الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-437-x
الصفحات: ٤١٨
فإن حلف ، كفاه يمين واحدة على نفي العلم ـ وبه قال الشافعي (١) ـ لأنّ المدّعى شيء واحد ، وهو علمه بعين المال ، فكفاه يمين واحدة.
وقال أبو حنيفة : يحلف يمينين لكلّ واحدٍ منهما يميناً ، كما لو أنكر أنّها لهما (٢).
والفرق : إنّه إذا أنكرهما فقد أنكر دعويين ؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما يدّعي عليه أنّها له ، فهنا دعويان ، فإذا حلف كان كأنّهما صدّقاه.
وهل للحاكم تحليفه على نفي العلم إذا لم يدّعه الخصمان؟ للشافعيّة وجهان (٣).
ثمّ إذا حلف المدّعى عليه ، فالحكم كما لو صدّقاه في النسيان من أنّه يُقرّ في يده ؛ لأنّه لا فائدة في نقله ، فإنّه مستودع ، ولم تظهر منه خيانة ، أو يُنقل عنه ؛ لأنّه قد اعترف بأنّه لا حقّ له فيها (٤) فيُنقل عنه.
وقال بعضهم : إنّه يُنزع المال منه هنا وإن لم يُنزع هناك ؛ لأنّه خائن عندهما بدعوى النسيان (٥).
وإن نكل عن اليمين ، رُدّت اليمين عليهما ، فإن نكلا فإمّا أن نقول : يُقسم المال بينهما ، أو يُوقف حتى يصطلحا على الخلاف ، وإن حلف أحدهما ونكل الآخَر قُضي بها للحالف.
__________________
(١) الوسيط ٤ : ٥١٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٨٨ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٥ : ١٢٩ ، البيان ٦ : ٤٤٩ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٣١١.
(٢) مختصر اختلاف العلماء ٤ : ١٩٢ / ١٨٨٤ ، الوسيط ٤ : ٥١٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٨٨ ، البيان ٦ : ٤٤٩ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢٢ ، المغني ٧ : ٢٩٤ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٢٧.
(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٣١١.
(٤) أي : في الوديعة. والظاهر بحسب السياق : « فيه ».
(٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٣١١.
وإن حلفا ، فللشافعيّة قولان :
أحدهما : إنّه يُقسم بينهما ؛ لأنّه في أيديهما ـ وهو الأصحّ عند الشافعيّة ـ كما لو أقرّ بها لهما.
والثاني : يُوقف حتى يصطلحا ـ وبه قال ابن أبي ليلى ـ لأنّه لا يعلم المالك منهما (١).
وعلى القول بالقسمة فإنّ المستودع يغرم القيمة ، وتُقسَم بينهما أيضاً ؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما أثبت بيمين الردّ جميعَ العين ولم يحصل له سوى نصفها (٢).
هذا أشهر ما قاله الشافعيّة فيما إذا نكل المستودع (٣).
ولهم وجهٌ آخَر : إنّه لا يغرم القيمة مع العين إذا حلفا (٤).
ولهم وجهٌ آخَر : إنّ المستودع إذا نكل لا تُردّ اليمين عليهما ، بل يوقف ؛ بناءً على أنّهما لو حلفا يوقف المال بينهما ، فلا معنى لعرض اليمين (٥).
وإن قلنا بردّ اليمين ، فالأقرب : إنّ الحاكم يُقدّم مَنْ رأى تقديمه منهما في الحلف.
ويحتمل القرعة بينهما.
وإذا حلفا وقُسّمت العين بينهما والقيمة ، فإن لم ينازع أحدهما الآخَر فلا بحث ، وإن نازع وأقام البيّنة على أنّ جميع العين له سُلّمت إليه ، ورُدّت
__________________
(١) الحاوي الكبير ٨ : ٣٨٣ ، حلية العلماء ٥ : ١٨٨ ، البيان ٦ : ٤٤٩ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٣١١ ، المغني ٧ : ٢٩٥ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٢٨.
(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٣١١.
(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢٢ ـ ٣٢٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٣١١.
(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٣١١.
القيمة على المستودع.
وإن لم تكن بيّنة ونكل صاحبه عن اليمين فحلف واستحقّ العين ، فيردّ نصفَ القيمة الذي أخذه ؛ لأنّه عاد إليه المُبدل ، والناكل لا يردّ ما أخذ ؛ لأنّه استحقّه بيمينه على المستودع ، ولم يعد إليه المُبدل ، ونكوله كان مع صاحبه ، لا مع المستودع.
مسألة ٧٠ : لو قال المستودع في الجواب : هذا المال وديعة عندي ولا أدري أهو لكما أو لأحدكما أو لغيركما ، وادّعيا عليه العلمَ ، كان القولُ قولَه مع اليمين ، فإذا حلف على نفي العلم تُرك في يده إلى أن تقوم بيّنة ، وليس لأحدهما تحليف الآخَر ؛ لأنّه لم يثبت لواحدٍ منهما فيه يدٌ ولا استحقاق ، بخلاف الصورة الأُولى.
