التفسير الكبير - ج ٥

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني

التفسير الكبير - ج ٥

المؤلف:

سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني


المحقق: هشام البدراني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب الثقافي ـ الأردن / إربد
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-9957-02-1

الصفحات: ٥٠٧

(الّذي) أي ومن الذي عملت أيديهم من الغرس والحرث. ومن قرأ (عَمِلَتْهُ) بالهاء ، فالهاء عائدة على (ما) التي بمعنى الذي.

قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (٣٦) ؛ أي سبحان الذي خلق الأصناف كلّها من أجناس الفواكه والحبوب ، وأصناف ما تنبت الأرض من الحلو والحامض والأبيض والأحمر وغير ذلك من الطّعوم والألوان. وقوله تعالى : (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي وخلق من أنفسهم الذّكران والإناث. وقوله تعالى : (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) أي وخلق في البرّ والبحر وأجواف السّموات والأرض من جميع الأنواع والأشياء.

قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) (٣٧) ؛ أي وعلامة لهم أخرى تدلّ على قدرتنا ، الليل المظلم ينزع منه النهار فإذا هم داخلون في الظّلام ، وذلك أنّ الأصل هو الظّلمة ، والنهار داخل عليها لأنّ الله خلق الدّنيا مظلمة ، فإذا طلعت الشمس صارت الدّنيا مضيئة تشبه ضوء النهار باللّباس ، فإذا ذهب الضوء بغروب الشمس كان ذهاب ذلك بمنزلة سلخ جلد الشّاة عن الشاة ، وسلخ الثوب الرجل عن الرجل ، والمعنى : إذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل أن كشفها فأزيل فتظهر الظّلمة.

قوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ؛) معناه : وآية لهم (الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) أي إلى مستقرّ لها وهو آخر مدّة الدنيا ثم تجري بعدها ، ويقال : مستقرّها منازلها إذا انتهت الى أقصى منازلها التي لا تجاوزها في الصيف رجعت ، ويقال : سمعت منازلها مستقرّها ، كما يقال في منزل الرجل : هو مستقرّه ، وإن تصّرف فيه وتحرّك.

وعن أبي ذرّ قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) قال : [مستقرّها تحت العرش](١). قوله تعالى : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ

__________________

(١) رواه البخاري في الصحيح : كتاب بدء الخلق : الحديث (٣١٩٩). ومسلم في الصحيح : كتاب الإيمان : الحديث (٢٥٠ / ١٢٩).

٢٨١

الْعَلِيمِ) (٣٨) ؛ أي ذلك الذي سبق ذكره تقدير العزيز في ملكه ، العليم الذي لا يخفى عليه شيء. وفي قراءة ابن عبّاس : (تجري لا مستقرّ لها) أي لا قرار لها فهي جارية أبدا ما دامت الدّنيا.

قوله تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ ؛) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (والقمر) بالرفع عطفا على قوله (وَالشَّمْسُ تَجْرِي) ، وقيل : على الابتداء ، وقرأ الباقون بالنصب على معنى وقدّرناه القمر وقدّرنا منازل ، كما تقول : زيدا ضربته.

والمعنى : قدّرنا له منازل ينزل في كلّ ليلة منزلة ، وجملة منازل ثمانية وعشرون ، فإذا صار إلى آخر منزله وهي ليلة ثمان وعشرين ، (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (٣٩) ؛ وهو عذق النخلة الذي فيه الشّماريخ إذا يبس ، ولأن العذق إذا مضت عليه الأيام جفّ وتقوّس ويبس ودقّ واصفرّ وصار شبه الأشياء بالقمر في أوّل الشهر وآخره ، لا يقدر على ذلك إلّا الله تعالى.

قوله تعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ؛) يعني أنّ الشمس أبطأ مسيرا من القمر فلا تدركه ، وذلك أنّ الشمس تقطع منازلها في سنة ، والقمر يقطع منازله في شهر ، وهما مسخّران مقهوران على ما ذكرهما الله تعالى.

ويقال معنى قوله : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) أي لا يدخل النّهار على الليل قبل انقضائه ، ولا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه ، كلاهما يسيران دائبين ، ولكلّ حدّ لا يعدوه ولا يقصر دونه ، فإذا جاء سلطان هذا ذهب ذلك ، فإذا جاء سلطان ذلك ذهب هذا ، فذلك قوله تعالى : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ؛) أي لا تتأخّر الشمس عن مجراها ، فتسبق ظلمة الليل في وقت النّهار.

قوله تعالى : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٤٠) ؛ أي كلّ من الشمس والقمر والنّجوم الغاربة والطّالعة في فلك يسيرون ويجرون بالأبساط. والفلك : هو مواضع النجوم من الهواء ؛ أي الذي يجري فيه ، سمّي بهذا الاسم لأنه يدور بالنجوم ، ومنه فلكة المغزل لأنّها تدور بالمغزل.

٢٨٢

قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (٤١) ؛ معناه : وآية لهم أخرى يعني أهل مكّة تدلّهم على توحيد الله تعالى : أنّا حملنا ذرّيتهم في السّفينة المملوءة ، وهي سفينة نوح عليه‌السلام ، وذرّيّته في كلام العرب : الآباء والأبناء والأجداد. قوله تعالى : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) (٤٢) ؛ أي وخلقنا لهم مثل سفينة نوح عليه‌السلام ما يركبون فيه على البحر ، يعني السّفن التي عملت بعد سفينة نوح عليه‌السلام على هيأتها وصورتها.

