال الهيثمي : (فيه المسعودي وهو ثقة ولكنه قد اختلط وبقية رجاله ثقات).
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) (٩٦) ؛ أي يحبّهم في الدّنيا ، ويحببهم إلى عباده المؤمنين من أهل السّموات وأهل الأرضين. وعن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : [إذا أحبّ الله العبد ، قال الله تعالى : يا جبريل إنّي قد أحببت فلانا فأحبّه ، فيحبّه جبريل ، ثمّ ينادي في أهل السّموات : إنّ الله قد أحبّ فلانا فأحبّوه ، فيحبّه أهل السّماء ، ثمّ توضع له المحبّة في الأرض. وإذا أبغض العبد قال مثل ذلك. وما أقبل عبد بقلبه على الله إلّا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتّى يرزقه الله مودّتهم ومحبّتهم](١).
قوله تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ ؛) أي يسّرنا قراءة القرآن على لسانك ، (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) أي بالقرآن ؛ (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) (٩٧) أي قوما ذوي جدل بالباطل ، واللّدّ جمع الألدّ : شديد الخصومة ، نظيره الأصمّ (٢).
قوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ؛) أي كم أهلكنا يا محمّد قبل قومك من قرون ماضية ، (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ ؛) أي هل ترى منهم من أحد؟ (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) (٩٨) ؛ أي صوتا.
والإحساس مأخوذ من الحسّ ، يقال : هل أحسست فلانا ؛ أي هل رأيته. والرّكز : هو الصوت الخفيّ الذي لا يفهم ، ومنه الرّكاز : وهو المغيّب في الأرض. قال الحسن في معنى الآية : (ذهب القوم فلا يسمع لهم صوت). وقال قتادة : (معناه : هل ترى من عين أو تسمع من صوت).
وعن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : [من قرأ سورة مريم أعطي من الأجر بعدد من صدّق بزكريّا ويحيى ومريم وعيسى وهارون وإبراهيم وإسماعيل
__________________
(١) رواه البخاري في الصحيح : كتاب الآداب : باب المحبة من الله : الحديث (٦٠٤٠). ومسلم في الصحيح : كتاب البر والصلة : باب إذا أحب الله عبدا : الحديث (١٥٧ / ٢٦٣٧).
(٢) في المخطوط : (نظيره الأصم والأصم) فهو إما سهو من الناسخ ، أو أنه أراد أن يقول : (والألدّ هو الأصمّ عن الحقّ).
وإسحق ويعقوب وإدريس ، وبعدد من كذبهم ، وبعدد من دعا لله ولدا ، وبعدد من وحّد الله تعالى](١).
آخر تفسير سورة (مريم) والحمد لله رب العالمين
__________________
(١) أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان : ج ٦ ص ٢٣٥ ، وإسناده واه.
سورة طه
سورة طه مكّيّة ، وهي خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفا ، وألف وثلاثمائة وإحدى وأربعون كلمة ، ومائة وخمس وثلاثون آية.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(طه) (١) ؛ قرأ أبو عمرو وورش بفتح الطّاء وكسر الهاء ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بكسر الطّاء والهاء ، وقرأ الباقون بالتفخيم فيهما. واختلفوا في معناه ، فقال أكثر المفسّرين : إنّ معناه : يا رجل ؛ يعني النبيّ صلىاللهعليهوسلم وهو قول ابن عبّاس والحسن وعكرمة وابن جبير والضحّاك وقتادة ومجاهد (١) ، إلّا أن عكرمة قال : (هو بلسان الحبشة) (٢) ، وقال قتادة : (إنّما يقول هذه اللّغة أهل السّريانيّة (٣)).
وروى السّدّيّ عن أبي ملك معنى قوله طه : (يا فلان) ، قال الكلبيّ : (بلغة عكّ : يا رجل) (٤) ، قال ابن الأنباريّ : (ولغة قريش وافقت تلك اللّغة أيضا في هذا
__________________
(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الآثار (١٨٠٧٦ ـ ١٨٠٨٢). والسيوطي في الدر المنثور : ج ٥ ص ٥٥٠.