ولو ادّعى عليه اثنان غصبَ مالٍ في يده ، كلّ واحدٍ منهما يقول : غصبتَه منّي ، فقال : غصبتُه من أحدكما ولا أعرف عينه ، فالقول قوله مع اليمين أيضاً ، فعليه أن يحلف لكلّ واحدٍ منهما على البتّ على أنّه لم يغصب (١) ، فإذا حلف لأحدهما تعيّن المغصوب للثاني ، فلا يحلف له.
مسألة ٧١ : تشتمل على فروع متبدّدة :
لو تعدّى في الوديعة ثمّ بقيت في يده مدّة ، لزمه أُجرة مثلها عن تلك المدّة ؛ لأنّه خرج عن الأمانة ، ودخل في الخيانة من حين التعدّي ، فكان كالغاصب عليه عوض المنافع وإن لم ينتفع.
ولو دخل خاناً فجعل حماره في صحن الخان ، وقال للخاني : احفظه كي لا يخرج ، وكان الخاني ينظر إليه ، فخرج في بعض غفلاته ، فالأقرب : الضمان ؛ لأنّه قصّر في الحفظ بالغفلة.
وقال القفّال من الشافعيّة : لا يضمن ؛ لأنّه لم يقصّر في الحفظ
__________________
(١) الظاهر : « لم يغصب منه » أو « لم يغصبه ».
المعتاد (١).
وهو ممنوع.
ولو وقع في خزانة المستودع حريق ، فبادر إلى نقل الأمتعة وقدّم أمتعته على الوديعة ، فاحترقت الوديعة ، لم يضمن ، كما لو لم يكن فيها إلاّ ودائع فأخذ في نقلها كلّها فاحترق ما تأخّر نقله.
ولو ادّعى ابن مالك الوديعة أنّ أباه قد مات وأنّ المستودع علم بذلك ، وطلب الوديعة ، فأنكر المستودع ، فللولد تحليفه على نفي العلم ، فإن نكل حلف المدّعي.
ولو مات المالك وطلب الوارث الوديعةَ ، فامتنع المستودع من الدفع إليه ليتفحّص ويبحث هل في التركة وصيّة؟ ففي كونه متعدّياً ضامناً إشكال أقربه ذلك.
ولو وجد لقطةً وعرف مالكها ولم يُخبره حتى تلفت ، ضمن.
وكذا قيّم الصبي والمسجد إذا كان في يده مال فعزل نفسه ولم يُخبر الحاكم حتى تلف المال ، كان ضامناً.
ومَنْ كان قيّماً لصبيٍّ أو مجنونٍ أو سفيهٍ ولم يبع أوراق شجره التي تُقصد بالبيع حتى يمضي وقتها ، كان ضامناً ، أمّا لو أخّر البيع لتوقّع زيادةٍ لم يضمن.
وكذا قيّم المسجد في أشجاره.
ولو دفع إلى رسوله خاتماً علامةً ليمضي إلى وكيله (٢) ويقبض منه شيئاً ، وقال : إذا قبضتَه تردّ الخاتمَ علَيَّ ، فقبض المأمور بقبضه ولم يردّ الخاتم بل وضعه في حرزه ، فالأقرب : الضمان ؛ لأنّه قبضه على أنّه يردّه ،
__________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٣١٢.
(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « خاتماً ليمضي إلى وكيله علامةً ». والظاهر ما أثبتناه.
فإذا لم يردّه كان ضامناً.
ويحتمل عدمه ؛ لأنّه ليس عليه الردّ ولا مئونته ، بل عليه التخلية.
ولو دفع قبالةً إلى غيره وديعةً ففرّط فيها ، ضمن قيمة الكاغذ مكتوباً ، ولا شيء عليه ممّا في القبالة.
وكذا لو أودع إنساناً وثيقةً وقال : لا تردّها إلى زيدٍ حتى يدفع ديناراً ، فردّها قبله ، فعليه قيمة القبالة مكتوبة الكاغذ وأُجرة الورّاق.
مسألة ٧٢ : لو دخل الحمّام فنزع ثيابه وسلّمها إلى الحمّامي ، وجب عليه حفظها ، فإن فرّط ضمن ، وإن لم يفرّط لم يضمن.
وإن لم يسلّم إليه الثياب ، لم يضمن ، سواء احتفظها أو غفل عنها ولم يراعها وكان مستيقظاً ، عند علمائنا ؛ لأنّه إنّما أخذ الجُعْل على الحمّام ، ولم يأخذه على حفظ الثياب ، ولم يستودع شيئاً ، وصاحبها لم يودعه ثيابه ، وخَلْعُه في المسلخ والحمّامي جالس في مكانه مستيقظاً ليس استيداعاً.
وقد روى من طريق الخاصّة غياث بن إبراهيم عن الصادق عليهالسلام عن أبيه عليهالسلام : « إنّ عليّاً عليهالسلام أُتي بصاحب حمّامٍ وُضعت عنده الثياب فضاعت ، فلم يُضمّنه ، وقال : إنّما هو أمين » (١).