قوله تعالى : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ؛) أي أنّ الله سبحانه وتعالى ذكر تفضّله أنّه يحفظهم ، ولو شاء أغرقهم فلم يغنهم أحد ولم ينقذهم من الغرق ، ومعنى قوله تعالى : (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) أي فلا مغيث لهم ، (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) (٤٣) ؛ من المكروه والغرق.

والصّريخ : بمعنى الصّارخ لهم بالاستغاثة. وقيل : الصّريخ المعين على الصّراخ ، كأنه قال : فلا معين لهم (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) أي ولا هم يخلّصون من الغرق ، (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) (٤٤) ، إلّا أن تداركهم رحمة الله فتنقذهم إلى حين آجالهم.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ ؛) أي وإذا قيل لهؤلاء الكفار اتّقوا ما بين أيديكم من أمر الآخرة فاعملوا لها ، وما خلفكم من أمر الدّنيا ، فاحذروهم ولا تغترّوا بها ، (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٤٥) ؛ أي لتكونوا على رجاء الرحمة من الله تعالى ، وجواب (إِذا) محذوف تقديره : إذا قيل لهم هذا أعرضوا. قوله تعالى : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ ؛) من عبرة ودلالة تدلّ على صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) (٤٦).

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ ؛) قال مقاتل : (وذلك أنّ المؤمنين قالوا لكفّار قريش : أنفقوا على الفقراء والمساكين ما زعمتم من أموالكم أنّه لله ، وهو ما

٢٨٣

جعلوه من حروثهم وأنعامهم لله ، فقال الكفّار : أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ورزقه) (١).

قال الحسن : (كان أهل الجاهليّة أهل إجبار ، فقالوا : لم يشأ الله أن نطعمه ، ولو شاء الله لأطعمناه). ويقال لهم : ظنّوا بجهلهم أنه تعالى إذا كان قادرا على أن يطعمهم فيغنيهم عن إنفاق الناس ، وهذا القول منهم خطأ ؛ لأنّ الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ليبلي الغنيّ بالفقير فيما فرض له في ماله من الزّكاة ، والمؤمن لا يعترض على المشيئة ، وإنما يوافق الأمر. وقوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٤٧) ؛ هذا من قول الكفّار للمؤمنين ، يقولون لهم : إن أنتم في اتّباعكم محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وترك ديننا إلّا في خطأ بيّن.

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤٨) ؛ أي يقول كفار مكّة : متى هذا الوعد الذي تعدنا يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القيام إن كنتم صادقين أنت وأصحابك أنّا نبعث بعد الموت فأروني ذلك.

يقول الله تعالى : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) (٤٩) قال ابن عبّاس : (يعني النّفخة الّتي تفجرهم وهم يخصّمون في أمر الدّنيا وفي مصرفاتهم) ، والمعنى : تأخذهم الصيحة وهم يختصمون في البيع والشّراء ويتكلّمون في الأسواق والمجالس ، وهي نفخة إسرافيل.

قيل : قرأ ابن كثير وورش (يخصّمون) بفتح الخاء وتشديد الصاد ، وقرأ نافع غير ورش ساكنة الخاء مشدّدة الصاد ، وقرأ أبو عمرو بالإخفاء ، وقرأ حمزة ساكنة الخاء مخفّفة ؛ أي فغلب بعضهم بعضا بالخصام ، وأجود القراءة فتح الخاء مع تشديد الصاد ، ولأن الأصل يختصمون فألقيت حركة ألف المدغم على الساكن الذي قبله وهو الخاء ، وقرأ الباقون بكسر الخاء وتشديد الصاد (٢).

__________________

(١) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٨٨.

(٢) ينظر : إعراب القرآن للنحاس : ج ٣ ص ٢٦٨. والحجة للقراء السبعة : ج ٣ ص ٣٠٨.

٢٨٤

وقوله تعالى : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ؛) أي فلا يستطيع أحد أن يوصي في شيء من أمره ، (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) (٥٠) ؛ أي ولا يلبث أحد أن يصير إلى منزله وأهله ؛ لأنّها تأخذهم بغتة فيموتون في مكانهم وفي أسواقهم.

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [والّذي نفسي بيده لتقومنّ السّاعة وقد نشر الرّجلان ثوبا جديدا يريد أحدهما أن يدفعه إلى صاحبه فيحول قيام السّاعة بينه وبين تسليمه إلى صاحبه ، والّذي نفسي بيده لتقومنّ السّاعة وقد أهوى الرّجل بلقمة ليضعها في فيه فيحول قيام السّاعة بينه وبين وصولها إلى فيه](١).

وقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٥١) ؛ أي ونفخ في الصور نفخة البعث ، فإذا هم من القبور الى عرصات القيامة يخرجون مسرعين ، والنّسلان مقاربة الخطو مع الإسراع ، ومنه نسلان الذّئب وهو هرولته وخببه ، والأجداث هو القبور.

وقوله تعالى : (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ؛) قال المفسّرون : إنّما يقولون هذا ؛ لأنّ الله يرفع عنهم العذاب فيما بين النّفختين فيرقدون ، فلما بعثوا في النفخة الآخرة وعاينوا القيامة ودعوا بالويل والثّبور ، فقالوا : يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟ فيقول الملائكة : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) (٥٢) ؛ على ألسنة الرّسل أنه يبعثكم بعد الموت في موعد البعث.

وقال قتادة : (أوّل الآية للكافرين وآخرها للمؤمنين ، فقال الكافر : يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ، وقال المسلم : هذا ما وعد الرّحمن وصدق المرسلون) (٢). ويجوز أن يكون قوله هذا من نعت المرقد ، كأنّهم يقولون : من بعثنا من مرقدنا هذا الذي كنّا راقدين فيه؟ فيقال لهم : ما وعد الرحمن الذي بعثكم. ويجوز أن يكون ما وعد

__________________

(١) رواه البخاري في الصحيح : كتاب الرقائق : الحديث (٦٥٦٠). ومسلم في الصحيح : كتاب الفتن وأشراط الساعة : الحديث (١٤٠ / ٢٩٥٤).