(٢) في الدر المنثور : ج ٥ ص ٥٥٠ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة ... وذكره).
(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٠٨١).
(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : مج ٩ ج ١٦ ص ١٧١ ؛ قال : (معناه : يا رجل ؛ لأنها كلمة معروفة في عكّ فيما بلغني ، وأن معناها فيهم : يا رجل). وفي الجامع لأحكام القرآن : ج ١١ ص ١٦٥ نقله القرطبي عن الكلبي قال : (لو قلت في عكّ لرجل يا رجل لم يجب حتى تقول : طه).
المعنى ؛ لأنّ الله تعالى لم يخاطب نبيّه إلّا بلسان قريش. قال الشّاعر (١) :
إنّ السّفاهة طه فى خلائقكم |
|
لا قدّس الله أرواح الملاعين |
يريد : يا رجل ، وقال آخر :
هتفت بطه في القتال فلم يجب |
|
فخفت عليه أن يكون موائلا (٢) |
وقرئ (طه) بتسكين الهاء ، وله معان ؛ أحدها : أن تكون الهاء بدلا من همزة الطّاء كقولهم في : أرقت هرقت. والآخران : أن يكون على ترك الهمزة طا يا رجل بقدمك الأرض ، ثم يدخل الهاء للوقف ، فإنه روي : [أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم كان يجتهد في صلاة اللّيل بمكّة حتّى تورّمت قدماه ، فكان إذا صلّى رفع رجلا ووضع أخرى ، فأنزل الله تعالى (طه) أي طأ الأرض بقدمك (٣).
وقال بعضهم : أول السّورة قسم ؛ أقسم الله بطوله وهدايته. وقال بعضهم : الطاء من الطّهارة ، والهاء من الهداية ، كأنه تعالى قال لنبيّه صلىاللهعليهوسلم : يا طاهرا من الذّنوب ، ويا هاديا إلى علّام الغيوب.
قوله تعالى : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) (٢) ؛ أي لتجهد نفسك وتتعب ، وذلك أنه لمّا نزل عليه الوحي اجتهد في العبادة ، حتى أنه كان يصلّي على إحدى رجليه لشدّة قيامه وطوله ، فأمره الله أن يخفّف على نفسه ، وذكر له أنه ما أنزل عليه القرآن ليتعب ذلك التعب ، ولم ينزله ، (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٣) ؛ قال مجاهد : (نزلت هذه الآية لسبب ما كان يلقى النّبيّ صلىاللهعليهوسلم من التّعب والسّهر من قيام اللّيل).
__________________
(١) قاله يزيد بن المهلهل.
(٢) نسبه الطبري في جامع البيان : ج ٩ ص ١٧١ لمتمم بن نويرة.
(٣) في الدر المنثور : ج ٥ ص ٥٥٠ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن المنذر وعبد بن حميد عن الربيع بن أنس). وأخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٤ ص ٢٥١. وابن ماجة في السنن : كتاب الصلاة : باب ما جاء في طول القيام : الحديث (١٤١٩).
وقال الحسن : (هذا جواب للمشركين ، وذلك أنّ أبا جهل والنّضر بن الحارث قالا للنّبيّ صلىاللهعليهوسلم : وإنّك لتشقى ، لما رأوا من طول عبادته وشدّة اجتهاده ، فقال صلىاللهعليهوسلم : [بعثت رحمة للعالمين] قالوا : بل أنت شقيّ ، فأنزل الله هذه الآية (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) ولكن لتسعد وتنال الكرامة به في الدّنيا والآخرة).
والشّقاء في اللغة : احمرار ما شقّ على النفس من التعب. قوله تعالى : (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) (٤) ؛ نصب على المصدر ؛ أي نزّلناه تنزيلا. والعلى : جمع العلياء.
قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٥) ؛ وقد تقدّم تفسيره. قوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) (٦) ؛ أي له ما له في السّموات وما في الأرض ، وما بينهما من الخلق ، معناه : أنه مالك كلّ شيء ومدبره ، وقوله تعالى : (وَما بَيْنَهُما) يعني الهواء.
قوله تعالى : (وَما تَحْتَ الثَّرى) أي وما تحت التّراب. والمفسّرون يقولون هو التراب النديّ الذي تحت الأرض السّفلى ، وقيل : تحت الصخرة التي عليها الثور ، ولا يعلم ما تحت الثّرى إلّا الله.
قوله تعالى : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (٧) ؛ معناه : ما حاجتك إلى الجهر ، فإن الله لا يحتاج إلى جهرك ليسمع ، فإنه تعالى يعلم السّر وأخفى منه. قال ابن عبّاس : (السّرّ ما أسررت به في نفسك ، وأخفى منه ما لم تحدّث به نفسك ممّا يكون في غد ، علم الله فيهما سواء) (١) والتّقدير : وأخفى منه ، إلّا أنه حذف للعلم به.
وعن سعيد بن جبير قال : (السّرّ ما تسرّه في نفسك ، وأخفى منه ما لم يكن وهو كائن ، فالله تعالى يعلم ما خفي عن ابن آدم ممّا هو فاعله قبل أن يفعله) (٢).
__________________
(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٠٩٢).
(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨٠٩٥ ـ ١٨٠٩٦).
قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٨) ؛ أي له الصفات العليا.
قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) (٩) ؛ هذا استفهام تقرير بمعنى الخبر ، يريد : قد أتاك حديث موسى ، (إِذْ رَأى ناراً ؛) قال ابن عبّاس : (كان موسى عليهالسلام رجلا غيورا لا يصحب الرّفقة ؛ لئلّا يرى أحد امرأته ، فأخطأ الطّريق في ليلة مظلمة ، فرأى نارا من بعيد). (فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا ؛) أي قال لامرأته : أقيموا مكانكم ، (إِنِّي آنَسْتُ ناراً ؛) أي رأيتها وأبصرتها ، (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ ؛) أي بشعلة ، (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) (١٠) ؛ أي من يدلّني على الطريق. قال الفرّاء : (أراد هاديا ، فذكر بلفظ المصدر) (١). قال السديّ : (لأنّ النّار لا تخلوا من أهل لها وناس عندها).
كانت رؤيته للنار في ليلة الجمعة ، وكان قد استأذن شعيبا عليهالسلام في الرجوع إلى والدته فأذن له ، فخرج بامرأته ، فولدت في الطريق في ليلة باردة مثلجة ، وقد حاد عن الطريق ، فقدح فلم ير نور المقدحة شيئا ، فبينما هو في مداولة ذلك إذ أبصر نارا عن يسار الطريق ، فقال لامرأته : امكثوا ـ أي أقيموا مكانكم ـ إنّي أبصرت نارا ، لعلّي آتيكم منها بقبس ، أو أجد على النّار من يدلّني على الطريق.
قوله تعالى : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى) (١١) ؛ أي فلمّا أتى النار أي شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنّها نار بيضاء تتّقد ، فسمع تسبيح الملائكة ، ورأى نورا عظيما ، فخاف وتعجّب ، وألقيت عليه السكينة ، ثم نودي يا موسى ، (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ؛) وإنّما كرّر الكناية ؛ لتوكيد الدلالة ، وإزالة الشّبهة ، وتحقيق المعرفة. قرئ (إنّي أن ربّك) بفتح الهمزة وكسرها ، فمن فتح فعلى معنى بأنّي ، ومن كسر فعلى معنى الابتداء.
قال وهب : (نودي من الشجرة ، فقيل : يا موسى ، فأجاب سريعا لا يدري من دعاه ، فقال : إنّي أسمع صوتك فلا أرى مكانك ، فأين أنت؟ قال : أنا فوقك ومعك
__________________
(١) ينظر : معاني القرآن : ج ٢ ص ١٧٥.
