التفسير الكبير - ج ٤

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٤

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٢٠

يفقهوا الهدى ، وجعلنا (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً ؛) لئلّا يستمعوا. قوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) (٥٧) ؛ أي إن تدعهم إلى القرآن وإلى الرحمة وإلى الإيمان فلن يهتدوا ، أخبر الله أن هؤلاء طبع الله على قلوبهم.

قوله تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ؛) أي الغافر السّاتر على عباده ، والرحمة حين لا يعجّلهم بالعقوبة ، (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ) بعقاب ، (بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ ؛) في الحال ؛ (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ ؛) أي لعذابهم أجل ضربه الله ، (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) (٥٨) ؛ أي ملجأ ومنجا.

قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ؛) أي القرى الماضية ، قرى عاد وثمود لمّا أشركوا ، والمراد أهل القرى ، (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (٥٩) ؛ أي لوقت إهلاكهم أجلا.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) (٦٠) ؛ أي واذكر إذ قال موسى لفتاه يوشع بن نون ، قال ابن عبّاس : (وقصّة ذلك : أن موسى عليه‌السلام قام خطيبا في بني إسرائيل ، فسئل أيّ الناس أعلم؟ فقال : أنا ، فبعث الله عليه فقال : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك ، قال موسى : يا رب كيف لي به ، يا رب دلّني عليه.

فقال : تأخذ معك حوتا وتمضي إلى شاطئ البحر ، فحيث ما فقدت الحوت فهو ثمّ ، فأخذ حوتا من السّمك ، وجعله في مكتل وانطلق معه بفتاه يوشع بن نون إلى شاطئ البحر ، فأويا إلى صخرة عندها ماء يسمى ماء عين الحياة ، فجلس يوشع يتوضّأ من تلك العين ، فانتضح من ذلك الماء على الحوت فحيي ، فوثب في الماء ، واتّخذ سبيله في البحر سربا ؛ أي اتخذ الحوت طريقا في البحر مسلكا يابسا).

وقيل : معنى قوله (سَرَباً) أي ذاهبا ، فقام يوشع حين رأى ذلك من الحوت ، وذهب إلى موسى ليخبره بذلك ، وذهبا يومهما ذلك حتى صلّيا الظهر من الغد ، فتعب موسى ، فقال لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ؛ أي تعبا.

ومعنى الآية : وإذ قال موسى لفتاه لا أزال أمضي حتى أبلغ مجمع البحرين الموضع الذي يلتقي فيه بحر فارس والروم أو أمضي سنين كثيرة ، والحقب جمع

١٨١

أحقاب ، والأحقاب جمع الحقب ، والحقب ثمانون سنة ، وقيل : سبعون سنة بلغة قريش ، وسمي يوشع فتاه ؛ لأنه كان يخدمه ويلازمه في الحضر والسّفر للتعلّم منه.

قوله تعالى : (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما ؛) أي الموضع الذي يجتمع فيه ماء البحرين نسي صاحب موسى أن يخبره بخبر الحوت. قال المفسّرون : وكان حوتا في زنبيل ، وكانا يأكلان منه عند الغداء والعشاء ، فلما أتيا إلى الصخرة على ساحل البحر وضع فتاه الزنبيل فأصاب الحوت من الماء الذي ذكرناه شيء فتحرّك في الزنبيل فانسرب في البحر ، قد قيل لموسى : تزوّد معك حوتا مالحا فحيث تفقد الحوت فهناك تجد الرجل العالم.

فلما انتهيا إلى الصخرة ، قال موسى لفتاه : امكث هنا ، وانطلق لحاجته فجرى الحوت في البحر ، فقال فتاه : إذا جاء نبيّ الله أخبرته بذلك ، فأنساه الشيطان ، فذلك قوله تعالى : (نَسِيا حُوتَهُما ؛) وإنّما نسي يوشع أن يذكر قصّته لموسى ، وأضاف النسيان إليهما توسّعا لأنّهما تزوّدا ، فصار كما يقال : نسي القوم زادهم ، وإنّما نسيه أحدهم.

قوله تعالى : (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) (٦١) ؛ أي جعل الحوت يضرب بذنبه في البحر فلا يضرب شيئا وهو ذاهب إلّا يبس موضعه كهيأة السّرب. قال قتادة : (جعل لا يسلك فيه طريقا إلّا صار الماء جامدا) (١) ، وقال الربيع : (انجاب الماء على مسلك الحوت في الماء فصار كوّة لم يلتمّ).

والسّرب في اللّغة : المحفور في الأرض ، وعن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [انجاب الماء عن مسلك الحوت ، فصار كوّة لم يلتمّ ، فدخل موسى الكوّة على إثر الحوت ، فإذا بالخضر](٢). وقال ابن عبّاس : (جعل الحوت لا يمسّ شيئا من الماء إلّا يبس حتّى صار صخرة) (٣).

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧٤٧٦).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧٤٧٤). وذكره ابن كثير في التفسير : ج ٣ ص ٩١.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧٤٧٧).

١٨٢

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا ؛) أي لمّا جاوز بين البحرين ، قال موسى ليوشع : آتنا بما نتغدّى به ، (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) (٦٢) ؛ أي تعبا ومشقّة ، فلما قال له موسى ذلك ؛ تذكّر قصّة الحوت ؛ ف(قالَ ؛) له : (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ ؛) عند رأس البحر ؛ (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ؛) ما رأيت هناك من أمر الحوت أن أذكره لك يا نبيّ الله (وَما أَنْسانِيهُ ؛) أي وما شغلني عن ذكره لك ، (إِلَّا ،) وسوسة ، (الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ،) الحوت ، (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) (٦٣) ؛ أي شيئا عجبا وهو أن الماء إنجاب عنه ، وبقي كالكوّة لم يلتمّ.