(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٣٤٧).

٢٨٥

الرحمن على هذا القول خبر مبتدأ محذوف تقديره : حقّ ما وعد الرحمن ، وهذا ما وعد الرحمن.

قوله تعالى : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) (٥٣) ؛ هذا في النفخة الثانية ؛ أي ما كانت نفخة البعث إلّا صيحة واحدة لا تثنّى ، فإذا هم الأوّلون والآخرون في عرصات القيامة محضرون ، فإهلاكهم كان صيحة واحدة ، وبعث الخلائق كلّهم كان صيحة واحدة.

قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ؛) أي لا ينقص من حسنات أحد ولا يزاد على سيّئات أحد ، (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٤) ، ولا يجزى كلّ عامل إلّا ما عمل من خير أو شرّ.

قوله تعالى : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) (٥٥) ؛ معناه : إن أصحاب الجنّة في الآخرة في شغل فاكهون. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بجزم الغين ، وقرأ الباقون (فِي شُغُلٍ) بضمّ الغين ، وهما لغتان مثل : السّحت والسّحت (١).

واختلف المفسّرون في شغلهم ، قال مقاتل : (شغلوا بافتضاض العذارى عن أهل النّار فلا يذكرونهم ولا يهتمّون بهم) (٢). وقال الحسن : (شغلوا بما في الجنّة من النّعم عن ما فيه أهل النّار من العذاب) (٣).

وعن أبي سعيد الخدريّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنّ أهل الجنّة كلّما جامعوا نساءهم عدن أبكارا](٤). قوله تعالى : (فاكِهُونَ) أي أصحاب فاكهة ، كما يقال : شاحم لاحم (٥) ؛ أي ذو شحم ولحم ، وعاسل ذو عسل ، وقرأ أبو جعفر

__________________

(١) ينظر : إعراب القرآن للنحاس : ج ٣ ص ٢٧١.

(٢) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٨٩.

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٣٥٣).

(٤) في مجمع الزوائد : ج ١٠ ص ٤١٧ ؛ قال الهيثمي : (رواه البزار والطبراني في الصغير ، وفيه معلى ابن عبد الرحمن الواسطي ، وهو كذاب).

(٥) في المخطوط تحريف : (شاخ لاخ).

٢٨٦

(فكهون) بغير ألف ، والفكه : الفرح الضّحوك ، الطيّب النفس ، ويقال : فاكه وفكه كحاذر وحذر.

قوله تعالى : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ ؛) أي هم وحلائلهم في ظلال أشجار الجنّة ، (عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) (٥٦) ، على السّرر في الحجال جالسون بالاتّكاء جلسة الملوك. والأرائك : هي السّرر عليها الحجال ، وقوله تعالى : (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ ؛) أي لهم في الجنّة ألوان الفواكه ، (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) (٥٧) ؛ أي ولهم ما يتمنّون ويسألون ، وقال مقاتل : (معناه : ولهم ما يريدون) (١). وقيل : معناه : من ادّعى شيئا فهو له يحكم الله عزوجل لأنّهم ما يدّعون إلّا ما يحسن.

وقوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (٥٨) ؛ أي لهم سلام يسمعونه من الله ، ويعلمهم بدوام الأمن والسلامة مع سبوغ النعمة والكرامة. ويقال : تحيّيهم الملائكة عن الله تعالى ، كما قال الله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ)(٢).

وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [بينما أهل الجنّة في نعيمهم إذا سطع لهم نور ، فيرفعوا رؤوسهم ، فإذا الرّبّ عزوجل قد أشرف عليهم من فوقهم ، فقال : السّلام عليكم يا أهل الجنّة ، فذلك قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتوا إلى شيء من النّعيم ما داموا ينظرون إليه حتّى يحجب عنهم ، فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم](٣).

قوله تعالى : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) (٥٩) ؛ عناه : تفرّقوا ، وقال السديّ : معناه : (كونوا على حدة) (٤) ، ومقاتل : (معناه : اعتزلوا اليوم يعني في الآخرة

__________________

(١) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٨٩.

(٢) الرعد / ٢٣ ـ ٢٤.

(٣) رواه ابن ماجة في السنن : المقدمة : الحديث (١٨٤).

(٤) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠٨٣.

٢٨٧

من الصّالحين) (١). وقال الزجّاج : (معناه : تفرّدوا عن المؤمنين) (٢). ومعنى الآية : أنه يقال للمجرمين : تميّزوا عن المؤمنين ، وذلك أنّ الخلق كلّهم يحشرون مختلطين.

قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ؛) أي ألم آمركم وأوص إليكم ، وقال الزجّاج : (معناه : ألم أقدم لكم على ألسنة الرّسل يا بني آدم أن لا تعبدوا الشّيطان ، أي لا تطيعوا الشّيطان ، ومن أطاع شيئا فقد عبده) (٣).

قوله تعالى : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٦٠) ؛ أي عدوّ ظاهر العداوة ، أخرج أبويكم من الجنّة ، (وَأَنِ اعْبُدُونِي ؛) أي أطيعوني ووحّدوني ، (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦١) ؛ أي طريق مستقيم قائم ، يعني دين الإسلام.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً ؛) أي ولقد أضلّ الشيطان منكم أمما كثيرة ، وقيل : خلقا كثيرا.