وأمامك وخلفك وأقرب إليك من نفسك ، فعلم أن ذلك لا ينبغي إلّا لربه عزوجل ، فأيقن به) (١). قوله تعالى : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ؛) قال الحسن : (إنّما أمر بخلع نعليه لينال قدماه بركة الوادي المقدّس ، ويباشر تراب الأرض المقدّسة بقدمه ، فيناله بركتها) وقوله تعالى : (الْمُقَدَّسِ) أي المطهّر. قال عكرمة : (كانت نعلاه من جلد حمار ميت) (٢).
قوله تعالى : (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) (١٢) ؛ المقدّس : هو المطهّر ، وقيل : المبارك ، ولا يستدلّ بما قاله عكرمة على أنّ جلود الميتة لا تطهر بالدّباغ ؛ لأنه إن كان كذلك فهو منسوخ بقوله عليهالسلام : [أيّما إهاب دبغ طهر](٣). قوله تعالى : (طُوىً) هو اسم الوادي.
قوله تعالى : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) (١٣) ؛ أي اخترتك للرسالة ؛ لكي تقوم بأمري ، فاستمع لما يوحى إليك ، فاحفظه حتى تؤدّيه للناس. وقرأ حمزة : (وإنّا اخترناك) بالتشديد في (إنّا) على التعظيم.
قوله تعالى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ؛) ولا تعبد غيري ظاهر المعنى ، (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (١٤) ؛ أي لتذكرني بها بالتسبيح والتعظيم كذا قال مجاهد والحسن ، وقيل : لأن أذكرك بالثناء والمدح ، وقال مقاتل : (معناه : إذا نسيت الصّلاة ، فأقمها إذا ذكرتها) ، قال صلىاللهعليهوسلم : [من تأخّر عن صلاة أو نسيها ؛ فليصلّها إذا ذكرها ، فإنّ ذلك وقتها] ثمّ قرأ (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)(٤).
__________________
(١) في الدر المنثور : ج ٥ ص ٥٥٤ ؛ قال السيوطي : (أخرجه أحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم).
(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨١١٢).
(٣) أخرجه مسلم في الصحيح : كتاب الحيض : الحديث (١٠٥ / ٣٦٦). وأبو داود في السنن : كتاب اللباس : باب في أهب الميتة : الحديث (٤١٢٣).
(٤) تقدم.
قوله تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها ؛) قال ابن عبّاس : (معناه : أنّ القيامة كائنة أكاد أخفيها عن نفسي ، فكيف أظهرها لغيري) ، قال المبرّد : (هذا على عادة مخاطبة العرب ؛ يقولون إذا بالغوا في كتمان السّرّ : كتمته من نفسي ؛ أي لم أطلع عليه أحدا).
والمعنى : أنّ الله تعالى بالغ في إخفاء السّاعة ، فذكره بأبلغ ما تعرف العرب. قال قتادة : (هي في بعض القراءة : أكاد أخفيها من نفسي ، ولعمري لقد أخفاها الله عن الملائكة المقرّبين والأنبياء والمرسلين ، وفي مصحف أبيّ وعبد الله : أكاد أخفيها من نفسي ، فكيف يعلمها مخلوق؟).
ومعنى الآية : أكاد أخفيها عن عبادي ؛ كي لا تأتيهم إلّا بغتة ، والفائدة في إخفائها عن العباد : التهويل والتخويف ، وفي ذلك مصلحة لهم ؛ لأنّهم إذا لم يعلموا متى قيامها كانوا على حذر منها في كلّ وقت ، خائفين من الموت ، مستعدّين لذلك بالتوبة والطاعة.
قوله تعالى : (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (١٥) ؛ أي بسعيها ، إما الثواب وإما العقاب. وقرأ الحسن وابن جبير : (أكاد أخفيها) بفتح الهمزة ؛ أي أظهرها وأبرزها ، يقال : خفيت الشّيء إذا أظهرته ، وأخفيته إذا سترته (١).