قوله تعالى : (قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ ؛) أي قال موسى : ذلك الذي كنّا نطلب دلالة لنا من الله تعالى على موضع الخضر ومرتدّة من العلامة ، (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) (٦٤) ؛ أي رجعا وعادا في الطريق الذي جاء منه يقصّان آثارهما قصصا ، والقصّ اتّباع الأثر ، ومنه قوله (قُصِّيهِ)(١).

قوله تعالى : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا ؛) وهو الخضر. قال ابن عبّاس : (وذلك أنّهما لمّا انتهيا إلى الصّخرة جعل يوشع يري موسى مكان الحوت وأثره في الماء ، وكان موسى يتعجّب من ذلك إذ وقع موسى على رجل قائم يصلّي ، فانتظر حتّى فرغ ، فسلّم عليه ، فردّ عليه‌السلام).

وإنّما سمي الخضر ؛ لأنّه إذا صلّى في مكان اخضرّ ما حوله. قوله تعالى : (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا ؛) أي أكرمناه بالنبوّة ، (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (٦٥) ببواطن الأمور. قال ابن عبّاس : (أعطاه علما من علم الغيب).

قوله تعالى : (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (٦٦) ؛ أي ممّا يهديني إلى الصواب ، ويجوز أن يكون معنى رشدا ، يرشدني به ، والرّشد والرّشد لغتان. قال قتادة : (لو كان أحد مكتفيا عن العلم لاكتفى نبيّ الله موسى عليه‌السلام ، ولكنّه قال : هل أتّبعك على أن تعلّمني). قال الزجّاج : (في فعل

__________________

(١) القصص / ١١.

١٨٣

موسى عليه‌السلام ـ وهو من كبار الأنبياء ـ من طلب العلم والرّحلة دليل على أنّه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم ، وإن كان قد بلغ نهايته ، وأن يتواضع لمن هو أعلم منه).

قوله تعالى : (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) (٦٧) ؛ أي قال الخضر لموسى : إنّك ترى منّي شيئا لا تصبر عليه ، (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) (٦٨) ؛ ظاهره منكرا ، والأنبياء والصالحون لا يصبرون على ما يرونه منكرا ، (قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً ؛) على ما أراه منك ، (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) (٦٩) ؛ تأمرني به.

قوله تعالى : (قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (٧٠) ؛ أي قال الخضر لموسى فإن اتّبعتني فلا تسألنّ عن شيء أنكرت فعله ، ولا تعجل في المسألة عنه حتى أبيّن لك الوجه فيه وأفسره لك ، لأنه قد غاب علمه عنك.

قوله تعالى : (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها ؛) أي فمضيا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها الخضر ، وذلك أنّهما لمّا مشيا على الساحل مرّت بهما سفينة ، فكلّموهم أن يحملوهما بغير أجرة. قال ابن عبّاس : (فلمّا ركبا في السّفينة أخذ الخضر بيده فأسا ، أو منقارا وأكبّ على السّفينة يخرقها ، فقال له أهل السّفينة : ننشدك الله أن لا تخرقها ، فقال له : يا عبد الله لا يحلّ لك هذا ، فإنّك تغرقهم ، فلم يكلّمه الخضر حتّى خرق السّفينة).

قيل : إنه قلع لوحين مما يلي الماء ، فحشاهما موسى بثوبه و (قالَ ؛) منكرا عليه : (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) (٧١) ؛ أي منكرا ، ثم تنحّى موسى فجلس ، وقال : ما أصنع في اتّباع هذا الرجل الذي يظلم الناس؟! كنت في بني اسرائيل أقرا عليهم التوراة بكرة وعشيّة ويقبلون منّي ، فتركت ذلك وصحبت هذا الظالم ...

فقال له الخضر بعد ما أخرج أهل السفينة متاعهم إلى الساحل : أتدري ما تحدث به نفسك؟ قال : ما هو؟ فأخبره بما حدّث به نفسه ، ثم (قالَ ؛) له الخضر :

١٨٤

(أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) (٧٣) ؛ أي لما تركت من عهدك ووصيّتك ، وقيل : أراد به النسيان الذي هو ضدّ الذّكر.

قوله تعالى : (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي لا تكلّفني مشقّة ، وعاملني باليسر لا بالعسر ، ولا تضيّق عليّ في صحبتي إياك. وأصل الرّهق : الغشيان ، يقال : رهق الفارس فلانا إذا غشيه فأدركه.

قوله تعالى : (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ ؛) قال سعيد بن جبير : (وجد الخضر غلمانا ، فأخذ غلاما وضيء الوجه). قال ابن عبّاس : (كان من أحسنهم وأصبحهم ، فأخذه من بينهم فأصرعه وأضجعه ، ثمّ ذبحه بالسّكّين ، وكان غلاما لم يبلغ الحنث).

وقيل : إنه اجتذب رأسه فقلعه ، وقيل : نزع رأسه من جسده ، وقيل : رفصه برجله فقتله ، وقيل : ضرب رأسه فقتله ، وكان اسم الغلام خشيود ، وقيل : جيشور. و (قالَ) له موسى حين رأى ذلك منه : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ؛) أي أقتلت نفسا بريئة من الذّنوب ، لم تجب ما يوجب قتلها. ومن قرأ (زاكية) فمعناه : طاهرة من الذّنوب لم تبلغ الحلم ، (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) (٧٤) ؛ أي قطيعا منكرا لا يعرف في شرع.

وقد اختلفوا في هذا الغلام أنّه كان بالغا أم لم يكن بالغا ، إلا أن قوله (بِغَيْرِ نَفْسٍ) فيه دليل على أنه بالغا ، لأن غير البالغ لا يقتل ، وإن قتل غيره ، وكان هذا الغلام يقطع الطريق ، ويلجأ إلى أبويه فيحلفان دونه ، وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [إنّ الغلام الّذي قتله الخضر طبع كافرا](١).