وقال بعض الشافعيّة : إذا سُرقت الثياب والحمّامي جالس في مكانه مستيقظ ، فلا ضمان عليه ، فإن نام أو قام من مكانه ولا نائب هناك ضمن وإن لم يستحفظه المالك عليها ؛ قضاءً للعادة (٢).
وهو خطأ ؛ لما تقدّم.
ولما رواه إسحاق بن عمّار عن الصادق عليهالسلام عن أبيه عليهالسلام : « إنّ عليّاً عليهالسلام كان يقول : لا ضمان على صاحب الحمّام فيما ذهب من الثياب ،
__________________
(١) التهذيب ٧ : ٢١٨ ـ ٢١٩ / ٩٥٤.
(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٢٤ ، روضة الطالبين ٥ : ٣١٣.
لأنّه إنّما أخذ الجُعْل على الحمّام ولم يأخذه على الثياب » (١).
مسألة ٧٣ : لو ادّعى صاحب اليد أنّ المال وديعة عنده ، وادّعى المالك الإقراض (٢) ، قُدّم قول المالك مع اليمين ؛ لأنّ المتشبّث يزيل بدعواه ما ثبت عليه من وجوب الضمان بالاستيلاء على مال الغير ، فكان القولُ قولَ المالك.
ولما رواه إسحاق بن عمّار عن الكاظم عليهالسلام ، قال : سألته عن رجلٍ استودع رجلاً ألف درهم فضاعت ، فقال الرجل : كانت عندي وديعة ، وقال الآخَر : إنّما كانت عليك قرضاً ، قال : « المال لازم له ، إلاّ أن يقيم البيّنة أنّها كانت وديعة » (٣).
إذا عرفت هذا ، فهذا التنازع إنّما تظهر فائدته لو تلف المال ، أو كان غائباً لا يعرفان خبره ، أو لا يتمكّن من دفعه إلى مالكه ، ولو كان باقياً يتمكّن مَنْ هو في يده من تسليمه فلا فائدة فيه.
ولو انعكس الفرض ، فادّعى المالكُ الإيداعَ والقابضُ الإقراضَ ، قُدّم قول المالك ؛ لأنّ المال إن كان باقياً فالأصل استصحاب ملكيّة المالك ، وإن كان تالفاً فالأصل براءة ذمّة القابض ، وقد وافق المالك الأصل.
مسألة ٧٤ : ولا فرق بين الذهب والفضّة وبين غيرهما من الأموال في هذا الحكم ، وهو عدم الضمان مع عدم التفريط ، وثبوته معه ، بخلاف العارية على ما سيأتي ؛ لأنّ الاستئمان لا يستعقب الضمان.
ولما رواه زرارة ـ في الحسن ـ عن الصادق عليهالسلام ، قال : سألته عن وديعة الذهب والفضّة ، قال : فقال : « كلّ ما كان من وديعةٍ ولم تكن
__________________
(١) التهذيب ٦ : ٣١٤ / ٨٦٩.
(٢) في الطبعة الحجريّة : « الاقتراض ».
(٣) الكافي ٥ : ٢٣٩ / ٨ ، التهذيب ٧ : ١٧٩ / ٧٨٨.
مضمونةً فلا تلزم » (١).
إذا عرفت هذا ، فالبضاعة أمانة في يد العامل ؛ لأصالة البراءة ، وحكمها في عدم الضمان مع عدم التفريط حكم الوديعة ؛ للأصل.
ولما رواه الحلبي ـ في الحسن ـ عن الصادق عليهالسلام قال : « صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان » (٢).
مسألة ٧٥ : إذا استودع مالاً واتّجر به بغير إذن صاحبه ، فإن كانت التجارة بعين المال فالربح للمالك إن أجاز المعاوضات ، وإلاّ بطلت بأسرها ، وإن كانت في الذمّة ونقد مال الوديعة عن دَيْنٍ عليه فالربح للعامل ، وعليه ردّ المال.
وقد روى أبو سيار مسمع عن الصادق عليهالسلام ، قال : قلت له : إنّي كنت استودعت رجلاً مالاً فجحدنيه وحلف لي عليه ، ثمّ إنّه جاءني بعد ذلك بسنين بالمال الذي كنت استودعته إيّاه ، فقال لي : إنّ هذا مالك فخُذْه وهذه أربعة آلاف درهم ربحتُها في مالك ، فهي لك مع مالك واجعلني في حلٍّ ، فأخذتُ منه المال وأبيتُ أن آخذ الربح منه وأوقفته المال الذي كنت استودعته وأتيت أستطلع رأيك فما ترى؟ قال : فقال : « خُذْ نصف الربح ، وأعطه النصف ، وحلِّه ، إنّ هذا رجل تائب ، والله ( يُحِبُّ التَّوّابِينَ ) » (٣).
وهذه الرواية محمولة على الإرشاد على فعل الأولى بقرينة قوله : « فما ترى؟ » والإمام عليهالسلام أرشده إلى المعتاد بين الناس من قسمة ربح التجارة نصفين.
مسألة ٧٦ : مَن استودع من اللّصّ مال السرقة ، لم يجز له ردّها عليه ،
__________________
(١) الكافي ٥ : ٢٣٩ / ٧ ، التهذيب ٧ : ١٧٩ / ٧٨٩.
(٢) الكافي ٥ : ٢٣٨ / ١ ، الفقيه ٣ : ١٩٣ / ٨٧٨ ، التهذيب ٧ : ١٧٩ / ٧٩٠.
(٣) التهذيب ٧ : ١٨٠ / ٧٩٣.
بل يردّها على مالكها إن عرفه بعينه ، فإن كان قد مات ردّها على ورثته ، ولو لم يعرف مالكها أبقاها في يده أمانةً إلى أن يظهر المالك ، فإن لم يمكن معرفته كان بمنزلة اللقطة يُعرّفها سنةً ، فإن تعذّر المالك تصدّق بها عنه ، وكان عليه ضمانها ، وإن شاء حفظها لمالكها ؛ لما رواه حفص بن غياث عن الصادق عليهالسلام ، قال : سألته عن رجلٍ من المسلمين أودعه رجلٌ من اللّصوص دراهم أو متاعاً واللّصّ مسلمٌ هل يردّ عليه؟ قال : « لا يردّه ، فإن أمكنه أن يردّه على صاحبه فَعَل ، وإلاّ كان في يده بمنزلة اللقطة يصيبها فيُعرّفها حولاً ، فإن أصاب صاحبها ردّها عليه ، وإلاّ تصدّق بها ، فإن جاء بعد ذلك خيّره بين الأجر والغرم ، فإن اختار الأجر فله ، وإن اختار الغرم غرم له ، وكان الأجر له » (١).
إذا عرفت هذا ، فإن كان الظالم قد مزج الوديعة بماله مزجاً لا يتميّز ، لم يجز للمستودع حبسها ، ووجب عليه ردّ الجميع إليه.
ويحتمل عندي ردّ قدر ما يملكه اللّصّ ، واحتفاظ الباقي لمالكه. والقسمة هنا ضروريّة.
ولو خاف من الظالم لو منعها عنه ، جاز له ردّها عليه.
مسألة ٧٧ : يجب ردّ الوديعة إلى مالكها وإن كان كافراً ؛ لقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) (٢).
وقد روى الفضيل عن الرضا عليهالسلام ، قال : سألته عن رجلٍ استودع رجلاً من مواليك مالاً له قيمة ، والرجل الذي عليه المال رجل من العرب يقدر على أن لا يعطيه شيئاً ، والمستودع رجل خبيث خارجيّ شيطان ، فلم أدع شيئاً ، فقال : « قل له : يردّ عليه ، فإنّه ائتمنه عليه بأمانة الله » قلت : فرجل
__________________
(١) التهذيب ٧ : ١٨٠ ـ ١٨١ / ٧٩٤ ، الاستبصار ٣ : ١٢٤ / ٤٤٠.
(٢) النساء : ٥٨.
اشترى من امرأةٍ من بعض العبّاسيّين بعض قطائعهم وكتب عليها كتاباً : قد قبضت المال ، ولم تقبضه ، فيعطيها المال أم يمنعها؟ قال : « يمنعها أشدّ المنع ، فإنّما باعته ما لم تملكه » (١).
__________________
(١) التهذيب ٧ : ١٨١ / ٧٩٥.
المقصد الثاني : في العارية
وفيه فصلان :
[ الفصل ] الأوّل : الماهيّة والأركان
فهنا بحثان :
الأوّل : الماهيّة.
العاريّة ـ بتشديد الياء ـ عقد شُرّع لإباحة الانتفاع بعينٍ من أعيان المال على جهة التبرّع. وشُدّدت الياء كأنّها منسوبة إلى العار ؛ لأنّ طلبها عار ، قاله صاحب الصحاح (١).
وقال غيره : منسوبة إلى العارة ، وهي مصدر ، يقال : أعار يعير إعارةً وعارةً ، كما يقال : أجاب إجابةً وجابةً ، وأطاق إطاقةً وطاقةً (٢).
وقيل : إنّها مأخوذة من « عار يعير » إذا جاء وذهب ، ومنه قيل للبطّال : العيّار ؛ لتردّده في بطالته ، فسُمّيت عاريةً ؛ لتحوّلها من يدٍ إلى يدٍ (٣).
وقيل : إنّها مأخوذة من التعاور والاعتوار ، وهو أن يتداول القوم الشيء بينهم (٤).
وقال الخطّابي في غريبه : إنّ اللغة العالية : العاريّة ، وقد تُخفّف (٥).
__________________
(١) الصحاح ٢ : ٧٦١ « عور ».
(٢) كما في « الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي » المطبوع في مقدّمة « الحاوي الكبير » : ٣٠٠.
(٣) قاله الأزهري في الزاهر : ٣٠٠ ، وراجع العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٨ ، والمغني والشرح الكبير ٥ : ٣٥٤.
(٤) كما في العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٨.
(٥) إصلاح الغلط ـ للخطّابي ـ : ٤٦ ـ ٤٧ / ٣٤ ، وحكاه عن غريبه الرافعي في العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٦٨ ، والنووي في روضة الطالبين ٤ : ٧٠.
مسألة ٧٨ : العارية سائغة بالنصّ والإجماع.
أمّا النصّ : فالكتاب والسنّة.
أمّا الكتاب : فقوله تعالى : ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (١) والعارية من جملة البرّ.
وقال تعالى : ( وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ ) (٢) قال أبو عبيدة (٣) : الماعون اسم لكلّ منفعةٍ وعطيّةٍ ، وأنشد فيه :
بأجود منه
بماعونه |
|
إذا ما سماؤهم
لا تغم (٤) |
وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنّهما قالا : الماعون العواريّ (٥).
وفسَّر ذلك ابن مسعود فقال : ذلك القِدْر والدلو والميزان (٦).
وروي عن عليٍّ عليهالسلام و [ ابن ] (٧) عمر أنّهما قالا : الماعون : الزكاة (٨).
وأمّا السنّة : فما رواه العامّة عن أبي أُمامة أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال في
__________________
(١) المائدة : ٢.
(٢) الماعون : ٧.
(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « أبو عبيد ». وما أثبتناه من المصدر.
(٤) مجاز القرآن ٢ : ٣١٣ ، والبيت للأعشى ، راجع ديوانه : ٨٩ / ٣٩.
(٥) جامع البيان ٣٠ : ٢٠٤ ـ ٢٠٦ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٦٩ / ٤٣٧ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٣٥٤.
(٦) المحلّى ٩ : ١٦٨ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٦٩ / ٤٣٧ ، البيان ٦ : ٤٥٠ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٣٥٤.
(٧) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.
(٨) النكت والعيون ٦ : ٣٥٢ ، المحرّر الوجيز ١٦ : ٣٧١ ، معالم التنزيل ٥ : ٦٣٣ ، زاد المسير ٩ : ٢٤٦ ، جامع البيان ٣٠ : ٢٠٣ ، التفسير الكبير ٣٢ : ١١٥ ، تفسير السمرقندي ( بحر العلوم ) ٣ : ٥١٨ ، الجامع لأحكام القرآن ٢٠ : ٢١٣ ، أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ ٣ : ٤٧٥ ، الحاوي الكبير ٧ : ١١٦ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٦٩ / ٤٣٧ ، البيان ٦ : ٤٥٠.
خطبته عام حجّة الوداع : « العارية مؤدّاة ، والمِنْحة مردودة ، والدَّيْن مقضيّ ، والزعيم غارم » (١).
وعن أُميّة بن صفوان (٢) أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم استعار منه يوم خيبر (٣) أدراعاً (٤) ، فقال : أغصباً يا محمّد؟ قال : « بل عارية مضمونة مؤدّاة » (٥).
ومن طريق الخاصّة : ما رواه أبو بصير عن الصادق عليهالسلام ، قال : سمعته يقول : « بعث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى صفوان بن أُميّة ، فاستعار منه سبعين درعاً بأطراقها (٦) ، قال : فقال : غصباً يا محمّد؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : بل عارية مضمونة » (٧).
وعن سلمة عن الصادق عن الباقر عليهماالسلام قال : « جاء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى صفوان بن أُميّة فسأله سلاحاً ثمانين درعاً ، فقال له صفوان : عارية مضمونة أو غصباً؟ فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : بل عارية مضمونة ، فقال : نعم » (٨).
__________________
(١) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٩٦ ـ ٢٩٧ / ٣٥٦٥ ، سنن الترمذي ٤ : ٤٣٣ / ٢١٢٠ ، سنن الدارقطني ٣ : ٤١ / ١٦٦ ، سنن سعيد بن منصور ١ : ١٢٥ ـ ١٢٦ / ٤٢٧ ، مسند أحمد ٦ : ٣٥٨ / ٢١٧٩١ ، المصنّف ـ لعبد الرزّاق ـ ٨ : ١٨١ / ١٤٧٩٦ ، و ٩ : ٤٨ ـ ٤٩ / ١٦٣٠٨ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ٨ : ١٥٩ ـ ١٦٠ / ٧٦١٥.
(٢) في المصادر زيادة : « عن أبيه ».
(٣) فيما عدا مسند أحمد من المصادر : « حنين » بدل « خيبر ».
(٤) في « ث ، خ ، ر » : « أدرعاً » وكذا في بعض المصادر.
(٥) البيان ٦ : ٤٥١ ، وفي مسند أحمد ٤ : ٤٠٠ / ١٤٨٧٨ ، وسنن أبي داوُد ٣ : ٢٩٦ / ٣٥٦٢ ، وسنن البيهقي ٦ : ٨٩ ، والمستدرك ـ للحاكم ـ ٢ : ٤٧ بدون كلمة « مؤدّاة ».
(٦) واحدتها : الطراق ، وهي البيضة التي توضع على الرأس. القاموس المحيط ٣ : ٢٥٧ « طرق ».
(٧) الكافي ٥ : ٢٤٠ / ١٠ ، التهذيب ٧ : ١٨٣ / ٨٠٣.
(٨) التهذيب ٧ : ١٨٢ / ٨٠٢.
وأمّا الإجماع : فلا خلاف بين علماء الأمصار في جميع الأعصار في جوازها والترغيب فيها ، ولأنّه لمّا جازت هبة الأعيان جازت هبة المنافع ، ولذلك صحّت الوصيّة بالأعيان والمنافع جميعاً.
مسألة ٧٩ : العارية مستحبّة مندوب إليها مرغّب فيها ؛ لأنّ اقتران المانع منها في الآية مع المرائي في صلاته (١) يدلّ على شدّة الحثّ عليها والتزهيد في منعها والترغيب في فعلها ، ولأنّها من البرّ وقد أمر الله تعالى بالمعاونة فيه (٢).
وليست واجبةً في قول أكثر أهل العلم (٣) ؛ للأصل.
ولقول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إذا أدّيتَ زكاة مالك فقد قضيتَ ما عليك » (٤).
وقال عليهالسلام : « ليس في المال حقٌّ سوى الزكاة » (٥).
وسأله الأعرابي فقال له : ما ذا افترض الله علَيَّ من الصدقة؟ قال : « الزكاة » قال : هل علَيَّ غيرها؟ قال : « لا ، إلاّ أن تتطوّع » (٦).
وقيل : إنّها واجبة ؛ للآية (٧) ، ولما رواه أبو هريرة عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : « ما من صاحب إبلٍ لا يؤدّي حقّها » الحديث ، قيل : يا رسول الله وما حقّها؟ قال : « إعارة دلوها ، وإطراق فحلها ، ومنحة لبنها يوم وردها » (٨)
__________________
(١) الماعون : ٦ و ٧.
(٢) المائدة : ٢.
(٣) المغني والشرح الكبير ٥ : ٣٥٤.
(٤) سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٠ / ١٧٨٨ ، سنن الترمذي ٣ : ١٤ / ٦١٨.
(٥) سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٠ / ١٧٨٩.
(٦) صحيح البخاري ١ : ١٨ ، و ٣ : ٢٣٥ ، صحيح مسلم ١ : ٤١ / ١١ ، سنن أبي داوُد ١ : ١٠٦ / ٣٩١ ، سنن النسائي ١ : ٢٢٧ ـ ٢٢٨ ، سنن البيهقي ١ : ٣٦١ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٣٥٥.
(٧) الماعون : ٧.
(٨) المغني والشرح الكبير ٥ : ٣٥٤.
فذمّ الله تعالى مانعَ العارية ، وتوعّده رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بما ذكره في خبره (١).
والجواب : المراد زيادة الترغيب ، على أنّ قول عليٍّ عليهالسلام حجّة في تفسيره الماعونَ بالزكاة (٢) ، ولا ريب في وجوبها.
ولو حملناها على العارية ، فالتوعّد إنّما وقع على الثلاث ، قال عكرمة : إذا جمع ثلاثتها فله الويل : إذا سها عن الصلاة ، وراءى ، ومنع الماعون (٣).
البحث الثاني : في الأركان.
وهي أربعة :
الأوّل : المُعير.
وله شرطان : ملكيّة المنفعة ، وأهليّة التصرّف التبرّعيّة ، فلا تصحّ إعارة الغاصب للعين ؛ لأنّه منهيّ عن التصرّف في الغصب ، والإعارة تصرّف.
ولا فرق بين أن يكون غاصباً للعين أو للمنفعة في أنّه يحرم عليه إعارتها ، ولا يباح للمُستعير التصرّف ، فإن علم وتصرّف كان مأثوماً ضامناً للعين والمنفعة بلا خلاف.
ولا يشترط ملكيّة العين في المُعير ، بل ملكيّة المنفعة ، فلو استأجر عيناً جاز له أن يعيرها لغيره ، إلاّ أن يشترط المالك مباشرة الانتفاع بنفسه ، فيحرم عليه حينئذٍ الإعارة ، ولو لم يشرطه جاز ؛ لأنّه مالك للمنفعة ، ولهذا يجوز أخذ العوض عنها بعقد الإجارة.
__________________
(١) كما في المغني والشرح الكبير ٥ : ٣٥٤.
(٢) راجع الهامش (٨) من ص ٢٣٢.
(٣) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٦٩ / ٤٣٧ ، الوسيط ـ للواحدي ـ ٤ : ٥٥٩ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٣٥٥.
وكذا الموصى له بخدمة العبد وسكنى الدار يجوز لهما أن يعيراهما.
مسألة ٨٠ : وليس للمُستعير أن يعير ـ وبه قال أحمد بن حنبل والشافعيّة في أصحّ الوجهين (١) ـ لأنّ الأصل عصمة مال الغير وصيانته عن التصرّف ، فلا يباح للمُستعير الثاني إلاّ بدليلٍ ولم يثبت ، ولأنّه غير مالكٍ للمنفعة ، ولهذا لا يجوز له أن يؤجّر ، وإنّما أُبيح له الانتفاع ، والمستبيح لا يملك نقل الإباحة إلى غيره ، كالضيف الذي أُبيح له الطعام ليس له أن يُبيحه لغيره.
وقال أبو حنيفة : يجوز للمُستعير أن يعير ـ وهو الوجه الآخَر للشافعيّة ـ لأنّه تجوز إجارة المستأجر للعين ، فكذا يجوز للمُستعير أن يعير ؛ لأنّه تمليك على حسب ما مَلَك (٢).
والفرق : إنّ المستأجر مَلَك بعقد الإجارة الانتفاعَ على كلّ وجهٍ ، فلهذا مَلَك أن يملكها ، وأمّا في العارية فإنّه مَلَك المنفعة على وجه ما أُذن له ، فلا يستوفيه بغيره ، فافترقا.
__________________
(١) الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ٢١٤ ، المغني ٥ : ٣٦١ ـ ٣٦٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٨ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٢٧ ، التنبيه : ١١٣ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٧١ ، بحر المذهب ٩ : ١٢ ، الوجيز ١ : ٢٠٣ ، الوسيط ٣ : ٣٦٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٥ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٢٨١ ، البيان ٦ : ٤٦١ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ١٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٧١ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ٢٢١.
(٢) بدائع الصنائع ٦ : ٢١٥ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ٢٢١ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٨٠ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٢٧ ، التنبيه : ١١٣ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٧١ ، بحر المذهب ٩ : ١٢ ، الوجيز ١ : ٢٠٣ ، الوسيط ٣ : ٣٦٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٥ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٢٨١ ، البيان ٦ : ٤٦١ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ١٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٧١ ، المغني ٥ : ٣٦٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٦٨ ـ ٣٦٩.
إذا ثبت هذا ، فإنّه يجوز للمُستعير أن يستوفي المنفعة بنفسه وبوكيله ، ولا يكون ذلك إعارةً للوكيل إذا لم تعد المنفعة إليه.
مسألة ٨١ : وشرطنا في المُعير جواز التصرّف ، فلا بدّ وأن يكون بالغاً عاقلاً جائز التصرّف ، فلا تصحّ عارية الصبي ؛ لأنّه ممنوع من التصرّفات التي من جملتها الإعارة ، ولا عارية المجنون ، ولا المحجور عليه للسفه أو الفلس ؛ لأنّ هؤلاء بأسرهم ممنوعون من التبرّعات ، والإعارة تبرّع.
وكذا ليس للمُحْرم إعارة الصيد ؛ لأنّه ممنوع من التصرّف فيه ، بل وليس مالكاً له عند الأكثر.
ولو أسلم عبد الكافر تحت يده ، وجب بيعه من المسلمين ، فيجوز للكافر إعارته للمسلم مدّة المساومة.
وكذا لو ورث أو مَلَك ـ إن قلنا بصحّة البيع ـ مصحفاً.
الركن الثاني : المُستعير.
وشرطه أن يكون معيّناً أهلاً للتبرّع عليه بعقدٍ يشتمل على إيجابٍ وقبولٍ ، فلو أعار أحد هذين ، أو أحد هؤلاء ، لم يصح ؛ لعدم التعيين ، وكلّ واحدٍ لا يتعيّن للإعارة ؛ لصلاحيّة الآخَر لها ، واستباحة منافع الغير لا تكون إلاّ بوجهٍ شرعيّ ؛ لأنّ الأصل تحريم منافع الغير على غيره إلاّ بإذنه ، ولم يثبت.
ولو عمّم المُستعير ، جاز ، سواء كان التعميم في عددٍ محصور ، كقوله : أعرتُ هذا الكتاب لهؤلاء العشرة ، أو في عددٍ غير محصورٍ ، كقوله : لكلّ الناس ، ولأيّ أحدٍ من أشخاص الناس ، أو : لمن دخل الدار.
وبالجملة ، الكلّيّ معيّن وإن لم يكن عامّاً ك « أيّ رجل » و « أيّ داخل ». و « أحد الشخصين » مجهول.
مسألة ٨٢ : شرطنا أن يكون أهلاً للتبرّع عليه ؛ لأنّ من الأعيان ما لا يجوز لبعض الأشخاص الانتفاع بها ، فلا تجوز إعارتها لهم ، وذلك مثل الكافر يستعير عبداً مسلماً ، أو أمةً مسلمةً على إشكالٍ ينشأ : من جواز إعارتهم ، ومن السلطنة عليهم والتسلّط وإثبات السبيل ، وقد نفاه الله تعالى بقوله : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (١) بخلاف استئجاره الذي هو في مقابلة عوضٍ.
والأقرب : الكراهة.
وكذا لا يجوز للكافر استعارة المصحف من المسلم وغيره ؛ تكرمةً للكتاب العزيز ، وصيانةً عمّن لا يرى له حرمةً.
وأمّا استعارة أحاديث النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأحاديث أهل بيته الأئمّة المعصومين عليهمالسلام فإنّها مبنيّة على جواز شرائهم لها ، فإن منعناه منعنا من الإعارة ، وإلاّ فلا.
مسألة ٨٣ : لا يحلّ للمُحْرم استعارة الصيد من المُحْرم ، ولا من المُحلّ ؛ لأنّه يحرم عليه إمساكه ، فلو استعاره وجب عليه إرساله ، وضمن للمالك قيمته. ولو تلف في يده ضمنه أيضاً بالقيمة لصاحبه المُحلّ ، وبالجزاء لله تعالى ، بل يضمنه بمجرّد الإمساك وإن لم يشترط صاحبه الضمان عليه ، فلو دفعه إلى صاحبه برئ منه ، وضمن لله تعالى.
ولو استعار المُحْرم صيداً من مُحْرمٍ ، وجب على كلّ واحدٍ منهما الفداء لو تلف.
ولو كان الصيد في يد مُحْرمٍ فاستعاره المُحلّ ، فإن قلنا : المُحْرم يزول ملكه عن الصيد ، فلا قيمة له على المُحلّ ؛ لأنّه أعاره ما ليس ملكاً
__________________
(١) النساء : ١٤١.
له ، وعلى المُحْرم الجزاء لو تلف في يد المُحلّ ؛ لتعدّيه بالإعارة ، فإنّه كان يجب عليه الإرسال.
وإن قلنا : لا يزول ، صحّت الإعارة ، وعلى المُحلّ القيمة لو تلف الصيد عنده.
ولو تلف الصيد عند المُحلّ المُستعير من المُحْرم ، لم يضمنه المُحلّ ؛ لزوال ملك المُحْرم عنه بالإحرام ، وعلى المُحْرم الضمان ؛ لأنّه تعدّى بالإعارة لما يجب إرساله.
مسألة ٨٤ : المُستعير هو المنتفع قوّةً أو فعلاً بالعين المستحقّة للغير بإذنٍ منه بغير عوضٍ.
وقال بعض الشافعيّة : المُستعير كلّ طالبٍ أخذ المال لغرض نفسه من غير استحقاقٍ (١).
وزاد بعضهم ، فقال : من غير استحقاقٍ وتملّكٍ (٢).
وقصد بهذه الزيادة الاحترازَ عن المستقرض ، وقصد بنفي الاستحقاق الاحترازَ عن المستأجر.
واعتُرض عليه بوجهين :
الأوّل : ينتقض بالمستام والغاصب.
الثاني : التعرّض لكونه طالباً غير جيّدٍ ؛ للاستغناء عنه ، إذ لا فرق بين أن يلتمس المُستعير العارية ، وبين أن يبتدئ المُعير بها ، ولا تجوز الزيادة في الحدود (٣).
__________________
(١) الغزالي في الوجيز ١ : ٢٠٤ ، والوسيط ٣ : ٣٧١.
(٢) كما في العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٩.
(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٩.
الركن الثالث : المستعار.
وله شرطان : كونه منتفعاً به مع بقاء عينه ، وإباحة المنفعة ، فكلّ ما ينتفع به انتفاعاً محلّلاً مع بقاء عينه تصحّ إعارته ، كالعقارات والدوابّ والعبيد والثياب والأقمشة والأمتعة والصُّفْر والحُليّ والفحل للضراب والكلب للصيد والحفظ وأشباه ذلك بلا خلاف ؛ لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم استعار أدراعاً (١).
أمّا ما لا ينتفع به إلاّ بإتلافه كالأطعمة والأشربة فلا تجوز إعارتها ؛ لأنّ المنفعة المطلوبة منها إنّما تحصل في إتلافها ، والإباحة لم تقع على الإتلاف.
وتجوز إعارة جميع أصناف الحيوان المنتفع بها ، كالآدمي والبهائم على ما تقدّم ؛ لأنّ منفعة الحيوان تجوز إجارتها فجاز إعارتها ، والإعارة أوسع من الإجارة ؛ لأنّه تجوز إعارة الفحل للضراب ، ومَنَع كثيرٌ من إجارته لذلك (٢).
والكلب تجوز إعارته ، ولا تجوز إجارته على أحد وجهي الشافعيّة (٣).
__________________
(١) راجع الهوامش ( ٥ و ٧ و ٨ ) من ص ٢٣٣.
(٢) الحاوي الكبير ٧ : ١١٧ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٤٠١ ، بحر المذهب ٩ : ١٢ ، الوجيز ١ : ٢٣١ ، الوسيط ٤ : ١٥٨ ، حلية العلماء ٥ : ٣٨٥ ، البيان ٧ : ٢٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠١ ، و ٦ : ٩٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٦٢ ، و ٤ : ٢٥٤ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ١٠٢ / ١٧٨٢ ، بدائع الصنائع ٤ : ١٧٥ ، المغني ٦ : ١٤٨ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤.
(٣) الحاوي الكبير ٧ : ١١٧ و ٤١١ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٤٠١ ، بحر المذهب