قوله تعالى : (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها ؛) أي فلا يصرفنّك عن الإيمان بالسّاعة من لا يصدّق بها ، (وَاتَّبَعَ هَواهُ) بالإنكار (فَتَرْدى) (١٦) ؛ أي فتهلك ، وهو خطاب لموسى عليهالسلام ، ونهي لسائر المكلّفين. والصّدّ : هو الصّرف عن الخير ، يقال : صدّه عن الخير ، وصدّه عن الإيمان ، ولا يقال : صدّه عن الشّرّ ، ولكن يقال : صرفه عن الشرّ ومنعه عنه.
قوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) (١٧) ؛ أي وما التي بيمينك يا موسى؟ (قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أي أعتمد عليها إذا أعييت ، وإذا
__________________
(١) ينظر : جامع البيان للطبري : ج ٩ ص ١٨٨.
مشيت ، فلفظ أوّل الآية استفهام ؛ ومعناه : التقرير على المخاطب ، أن الذي في يده عصا ؛ لكيلا تهوله صارت تعبانا.
وقيل : كان الغرض بهذا السّؤال إزالة الوحشة منه ؛ لأن موسى كان خائفا مستوحشا. قوله تعالى : (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي ؛) أي أخبط به الشجر ؛ ليتناثر ورقه فيأكله غنمي. وقرأ عكرمة : (وَأَهُشُّ) بالشّين ، يعني أزجر بها الغنم ، وذلك أنّ العرب تقول : هشّ وقشّ.
قوله تعالى : (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) (١٨) ؛ أي حوائج أخرى ، تقول : لا إرب لي في هذا ؛ أي لا حاجة لي فيه ، واحد المآرب مأربة بضمّ الراء وكسرها وفتحها ، وإنّما لم يقل : أخر ؛ لأجل رؤوس الآي.
قال ابن عبّاس : (كانت مآربه أنه إذا ورد ماء قصر عنه رشاؤه وصله بالمحجن ، ثم أدلى العصا وكان في أسفلها عكّازة يقاتل بها السباع ، وكان يلقي عليها كسائه يستظلّ تحتها ، ومن مآربه أيضا أنه كان اذا أراد الاستسقاء من بئر أدلاها ، فطالت على طول البئر ، فصارت شعبتاها كالدّلو ، وكان يظهر على شعبتيها الشّمعتين بالليل ـ يعني : يضيء له مد البصر ويهتدي بها ـ واذا اشتهى ثمرة من الثمار ركزها في الأرض ، فتغصّنت أغصان تلك الشجرة ، وأورقت أورقها وأثمرت) (١).
ثم كان من المعلوم أنّ موسى لم يرد بهذا الجواب إعلام الله تعالى ؛ لأن الله تعالى أعلم بذلك منه ، ولكن لمّا اقتضى السؤال جوابا لم يكن بدّ له من الإجابة ، فذكر منافع العصا إقرارا بالنعمة فيها والتزاما بما يجب عليه من الشّكر لله ، وهكذا سبيل أولياء الله تعالى في إظهار شكر نعم الله تعالى ، وفي هذا جواب عن بعض الملحدة في باب المسألة كانت عن فائدة ما في يده ، ولم يكن عن منافعها ، فلم كان الجواب عن ما لم يسأل؟
__________________
(١) ينظر : الدر المنثور : ج ٥ ص ٥٥٥ ، بمعناه ، قال : (أخرج أحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه).
وقوله تعالى : (قالَ أَلْقِها يا مُوسى) (١٩) ؛ أي ألقها من يدك ، (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) (٢٠) ؛ تشتدّ رافعة رأسها ، عيناها تتوقّدان نارا ، تمشي بسرعة على بطنها ، لها عرف كعرف الفرس ، فلما عاين ذلك موسى ولّى مدبرا ولم يعقّب هاربا منها ، فنودي يا موسى : إرجع ، فرجع وهو شديد الخوف و (قالَ ؛) الله له : (خُذْها) بيمينك ؛ (وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) (٢١) ؛ عصا كما كانت.