وقوله تعالى : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) أي منكرا عظيما. قال القتيبي : (النّكر أبلغ من الإمر في الإنكار ؛ لأنّ قتل النّفس أشدّ من خرق السّفينة) ، وقال الزجّاج : (الإمر

__________________

(١) أخرجه مسلم في الصحيح : كتاب القدر : باب معنى كل مولود يولد على الفطرة : الحديث (٢٩ / ٢٦٦١).

١٨٥

أبلغ في الإنكار ؛ لأنّ خرق السّفينة يوجب غرق أهلها ، وذلك أعظم من قتل نفس واحدة). قوله تعالى : (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) (٧٥) ؛ ظاهر المعنى.

قوله تعالى : (قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها ؛) أي بعد هذه الكرّة ، (فَلا تُصاحِبْنِي ؛) إن طلبت صحبتك ، (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) (٧٦) ؛ أي بلغت من عندي إلى وقت العذر. روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [رحم الله أخي موسى استحيا ، فقال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني ، ولو ثبت مع صاحبه لأبصر الأعاجيب](١).

قوله تعالى : (مِنْ لَدُنِّي) قرأ العامّة بتشديد النون وهو الأجود ؛ لأنّ أصل (لدن) الإسكان ، فإذا أضفتها إلى نفسك ردّت نونا ليسلم سكون النون الأولى ، كما يقول عن زيد وعنّي. ومن قرأ بتخفيفها قال (لدن) اسم غير متمكّن ، فيجوز حذف النون منه.

قوله تعالى : (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها ؛) قيل هي قرية أنطاكيّة ، قوله تعالى : (اسْتَطْعَما أَهْلَها) أي سألا لهم الطعام ، (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما ؛) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [وكانوا أهل قرية لئاما](٢).

وقوله تعالى : (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ ؛) أي جدارا مائلا مشرفا على الانهدام يكاد يسقط بسرعة. قال وهب : (كان جدارا طوله في السّماء مائة ذراع) وأمّا قوله (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) هذا من مجاز كلام العرب ؛ لأن الجدار لا إرادة له ، وإنّما معناه : قرب ودنا.

وقوله تعالى : (فَأَقامَهُ.) قال ابن عبّاس : (هدمه ثمّ أعاد بناءه). وقال ابن جبير : (مسح الجدار ورفعه بيده فاستقام). وقوله تعالى : (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) قرأ أبو رجاء (يضيفوهما) مخفّفة.

__________________

(١) أخرجه الإمام أحد في المسند : ج ٥ ص ١١٨. ومسلم في الصحيح مطولا : كتاب الفضائل : باب من فضائل الخضر : الحديث (١٧٠ / ٢٣٨٠).

(٢) في الدر المنثور : ج ٥ ص ٤٢٧ ؛ قال السيوطي : (أخرجه الديلمي عن أبي بن كعب).

١٨٦

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [كانوا أهل قرية لئاما] ، وقال قتادة في هذه الآية : (شرّ القرى الّتي لا تضيّف الضيّف ، ولا تعرف لابن السّبيل حقّه).

قوله تعالى : (قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) (٧٧) ؛ أي قال له موسى : لاتّخذت على إقامتك للجدار جعلا (١). وقرئ (لتخذت) ومعناه معنى الأول (٢).

قوله تعالى : (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ؛) أي هذا الكلام والإنكار على ترك الأجر هو المفرّق بيننا ، لأنّك قد حكمت على نفسك ، وقيل : معناه هذا فراق بيننا ؛ أي فراق إيصالنا ، والبين من الأضداد. قوله تعالى : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٧٨) ؛ أي سأخبرك بتأويل الأشياء التي رأيتها منّي فلم تصبر عليها.

قوله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ؛) يعني السفينة التي كانت لفقراء يعملون في البحر لم يكن لهم مال غيرها ، وكانوا يعملون عليها ، ويأخذون إجرتها ، (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها ؛) بالخرق ، (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) يقال له جلند ، (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ ؛) صحيحة ، (غَصْباً) (٧٩) ؛ وقد يذكر (وراء) بمعنى أمام ، وفيه دليل أن للوصيّ أن يعيب مال اليتيم إذا رأى فيه مصلحة.

قوله تعالى : (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ ؛) أي الغلام الذي قتله كان كافرا ، وكان أبواه مؤمنين ، (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) (٨٠) ؛ فلذلك قتله ، وكان قد أعلمه الله بذلك ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنّ الغلام الّذي قتله الخضر طبع كافرا ، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا](٣).

__________________

(١) الجعل ـ بالضم ـ : ما جعل للانسان من شيء على إنجازه عمل أو قيامه بفعل.

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١١ ص ٣٢ ؛ قال القرطبي : (وهي قراءة ابن مسعود والحسن وقتادة ، وهما لغتان بمعنى واحد من الأخذ).

(٣) تقدم. وأدرج الناسخ هنا : (رواه مسلم في الصحيح).

١٨٧

قوله تعالى : (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) (٨١) ؛ أي فأراد الله أن يبدلهما ولدا خيرا منه صلاحا وطهارة ، وقوله تعالى : (وَأَقْرَبَ رُحْماً) أي وأوصل للرّحم وأبرّ بوالديه. قال ابن عبّاس : (أبدلهما الله به جارية تزوّجها نبيّ من الأنبياء فولدت سبعين نبيّا).

قوله تعالى : (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ؛) أي في القرية المذكورة ، وكان اسم اليتيمين : أصرما وصريما ، (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) قيل : إنه كان مالا ، وقيل : كان علما.

وعن ابن عبّاس : (أنه كان لوحا من ذهب وفيه : بسم الله الرّحمن الرّحيم ؛ لا إله إلّا الله ؛ محمّد رسول الله ، عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، ولمن أيقن بالنار كيف يضحك ، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يرى الدّنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئنّ إليها) (١). وقيل : كان ذهبا وفضّة.

قوله تعالى : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً ؛) أي كان ذا أمانة ، كان يقال له : كاشح ، وقيل : إنه كان من الأنبياء. قال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس : (حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر منهما صلاحا) (٢). قال جعفر بن محمّد : (كان بينهما وبين الأب الصّالح سبعة آباء).

وعن محمّد بن المنكدر قال : (إنّ الله تعالى ليحفظ بالرّجل الصّالح ولده وولد ولده وأهل دويرته ، وأهل دويرات حوله وأسرته الّتي هو فيها ، فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم) (٣).

قوله تعالى : (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما ؛) أي فأراد ربّك بالأمر تسوية الجدار إلى أن يكبرا ويعقلا ، (وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً ؛) أي نعمة ؛ (مِنْ رَبِّكَ) وهذا نصب على المصدريّة ؛ أي رحمهما‌الله بذلك رحمة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧٥٣٩) عن الحسن.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧٥٤٣).

(٣) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١١ ص ٣٨ نقله القرطبي أيضا عن جعفر بن محمد.

١٨٨

قوله تعالى : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ؛) وإنّما فعلته بأمر الله تعالى ، (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٨٢) ؛ وأصله تستطع ؛ إلّا أن الطاء والتاء من مخرج واحد ، فحذف التاء لمّا اجتمعا لتخفيف اللفظ.

وروي أن الخضر لمّا أراد أن يفارق موسى أوصاه ، قال يا موسى : أفرغ عن اللّجاجة ولا تمش في غير حاجة ، ولا تضحك من غير عجب ، ولا تعيّر المذنبين بخطاياهم ، وابك على خطيئتك يا ابن عمران.

قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) (٨٣) ؛ يعني يسألك اليهود يا محمّد عن خبر ذي القرنين (قُلْ سَأَتْلُوا) سأقرا عليكم خبره. قال مجاهد : (ملك الأرض أربعة : مؤمنان وكافران ، فالمؤمنان سليمان وذو القرنين ، والكافران النّمرود وبختنصّر).

واختلفوا في تسميته بذي القرنين ، فقال بعضهم : لأنه ملك فارس والرّوم ، وقيل : لأنه دعا قومه إلى التوحيد ، فضربوه على قرنه الأيسر ، وقيل : على قرنيه ، وقيل : لأنه دخل النور والظلمة ، وقيل : لأنه بلغ قطري الأرض ، وكان اسمه اسكندر.

قوله تعالى : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ؛) أي مكّنّاه في الأرض ، (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (٨٤) ؛ أي من كلّ شيء تستعين به الملوك على فتح المدائن ومحاربة الأعداء ، (سَبَباً) أي بلادا إلى حيث أراد ، وقيل : قرّبنا له أقطار الأرض ، كما سخّرنا الريح لسليمان. وقال عليّ رضي الله عنه : (سخّر الله له السّحاب فحمله عليها ومدّ له في الأسباب ، وبسط له النّور ، وكان اللّيل والنّهار عليه سواء) وهذا معنى تمكّنه في الأرض ، وهو أنه سهّل عليه المسير فيها ، وذلّل له طرقها.

قوله تعالى : (فَأَتْبَعَ سَبَباً) (٨٥) ؛ أي طريقا تؤدّيه إلى مغرب الشّمس. قوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ؛) أي إلى قوم لم يكن بينهم وبين مغرب الشّمس أحد ؛ لأنه لا يمكنه أن يبلغ موضع غروب الشّمس. قوله تعالى : (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ؛) أي رآها تغرب في الماء ، وقيل : في عين ذات حمأة وهي الطين الأسود المنتن.

١٨٩

وتقرا (حامية) أي حارّة ، وهي قراءة العبادلة الثلاثة ـ عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن الزّبير ، وعبد الله بن عمر ـ وابن عامر وأهل الكوفة.

قوله تعالى : (وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً ؛) أي عند العين ، (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) قيل : في هذا دليل أن ذا القرنين كان نبيّا ؛ لأن الانسان لا يعلم أمر الله إلّا بالوحي ، ولا يجوز الوحي إلّا إلى الأنبياء ، وقيل : كان معه نبيّ ، فأوحى الله إلى ذلك النبيّ ، وفي الجملة لا يمكن إثبات النبوّة إلّا بدليل مقطوع به.

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن ذي القرنين قال : [هو ملك يسيح في الأرض](١) ، قال ابن الأنباريّ : (إنّه كان نبيّا ، فإنّ الله قال له كما قال للأنبياء ، إمّا بتكليم أو بوحي ، ومن قال لم يكن نبيّا ، قال معنى قوله ألهمنا كقوله (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى)(٢) أي ألهمناها.

قوله تعالى : (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) (٨٦) ؛ أي قلنا له إما أن تقتلهم على الكفر إن أبوا الإسلام ، وإما أن تأسرهم فتعلّمهم الهدى وتبصّرهم الرشاد.

قوله تعالى : (قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ ؛) أي من أسرف ، (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ؛) أي نقتله ، وكلّ من أشرك فقد ظلم نفسه ، (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ ؛) في الآخرة بعد قتلي إيّاه ، (فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) (٨٧) ؛ يعني في النار أنكى من القتل وأعظم.

قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى ؛) أي فله في الآخرة جزاء الحسنى أي الجنة بالطاعة التي عملها في الدنيا. وقرأ أهل الكوفة (جَزاءً) نصبا وهو مصدر وقع موقع الحال ؛ أي فله الحسنى مجزيّا بها. قال ابن الأنباريّ : (جزاء نصبا على المصدر ؛ أي فيجزى الحسنى جزاء). قوله : (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) (٨٨) ؛ أي سنأمره في الدّنيا بما نيسّر عليه.

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٥ ص ٤٣٦ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ بلفظ : [ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب]).

(٢) القصص / ٧.

١٩٠

قوله تعالى : (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) (٨٩) ؛ أي سلك طريقا آخر نحو المشرق. قوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) (٩٠) ؛ أي حتى إذا انتهى إلى آخر العمارة من جهة المشرق وجد عند الشمس قوما لم يكن لهم جبل ولا شجر ولا شيء يسترهم عن الشمس. قال لكلبيّ : (معناه حفاة عراة يفترش أحدهم أذنه ويلبس الأخرى).

قوله تعالى : (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) (٩١) ؛ أي وجد قوما كذلك. قيل : الذين كانوا عند مغرب الشّمس ، وقيل : معناه : كما بلغ مغرب الشمس وكذلك بلغ مطلعها ، ثم استأنف وقال (وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) أي علما.

قوله تعالى : (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢ حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ؛) أي ثم أتبع سببا ثالثا مما يبلغه قطرا من أقطار الأرض ، وقيل : أتبع سببا : حتى إذا بلغ طريقا من المشرق نحو الرّوم ، وحتى إذا بلغ بين الجبلين الذين جعلوا الرّدم بينهما ، وهما السدّان.

قرأ ابن كثير وأبو عمرو : (السَّدَّيْنِ) بفتح السّين ، وقرأ الباقون بضمّها ، وهما لغتان ، (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما) الجبلين ، (قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) (٩٣) أي لا يكادون يفقهون قول غيرهم ، ولا يعرفون لغة غيرهم.

قرأ حمزة والكسائيّ وخلف (يفقهون) بضمّ الياء وكسر القاف ، ومعناه : لا يكادون يفقهون أحدا قولا. قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : (لا يفقهون كلام أحد ، ولا أحد يفهم كلامهم).

قوله تعالى : (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ؛) أي قالوا بإشارة أو ترجمان ؛ لأنه قد تقدّم أنّهم لا يفقهون قولا ، إن يأجوج ومأجوج ، وهما قبيلتان من أولاد يافث بن نوح مفسدون في الأرض ؛ أي يفسدون أموال الناس ؛ لأنّهم كانوا أهل بغي وظلم. قال الكلبيّ : (كانوا يخرجون إلى أرض هؤلاء الّذين شكوهم إلى ذي القرنين أيّام الرّبيع فلا يدعون فيها شيئا أخضر إلّا أكلوه ، ولا يابسا إلّا احتملوه).

١٩١

وعن عبد الله قال : سألت النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن يأجوج ومأجوج ، قال : [يأجوج أمّة ومأجوج أمّة ، كلّ أمّة أربعمائة ألف ، لا يموت أحدهم حتّى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلّهم قد حمل السّلاح] قلنا : يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال : [هم ثلاثة أصناف : صنف منهم طول الرّجل منهم مائة وعشرون ذراعا ، وصنف طوله وعرضه سواء عشرون ومائة ذراع أيضا ، وهم الّذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد ، وصنف منهم يفترش كلّ واحد منهم إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى لا يمرّون بفيل ولا جمل ولا وحش ولا خنزير إلّا أكلوه ، لهم مخالب في أيديهم وأضراس كأضراس السّباع ، وأنياب يسمع لها حركة كحركة الجرس في حلوق الإبل ، ولهم من الشّعر في أجسادهم ما يواريهم ، وما يتّقى منه الحرّ والبرد ، يعوون عويّ الذّئاب ، ويتسافدون كتسافد البهائم إذا التقوا](١).

قال وهب : (يشربون ماء البحر ويأكلون دوابّها ، ويأكلون الخشب والشّجر ، ومن ظفروا به من النّاس أكلوه). وقال كعب : (هم زيادة في ولد آدم ، وذلك أنّ آدم احتلم ذات يوم فامتزجت نطفته في التّراب ، فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج ، فهم متّصلون بنا من جهة الأب دون الأمّ).

وقال ابن عبّاس : (هم عشرة أجزاء وولد آدم كلّهم جزء). وقيل : إن التّرك منهم إلّا أن أولئك أشدّ فسادا من التّرك ، فتباعدوا عن الناس ، كما ينعزل اللّصوص. ويأجوج ومأجوج اسمان أعجميّان لا ينصرفان ؛ لأنّهما معرفة.

قوله تعالى : (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) (٩٤) ؛ أي قالوا هل نجعل لك بعضا من أموالنا ضربته في كلّ سنة على أن تجعل بيننا وبينهم حاجزا وسدّا. والرّدم هو السدّ ، وردمت الباب ؛ أي سددته ، والخرج والخراج واحد.

قوله تعالى : (قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ؛) أي قال لهم ذو القرنين : ما مكّنّي الله من الإتساع في الدّنيا خير من خراجكم الذي تبذلونه لي ، يريد ما أعطاني الله وملّكني أفضل من عطيّتكم. قوله تعالى : (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ؛) أي الرّجال

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧٥٨٨) عن أبي الزهاري وشريح بن عبيد مختصرا.

١٩٢

والآلات ، (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) (٩٥) ؛ الرّدم أشدّ الحجاب ، وهو أكبر من السدّ.

قوله تعالى : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ؛) والزّبرة القطعة العظيمة ، فأتوه بها فبناه ، (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ؛) أي حتى إذا ملأ ما بين الجبلين ، وسمّاهما صدفين ؛ لأنّهما يتصادفان ، أي يتقابلان ، فلما وضع بينهما الحديد وجعل (بَيْنَ) كلّ قطعتي حديد حطبا حتى ملأ ما بين الجبلين ، فأمر بالنار فأرسلت فيه ، و (قالَ) للحدّادين : (انْفُخُوا ؛) بالمنافيخ ، (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً ؛) أي حتى إذا صار الحديد كالنار ، (قالَ آتُونِي ؛) أي أعطوني قطرا ، (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (٩٦) ؛ وهو النحاس الذائب أصبّه على الحديد والحطب فيتقطّر كما يتقطر الماء ، ففعل حتى إذا جعل بعضه في بعض ، فصار الجميع شيئا واحدا جبلا صلدا من حديد ونحاس. قيل إنه حفر له الأساس حتى بلغ الماء ، ثم جعل عرضه خمسين فرسخا ثم ملأه وشرفه (١).

قوله تعالى : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) (٩٧) ؛ أي ما قدروا أن يعلوه لارتفاعه وملاسته ، وما قدروا أن ينقبوه من أصله ؛ لشدّته وصلابته.

وعن أبي هريرة : [أنّ يأجوج ومأجوج يحفرون كلّ يوم ، ثمّ يقولون : نرجع إلى غد ونجيء أيضا نحفره ، فيأتونه غدا وقد أعاده الله كما كان قبل أن يحفروه](٢).

قوله تعالى : (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ؛) أي قال لهم ذو القرنين لمّا فرغ من بنائه ، هذا التمكين الذي أدركت به السدّ رحمة من ربي من حيث ألهمني وقوّاني ، ونعمة من ربي عليكم ، (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ؛) أي وقت اشتراط

__________________

(١) الشّرف : العلوّ والمكان العالي ؛ وجبل مشرف أي عال. وأشرف المكان أعلاه. وأشرف عليه اطّلع عليه من فوق.

(٢) من حديثه مختصرا ؛ أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٢ ص ٥١٠ ـ ٥١١. والترمذي في الجامع : كتاب التفسير : سورة الكهف : الحديث (٣١٥٣).

١٩٣

السّاعة جعل السدّ كسرا. ومن قرأ (دكّا) فمعناه أرضا منبسطة ، يقال : ناقة دكّاء إذا لم يكن لها سنام ، (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) (٩٨) ؛ أي كان تقديره لخروجهم صدقا كائنا.

قوله تعالى : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ؛) أي تركنا يأجوج ومأجوج يوم انقضاء أمر السدّ يموجون في الدّنيا مختلطين لكثرتهم ، يقال : ماج الناس إذا دخل بعضهم في بعض حيارى كموج الماء ، فيخرجون على الناس فيشربون الماء ، يأكلون الدوابّ ، ومن ظفروا به من الناس أكلوه ، فاذا كثر فسادهم في الأرض بعث الله عليهم بعثا فيقتلهم فيموتون كموت الجراد.

وقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) (٩٩) ؛ يعني النفخة الثانية التي تكون للحشر يحشر بها الناس من قبورهم ، ويجمعون جمعا في الموقف. قوله تعالى : (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) (١٠٠) ؛ أي وأظهرنا جهنّم يوم القيامة للكافرين حتى يروا فيها جزاء أعمالهم معاينة.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي ؛) أي أظهرنا جهنّم حتى شاهدها الناس الذين كانت أعين قلوبهم في غطاء عن ذكري لما تراءى لها من الرّين والغشاوة ، (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) (١٠١) ؛ أي كان يثقل عليهم ذكر الله تعالى.

قوله تعالى : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ ؛) أي أيحسب الكفار أن ينفعهم اتّخاذهم عبادي مثل المسيح والملائكة الذين عبدوهم من دوني أربابا. قوله تعالى : (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) (١٠٢) ؛ أي جعلناها منزلا ومأوى لهم ، ومعدّة عندنا ، كما يهيّأ المنزل للضيّف.

قوله تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) (١٠٣) ؛ أي قل لهم يا محمّد : هل نخبركم بالأخسرين أعمالا في الآخرة يعني كفار أهل الكتاب واليهود والنصارى؟ وقال عليّ رضي الله عنه : (هم الرّهبان والقسّيسون حبسوا أنفسهم في الصّوامع) وقيل : هم جميع اليهود والنّصارى ، (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ؛) أي بطل

١٩٤

عملهم واجتهادهم في الدّين ، (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١٠٤) ؛ أي وهم يظنّون أنّهم يعملون صالحا.

ثم بيّن من هم فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ ؛) أي جحدوا دلائل توحيده ، وأنكروا البعث بعد الموت ، (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ؛) أي بطلت حسناتهم التي عملوها مثل صلة الرّحم ، والإحسان إلى الناس ، فلا يرون سعيهم مع الكفر شيئا ، (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ ؛) ولا يكون لهم عند الله ، (يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (١٠٥) ؛ قدرا ولا منزلة.

قوله تعالى : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا ؛) أي ذلك الإحباط جزاؤهم ، (وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) (١٠٦) ؛ أي واتّخاذهم القرآن ونبوّة أنبيائي هزوا ؛ يستهزؤن بها.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) (١٠٧) ؛ الفردوس في اللّغة : جنّة ذات كروم. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الجنّة مائة درجة ، ما بين كلّ درجتين ما بين السّماء والأرض ، الفردوس أعلاها ، منها تتفجّر الأنهار الأربعة ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس](١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [جنّات الفردوس أربع : جنّتان من فضّة آنيتهما وما فيهما من فضّة ، وجنّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما من ذهب](٢).

وقيل : خلق الله الفردوس بيده يفتحها كلّ يوم خمس مرّات ، فيقول : ازدادي حسنا وطيبا لأوليائي. وقال قتادة : (الفردوس ربوة الجنّة وأفضلها وأرفعها) (٣) وقال

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٧٦٣٩). والإمام أحمد في المسند : ج ٥ ص ٣١٦ عن عطاء بن يسار عن عبادة بن الصامت. وابن ماجة في السنن : كتاب الزهد : الحديث (٤٣٣١) عن عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٧٦٤٢) عن الحارث بن عمير عن أبيه ، والحديث (١٧٦٤٣) عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه. وهو طريق ابن أبي شيبة في المصنف : الحديث (٣٤٠٩٨).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧٦٣٤).

١٩٥

أبو أسامة : (الفردوس سرّة الجنّة) (١). وقال كعب : (ليس في الجنّة جنّة أرفع من الفردوس ، فيها الآمرون بالمعروف ، والنّاهون عن المنكر) (٢).

قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) (١٠٨) أي مقيمين فيها لا يطلبون عنها تحويلا. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنّ الفردوس أرفع موضع في الجنّة وأحسنه](٣).

قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ؛) الآية ، وذلك أنه لمّا نزل قوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)(٤) وقالت اليهود والنصارى : أوتينا علما كثيرا ، أوتينا التوراة فيها علم كلّ شيء ، فأنزل الله هذه الآية ؛ أي لو كان البحر مدادا لعلم ربي وحكمته ، فيكتب من البحر كما يكتب من المداد ، (لَنَفِدَ الْبَحْرُ) وتكسّرت الأقلام ، (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ ؛) أي بمثل البحر ، (مَدَداً) (١٠٩) ؛ لهذا البحر. ويقال أراد ب (لِكَلِماتِ رَبِّي) معاني القرآن والأحكام المستنبطة منه ، والمدد شيء بعد شيء.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ؛) أي قل يا محمّد : إنّما أنا بشر آدميّ مثلكم. قال ابن عبّاس : (علّم الله نبيّه التّواضع لئلّا يتباهى (٥) على خلقه ، فأمره الله أن يقرّ على نفسه بأنّه آدميّ كغيره إلّا أنّه أكرم بالوحي (٦) ، وهو قوله تعالى : (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له ، (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) أي يخشى لقاء ربه ويخاف البعث في المصير إليه ، (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً ؛) أي خالصا لا يرى في عبادة الله أحدا ، (وَلا يُشْرِكْ ؛) مع الله غيره في العبادة.

وقال سعيد بن جبير : معناه (ولا يرى) (بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١١٠) ؛ وعن عطاء عن ابن عباس قال : (قال : (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) ، ولم يقل : ولا يشرك به ؛

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧٦٣٥).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧٦٣٦).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٧٦٤٥) ، بإسنادين.

(٤) الاسراء / ٨٥.

(٥) في المخطوط :(ها) فرسمت ال (ها) بعد الفراغ ، والتقدير أنه يراد به : (يتباها).

(٦) ذكره ابن عادل في اللباب في علوم الكتاب : ج ١٢ ص ٥٧٩ مختصرا.

١٩٦

لأنه أراد العمل الذي يعلمه لله ، ويحبّ أن يحمد عليه). قال الحسن : (هذا في من أشرك بعمله يريد الله به والنّاس).

وعن عبادة بن الصامت : قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : [من صلّى صلاة يرائي بها فقد أشرك ، ومن صام صوما يرائي به فقد أشرك] وقرأ هذه الآية (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)(١).

وعن أبي هريرة وأبيّ بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [من قرأ سورة الكهف فهو معصوم إلى ثمانية أيّام من كلّ فتنة يكون فيها ، ومن قرأ الآية الّتي في آخرها حين يأخذ مضجعه كان له نور يتلألأ إلى مكّة ، حشو ذلك النّور ملائكة يصلّون عليه حتّى يقوم من مضجعه. وإن كان مضجعه بمكّة فتلاها كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور ، حشو ذلك النّور ملائكة يصلّون عليه ويستغفرون له حتّى يستيقظ].

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ومن حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف ثمّ أدرك الدّجّال لم يضرّه](٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ستّة أيّام من كلّ فتنة تكون ، فإن خرج الدّجّال عصم منه](٣).

آخر تفسير سورة (الكهف) والحمد لله رب العالمين

__________________

(١) بمعناه أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (١٧٦٥٦).

(٢) ذكره البغوي مختصرا في معالم التنزيل : ص ٧٩٦. وأخرجه الثعلبي في الكشف والبيان : ج ٦ ص ١٤٤.

(٣) أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان : ج ٦ ص ١٤٤.

١٩٧

سورة مريم

سورة مريم مكّيّة ، وهي ثلاثة آلاف وثمانمائة حرف ، وتسعمائة واثنتان وستّون كلمة ، وثمان وتسعون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(كهيعص) (١) ؛ قال ابن عبّاس : (أوّل هذه السّورة ثناء أثنى به الرّبّ على نفسه ، والكاف من كاف ، والهاء من هاد ، والياء من حكيم ، والعين من عليم ، والصّاد من صادق وصمد) (١). وقيل : معناه : كاف لخلقه هاد لعباده ، يده فوق أيديهم ، عالم ببريّته ، صادق في وعده (٢).

قوله تعالى : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) (٢) ؛ أي بهذا اذكر رحمة ربك على زكريّا ، أو ما يتلى عليكم ذكر رحمة ربك ، و (عَبْدَهُ) منصوب بالرحمة. قوله تعالى : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) (٣) ؛ أي إذ دعا ربّه سرّا في جوف اللّيل مخلصا لم يطّلع عليه إلّا الله ، (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ؛) أي ضعف منّي.

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الآثار (١٧٦٥٨ ـ ١٧٦٨١).

(٢) يلاحظ هنا : أن القرآن كلام عربي اللغة والأسلوب ؛ خاطب الله به الناس بما تدل عليه اللغة بأفرادها واستعملته العرب بلسانها ، وأصل الكلام عند العرب ما دلّ على معنى ، والحروف بأفرادها لا تدل على معنى إلا إذا اجتمعت وغدت كلمة ، وهي اسم وفعل وحرف جاء لمعنى حين يقرن مع غيره. لهذا لا نجد أن اللغة تدل على ما ذكر من أن الكاف تدل على الكبير أو الكافي أو غير ذلك من الحروف ما أشاروا إلى احتمال دلالتها. ويبقى مثل هذا عرضة للتأمل ويفتقر إلى الجزم ، وهو ضرب من التفكر العقلي المحض. والله أعلم

١٩٨

قال قتادة : (شكا ذهاب أضراسه) ، والوهن في اللغة : نقصان القوّة ، (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ؛) يقول : شخت وضعفت ، ومن الموت قربت. والاشتعال : انتشار شعاع النّار ، واشتعاله في الشّيب من أحسن الاستعارة ؛ لأنه ينتشر في الرأس ، كما ينتشر شعاع النار. قوله تعالى : (شَيْباً) نصب على المصدر ، وهذا يدلّ على أن أفضل الدّعاء دعاء السرّ ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [خير الدّعاء الخفيّ ، وأفضل الرّزق ما يكفي](١).

قوله تعالى : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) (٤) ؛ أي كنت تجيبني إذا دعوتك ، وقد عوّدتني الإجابة في ما مضى فلم لا تجيبني.

قوله تعالى : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ؛) أي خفت العصبة وبني العمّ أن يرثوا علمي دون من كان من نسلي ، ويقال : خفتهم على الدّين من ورائي ؛ لأنّهم كانوا من أشرار بني إسرائيل. قرأ يحيى بن يعمر : (خفّت) بفتح الخاء وتشديد الفاء ، و (الموالي) بسكون الياء ، يعني ذهبت الموالي.

وقلت : وقوله تعالى : (مِنْ وَرائِي) أي بعد موتي. قوله تعالى : (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً ؛) أي عقيما من الولد ، والرجل العاقر : الذي لا يولد له. وامرأته هي أخت أمّ مريم بنت عمران بن ماثان.

قوله تعالى : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) (٥) ؛ أي أعطني من عندك ولدا ، (يَرِثُنِي ،) يرث نبوّتي ومكاني (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ؛) العلم والنبوّة ، أراد بذلك يعقوب بن ماثان وهم أخوال يحيى ، وبنو ماثان كانوا رؤساء بني إسرائيل ، وليس يعقوب هذا أبو يوسف. قرأ أبو عمرو والكسائي : (يرثني ويرث)

__________________

(١) الحديث عن سعد بن أبي وقاص ؛ أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ١ ص ١٧٢ و ١٧٨ و ١٨٠. وابن حبان في موارد الضمآن : كتاب الرقائق : باب الذكر : الحديث (٢٣٢٣) ؛ بلفظ : [خير الذّكر الخفيّ ، وخير الرّزق ما يكفي]. وإسناده ضعيف ؛ فيه محمّد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة. في مجمع الزوائد : ج ١٠ ص ٨١ ؛ قال الهيثمي : (رواه أحمد وأبو يعلى ، وفيه محمّد بن عبد الرحمن وقد وثقه ابن حبان ، قلت : وضعفه ابن معين ، وبقية رجاله رجال الصحيح).

١٩٩

بالجزم فيهما على جواب الدّعاء ، وقرأ الباقون برفعهما على الحال والصّفة. وقوله تعالى (وَلِيًّا) أي واليا.

قوله تعالى : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٦) ؛ أي وفّقه للعمل حتى يصير ممّن ترضاه. وقال أبو صالح : (معناه : واجعله رب نبيّا كما جعلت أباه). وقيل : إجعله صالحا تقيّا برّا مرضيّا.

وذهب بعض المفسّرين أنّ معنى قوله تعالى (يَرِثُنِي) اي يرث مالي ، إلّا أنّ حمل الآية على ميراث العلم أولى ؛ لأن الأنبياء كانوا لا يشحّون بالمال ، ولا يتنافسون على مصير المال بعد موتهم إلى مستحقّه ؛ ولأنه قال (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ولم يرد بذلك المال ، ولأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [إنّا ـ معشر الأنبياء ـ لا نورث ما تركناه صدقة](١) وإنّما دعاء زكريا بالولد ليلي أمور الدّين بعده ؛ لخوفه من بني أعمامه أن يبدّلوا دينه بعد وفاته ، وخاف أن يستولوا على علومه وكتبه فيحرّفونها ، ويواكلون الناس بها ، ويفسدون دينه ، ويصدّون الناس عنه.

قوله : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى ؛) معناه : إنّ الله استجاب له فأوحى إليه : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ) أي نفرّحك (بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) ؛ لأنّ الله أحيا به الإيمان والحكمة. قوله تعالى : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) (٧) قال الكلبيّ وقتادة : (معناه : لم نسمّ أحدا قبله يحيى) (٢) ، قال ابن جبير وعطاء : (لم نجعل له شبيها ولا مثلا ؛ لأنّه لم يعص ولا يهمّ بمعصية). وقيل : لم تلد العواقر مثله.

وإنّما قال (مِنْ قَبْلُ) لأنه تعالى أراد أن يخلق بعده أفضل منه وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : إن الله تعالى لم يرد بهذا القول جمع الفضائل كلّها ليحيى ، وإنّما أراد في بعضها ؛ لأن الخليل والكليم كانا قبله ، وكانا أفضل منه.

__________________

(١) الحديث بألفاظ كثيرة وأسانيد عديدة ، وأخرجه الإمام مالك في الموطأ عن عائشة رضي الله عنها : كتاب الكلام : باب ما جاء في تركة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحديث (٢٧). والإمام أحمد في المسند : ج ٦ ص ١٤٥ و ٢٦٢. والبخاري في الصحيح : كتاب الفرائض : الحديث (٦٧٢٧ و ٦٧٣٠). ومسلم في الصحيح : كتاب الجهاد : الحديث (١٧٥٩).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٧٧٠٣).

٢٠٠