قرأ عليّ رضي الله عنه (جبلا كثيرا) بسكون الباء مخفّفا ، وقرأ عاصم ونافع وأيوب : (جبلا) بكسر الجيم والباء وتشديد اللام. وقرأ يعقوب بضمّ الجيم والباء وتشديد اللام ، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو : (جبلا) بضمّ الجيم وسكون الباء مخفّفا ، وقرأ الباقون بضمّ الجيم والباء وتخفيف اللام ، وكلّها لغات ، ومعناها الخلق والجماعة.

وقوله تعالى : (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (٦٢) ؛ أي أفلم تعقلوا ما رأيتم من الأمم إذ أطاعوا إبليس وعصوا الرّسول فأهلكوا.

قوله تعالى : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (٦٣) ؛ أي يقال لهم حين دنوا من النار : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بها في الدّنيا. قوله تعالى :

__________________

(١) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٩٠.

(٢) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٢٢٠ ، ولفظه : (انفردوا).

(٣) في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٢٢٠ ؛ قال الزجاج : (ومعناه : ألم أتقدم إليكم بعهد الإيمان وترك عبادة الشيطان).

٢٨٨

(اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٦٤) ؛ أي إلزموها اليوم بكفركم ، وقاسوا حرّها ، وقوله تعالى (الْيَوْمَ) يعني يوم القيامة.

وقوله تعالى : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ ؛) وذلك أنّهم ينكرون الشّرك فيقولون : والله ربنا ما كنّا مشركين ، فيختم الله على أفواههم ، (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ ؛) وتكلّمت جوارحهم فشهدت عليهم بما عملوا ، وقوله تعالى : (وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٦٥) ؛ قال عقبة بن عامر : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : [أوّل عظم ينطق من الإنسان فخذه من رجله الشّمال](١). وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [أوّل ما تكلّم من الإنسان فخذه وكفّه](٢).

وقوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ ؛) أي ولو نشاء ذهبنا أعينهم وجعلناها بحيث لا يبدو لها شقّا ولا جفنا ، والمعنى : ولو نشاء لأعميناهم في أسواقهم ومجالسهم بتكذيبهم إيّاك يا محمّد كما فعلنا بقوم لوط حين راودوه عن ضيفه. وقوله تعالى : (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ ؛) فغلبوا السّبق وتبادروا إلى الطريق إلى منازلهم ، (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) (٦٦) ؛ لو فعلنا ذلك بهم.

وقوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ ؛) أي في منازلهم فصيّرناهم قردة وخنازير وحجارة ليس فيها روح ، (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) (٦٧) ؛ أي لا يقدرون على ذهاب ومجيء ، والمسخ في اللغة نهاية التبديل.

قوله : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ؛) أي ومن نطوّل عمره في الدّنيا نرده إلى الحالة الأولى من الضّعف ، قال الزجّاج : (معناه : من أطلنا عمره نكّسنا خلقه ،

__________________

(١) رواه الإمام أحمد في المسند : ج ٤ ص ١٥١. وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : ج ١٠ ص ٣١٩٨. وفي مجمع الزوائد : ج ١٠ ص ٣٥١ ؛ قال الهيثمي : (رواه أحمد والطبراني وإسنادهما جيد).

(٢) رواه الطبراني في كتاب الأوائل : ص ٧٩. والإمام أحمد في المسند : ج ٥ ص ٣. وفي مجمع الزوائد : ج ١٠ ص ٣٥١ ؛ قال الهيثمي : (رجاله ثقات). وفي المخطوط تحريف ، قال : [وكتفه] والصحيح ما أثبتناه.

٢٨٩

فصار بدل القوّة ضعفا ، وبدل الشّباب هرما) (١)(أَفَلا يَعْقِلُونَ) (٦٨) ؛ أن القادر على ردّ البشر من حالة القوّة والكمال ؛ أي حال الضّعف وزوال العقل ، قادر على إعادة الخلق بعد الموت.

ومن قرأ (تعقلون) بالتاء فهو على مخاطبة الكفار. قرأ عاصم وحمزة والأعمش : (نُنَكِّسْهُ) بالتشديد ، وقرأ غيرهم بالتخفيف وفتح النون.

قوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ ؛) إن كفار مكّة قالوا للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه شاعر ، وإنّ القرآن شعر ، فأكذبهم الله بقوله تعالى (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي وما يتسهلّ له ذلك ، وما كان يتّزن له بيت شعر جرى على لسانه منكرا.

قال الحكيم : (كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتمثّل بقول العبّاس بن مرداس :

أتجعل نهبي ونهب العب

د بين الأقرع وعيينة

قالوا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّما هو بين عيينة والأقرع ، فقام إليه أبو بكر وقبّل رأسه وقال : صدق الله (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ)(٢).

وعن الحسن رضي الله عنه : أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتمثّل بهذا البيت : [كفى بالإسلام والشّيب للمرء ناهيا] فقال أبو بكر : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّما قال الشّاعر (كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا) (٣) فقال عمر رضي الله عنه : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ.)

__________________

(١) قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ج ٤ ص ٢٢١.

(٢) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٧١ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن سعد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد). والبيت للعباس بن مرداس :

فأصبح نهبي ونهب العب ـ

يد بين عيينة والأقرع

(٣) للشاعر سحيم ، وهو عبد حبشي

عميرة ودّع إن تجهّزت غاديا

كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا

٢٩٠

وعن عائشة رضي الله عنها ؛ أنّها سئلت هل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتمثّل بشيء من الشّعر؟ فقالت : كان الشّعر أبغض الحديث إليه ، ولم يتمثّل بيتا من الشّعر إلّا بيت طرفة : [ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار]. فقال أبو بكر : ليس هذا هكذا يا رسول الله ، إنّما هو : ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد (١) ، فقال : [إنّي لست بشاعر وما ينبغي لي الشّعر](٢).

قوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (٦٩) ؛ أي ما القرآن إلّا ذكر وموعظة ، فيه الفرائض والحدود والأحكام ، (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا ؛) قرأ نافع وابن عامر بالتاء ، والخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ الباقون بالياء ، يعني لينذر القرآن من كان حيّا ، يعني مؤمنا حيّ القلب ، لأن الكافر كالميّت في أنه لا يتدبّر ولا يتفكّر ، (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) (٧٠) ؛ أي وتجب الحجّة بالقرآن على الكافرين.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) (٧١) ؛ معناه : أو لم يشاهدوا أنّا خلقنا لهم مما تولّينا خلقه بإيداعنا وإنشائنا؟ لم يشاركنا في خلق ذلك شريك ولا معين. وذكر الأيدي ههنا يدلّ على انفراده بما خلق ، والمعنى أو لم يروا أنّا خلقنا لهم مما عملناه بقدرتنا؟ لا مما عملته أيدي مالكيها أنعاما وهو الإبل والبقر والغنم لها مالكون وضابطون ، قاهرون لها يصرّفونها كيف يشاوؤن ، واليد تذكر ويراد بها القدرة وإظهار صنعه.

وقوله تعالى : (وَذَلَّلْناها لَهُمْ ؛) أي لم يخلق الأنعام نافرة من بني آدم ولا يقدرون على ضبطها ، بل هي مسخّرة لهم ، والمعنى : وسخّرناها لهم مع قوّتها

__________________

(١) طرفة بن العبد :

ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

(٢) رواه الإمام أحمد في المسند : ج ٦ ص ٣١. والطبري في جامع البيان : الحديث (٢٢٣٨٤). وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : ج ١٠ ص ٣٢٠٠. وفي الدر المنثور : ج ١٠ ص ٧١ ؛ قال السيوطي :

(أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم) ، وقال : (أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد).

٢٩١

وضعفهم ، (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ ؛) أي مركوبهم ، (وَمِنْها يَأْكُلُونَ) (٧٢) ؛ من لحومها ، فقوله (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) يعني الإبل ، قال عروة : (في مصحف عائشة رضي الله عنها (ركوبتهم)) (١) والركوب والركوبة واحد ، مثل الحمول والحمولة ، يقال : هذه الجمال ركوبة القوم وركوبتهم ، وهذه النّوق حلوبة القوم وحلوبهم.

قوله تعالى : (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ ؛) أي من أصوافها وأوبارها وأشعارها ونسلها ومشارب من ألبانها ، (أَفَلا يَشْكُرُونَ) (٧٣) ؛ ربّ هذه النعمة فيوحّدونه جميعهم وأفرادهم.

فقال : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) (٧٤) ؛ أي عبدوا من دون الله أصناما رجاء أن ينصرونهم ويشفعوا لهم ، كما قالوا : ما نعبدهم إلّا ليقرّبونا إلى الله زلفى ، فنفى الله نصرهم بقوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ ؛) أي لا تقدر آلهتهم أن تمنعهم من العذاب ، (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) (٧٥) ؛ أي لهم الأصنام كالعبيد للأرباب قيام بين أيديهم ينتصرون بهم ، والأصنام لا تقدر على نصرهم ولا نصر أنفسهم. ويجوز أن يكون معناه : والمشركون محضرون من الأصنام في النار توبيخا لهم وتعذيبا للذين كانوا يعبدونهم. وقيل : معناه : إن المشركين ينصرون الأصنام وهي لا تستطيع نصرهم.

قوله تعالى : (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ؛) أي لا يحزنك يا محمّد قول كفّار مكّة في تكذيبهم إياك وقولهم إنك شاعر ، (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ ؛) في نفوسهم من تكذيبهم ومكرهم وخيانتهم ، (وَما يُعْلِنُونَ) (٧٦) ؛ لك من العداوة بألسنتهم. والمعنى : إنا نثبتك ونجازيهم.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (٧٧) ؛ يعني أبيّ بن خلف الجمحيّ خاصم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إنكار البعث ، وأتاه بعظم قد بلي وجعل يفتّته ويذرّيه في الرّياح ، ويقول في أصحابه : أيحيي الله هذا العظم بعد ما رمّ؟! وبقولهم : إنّ محمّدا يقول إذا متنا وصرنا ترابا نعاد ، وتنفخ فينا

__________________

(١) في الدر المنثور : ج ٧ ص ٧٢ ؛ قال السيوطي : (أخرجه أبو عبيد وابن المنذر) وذكره.

٢٩٢

الروح ؛ إنّ هذا الشيء عجيب! من يقدر أن يحيي العظام وهي رميم؟! ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [يحيي الله هذا ويميتك ويدخلك النّار] فأنزل الله هذه الآية (١).

والمعنى : أو لم ير الإنسان أنّا خلقناه مع الحياة والعقل والحواسّ من نطفة فبلّغناه ؛ أي أن صار خصما جدلا ظاهر الخصومة ، وهذا تعجيب من جهله وإنكار عليه خصومته ؛ أي لا يتفكّر بدء خلقه.

وقوله تعالى : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ؛) أي ضرب المثل في إنكار البعث بالعظم البالي يفته بيده ، ونسي خلقنا إياه وبعد أن لم يكن شيئا حتى صار مخاصما ف (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (٧٨) ؛ أي شيء بال قاس ، قدّر الله تعالى بقدرة الخلق ، فأنكر إحياء العظم البالي ما لم يكن ذلك في مقدور البشر.

قوله تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٧٩) ؛ أي قل لهم يا محمّد : الذي خلق من العدم إلى الوجود قادر على الإعادة بعد الممات ، وهو عليم بالخلق بعد أن خلقهم.

قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (٨٠) ؛ في هذه الآية زيادة بيان عن عجيب صنعه ، ومعنى ذلك الزّنود التي كانت العرب يورّون منها النار ، كانوا إذا احتاجوا إلى النار أخذوا غصنا من شجر المرخ وغصنا من شجر العفار وهو الأدين ، فضربوا أحدهما بالآخر فخرجت النار ، فقيل لهم : إنّ الذي جمع بين الماء والنار في الشّجر الأخضر قادر على تضادّهما ، لا يطفئ الماء النار ، ولا تحرق النار الشجر ، قادر على أن يبعثكم ويردّ أرواحكم إلى أجسادكم (٢). ويقال : ما من شجرة إلّا وفيها نار غير شجرة العنّاب ، ولذلك يختارها

__________________

(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الحديث (٢٢٣٩٦). وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : ج ١٠ ص ٣٢٠٣. وفي الدر المنثور : ج ٧ ص ٧٤ ـ ٧٥ ؛ قال السيوطي : (أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس ، وأخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في البعث عن أبي مالك ، وأخرجه عبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد).

(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٦٠ ؛ قال القرطبي : (ويعني بالآية ما في صفات المرخ

٢٩٣

القصّارون لدقّ الثياب عليها.

ثم ذكر الله عزوجل : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، ما هو أعظم خلقا من الإنسان فقال : (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ؛) معناه : إن الذي قدر على خلق السّموات والأرض في عظمهما وعجائبهما يقدر على إعادة خلق البشر ؛ لأن خلق السّموات والأرض وما فيهما أبلغ في القدرة من إحياء الموتى ، أفليس القادر عليهما قادر على الإعادة؟ (بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ) ، يخلق خلقا بعد خلق ، (الْعَلِيمُ) (٨١) ، بجميع ما خلق.

قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٨٢) ؛ معناه : إنما أمره إذا أراد شيئا من البعث وغيره أن يقول له : كن بغير واسطة. فإن قيل :لم لا ينصب قوله تعالى (فَيَكُونُ) على جواب الأمر كما يقال : آتني فأكرمك ، قلنا :ذاك مستقبل مستحبّ ، الثاني : بوجوب الأدنى ، وهذا كائن مع إرادة الله تعالى ، فالفعل واجب.

قوله تعالى : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ؛) نزّه الله تعالى أن يوصف بغير القدرة ؛ أي تنزيها للّذي له القدرة على كلّ شيء من أن يوصف بغير القدرة ، (و (مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي ملك كلّ شيء ، والقدرة على كلّ شيء ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٣) ؛ في الآخرة بعد الموت فيجزيكم بأعمالكم.

آخر تفسير سورة (يس) والحمد لله رب العالمين.

__________________

ـ والعفار ، وهي زنادة العرب ، ومنه قولهم : في كلّ شجرة نار واستمجد المرخ والعفار ، فالعفار الزّند وهو الأعلى ، والمرخ الزّندة وهي الأسفل ، ويؤخذ منهما غصنان مثل السّواكين يقطران ماء ، فيحك بعضهما إلى بعض فتخرج منهما النار).

٢٩٤

سورة الصّافّات

سورة الصّافّات مكّيّة (١) ، وهي ثلاثة آلاف وثمانمائة وستّة وعشرون حرفا ، وثمانمائة وستّون كلمة ، ومائة واثنان وثمانون آية.

قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قرأ سورة والصّافّات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ جنّيّ وشيطان ، وتباعدت منه مردة الشّياطين ، وبرئ من الشّرك ، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنّه كان مؤمنا بالمرسلين](٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) (١) ؛ يعني صفوف الملائكة في السّماء كصفوف الخلق في الدّنيا للصّلاة ، وهذا قسم أقسم الله تعالى بالملائكة التي تصفّ أنفسها في السّماء ، قال ابن عبّاس : (يريد الملائكة صفوفا لا يعرف كلّ ملك منهم من إلى جانبه ، لم يلتفت منذ خلق الله عزوجل) (٣). وقيل : أقسم الله بصفوف الملائكة تصفّ أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمر الله بما يريد. قوله تعالى : (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) (٢) ؛ أراد به الملائكة الذين يزجرون السّحاب فيسوقونه إلى الموضع الذي أمروا به ويؤلّفونه ، وقال قتادة : (يعني زواجر القرآن) (٤) وهو كلّ ما ينهى ويزجر عن القبيح.

__________________

(١) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٥ ص ٦١ ؛ قرّر القرطبيّ قال : (مكيّة في قول الجميع).

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف : ج ٤ ص ٦٦.

(٣) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠٨٦.

(٤) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٤٠٨). وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : الأثر (١٨١٢٨) عن أنس رضي الله عنه ولفظه : (ما زجر الله عنه في القرآن).

٢٩٥

قوله تعالى : (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) (٣) ؛ يعني جبريل والملائكة يتلون كتاب الله وذكره ، وقوله تعالى : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) (٤) ؛ جواب القسم ، وإنما وقع القسم بهذه الملائكة ؛ لأن في تعظيمها تعظيما لله ، وقيل : هذا أقسم بالله تعالى على تقدير : ورب الصافّات ، إلّا أنه حذف لما يقتضي من التعظيم ، وكذلك (وَالذَّارِياتِ وَالطُّورِ) و (والنجم) وغير ذلك.

وقد تضمّنت الآية تشريف الملائكة وتعظيم الاصطفاف في الصّلاة ، وفي الحديث : [إنّهم يصطفّون في صلاتهم في السّماء ويسبحون الله تعالى ويذكرونه ، ويرفعون أصواتهم بقراءة القرآن في الصّلاة كما يصطفّ النّاس في صلاتهم](١). قال مقاتل : (وذلك أنّ كفّار قريش قالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا ، فأقسم الله بهؤلاء أنّ إلهكم لواحد ليس له شريك) (٢).