فلما أمره الله بأخذها أدنى طرف ثوبه على يده ، وكان عليه مدرعة من صوف ، فلما جعل طرف المدرعة على يده ليتناولها ، قال ملك : يا موسى ؛ أرأيت لو أنّ الله قد رعاك ما تحاذره؟ أكانت المدرعة تغني عنك شيئا؟ قال : لا ؛ ولكنّي ضعيف ومن ضعف.
فأمر أن يدخل يده في فمها فكشف عن يده ، ثم وضعها في فم الحيّة ، وإذا يده في الموضع الذي كان يضعها فيه بين الشّعبتين اللّتين في رأس العصا ، وإنّما أمر بإدخال يده في فمها ؛ لأنه إنّما يخشى من الحيّة من فمها ، فأراد الله أن يريه من الآية التي لم يقدر عليها مخلوق ، ولئلا يفزع منها اذا ألقاها عند فرعون ، فلا يولّي مدبرا.
قوله تعالى : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى) (٢٢) ؛ قال الفرّاء : (جناح الإنسان عضده أي من غير أصل إبطه) (١) والمعنى : أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء ذات شعاع من غير مرض ولا برص آية أخرى نعطيكها مع العصا ، (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) (٢٣) ؛ سوى هاتين الآيتين ، فكان عليهالسلام إذا جعل يده في جيبه خرجت بيضاء يغلب شعاعها نور الشمس. قال ابن عبّاس : (كان ليده نور ساطع يضيء باللّيل والنّهار كضوء الشّمس والقمر وأشدّ ضوءا).
قوله تعالى : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) (٢٤) ؛ أي جاوز الحدّ في العصيان ، وكفر وتكبّر.
__________________
(١) قاله الفراء في معاني القرآن : ج ٢ ص ١٧٨.
قوله تعالى : (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) (٢٦) أي وسّع لي صدري لأتمكّن من تحمّل أثقال الرسالة ، والقيام بأدائها ومخاصمة الناس فيها ، وسهّل لي أمري برفع المشقّة ووضع المحبّة. قوله تعالى : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي) (٢٨) ؛ أي وارفع العقدة من لساني ؛ ليفقهوا قولي : كلامي.
وكان سبب العقدة في لسانه أنه كان في حجرة فرعون ، فأتى يوم فأخذ بلحيته فنتف منها شيئا ، وقال فرعون لامرأته آسية : إنّ هذا عدوّي المطلوب وهمّ بقتله ، فقالت له آسية : لا تفعل ، فإنه طفل لا يعقل ، ولا يفرّق بين الأشياء ولا يميز ، وعلامة ذلك : أنه لا يميز بين الدّرّة والجمرة ، ثم جاءت بطشتين ، فجعلت في أحدهما الجمر من النار ، وفي الآخر الجوهر والحليّ ، ووضعتهما بين يدي موسى ، فأراد موسى أن يأخذ شيئا من الحليّ ، فأخذ جبريل بيده فوضعها على النار ، فأخذ جمرة ووضعها في فمه حتى أحرق لسانه ، فكانت في لسانه رتّة ، فدفع عنه أكثر الضّررين بأقلّهما.
وقد اختلفوا في هذه العقدة : هل زالت بأجمعها في وقت نبوّته ، أم لا؟ قال بعضهم ـ وهو الأصحّ وإليه ذهب الحسن ـ : أنّ الله استجاب له ، فحلّ العقدة من لسانه ؛ لأنه تعالى قال (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) فعلى هذا قول فرعون (وَلا يَكادُ يُبِينُ)(١) أي لا يأتي ببيان يفهم ، وكان هذا القول كذبا منه ؛ ليصرف الوجوه عنه.
قوله تعالى : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) (٢٩) ؛ الوزير الذي يؤازر الأمير فيحمل عنه بعض ما يحمل ، فيكون المعنى : واجعل لي عونا وظهرا من أهلي ، وقال الزجّاج : (اشتقاقه من الوزر وهو الجبل الّذي يعتصم به لينجو من الهلكة).
