التفسير الكبير - ج ٥

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٥

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٠٧

وأما قوله تعالى (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)(١) فإنّهم يسئلون سؤال تقريع وتوبيخ ، كما قال الحسن في معنى هذه الآية (أنّهم لا يسئلون سؤال الاختيار ليعلم ذلك من قبلهم ، وإنّما يسئلون سؤال التّوبيخ والمناقشة) (٢).

قوله تعالى : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ؛) قال السديّ : (خرج في جوار بيض ؛ على سروج من ذهب ؛ على قطف أرجوان ؛ «وهنّ» على بغال بيض عليهنّ ثياب حمر وحليّ من ذهب) (٣). وقال مقاتل : (خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليه الأرجوان ، ومعه أربعة آلاف فارس على الخيل ، عليهم وعلى دوابهم الأرجوان ، ومعه ألف جارية على بغال شهب سروجهنّ الذهب ؛ ولباسهنّ أرجوان أحمر ، عليهنّ الحليّ والحلل) (٤).

وقال ابن زيد : (خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات) (٥). وهذا معنى الحسن في ثياب صفر. قال الزجّاج : (الأرجوان في اللّغة صبغ أحمر ، فروي أنه كان عليهم وعلى خيولهم الدّيباج الأحمر) (٦) ، قال : (وكان ذلك أوّل يوم رؤيت المعصفرات).

قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ؛) أي قال مؤمنوا أهل ذلك الزّمان لمّا رأوا تلك الزينة والجمال ، (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ ؛) من المال ، (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٧٩) ؛ أي ذو نصيب وافر من الدّنيا ، وكان الذين تمنّوا هذه الأمنية القوم الذين يرغبون في الدّنيا ويتمنّونها.

__________________

(١) الحجر / ٩٢.

(٢) بمعناه ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩٨٨.

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧١٣٤).

(٤) قاله مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٥٠٦.

(٥) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٠٤٥). وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧١٣٨).

(٦) معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ١١٧.

٨١

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ؛) أي قال العلماء العاملون الرّاغبون في الآخرة للّذين تمنّوا ما أوتي قارون : (ويلكم! ثواب الله خير) أي ارتدعوا عن مقالتكم ؛ فإنّ ثواب الله في الآخرة خير لمن آمن وعمل صالحا ، وقام بالفرائض خير مما أعطي قارون في الدّنيا ، وخير من الدّنيا وما فيها.

قوله تعالى : (وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) (٨٠) ؛ أي لا يؤتى الأعمال الصالحة ، يدلّ عليه قوله تعالى : (وَعَمِلَ صالِحاً)(١) ، وقال الكلبيّ : (ولا يعطاها في الآخرة إلّا الصّابرون على أمر الله) (٢) أي الجنّة ، يدلّ عليه قوله تعالى : (ثَوابُ اللهِ).

قوله تعالى : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ ؛) أي فخسفنا بقارون وقصره الذي بناه عقوبة له على كفره ، وذلك أنّه لمّا أضاف النّعم التي أعطاه الله إياها إلى فعل نفسه وعمله ، ولم ينسبها بتسهيل الله ذلك عليه ؛ صار كافرا بنعم الله.

وقيل في سبب خسفه : أنه لمّا حسد موسى وهارون دعا امرأة ذات جمال معروفة بالفجور ، وجعل لها ألف درهم ـ وقيل : ألف مثقال ـ وقال لها : إنّي أخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدا إذا حضر بنو إسرائيل ، وتذكري أنه راودك عن نفسك! فأجابت قارون إلى ذلك ، فلمّا كان من الغد ، جمع قارون بني إسرائيل ، ثم أتى موسى فقال له : إنّ بني إسرائيل قد اجتمعوا ينظرون خروجهم لتأمرهم وتنهاهم.

فخرج موسى فقام فيهم يعظهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، قال : يا بني إسرائيل ؛ من سرق قطعناه ، ومن افترى جلدناه ثمانين ، ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة ، ومن زنى وله امرأة رجمناه حتّى يموت. قال قارون : وإن كنت أنت؟! قال : وإن كنت أنا. قال : فإنّ بني إسرائيل يزعمون أنّك فجرت بفلانة! فقال موسى : ادعوها ، فدعوها وقد ألهمها الله التوبة والتوفيق ، فقالت في نفسها : لإن أحدث اليوم توبة خير من أن يؤذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) الفرقان / ٧١.

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩٨٨.

٨٢

فجاءوا بها وقد عقدوا مجلسا استحضر فيه قارون الخاصّ والعامّ ، فقال قارون للمرأة : ما تقولين؟ قالت : يا ويلاه! قد عملت كلّ فاحشة ، وما بقي إلّا أن أفتري على نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا أبرأ إلى الله من ذلك.

ثم أخرجت خريطتين مملوءتين دراهم وعليهما خاتم قارون ، فقالت : يا أيّها الملأ ؛ إنّ قارون أعطاني هاتين الخريطتين على أن آتي جماعتكم فأزعم أنّ موسى راودني عن نفسي ، ومعاذ الله أن افتري على نبيّ الله ، وأنا أبرأ إلى الله من ذلك ، وهذه دراهمه وعليها خاتمه.

فعرف بنو إسرائيل خاتم قارون ، فافتضح قارون بين أولئك القوم ، وغضب موسى عليه‌السلام فخرّ ساجدا يبكي وهو يقول : اللهمّ إن كنت رسولك فاغضب لي.