قوله تعالى : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ؛) أي خالقهما ومشيتهما وتدبّر ما بينهما ، (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) (٥) ، مالك المشارق ، وإنما قال ههنا : (رَبُّ الْمَشارِقِ) لأن للشمس ثلاثمائة وستّين مشرقا ، تطلع كلّ يوم من مشرق ، وتغرب في مغرب ، فإذا تحوّلت السّنة عادت إلى المشرق والمغرب ، فإنما أراد جانب المشرق وجانب المغرب. وقيل : أراد به الجنس ، وقيل : أراد به مشرقها ومغربها في يوم واحد. وأما قوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ)(٣) فقيل : إنما أراد به مشرق الشمس ومشرق القمر. وقيل : أراد بذلك مشرق الشتاء والصيف ومغربها. وشروق الشمس : طلوعها ، يقال : شرقت إذا طلعت ، وأشرقت اذا أضاءت.

قوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) (٦) ؛ أي زيّنا السماء التي هي أدنى إليكم من سائر السّموات بضوء الكواكب ونورها ، قرأ أبو بكر (بِزِينَةٍ) بالتنوين ونصب (الكواكب) عمل الزّينة في الكواكب ؛ أي بأن زيّنا الكواكب

__________________

(١) بمعناه : أخرجه مسلم في الصحيح : كتاب الصلاة : الحديث (١١٩ / ٤٣٠).

(٢) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٩٤.

(٣) الرحمن / ١٧.

٢٩٦

فيها ، وقرأ حمزة وحفص (بِزِينَةٍ) بالتنوين وخفض (الْكَواكِبِ) على البدل ؛ أي بزينة بالكواكب ، وقرأ الباقون بالإضافة (١).

قوله تعالى : (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) (٧) ؛ أي جعل الكواكب حفظا من كلّ شيطان متجرّد للشرّ ، يقذفون بها إذا استرقوا السمع ، والمارد : الخبيث الخالي من الخير ، والمارد : هو المتمرّد ، قال الحسن : (وهذا دليل أنّه إنّما يرجم بالكواكب بعض الشّياطين وهم المردة).

قوله تعالى : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى ؛) كأنّه قال : (لا يسمعون) أي لا يسمع مردة الشياطين إلى الملائكة ولا إلى كلامهم ، قال الكلبيّ : (معنى الآية : لكيلا يسمعوا إلى الكتبة من الملائكة). والملأ الأعلى : هم الملائكة ؛ لأنّهم في السّماء ، قرأ أهل الكوفة (يَسَّمَّعُونَ) بالتشديد أي يسمعون.

وقوله تعالى : (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) (٨) ؛ أي يرمون من كلّ جانب بالشّهب ، يعني أنّ الشياطين يرمون بالشّهب عند دنوّهم من السّماء لاستماع كلام الملائكة في تدبّر أمور الدّنيا ، يرمون بالشّهب من نواحي السّماء وأطرافها.

وقوله تعالى : (دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) (٩) ؛ أي طردا وإبعادا ، يقال : دحره دحرا ودحورا ؛ إذا طرده وأبعده ، ولهم مع ذلك في الآخرة عذاب واصب أي دائم لا ينقطع ، وقيل : معنى الواصب الموجع ، من الوصب وهو الوجع ، وقيل : الوجع. معنى الآية : أنّهم يدحرون ويبعدون عن تلك المجالس التي يسترقون السمع (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) أي دائم إلى النفخة الأولى.

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ ؛) أي إلّا من اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقة ، (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) (١٠) ؛ أي لحقه وأصابه نار مضيئة تحرقه ، والثاقب : النّيّر المضيء ، وهذا قوله إلّا من استرق السمع مختلسا.

__________________

(١) ينظر : إعراب القرآن للنحاس : ج ٣ ص ٢٧٨ ؛ قال : (وهي المعروفة من قراءة عاصم). وفي معالم التنزيل : ص ١٠٨٧ ؛ قال البغوي : (قرأ عاصم ، برواية أبي بكر) وذكرها.

٢٩٧

والخطف : أخذ الشيء بسرعة. قوله تعالى : (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) أي نجم وهّاج متوقّد مضيء.

قوله تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا ؛) قبلهم من الأمم الماضية ، كانت الأمم الماضية أشدّ منهم قوّة وآثارا في الأرض ، فأهلكناهم بكفرهم وتكذيبهم ، فكيف يأمن هؤلاء الهلاك مع إصرارهم على الكفر وهم أضعف ممّن قبلهم.

ثم ذكر خلق الإنسان فقال : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) (١١) ؛ أي خلقنا أصلهم وهو أبو البشر آدم من طين لازب لاصق ثابت ، يقال : له ضربة لازب ، وضربة لازم ، وإذا خلق أصلهم من طين لازم فكيف لا يقرّون بقدرة الله تعالى على البعث.

قوله تعالى : (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) (١٢) ؛ أي بل عجبت يا محمّد من إنكارهم للبعث مع ظهور ما وجب من الحجّة والأدلة ، ويقال : بل عجب من جهلهم حيث اختاروا ما تجب به النار لهم وتركوا ما يجب لهم به الجنّة ، وهم يسخرون من بعثتك ، ويستهزئون بكلامك بالقرآن.

وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضمّ التاء ، وهي قراءة ابن مسعود على معنى أنّهم قد حلّوا محلّ من تعجّب منهم ، وقال الحسن بن الفضل : (العجب من الله على خلاف العجب من الآدميّين ، وإنّما معنى العجب ههنا هو الإنكار والتّعظيم ، وقد جاء الخبر : [أنّ الله ليعجب من الشّاب ليست له صبوة](١)) (٢).

وقيل : إن الجنيد سئل عن هذه الآية فقال : (الله لا يعجب من شيء ولكنّ الله وافق رسوله لمّا عجب رسوله فقال : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ)(٣) أي هو كما

__________________

(١) الصّبوة : ميل إلى الهوى.

(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند : ج ٤ ص ١٥١. وفي مجمع الزوائد : ج ١٠ ص ٢٧٠ ؛ قال الهيثمي :

(رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ، وإسناده حسن). وأخرجه ابن عدي في الكامل : ج ٥ ص ٢٤٣ ؛ وقال : (هذا حديث لا أعلم يرويه غير ابن لهيعة).

(٣) الرعد / ٥.

٢٩٨

تقوله) (١). قال شريح : (إنّما العجب ممّن لا يعلم ، والله تعالى عنده علم كلّ شيء) (٢).

وقرأ الباقون (بَلْ عَجِبْتَ) بفتح التاء على خطاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. و (بَلْ) معناه : ترك الكلام الأوّل والآخر في كلام آخر ، كأنّه قال : دع يا محمّد ما مضى عجيب من كفار مكّة حين أوحي إليك القرآن ولم يؤمنوا به.

وقوله تعالى (وَيَسْخَرُونَ) لأنّ سخريتهم بالقرآن ترك الإيمان به ، قال قتادة : (عجب نبيّ الله من هذا القرآن حين نزل عليه ، وظنّ أنّ كلّ من سمعه آمن به ، فلمّا سمعه المشركون ولم يؤمنوا به وسخروا منه ، عجب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك ، فقال الله عزوجل : عجبت يا محمّد من نزول القرآن عليك وتركهم الإيمان) (٣).

قوله تعالى : (وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) (١٣) ؛ واذا وعظوا بالقرآن لا يتّعظون ، (وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) (١٤) ؛ إذا رأوا معجزة مثل انشقاق القمر وغيره اتّخذوه سخرية ، ونسبوا ما دلّهم على توحيد الله تعالى إلى السّحر ، (وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (١٥). وقالوا أيضا على وجه الإنكار : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا ؛) صرنا ؛ (تُراباً وَعِظاماً ؛) بالية ، (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (١٦) ؛ أي أنبعث بعد الموت ، (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) (١٧) ؛ الذين مضوا قبلنا ، (قُلْ ؛) لهم يا محمّد : (نَعَمْ ؛) تبعثون (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) (١٨) ؛ أنتم وآباؤكم ؛ أي وأنتم أذلّاء صاغرون ، والدّخور أشدّ الذّلّ.

ثم ذكر أنّ بعثهم يقع بزجرة واحدة ؛ أي بصيحة واحدة ، فإذا هم قيام ينظرون ماذا يؤمرون به ، وقوله تعالى : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ؛) أي فإنّما قضية البعث

__________________

(١) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠٨٧.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير : ج ١٠ ص ٣٢٠٦. وفي الدر المنثور : ج ٧ ص ٨٢ ؛ قال السيوطي : (أخرجه أبو عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق الأعمش).

(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٤٤٨). وابن أبي حاتم في التفسير الكبير : ج ١٠ ص ٣٢٠٧.

٢٩٩

صيحة واحدة من إسرافيل ، يعني نفخة البعث ، (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) (١٩) ؛ أي بعث الذي كذبوا به.

فلما عاينوا البعث ذكروا قول الرسل في الدّنيا أنّ البعث حقّ ، فدعوا بالويل ، (وَقالُوا يا وَيْلَنا ؛) من العذاب ، (هذا يَوْمُ الدِّينِ) (٢٠) ؛ أي هذا يوم الحساب والجزاء نجازى فيه بأعمالنا. فقالت الملائكة : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ ؛) يوم القضاء ، (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (٢١) ؛ يفصل به بين المسيء والمحسن ، والمحقّ والمبطل ، وهو اليوم الذي كنتم به تكذّبون في الدّنيا.

قوله تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ ؛) أي فيقال لخزنة جهنّم : اجمعوا الذين ظلموا وقرناءهم من الشّياطين الذين قبضوا لضلالتهم ، ويقال : أراد بالأزواج نظراءهم وأشكالهم من الأتباع. والزّوج في اللغة : النظير ، ومن ذلك : زوجان من الخفّ. ويقال : أراد بالأزواج نساءهم ، سواءا أكانت امرأة الكافر كافرة أو منافقة ، والمعنى : اجمعوا الذين ظلموا من حيث هم إلى الوقف للجزاء والحساب ، والمراد بالذين ظلموا المشركين.

قوله تعالى : (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ ؛) يعني اجمعوا المشركين وأتباعهم وأوثانهم وطواغيتهم وأصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ، قال مقاتل : (يعني إبليس وجنوده) (١) فهم الّذين كانوا يعبدونهم من دون الله ، قال الله تعالى : (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ)(٢). قوله تعالى : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (٢٣) ؛ أي سوقوهم واذهبوا بهم إلى فريق الجحيم.

فلما انطلق بهم إلى جهنّم أرسل ملك يقول لخزنة جهنّم : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٢٤) ؛ أي اسألهم في موضع الحساب ، يسألوا ويعرفوا أعمالهم ، وهذا سؤال توبيخ لا سؤال استفهام ، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : (إنّهم مسؤولون عن

__________________

(١) قاله مقاتل في التفسير : ج ٣ ص ٩٧.

(٢) يس / ٦٠.

٣٠٠