ثم بيّن الوزير من هو ، فقال : (هارُونَ أَخِي) (٣٠) ، قيل : هرون مفعول (اجْعَلْ) ، تقديره : اجعل هرون أخي وزيرا لي ، (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) (٣١) ؛ أي أقوّي به ظهري ، والأزر الظّهر ، لنتعاون على الأمر الذي أمرتنا به ، يقال : آزرت فلانا إذا عاونته.
__________________
(١) الزخرف / ٥٢. الرّتّة ؛ بالضم : العجمة في الكلام.
قوله تعالى : (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (٣٢) ، أي اجعله شريكا لي في تبليغ هذه الرسالة. ومن قرأ (أشدد) بفتح الألف و (أشركه) بضمّ الألف ردّ الفعل إلى موسى عليهالسلام.
قوله تعالى : (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) (٣٤) ؛ أي كي نصلّي لك ، وقيل : كي ننزّهك كثيرا ، ونذكرك بالحمد والثّناء كثيرا بما أوليتنا من نعمتك ، ومننت علينا من تحمّل رسالتك. قوله تعالى : (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) (٣٥) ؛ أي عالما.
قوله تعالى : (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) (٣٦) ؛ أي أوتيت ما سألت يا موسى ، وأوتيت مرادك. قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) (٣٧) ؛ أي أنعمنا عليك كرّة أخرى قبل هذه المرّة.
ثم بيّن تلك النعمة ، فقال تعالى : (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ؛) أي ألهمناها حين عنت بأمرك ، وما كان فيه سبب نجاتك من القتل ، (ما يُوحى) (٣٨) ؛ أي ما يلهم ، ثم فسّر ذلك الإلهام فقال : (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ) وكان السبب في ذلك أن فرعون كان يقتل غلمان بني إسرائيل على ما تقدّم ذكره ، ثم خشي أن يفنى نسل بني إسرائيل ، فكان يقتل بعد ذلك في سنة ولا يقتل في سنة ، فولد موسى في السّنة التي يقتل فيها الغلمان ، فنجّاه الله من القتل بأن ألهم أمّه أن جعلته في التابوت ، وأطرح التابوت في اليمّ وهو البحر ، وأراد به النّيل ومعنى قوله تعالى : (أَنِ اقْذِفِيهِ) أي اجعليه.
قوله تعالى : (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ؛) لفظه لفظ الأمر وهو خبر (بتقدير) حتى يلقيه اليمّ بالسّاحل. قوله تعالى : (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ؛) وأراد به فرعون.
قوله تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ؛) وذلك أن أمّ موسى لمّا اتخذت لموسى تابوتا جعلت فيه قطنا محلوجا ، ووضعت فيه موسى وألقته في النّيل ، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون ، فبينما هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية ، إذا بالتابوت يجيء بالماء.
فلما رأى ذلك أمر الجواري والغلمان بإخراجه فأخرجوه ، فإذا هو صبيّ من أحسن الناس وجها ، فلما رآه فرعون أحبّه بحيث لم يتمالك ، فذلك قوله تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) قال عطية العوفي (١) : (وجعل عليه مسحة من جمال فأحبّه كلّ من رآه).
وقال عطاء عن ابن عبّاس : (معنى قوله تعالى (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي لا يلقاك أحد إلّا أحبّك من مسلم وكافر) (٢) ، وقال عكرمة : (ألقيت عليك محبّة وملاحة وحسنا) (٣) ، فحين أبصرت آسية وجهه قالت لفرعون : قرّة عين لي ولك. وقال أبو عبيدة : (معناه : جعلت لك محبّة عندي وعند غيري ، أحبّك فرعون ، فسلمت من شرّه ، وأحبّتك امرأته فتبنّتك). قوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٣٩) ؛ أي ولتربّى وتغذى بمرأى أراك على ما أريد بك من الرفاهية في غذائك. وقال قتادة : (معناه : لتغذى على محبّتي).