فأوحى الله إليه أنّي قد أمرت الأرض تطيعك فمرها بما شئت ، فقال موسى عليه‌السلام : يا أرض خذيه ، فأخذته إلى كعبه ، ثم قال : يا أرض خذيه ، فأخذته إلى ركبتيه ، فناشده الرّحم ، فقال : يا أرض خذيه ، فأخذته حتى غيّبت حقوته ، فتضرّع إلى موسى وناشده الرّحم ، فلم يسمع تضرّعه ، فقال : يا أرض خذيه ، فأخذته حتى غيّبته.

فروي أنه استغاث بموسى وناشده سبعين مرّة ، فلم يلتفت موسى إلى ذلك ، فأوحى الله إلى موسى : ما أفظّك وأغلظ قلبك! استغاث بك قارون سبعين مرّة فلم ترحمه ولم تغثه ، وعزّتي وجلالي لو استغاث بي لأغثته ، ولو دعاني لوجدني قريبا مجيبا (١).

واختلفوا في أيّ وقت خسف بداره ، قال بعضهم : إنه خسف به معه ، وقال بعضهم : لمّا خسف بقارون قالت بنو إسرائيل : إنّ موسى أراد أن يأخذ دار قارون وأمواله وكنوزه ، فدعا الله موسى فخسف بداره وأمواله بعد ما خسف بقارون بثلاثة أيّام. قال قتادة : (وذكر لنا أنّ قارون يتجلجل في الأرض هو وداره وماله كلّ يوم قامة لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة) (٢).

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٤٤١ ـ ٤٤٢ ؛ قال السيوطي : (أخرجه عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عبد الله بن الحرث).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧١٦٠).

٨٣

قوله تعالى : (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ؛) أي ما كان له من جند وجماعة يمنعونه من عذاب الله ، (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) (٨١) ؛ أي وما كان من الممتنعين ممّا نزل به من الخسف.

قوله تعالى : (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ ؛) أي أصبح الذين تمنّوا منزلته وماله بالأمس حين رأوه في زينته يندمون على ذلك التّمنّي ، يقول بعضهم لبعض بعد ما خسف به (وي) هذه كلمة تنبيه ومعناها : أما ترون؟.

قال مجاهد : (وسبيلها سبيل : أما تعلم) ويحكى أنّ امرأة من العرب قال لها زوجها : أين أبوك ، قالت له : ويكأنّه وراء هذا البيت ، يعني أما ترى أنه وراء هذا البيت.

وذهب بعض النّحويّين إلى أنّ قول الرجل : ويكأنّه ، بمنزلة : ويلك إعلم. وقال الخليل ويونس : (وي مفصولة من كأنّ ، و (وي) كلمة تندّم وتنبيه ، و (كأنّ) في هذا الموضع بمعنى الظّنّ والعلم) (١) كأنّهم لمّا رأوا الخسف تكلّموا على قدر علمهم ، وقالوا : كأنّ الله يبسط الرّزق لمن يشاء لا لكرامته عليه ، ويضيّق على من يشاء لا لهوانه عليه.

وقوله تعالى : (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا ؛) أي لو لا أن منّ الله علينا بالعافية والرّحمة والإيمان لخسف بنا. وقرأ يعقوب وحفص : (لَخَسَفَ) بفتح الخاء والسّين ؛ أي لخسف الله بنا. قوله تعالى : (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (٨٢) ؛ أي أما ترى أنه لا يسعد من كفر بالله.

قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ؛) المراد بالدّار الجنّة ، (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا) على خلقي (فِي الْأَرْضِ) ولم يتكبّروا كما تكبّر قارون.

__________________

(١) ينظر : إعراب القرآن للنحاس : ج ٣ ص ١٦٧.

٨٤

قوله تعالى : (وَلا فَساداً) أي ولا دعاء إلى عبادة غير الله. وقيل : ولا فسادا ولا عملا بالمعاصي. وقيل : هو أخذ المال بغير الحقّ. قوله تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٨٣) ؛ أي العاقبة الحميدة لمن اتّقى عقاب الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. وقيل : الذين يتّقون الكفر والعلوّ والفساد.

وعن كعب رضي الله عنه أنه قال : [يحشر المتكبرون يوم القيامة كالذرّ في صور الرّجال ، يغشاهم الذّلّ من كلّ مكان ، يسلكون في النّار ويسقون من طينة الخبال] قيل : وما طينة الخبال؟ قال : [عصارة أهل النّار](١). والمراد بالتّكبّر : أن يكون التكبّر لأمر يرجع إلى الدّنيا ، فإمّا يكون من ذلك لإزالة المنكر وإقامة حقّ من حقوق الله ، فلا يكون ذلك من التّكبّر في شيء ، وإنّما هو تمسّك بالدّين.

قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ؛) قد تقدّم تفسيره ، (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٤) ؛ أي ومن جاء بالسّيئة فلا يزاد في عقوبته أكثر مما يستحقّه. والمعنى : أنّ الذين أشركوا يجزون بما كانوا يعملون من الشّرك وجزاؤهم النار.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ ؛) معناه : إنّ الذي فرض عليك العمل بالقرآن لرادّك إلى بلدك يعني مكّة ، فإنّ معاد الرجل بلده. وقيل : معناه : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أي أنزل عليك القرآن. وقال الزجّاج : (فرض عليك العمل بما يوجبه القرآن) (٢). تقدير الكلام : فرض عليك أحكام القرآن أو فرائض القرآن (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) يعني مكّة.

قال مقاتل : (خرج النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الغار ليلا ، ثمّ هاجر من وجهه ذلك إلى المدينة ، فسافر في غير طريق مخافة الطّلب ، فلمّا أمن رجع إلى الطّريق ، فنزل بالجحفة بين مكّة والمدينة ، وعرف الطّريق إلى مكّة فاشتاق إليها ، وذكر مولده ومولد

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الجامع : أبواب الشهادات : الحديث (٢٤٩٢) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وقال : هذا حديث حسن.

(٢) معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ١١٨.

٨٥

آبائه ، فأتاه جبريل فقال له : أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ قال : [نعم] قال جبريل : فإنّ الله تعالى يقول (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) يعني إلى مكّة ظاهرا عليها ، فنزلت هذه الآية بالجحفة ، فليست بمكّيّة ولا مدنيّة) (١).

قوله تعالى : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٨٥) هذا جواب كفار مكّة لمّا قالوا للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّك في ضلال مبين! فقال الله تعالى : (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) يعني النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يعني المشركين. والمعنى : إنّ الله قد علم أنّي جئت بالهدى وإنّكم لفي ضلال مبين.

قوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) معناه : ما كنت يا محمّد ترجو أن يوحى إليك القرآن وأنك تكون نبيّا تتلو على أهل مكّة قصص الأوّلين ، إلّا أنّ ربّك رحمك وأراد بك الخير ، فأوحى إليك الكتاب وأكرمك بالنبوّة نعمة منه عليك ، (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً ؛) أي عونا (لِلْكافِرِينَ) (٨٦) ؛ على دينهم ، وذلك حين دعوه إلى دين آبائه فذكّره الله النعمة ، ونهاه عن مظاهرتهم على ما كانوا عليه وأمره بالتحذّر منهم.

قوله تعالى : (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ ؛) أي لا يصرفنّك عن العمل بآيات الله بعد إذ أنزلت إليك ، (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ ؛) أي إلى طاعته ، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٨٧) ؛ قال ابن عبّاس : (الخطاب للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به أهل دينه) (٢) أي لا تظاهروا الكفّار ولا توافقوهم.

قوله تعالى : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ؛) أي لا تعبد أحدا سوى الله ولا تدع الخلق إلى أحد دون الله ، وقوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ؛) لا معبود سواه ، قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ؛) أي إلّا هو. وانتصب قوله (وَجْهَهُ) على الاستثناء كأنه قال : إلّا إيّاه ، وقال عطاء : (معناه : كلّ شيء هالك إلّا ما أريد به وجهه ، وكلّ عمل لغيره فهو هالك إلّا ما كان له).

__________________

(١) قاله مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٥٠٨.

(٢) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ٩٩١.

٨٦

وقوله تعالى : (لَهُ الْحُكْمُ ؛) أي الفصل بين الخلائق دون غيره ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٨) ؛ في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم ، والله أعلم بالصّواب وإليه المرجع والمآب.

آخر تفسير سورة (القصص) والحمد لله رب العالمين

تم هذا الجزء لمؤلفه الإمام الهمام شيخ الإسلام الشيخ الطبراني الكبير (١).

بسم الله الرحمن الرحيم. وصلّى الله وسلم وشرف وعظم على أشرف الأنبياء والمرسلين وجميع الخلف أجمعين سيدنا ونبينا وحبيبنا وشفيعنا محمّد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته وأهل بيته وجميع المسلمين وسلّم. إنهاء الواقف على هذا التفسير العظيم الذي قلّ أن يوجد له نظير بين العالمين ؛ حيث إن مؤلفه الفاضل الهمام الإمام شيخ الإسلام الشيخ الطبراني الكبير مشّاء على طريق الحق القويم في تفسيره هذا للقرآن العظيم ، جعله الله خالصا لوجهه الكريم ، ونفع به النفع العظيم بمنه وكرمه إنه على ما يشاء قدير ، وبالإجابة جدير.

وهذا أول الجزء الرابع ، (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ). سورة العنكبوت.

__________________

(١) كتب الناسخ أو الواقف على هامش التفسير : الورقة (٣٧٠) من المخطوط :

٨٧

سورة العنكبوت

«سورة العنكبوت مكّيّة إلّا عشر آيات ، من أوّلها إلى قوله تعالى : (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) ، قال الشّعبيّ : (إنّها مدنيّة). وهي أربعة آلاف ومائة وخمسة وتسعون حرفا ، وألف وإحدى وثمانون كلمة ، وتسع وستّون آية» (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٢) ؛ قد تقدّم تفسير (الم). فمن جعل هذه الحروف التي في أوائل السّورة قسما ، احتمل أن يكون جواب القسم في قوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ؛) واحتمل أن يكون (فليعلمنّ).

وقوله تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ) لفظة استخبار ، ومعناه التوبيخ والتقرير ، كأنه قال : أظنّوا أن نقنع منهم بأن يقولوا آمنّا فقط ولا يمتحنون بالأوامر والنّواهي والتّكليف ، ولا يختبرون بما يعلم أنه صدق إيمانهم.

قال الحسن رضي الله عنه : (سبب نزول هذه الآية أنّه لمّا أصيب المسلمون يوم أحد وكانت الكرّة عليهم ، عيّرهم اليهود والنّصارى بذلك ، فشقّ ذلك على المسلمين ، فأنزل الله هذه الآية). قال السديّ وقتادة ومجاهد : (معناه : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) في أموالهم وأنفسهم بالقتل والتّعذيب) (٢).

__________________

(١) ما بين «» ليس في المخطوط ، وأضفناه جريا على نسق المصنف في افتتاح تفسيره للسور ، واقتبسناه من الكشف والبيان للثعلبي واللباب في علوم الكتاب ، لمواكبة الامام الثعلبي وابن عادل ومسايرتهما للامام الطبراني في هذا التنسيق من الافتتاح لتفسير السورة.

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٠٧٩) عن قتادة ومجاهد. وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧١٣٢) بمعناه.

٨٨

وقال مقاتل : (نزلت هذه الآية في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وكان أوّل قتيل من المسلمين يوم بدر ، رماه عامر بن الحضرميّ بسهم فقتله ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [سيّد الشّهداء مهجع ، وهو أوّل من يدعى إلى باب الجنّة من هذه الأمّة](١) فجزع عليه أبواه وامرأته ، فأنزل الله فيهم هذه الآية وأخبر أنّه لا بدّ لهم من البلاء والمشقّة في ذات الله) (٢).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ؛) فيه تسلية للمؤمنين ، معناه : ولقد امتحنّا الذين من قبلهم ، (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٢) ، فليعلمنّ الله الصادق بوقوع صدقه منه بالصّبر على ما يؤمر به ، والكاذب بوقوع كذب منه والجزع والمخالفة في القتال الذي يؤمر به ، فالله تعالى قد علم الصادق من الكاذب قبل أن يخلقهم ، ولكن القصد من الآية قصد وقوع العلم بما يجازى عليه ؛ لأنّ علم الشّهادة هو الذي يجب به الجزاء ، فأما علم الغيب قبل وقوعه فلا يحلّ به الجزاء.

وقال ابن عبّاس رضي الله عنه : (ولقد فتنّا الّذين من قبلهم منهم إبراهيم الخليل عليه‌السلام ابتلي بالنّمرود ، ومنهم قوم بعده نشروا بالمناشير على دين الله فلم يرجعوا عنه). وقال بعضهم : يعني بني إسرائيل ابتلوا بفرعون فكان يسومهم سوء العذاب.

قوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٤) معناه : أظنّوا (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) يعني الشّرك ، قال ابن عبّاس : (يعني الوليد بن المغيرة وأبا جهل والأسود والعاص بن هشام وغيرهم) (٣). (أَنْ يَسْبِقُونا) أي أن يفوتونا ويعجزونا (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس ما حكموا لأنفسهم حين ظنّوا ذلك.

__________________

(١) ذكره الواحدي في أسباب النزول : ص ٢٢٩. والزمخشري في الكشاف : ج ٣ ص ٤٢٥. والبغوي في معالم التنزيل : ص ٩٩١ كلهم عن مقاتل ، وهو في تفسير مقاتل : ج ٢ ص ٥١٠. ومهجع بن عبد الله مولى عمر رضي الله عنه ؛ كان أول من قتل من المسلمين يوم بدر.

(٢) نقله مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٥١٠.

(٣) ذكره مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٥١١.

٨٩

وقيل : إنّ هذه الآية نزلت في عتبة بن ربيعة وأخيه شيبة ، وفي الوليد بن عتبة وغير الذين بارزوا عليّا وحمزة وعبيدة بن الحارث يوم بدر ، فقتلوا على أيديهم يومئذ (١).

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ؛) أي من كان يطمع في الثّواب ويخشى العقاب ويخاف الحساب ، فليبادر إلى طاعة الله قبل الموت ، (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ ؛) أي فإن أجل الموت لآت لمن يرجو ، ولمن لا يرجو ، وإنّ ثواب العمل الصالح لقريب ، (وَهُوَ السَّمِيعُ ؛) لمقالة الكفّار والمؤمنين ، (الْعَلِيمُ) (٥) ؛ بما يستحقّه كلّ واحد منهم. وقيل : إنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا نزلت هذه الآية قال : [يا عليّ ؛ يا فاطمة : إنّ الله قد أنزل : من كان يرجو لقاء الله فإنّ أجل الله لآت ، وإنّ حقيقة رجاء لقاء الله أن يستعدّ الإنسان لأجل الله إذا كان آتيا باتّباع طاعته واجتناب معاصيه](٢).

قوله تعالى : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ ؛) أي من يعمل الخير فإنّما يعمل لنفسه ، (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٦) ؛ أي عن أعمالهم وعبادتهم ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ؛) بالإيمان والتوبة ، ومعنى (لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي لنبطلنّها حتى كأنّها لم تعمل ، (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) (٧) ؛ أي نجزيهم بأحسن أعمالهم وهي الطاعة ، ولا نجزيهم بمساوئ أعمالهم.

قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ؛) نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقّاص ، وكان بارّا بأمه ، فلما أسلم قالت له أمّه حمنة بنت أبي سفيان بن أميّة : يا سعد ؛ بلغني أنّك قد صبأت! فو الله لا يظلّني سقف بيت ، وإنّ الطّعام والشّراب عليّ حرام حتّى تكفر بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله هذه الآية.

__________________

(١) ذكره مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٥١١. والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ٣٢٦.

(٢) لم أقف عليه.

٩٠

فأبى سعد عليها ، وبقيت هي لا تأكل ولا تشرب ولا تستظلّ بشيء ، فمكثت يوما وليلة لا تأكل ، فأصبحت قد جهدت ثمّ مكثت يوما وليلة أخرى لا تأكل ، وقالت : يا سعد لتدعنّ دينك هذه أو لا آكل ولا أشرب حتّى أموت فتعيّر بي ، فيقال : يا قاتل أمّه! فقال سعد : يا أمّاه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء ، فإن شئت أن تأكلي ، وإن شئت فلا تأكلي. فلمّا رأت ذلك أكلت ، فأنزل الله هذه الآية (١).

ومعناها : ووصّينا الإنسان بالبرّ والإحسان إلى والديه وقلنا له : وإن طلبا منك أن تشرك بي ما ليس لك به علم تطعهما ، فإنّ طاعتهما في الإشراك والمعصية (لَيْسَ)(٢) من باب الحسن ، بل هي قبيحة. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق](٣).

وقوله تعالى : (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ؛) منقلبكم في الآخرة ، (فَأُنَبِّئُكُمْ ؛) فأخبركم ، (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨) ؛ في الدّنيا من الخير والشرّ والبرّ والعقوق.

واختلف النّحاة في نصب قوله (حُسْناً) ، فقال البصريّون : بنزع الخافض ؛ تقديره : ووصّينا الإنسان بالحسن ، كما يقال : وصيّه خيرا ؛ أي بخير ، وقال الكوفيّون : ووصّينا الإنسان أن يفعل حسنا ، فحذفه لدلالة الكلام عليه. وقيل : هو مثل قوله (فَطَفِقَ مَسْحاً)(٤) أي يمسح مسحا. وقيل : معناه : ألزمناه حسنا. وقرأ أبو رجاء : (حسنا) بفتح الحاء والسين ، وفي مصحف أبيّ : (إحسانا).

__________________

(١) القصة قصة سعد بن مالك ، أبو إسحق الزهري ، وأم سعد بن أبي وقاص (جميلة). ولكلا السعدين قصة مع أمه ، فيها نزلت هذه الآية كما في أسباب النزول للواحدي : ص ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

(٢) سقطت من المخطوط ، والضرورة تقتضي وجودها.

(٣) أخرجه الطبراني في الكبير : ج ١٨ ص ١٥٣٥ : الحديث (٤٣٧). وفي الأوسط : ج ٢ ص ٢٠٩ : الحديث (١٣٧٤). وفي مجمع الزوائد : ج ٥ ص ٢٢٦ ؛ قال الهيثمي : (رواه أحمد والطبراني باختصار ، ورجال أحمد رجال الصحيح).

(٤) ص / ٣٣.

٩١

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) (٩) أي في زمرة الأنبياء والأولياء ، وقيل : خواصّ أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ ؛) روي أنّ هذه الآية نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة ، كان أسلم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان يخاف على نفسه من أمّه وأخويه لأمّه وهما أبو جهل والحارث.

فخرج عيّاش بعد ما أعلن إسلامه هاربا إلى المدينة قبل هجرة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبلغ أمّه الخبر فجزعت جزعا شديدا ، وامتنعت عن الطّعام والشّراب ، فخرج أخواه وقومه في طلبه ، فأخذوه وقيّدوه ، وحلفت أمّه أسماء بنت مخرم بن أبي جندل بالله (١) : لا أحلّك من وثاقك حتّى تكفر بمحمّد ، ثمّ أقبلت تجلده بالسّياط وتعذّبه حتّى كفر جزعا من الضّرب ، فأنزل الله هذه الآية.

قال مقاتل والكلبيّ : (لمّا هاجر عيّاش إلى المدينة خوفا من أمّه وأخويه ، حلفت أمّه أسماء بنت مخرم بن أبي جندل ألّا تأكل ولا تشرب ولا تغسل رأسها ولا تدخل بيتا حتّى يرجع إليها ابنها ، فلمّا رأى ابناها أبو جهل والحارث ابنا هشام ـ وهما أخوا عيّاش لأمّه ـ جزعها ، فركبا في طلبه حتّى أتيا المدينة فلقياه.

فقال له أبو جهل : قد علمت أنّك أحبّ إلى أمّك من جميع أولادها ، وكنت بارّا بها ، وقد حلفت لا تأكل ولا تشرب ولا تدخل كنّا حتّى ترجع إليها ، وأنت تزعم أنّ في دينك برّ الوالدين ، فارجع إليها فإنّ ربّك الّذي تعبده بالمدينة هو ربّك بمكّة فاعبده بها. فلم يزالا به حتّى أخذ عليهما المواثيق أن لا يحرّكانه ولا يصرفانه عن دينه ، فأعطياه المواثيق فتبعهما ، فلمّا خرجوا به من المدينة أخذاه وأوثقاه وضربه كلّ واحد منهما مائة جلدة حتّى تبرّأ من دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جزعا من الضّرب (٢).

__________________

(١) ينظر : الاستيعاب في معرفة الأصحاب : ج ١ ص ٣٦٤ : الرقم (٤٥٢).

(٢) ذكره مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٥١٢. وابن هشام في السيرة النبوية : هجرة عمر وقصة عياش

٩٢

وكان الحارث أشدّهما عليه وأسوأهما قولا فيه ، فحلف عيّاش بالله لئن قدر عليه ليضربنّ عنقه ، فلمّا رجعوا إلى مكّة مكثوا حينا ، ثمّ هاجر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون إلى المدينة ، فهاجر عيّاش وأسلم وحسن إسلامه.

ثمّ إنّ الله تعالى وفّق الحارث بن هشام فهاجر إلى المدينة وبايع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإسلام ، ولم يحضر عيّاش ، فلقيه عيّاش يوما بظهر قباء ولم يعلم بإسلامه ، فضرب عنقه يظنّ أنّه كافر ، فقيل له : إنّه قد أسلم ، فندم واسترجع وبكى ، ثمّ أتى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بذلك ، فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً)(١).

ومعنى الآية : ومن الناس من يقول آمنّا بالله ، فإذا عذّب في طاعة الله جعل تعذيب الناس كتعذيب الله ، فأطاع الناس خوفا منهم ، كما يطيع الله من خاف عذابه.

قوله : (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ؛) أي إذا جاء فتح من ربك (لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) وهذه صفة المنافقين ، يقول الله تعالى : (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) (١٠) ؛ أي بما في قلوب الخلق من الطّمأنينة بالإيمان والانشراح بالكفر ، (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ؛) أي ليجزي الله المؤمنين ، (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) (١١) ؛ وليميّزنّ المنافقين.

قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا ؛) معناه : قال كفار مكّة أبو جهل وغيره ، لمن آمن من قريش ، واتّبع محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إتّبعوا ديننا وملّة آبائنا ، (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) ، ونحن الكفلاء بكلّ تبعة تصيبكم من الله في ذلك ،

__________________

ـ ومن معه : ج ٢ ص ١١٨.

(١) النساء / ٩٢. في الاستيعاب في معرفة الأصحاب : ج ١ ص ٣٦٧ : ترجمة هشام بن يزيد : الرقم (٤٥٤) ؛ قال ابن عبد البر : (هو الحارث بن يزيد القرشي العامري). وفي الإصابة في معرفة الصحابة : ج ١ ص ٦٠٧ ؛ قال ابن حجر : (أسلم يوم فتح مكة ، ثم حسن إسلامه ، وقال : فلم يزل مجاهدا بالشام حتى ختم الله له بخير). وذكر في ترجمة الحارث بن يزيد بن أنيسة قصة عياش معه وقال : (وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل : الحارث بن يزيد هو الذي قتله عياش بن أبي ربيعة بالبقيع بعد قدومه المدينة ، وذلك بعد أحد).

٩٣

ونحمل عنكم خطاياكم ، إن كان عليكم فيه إثم ووزر ، فنحن نحمله عنكم (١). قال الفرّاء : (قوله تعالى : (وَلْنَحْمِلْ) لفظه لفظ الأمر ، ومعناه : الجزاء ؛ أي إن اتّبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم) (٢). قوله : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١٢) ؛ فيما ضمنوا من حمل خطاياهم ، ولا يحفظون العذاب عنهم.

قوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ؛) معناه : أوزار مع أوزارهم ، وذلك أنّهم يعاقبون على كفرهم وعلى دعاء غيرهم إلى الكفر ، وهذا موافق لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، لا ينقص من أوزارهم شيء](٣).

ومعنى الآية : وليحملنّ أوزارهم التي حملوها ، وأوزارا مع أوزارهم لقولهم للمؤمنين : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا «وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) وهم كاذبون فيما قالوا لهم ووعدوهم» (٤) ، وليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة.

وقوله : (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (١٣) ؛ أراد به سؤال توبيخ لا سؤال استعلام ، يقال لهم : هل كان عندكم من الغيب شيء؟ ومن أين قلتم إنّكم تحملوا أوزار غيركم؟.

__________________

(١) نقله مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٥١٣. وفي معالم التنزيل : ص ٩٩٣ ؛ قال البغوي : (قاله مقاتل والكلبي ... وذكره).

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ٣٣٠ ؛ قال القرطبي : (قال الفراء والزجّاج : هو أمر في تأويل الشرط والجزاء ؛ أي إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم). وقاله النحاس في إعراب القرآن : ج ٣ ص ١٦٩. وينظر : معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ١٢٢ واللفظ له.

(٣) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ٢ ص ٣٢٨ ـ ٣٣٠ : الحديث (٢٣٧٢ ـ ٢٣٧٥) شطر حديث طويل عن جرير بن عبد الله البجلي من طريقين ، وإسناده صحيح. وأخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٤ ص ٣٥٧ و٣٥٨ و٣٥٩. ومسلم في الصحيح : كتاب الزكاة : باب الحث عل الصدقة : الحديث (٧٠ / ١٠١٧).

(٤) على ما يبدو لي أن العبارة المقدرة ما بين «» سقطت من المخطوط ، وقابلناها على ما في جامع البيان : ج ٢٠ ص ١٦٤.

٩٤

قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً ؛) أي مكث بين أظهرهم يدعوهم إلى الإيمان ألف سنة إلّا خمسين عاما ، فلم يجبه إلى الإيمان منهم إلّا قليل ، (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) (١٤) ، فأهلك الله المكذّبين بالطّوفان وهو الغرق (وهم الظالمون) أي مشركون.

وفي الحديث : [أنّ نوحا عليه‌السلام أرسل إليهم بعد ما أتى عليه مائتان وخمسون سنة ، وعاش بعد الطّوفان مائتين وخمسين سنة](١). وسمي الغرق طوفانا لأنّ الماء في ذلك اليوم طاف في جميع الأرض.

قوله : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ ؛) أي أنجينا نوحا من الغرق ومن كان معه من المؤمنين في السّفينة ، (وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (١٥) ؛ أي جعلنا السّفينة عبرة لمن بعدهم من الناس إن عصوا رسولهم فعلنا بهم مثل ذلك.

قوله : (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ؛) انتصب (إِبْراهِيمَ) عطفا على نوح ، معناه : وأرسلنا إبراهيم أيضا ، (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ) أي وحّدوا الله وأطيعوه واخشوه ، (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ؛) أي عبادة الله خير لكم من عبادة الأوثان ، (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٦) ؛ ذلك.

قوله : (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً ؛) أي أصناما تتّخذونها من الحجارة والخشب ، (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ؛) أي وتخترعون على الله كذبا في قولكم : إنّها آلهة. ويجوز أن يكون معنى (وَتَخْلُقُونَ) أي تنحتون أصناما.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) أي إنّ الذين تعبدون من الأصنام لا يقدرون أن يرزقوكم. قوله تعالى : (فَابْتَغُوا

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٦ ص ٤٥٦ ؛ قال السيوطي : (وأخرج ابن جرير عن عون عن أبي شداد رضي الله عنه قال : (إن الله أرسل نوحا عليه‌السلام إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة ، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة سنة)). وأخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١٠٩٧).

٩٥

عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١٧) ؛ أي اطلبوا الرّزق منّي ، فأنا القادر على ذلك ، (وَاعْبُدُوهُ) أي اعبدوا من يملك أرزاقكم ، (واشكروا من إليه ترجعون) في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم.

قوله تعالى : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ؛) يعني كذبوا أنبياءهم كما كذبتم نبيّكم فأهلكهم الله تعالى ، (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٨) ؛ أي ما عليه إلّا تبليغ الرسالة عن الله بلغة الّذين أرسلهم إليهم.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ؛) أي أو لم يعلم ويعتبر أهل مكّة كيف يبدئ الله الخلق في أرحام الأمّهات من النّطفة ثم من العلقة ثم من المضغة إلى تمام الخلق ، ثم يميته ثم يعيده بعد الموت للبعث خلقا جديدا. وقوله تعالى : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (١٩) ؛ أي إنّ بدأ الخلق وإعادته هيّن على الله ، فإنه القادر على الاختراع من غير ابتداء على مثال ، قادر على الإعادة ، وكانوا يقرّون بأنّ الله هو الذي خلقهم.

قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ؛) أي سافروا في الأرض وابحثوا وانظروا هل تجدون خالقا غير الله ، واعتبروا كيف خلق الله من قبلكم ثم أهلكهم بعد ذلك.

وقوله تعالى : (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ؛) أي ثم إنّ الله يبعث الخلق ثانية يوم القيامة ، (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٠) ؛ من الإحياء والإماتة قادر. قرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن : (النّشاءة) بالمدّ ، وقرأ الباقون : (النّشأة) بإسكان الشّين والقصر وهما لغتان (١).

قوله تعالى : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ ؛) أي يعذّب من يشاء من كان أهلا للتعذيب ، ويرحم من يشآء من كان أهلا للرحمة ، وقوله تعالى : (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) (٢١) ؛ أي تردّون في الآخرة.

__________________

(١) في الحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ٢٥٧ ، قال : (فقرأ ابن كثير وابن عمرو النشاءة ممدودة في كل القرآن ، وقرأ الباقون بالقصر).

٩٦

قوله تعالى : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ؛) أي ما أنتم يا أهل مكّة بفائتين من عذاب الله هربا ، ولا في السّماء ، فلا تغترّوا لطول الإمهال.

ولا يجوز أن يكون معناه : ولا من في السّماء بمعجزين ؛ أي ما أنتم يا كفار مكّة بفائتي الله في الأرض (١) كنتم أو في السّماء كنتم ، أينما تكونوا يأت بكم الله فيجزيكم بأعمالكم السيّئة ، (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ ؛) يتولّى أمركم وحفظكم ، (وَلا نَصِيرٍ) (٢٢) ؛ يمنع العذاب عنكم.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ ؛) أي الذين يجحدوا بآيات الله والقرآن والبعث بعد الموت ، (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي ؛) أي من جنّتي في الآخرة باعتقادهم أنّها لا يقع بهم ، (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٣).

قوله تعالى : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ؛) أي ما كان جواب قوم إبراهيم حيث دعاهم إلى الله ، إلّا أن قالوا : اقتلوه أو حرّقوه بالنار ، ثم «اتفقوا على تحريقه» (٢) فقذفوه في النار ، (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ ؛) سالما ، وجعلها عليه بردا وسلاما ولم تحرق منه إلّا وثاقه ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٤) بالله ورسله.

قوله تعالى : (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً ؛) أي قال إبراهيم : إنّ ما عبدتم من دون الله أوثانا هي مودّة بينكم ، أو تلك مودّة بينكم ، والمعنى : أي ألفتكم واجتماعكم على الأصنام (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما

__________________

(١) في معالم التنزيل : ص ٩٩٤ ؛ قال البغوي : (قال قطرب : معناه : ما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها ، كقول الرجل للرجل : لا يفوتني فلان هاهنا ولا بالبصرة ولو كان بها).

(٢) ما بين «» ليس في المخطوط ، وأضفناه لضرورة السياق ، ينظر : الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ٣٣٨.

٩٧

لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٥) ؛ ثم تنقطع عن قريب ، وتنقلب تلك المودّة عداوة بعد الموت ، يتبرّأ بعضكم من بعض ، ويلعن العابد المعبود ، لذلك يلعن العابدون بعضهم بعضا ، ويكون مصيرهم في الآخرة النار ، وما لكم من مانع يمنعكم من عذاب الله.

ويجوز أن تكون (ما) في قوله تعالى (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ) بمعنى (الذي) كأنه قال : إنّ الذي اتّخذتموه من دون الله أوثانا مودّة بينكم ما دمتم في الحياة الدّنيا ، فيكون (مَوَدَّةَ) رفعا لأنّها خبر (إنّ) ، وقرأ حمزة وحفص (مَوَدَّةَ) بالنصب (بَيْنِكُمْ) بالخفض على الإضافة ؛ بوقوع الاتّحاد عليه ، وجعل (إِنَّمَا) حرفا واحدا ، وقرأ الباقون نصبا منوّنا (بينكم) بالنصب على أنه مفعول أيضا ، ومعناه : اتّخذتم هذه الأوثان مودّة بينكم تتوادّون وتحابّون على عبادتها وتتواصلون عليها.

قوله تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ؛) أي صدّق لوط بإبراهيم ، وهو أوّل من صدّق به ، (وَقالَ ؛) إبراهيم : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي ؛) أي إلى الموضع الذي أمرني ربي بالهجرة إليه ، وكان مأمورا بالهجرة من كوثى وهو سواد العراق إلى الشّام.

وقيل : إن كوثى من سواد الكوفة ، فهاجر إبراهيم ومعه لوط وهو ابن أخيه ومعه سارة. قال مقاتل : (هاجر إبراهيم وهو ابن خمس وسبعين سنة) (١). وقوله تعالى : (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٦) ؛ أي المنتقم ممّن عصاه ، الحكيم فيما حكم علينا من الهجرة.

قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ ؛) أي لإبراهيم ، (إِسْحاقَ ؛) من امرأته سارة ، (وَيَعْقُوبَ ؛) ابن ابنه ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ؛) وذلك أنّ الله لم يبعث نبيّا من بعد إبراهيم إلّا من صلبه ، وقوله تعالى (وَالْكِتابَ) أي وجعلنا التّوراة والإنجيل والقرآن في ولده.

__________________

(١) ذكره مقاتل في التفسير : ج ٢ ص ٥١٦.

٩٨

وقوله تعالى : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا ؛) أراد به الثّناء الحسن ، وموالاة جميع الأمم إيّاه ؛ لأن جميع أهل الأديان يحبّونه. وقال السديّ : (إنّه أري مكانه في الجنّة) ثمّ أعلمه الله أنّ له مع ما أعطاه في الدّنيا الدّرجات العلى لقوله : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٧) ؛ أي إنه في الآخرة مع آبائه المرسلين في الجنّة مثل آدم ونوح.

قوله تعالى : (وَلُوطاً ؛) أي وأرسلنا لوطا بالنبوّة ، (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ ؛) يعني عملهم الخبيث الذي لم يكن يعمله أحد قبلهم.

وقوله تعالى : (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ؛) وذلك أنّهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمرّ بهم من المسافرين ، فلما فعلوا ذلك شاع الخبر ، فترك الناس المرور بهم وانقطع السبيل.

وقوله تعالى : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ؛) النادي المجلس والمتحدّث ؛ أي تأتون في مجالسكم الفسق ، قيل : إنّهم كانوا يفعل بعضهم ببعض الفاحشة في المجالس. وقيل : إنّهم كانوا يصفّقون بأيديهم ويصفّرون بأفواههم ، وقال القاسم بن محمّد : (هو أنّهم كانوا يتضارطون في مجالسهم) (١) ويضربون بالعود والمزامير (ويلعبون بالحمام) (٢). وقيل : في معنى قوله تعالى (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) قال مجاهد : (كان يجامع بعضهم بعضا في المجالس) (٣).

وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المنكر الّذي كانوا يأتونه قوم لوط ، فقال : [كانوا يجلسون وعند كلّ واحد منهم قصعة حصى ، فإذا مرّ بهم عابر سبيل خذفوه ، فأيّهم

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٢٧٣). ونقله الطبري في جامع البيان : الأثر (٢١١٢٦) بإسناده عن عائشة رضي الله عنها.

(٢) من قول مجاهد ؛ أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٢٧٥).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٧٢٧٤). والطبري في جامع البيان : الآثار (٢١١٣١).

٩٩

أصابه كان أولى به](١) ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إيّاكم والخذف ، فإنّه لا ينكأ العدوّ ولا يصيب الصّيد ، ولكن يفقأ العين ويكسر السّنّ](٢).

قوله تعالى : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ؛) أي فلمّا أنكر لوط على قومه ما كانوا يفعلون من القبائح قالوا استهزاء : (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٩) ؛ أنّ العذاب نازل ، فعند ذلك ؛ (قالَ ؛) لوط عليه‌السلام : (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) (٣٠) ؛ أي انصرني بتحقيق قولي في العذاب على القوم المفسدين العاصين.

فاستجاب الله دعاءه ، وبعث جبريل ومعه الملائكة لتعذيب قومه وهو قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى ؛) أي بالبشرى بإسحق ومن وراء اسحق يعقوب ، (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ ؛) يعني سدوم قرية لوط ، (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) (٣١) ؛ بالشّرك والعمل الخبيث ، (قالَ ؛) إبراهيم : (إِنَّ فِيها لُوطاً ؛) فكيف تهلكونهم؟! (قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ ؛) وأهل دينه وابنتيه زعورا وزنبا ، (إِلَّا امْرَأَتَهُ) واعلة ، (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٣٢) ؛ أي من الباقين في المهلكين.

قوله تعالى : (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ ؛) أي ساء مجيئهم خوفا عليهم من قومه ؛ لأنّهم جاؤه على هيئة الغلمان ، (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ؛) أي ضاق عليهم بسببهم ، (وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٣٣) ومنجّوا ؛ قال المبرّد : (الكاف في

__________________

(١) أخرجه الطبري من حديث أم هانئ في جامع البيان : الحديث (٢١١٢٧) بأسانيد. والترمذي في الجامع : أبواب التفسير : الحديث (٣١٩٠) ، وقال : هذا حديث حسن. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير : ج ٢٤ ص ٣٢٦ : الحديث (١٠٠٠ ـ ١٠٠٢) ، والزيادة [فأيّهم أصابه كان أولى به] لم أقف عليها إسنادا ، وذكرها القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٣ ص ٣٤٢ ، وقال : (ذكره الثعلبي).

(٢) في مجمع الزوائد : ج ٤ ص ٣٠ ؛ قال الهيثمي : (قلت هو في الصحيح من حديث عبد الله بن مغفل ، رواه الطبراني في الكبير ، وفيه الحسن بن دينار ، وهو ضعيف).

١٠٠