وأراد في قوله تعالى : (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ ؛) وذلك أن موسى جعل يبكي ويطلب اللّبن ، فأمر فرعون حتى أتى بالنّساء اللّواتي حول فرعون ليرضعن موسى ، فلم يقبل ثدي واحدة منهن ، وكانت أخت موسى متّبعة للتابوت ماشية خلفه.
فلما حمل التابوت إلى فرعون ، ذهبت هي معه ، فقالت : هل أدلّكم على من يكفله؟ أي يرضعه ويضمّه ويحصنه؟ فقالوا : من هي؟ قالت : امرأة قد قتل ولدها ، وهي تحبّ أن تجد صبيّا ترضعه. فأذن لها فرعون في إحضارها ، فانطلقت وأتت بأمّ
__________________
(١) عطية بن سعد بن جنادة العوفيّ الجدلي القيسي الكوفي ، أبو الحسن. تابعي روى عن بعض الصحابة. تكلم فيه ، وقال مسلم بن الحجاج : (قال أحمد وذكر عطية العوفي ، فقال : ضعيف الحديث ، ثم قال : بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي ويسأله عن التفسير). ترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب : ج ٥ ص ٥٩٠ ـ ٥٩٢ : الرقم (٤٧٥٥).
(٢) في الدر المنثور : ج ٥ ص ٥٦٧ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم).
(٣) في الدر المنثور : ج ٥ ص ٥٦٨ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد بن حميد).
موسى ، فأعطته الثدي فأخذه موسى ، وفرح به فرعون ، وجعل لها الأجرة على الإرضاع ، وحملته أمّه إلى دارها ، فذلك قوله تعالى : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ ؛) أي رددناك إليها ؛ كي تطيب نفسها ، ولا تحزن على ابنها.
قوله تعالى : (وَقَتَلْتَ نَفْساً ؛) يعني القبطيّ الذي وكزه موسى فقضى عليه ، (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ ؛) أي غمّ القود ، وخلّصناك من أن تقتل. قوله تعالى : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ؛) أي أوقعناك في محنة بعد محنة ، ونحن نخلّصك منها ، وذلك أنه حمل به في السّنة التي يذبح فرعون فيها الأطفال ، ثم إلقاؤه في البحر ، ومنع الرّضاع إلّا ثدي أمّه ، ثم جرّ لحية فرعون حتى همّ بقتله ، ثم تناوله الجمرة ، ثم قتله القبطيّ ، ثم خروجه إلى مدين خائفا يترقّب.
فمعنى : (فَتَنَّاكَ فُتُوناً) اي خلّصناك من تلك المحن. وقيل : معناه شدّدنا عليك في أمر المعاش حتى رعيت لشعيب عشر سنين. وقال ابن عبّاس : (معناه : اختبرناك اختبارا) (١) ، وقال الضحّاك : (ابتليناك ابتلاء) ، وقال مجاهد : (خلّصناك خلاصا) (٢).
قوله تعالى : (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ؛) يعني لبثت في أهل مدين حين كنت راعيا لشعيب ، مكثت عشر سنين. وتقدير الكلام : وفتنّاك فتونا ؛ فخرجت إلى أهل مدين فلبثت سنين. وبلاد أهل مدين على ثلاث مراحل من مصر. وقال وهب : (لبثت في أهل مدين عند شعيب ثماني وعشرين سنة ، عشر سنين التي رعى فيها لشعيب ، وثماني عشرة سنة أقام عنده حتى ولد له ، وقتل القبطيّ يوم قتله وهو ابن اثنتي عشرة سنة).
قوله تعالى : (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) (٤٠) ؛ معناه : فلبثت سنين في أهل مدين حين كنت راعيا لشعيب ، ثم جئت على المقدار الذي قدّره الله عليك ، وكتبه في اللّوح المحفوظ. قال ابن كيسان : (جاء على رأس أربعين سنة ، وهو القدر الّذي يوحى فيه إلى الأنبياء).
__________________
(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٨١٩١).
(٢) في الدر المنثور : ج ٥ ص ٥٦٨ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم).