الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي
المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨
وهو من أقوام جمع الله سبحانه لهم الدنيا والدين ، فحازوا شرف الدارين ، وحُبوا بالعلم الناجع والإمرة العادلة ، بينا هو فقيه بارع كما في خواصِّ العصر الفاطمي ، وأديب شاعر مجيد كما طفحت به المعاجم ، فإذا به ذلك الوزير العادل تزدهي القاهرة بحسن سيرته ، وتعيش الأمّة المصريّة بلطف شاكلته ، وتزدان الدولة الفاطميّة بأخذه بالتدابير اللازمة في إقامة الدولة ، وسياسة الرعيّة ، ونشر الأمن ، وإدامة السلام ، وكان كما قال الزركلي في الأعلام (١) : وزيراً عصاميّا يعدُّ من الملوك ، ولقّب بالملك الصالح ، وقد طابق هذا اللفظ معناه كما يُنبئك عنه تاريخه المجيد ، فلقد كان صالحاً بعلمه الغزير وأدبه الرائق ، صالحاً بعدله الشامل وورعه الموصوف ، صالحاً بسياسته المرضيّة وحسن مداراته مع الرعيّة ، صالحاً بسيبه الهامر ونداه الوافر ، صالحاً بكلّ فضائله وفواضله دينيّة ودنيويّة ، وقبل هذه كلّها تفانيه في ولاء أئمة الدين عليهمالسلام ونشر مآثرهم ودفاعه عنهم بفمه وقلمه ونظمه ونثره ، وكان يجمع الفقهاء ويناظرهم في الإمامة والقدَر ، وكان في نصر التشيّع كالسكّة المحماة ، كما في الخطط (٢) والشذرات (٣).
وله كتاب الاعتماد (٤) في الردّ على أهل العناد ، يتضمّن إمامة أمير المؤمنين عليهالسلام والكلام على الأحاديث الواردة فيها ، وديوانه مجلّدان فيه كلّ فنٍّ من الشعر ، وقد شرح سعيد بن مبارك النحوي الكبير المتوفّى سنة (٥٦٩) بيتاً من شعر المترجم في عشرين كرّاساً ، وكان الأدباء يزدلفون إلى دسته كلّ ليلة ويدوِّنون شعره ، والعلماء يَفدون إليه من كلّ فجٍّ فلا يخيب أمل آمل منهم ، وكان يحمل إلى العلويين في المشاهد المقدّسة كلّ سنة أموالاً جزيلةً ، وللأشراف من أهل الحرمين ما يحتاجون إليه من
__________________
(١) الأعلام : ٣ / ٢٢٨.
(٢) الخطط والآثار : ٢ / ٢٩٤.
(٣) شذرات الذهب : ٦ / ٢٩٦ حوادث سنة ٥٥٦ ه.
(٤) في شذرات الذهب : الاجتهاد. (المؤلف)
كسوة وغيرها حتى ألواح الصبيان التي يكتب فيها والأقلام وأدوات الكتابة. ووقف ناحية المقس (١) لأن يكون ثلثاها على الأشراف من بني الحسنين السبطين الإمامين عليهماالسلام ، وتسعة قراريط (٢) منها على أشراف المدينة النبويّة المنوّرة ، وجعل قيراطاً على مسجد أمين الدولة ، وأوقف بلقس بالقليوبيّة وبركة الحبش (٣) ، وجدّد الجامع بالقرافة الكبرى ، وبنى الجامع الذي على باب زويلة بظاهر القاهرة ويسمّى بجامع الصالح ، ولم يترك غزو الإفرنج مدّة حياته في البرّ والبحر ، فكانت بُعوثه إليهم تترى في كلّ سنة (٤) ، ولم يزل له صدر الدست وذرى الفخر ونفوذ الأمر وعرش الملك حتى اختار الله تعالى له على ذلك كلّه الفوز بالشهادة ، وقُتل غيلةً في دهليز قصره سنة (٥٥٦) يوم الإثنين (١٩) شهر الصيام ، ودُفن في القاهرة بدار الوزارة ، ثمّ نقله ولده العادل إلى القرافة الكبرى.
كلمات حول المترجم :
١ ـ قال ابن الأثير في الجزء الحادي عشر من تاريخه الكامل (٥) (ص ١٠٣) : في هذه السنة ـ يعني سنة (٥٥٦) ـ في شهر رمضان قُتل الملك الصالح وزير العاضد العلوي صاحب مصر ، وكان سبب قتله أنّه تحكّم في الدولة التحكّم العظيم ، واستبدَّ بالأمر والنهي وجباية الأموال إليه لصغر العاضد ، ولأنّه هو الذي ولاّه ووتر الناس ، فإنّه أخرج كثيراً من أعيانهم وفرّقهم في البلاد ليأمن وثوبهم عليه ، ثم إنّه زوّج ابنته
__________________
(١) بفتح الميم ثمّ السكون ، كان قبل الإسلام يسمّى أم دنين. (المؤلف)
(٢) في الخطط والآثار : ٢ / ٢٩٤ : سبعة قراريط.
(٣) قال الحموي : هي أرض في وهدة من الأرض واسعة طولها نحو ميل مشرفة على نيل مصر خلف القرافة ، وقف على الأشراف [معجم البلدان : ١ / ٤٠١]. (المؤلف)
(٤) الخطط : ٤ / ٨١ ، ٣٢٤ [٢ / ٢٩٤ ، ٤٤٧] ، تحفة الأحباب للسخاوي : ص ١٧٦ [ص ١٥٥ ، ١٥٩]. (المؤلف)
(٥) الكامل في التاريخ : ٧ / ١٥٧ حوادث سنة ٥٥٦ ه.
من العاضد فعاداه أيضاً الحرم من القصر ، فأرسلت عمّة العاضد الأموال إلى الأمراء المصريّين ودعتهم إلى قتله ، وكان أشدَّهم عليه في ذلك إنسانٌ يُقال له ابن الراعي ، فوقفوا له في دهليز القصر ، فلمّا دخل ضربوه بالسكاكين على دهش فجرحوه جراحات مهلكة ، إلاّ أنّه حُمل إلى داره وفيه حياةٌ ، فأرسل إلى العاضد يُعاتبه على الرضا بقتله مع أثره في خلافته ، فأقسم العاضد أنّه لا يعلم بذلك ولم يرضَ به. فقال : إن كنت بريئاً فسلِّم عمّتك إليَّ حتى أنتقم منها ، فأمر بأخذها فأرسل إليها فأخذها قهراً وأُحضرت عنده فقتلها ووصّى بالوزارة لابنه رزّيك ولقّب العادل ، فانتقل الأمر إليه بعد وفاة أبيه. وللصالح أشعارٌ حسنةٌ بليغةٌ تدلُّ على فضل غزير ، فمنها في الافتخار :
أبى اللهُ إلاّ أن يدومَ لنا الدهرُ |
|
ويخدمُنا في ملكنا العزُّ والنصرُ |
علمنا بأنّ المالَ تفنى ألوفُه |
|
ويبقى لنا من بعدِه الأجرُ والذكرُ |
خلطنا الندى بالبأسِ حتى كأنّنا |
|
سحابٌ لديه البرقُ والرعدُ والقطرُ |
قِرانا إذا رحنا إلى الحربِ مرّةً |
|
قِرانا ومن أضيافِنا الذئبُ والنسرُ |
كما أنّنا في السلمِ نبذلُ جودَنا |
|
ويرتعُ في إنعامنا العبدُ والحرُّ |
وكان الصالح كريماً فيه أدب وله شعر جيّد ، وكان لأهل العلم عنده اتِّفاق ويرسل إليهم العطاء الكثير ، بلغه أنّ الشيخ أبا محمد بن الدهّان النحوي البغدادي المقيم بالموصل قد شرح بيتاً من شعره ، وهو هذا :
تجنّبَ سمعي ما يقولُ العواذلُ |
|
وأصبح لي شغلٌ من الغزوِ شاغلُ |
فجهّز إليه هديّة سنيّة ليرسلها إليه فقُتل قبل إرسالها ، وبلغه أيضاً أنّ إنساناً من أعيان الموصل قد أثنى عليه بمكّة فأرسل إليه كتاباً يشكره ومعه هديّة ، وكان الصالح إماميّا لم يكن على مذهب العلويّين المصريّين ، ولمّا ولي العاضد الخلافة وركب
سمع الصالح ضجّة عظيمة ، فقال : ما الخبر؟ فقيل : إنّهم يفرحون. فقال : كأنّي بهؤلاء الجهلة وهم يقولون : ما مات الأوّل حتى استخلف هذا. وما علموا أنّني كنت من ساعة استعرضهم استعراض الغنم. قال عمارة (١) : دخلت على الصالح قبل قتله بثلاثة أيّام فناولني قرطاساً فيه بيتان من شعر وهما :
نحن في غفلةٍ ونومٍ وللمو |
|
ت عيونٌ يقظانةٌ لا تنامُ |
قد رحلنا إلى الحِمام سنِيناً |
|
ليت شعري متى يكون الحِمامُ |
فكان آخر عهدي به.
وقال عمارة أيضاً : ومن عجيب الاتِّفاق أنَّني أنشدت ابنه قصيدة أقول فيها :
أبوك الذي تسطو الليالي بحدِّهِ |
|
وأنت يمينٌ إن سطا وشمالُ |
لرتبتِهِ العظمى وإن طال عمرُه |
|
إليك مصيرٌ واجبٌ ومنالُ |
تخالصُك اللحظُ المصونُ ودونها |
|
حجابٌ شريفُ لا انقضى وحجالُ |
فانتقل الأمر إليه بعد ثلاثة أيّام.
٢ ـ وقال ابن خلّكان في تاريخه (٢) (١ / ٢٥٩) : دخل الصالح إلى القاهرة وتولّى الوزارة في أيّام الفائز ، واستقلَّ بالأمور وتدبير أحوال الدولة ، وكان فاضلاً محبّا لأهل الفضائل ، سمحاً في العطاء ، سهلاً في اللقاء ، جيّد الشعر ، ومن شعره :
كم ذا يُرينا الدهرُ من أحداثِهِ |
|
عِبَراً وفينا الصدُّ والإعراضُ |
ننسى المماتَ وليس يجري ذكرُهُ |
|
فينا فَتُذكِرُنا به الأمراضُ |
ومنه أيضاً :
ومهفهفٍ ثملِ القوامِ سرت إلى |
|
أعطافه النشواتُ من عينيهِ |
__________________
(١) أحد شعراء الغدير في القرن السادس ، يأتي شعره وترجمته في هذا الجزء. (المؤلف)
(٢) وفيات الأعيان : ٢ / ٥٢٦ رقم ٣١١.
ماضي اللحاظِ كأنّما سلّت يدي |
|
سيفي غداةَ الروعِ من جفنيهِ |
قد قلتُ إذ خطَّ العذارُ بمسكِه |
|
في خدِّه ألفيه لا لاميهِ |
ما الشعر دبَّ بعارضيه وإنّما |
|
أصداغُه نفضت على خدّيهِ |
الناسُ طوعُ يدي وأمري نافذٌ |
|
فيهم وقلبي الآنَ طوعُ يديهِ |
فاعجب بسلطانٍ يعمُّ بعدلِهِ |
|
ويجورُ سلطانُ الغرامِ عليهِ |
والله لو لا اسمُ الفرارِ وإنّه |
|
مستقبحٌ لفررتُ منه إليهِ |
وأنشده لنفسه بمصر :
مشيبُكَ قد نضا صبغَ الشبابِ |
|
وحلَّ البازُ في وكرِ الغرابِ |
تنامُ ومقلةُ الحدثان يقظى |
|
وما نابُ النوائبِ عنك نابِ |
وكيف بقاءُ عمرِكَ وهو كنزٌ |
|
وقد انفقتَ منه بلا حسابِ |
وكان المهذّب عبد الله بن أسعد الموصلي نزيل حمص قد قصده من الموصل ومدحه بقصيدته الكافيّة التي أوّلها :
أما كفاكَ تلاقي في تلاقيكا |
|
ولستَ تنقمُ إلاّ فرطَ حبّيكا |
وفيم تغضبُ أن قال الوشاةُ سلا |
|
وأنتَ تعلمُ أنّي لست أسلوكا |
لا نلتُ وصْلَكَ إن كان الذي زعموا |
|
ولا شفى ظمئي جودُ ابن رزّيكا |
وهي من نخب القصائد.
٣ ـ قال المقريزي في الخطط (١) (٤ / ٨١ ـ ٨٣) : زار الملك الصالح مشهد الإمام عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه في جماعة من الفقراء ، وإمام مشهد عليٍّ رضى الله عنه يومئذٍ السيّد ابن معصوم (٢) ، فزار طلائع وأصحابه وباتوا هنالك ، فرأى السيّد في منامه
__________________
(١) الخطط والآثار : ٢ / ٢٩٣ ـ ٢٩٤.
(٢) قال السيّد ابن شدقم في تحفة الأزهار : كان أبو الحسن بن معصوم بن أبي الطيّب أحمد
الإمام ـ صلوات الله عليه ـ يقول له : قد ورد عليك الليلة أربعون فقيراً من جملتهم رجلٌ يقال له : طلائع بن رزّيك من أكبر محبّينا ، فقل له : اذهب فإنّا قد ولّيناك مصر. فلمّا أصبح أمر من ينادي : مَن فيكم اسمه طلائع بن رزّيك؟ فليقم إلى السيّد ابن معصوم.
فجاء طلائع إلى السيّد وسلّم عليه فقصَّ عليه رؤياه ، فرحل إلى مصر وأخذ أمره في الرقيّ ، فلمّا قتل نصر بن عبّاس الخليفة الظافر إسماعيل استثارت نساء القصر لأخذ ثاراته بكتاب في طيّه شعورهنّ ، فحشد طلائع الناس يريد النكبة بالوزير القاتل ، فلمّا قرب من القاهرة فرَّ الرجل ودخل طلائع المدينة بطمأنينة وسلام ، فخلعت عليه خلائع الوزارة ، ولُقّب بالملك الصالح ، فارس المسلمين ، نصير الدين ، فنشر الأمن وأحسن السيرة. ثمّ ذكر حديث قتله (١) ، وقال : كان شجاعاً كريماً جواداً فاضلاً محبّا لأهل الأدب جيّد الشعر رجل وقته فضلاً وعقلاً وسياسةً وتدبيراً ، وكان مهاباً في شكله ، عظيماً في سطوته ، وجمع أموالاً عظيمة ، وكان محافظاً على الصلوات فرائضها ونوافلها ، شديد المغالاة في التشيّع ، صنّف كتاباً سمّاه الاعتماد في الردّ على أهل العناد ، جمع له الفقهاء وناظرهم عليه وهو يتضمّن إمامة عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، وله شعر كثير يشتمل على مجلّدين في كلّ فنّ ، فمنه في اعتقاده :
يا أمّةً سلكت ضلالاً بيّناً |
|
حتى استوى إقرارها وجحودُها |
قلتم ألا إنّ المعاصي لم تكن |
|
إلاّ بتقدير الإله وجودُها |
لو صحَّ ذا كان الإلهُ بزعمِكمْ |
|
منَع الشريعةَ أن تُقامَ حدودُها |
حاشا وكلاّ أن يكون إلهنا |
|
ينهى عن الفحشاء ثمّ يريدُها |
__________________
سيّداً شريفاً جليلاً عظيم الشأن رفيع المنزلة ، كان في المشهد الغروي كبيراً عظيماً ذا جاه وحشمة ورفعة وعزّ واحترام ، عليه سكينة ووقار. انتهى. وهو جدّ الأسرة الكريمة النجفية المعروفة اليوم ببيت خرسان. (المؤلف)
(١) راجع كتابنا شهداء الفضيلة : ص ٥٨. (المؤلف)
وله قصيدة سمّاها الجوهريّة في الردّ على القدريّة.
ثمّ قال : ويُروى أنّه لمّا كانت الليلة التي قُتل في صبيحتها قال : هذه الليلة ضرب في مثلها الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام وأمر بقراءة مقتله ، واغتسل وصلّى مائة وعشرين ركعة أحيا بها ليله ، وخرج ليركب فعثر وسقطت عمامته ، واضطرب لذلك وجلس في دهليز دار الوزارة ، فأحضر ابن الصيف ، وكان يلفُّ عمائم الخلفاء والوزراء وله على ذلك الجاري الثقيل ، ليصلح عمامته ، وعند ذلك قال له رجلٌ : إنّ هذا الذي جرى يُتطيّر منه ، فإن رأى مولانا أن يُؤخِّر الركوب فعل.
فقال : الطيرة من الشيطان وليس إلى التأخير سبيل. ثمّ ركب فكان من أمره ما كان.
وقال (١) في (٢ / ٢٨٤) : قال ابن عبد الظاهر : مشهد الإمام الحسين ـ صلوات الله عليه ـ قد ذكرنا أنّ طلائع بن رزّيك ـ المنعوت بالصالح ـ كان قد قصد نقل الرأس الشريف من عسق لان (٢) لما خاف عليها من الفرنج ، وبنى جامعه خارج باب زويلة ليدفنه به ويفوز بهذا الفخار ، فغلبه أهل القصر على ذلك وقالوا : لا يكون ذلك إلاّ عندنا فعمدوا إلى هذا المكان وبنوه له ونقلوا الرخام إليه ، وذلك في خلافة الفائز على يد طلائع في سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
وسمعت من يحكي حكاية يُستدَلُّ بها على بعض شرف هذا الرأس الكريم المبارك ، وهي أنّ السلطان الملك الناصر رحمهالله لمّا أخذ هذا القصر ، وشي إليه بخادم له قدَر في الدولة المصريّة وكان بيده زمام القصر وقيل له : إنّه يعرف الأموال التي بالقصر والدفائن ، فأُخذ وسُئل فلم يجب بشيء وتجاهل ، فأمر صلاح الدين نوّابه
__________________
(١) الخطط والآثار : ١ / ٤٢٧.
(٢) مدينة بالشام من أعمال فلسطين على ساحل البحر يقال لها : عروس الشام [معجم البلدان ٤ / ١٢٢]. (المؤلف)
بتعذيبه ، فأخذه متولّي العقوبة وجعل على رأسه خنافس وشدَّ عليها قرمزية ، وقيل : إنّ هذه أشدُّ العقوبات ، وإنّ الإنسان لا يطيق الصبر عليها ساعة إلاّ تنقب دماغه وتقتله ، ففعل ذلك به مراراً وهو لا يتأوّه وتوجد الخنافس ميّتة ، فعجب من ذلك وأحضره وقال له : هذا سرٌّ فيك ولا بدّ أن تعرِّفني به. فقال : والله ما سبب هذا إلاّ أنّي لمّا وصلت رأس الإمام الحسين حملتها. قال : وأيّ سرٍّ أعظم من هذا. وراجع في شأنه فعفا عنه. انتهى.
٤ ـ وقال الشعراني في مختصر تذكرة القرطبي (١) (ص ١٢١) : قد ثبت أنّ طلائع بن رزّيك الذي بنى المشهد بالقاهرة ، نقل الرأس إلى هذا المشهد بعد أن بذل في نقلها نحو أربعين ألف دينار ، وخرج هو وعسكره فتلقّاها من خارج مصر حافياً مكشوف الرأس هو وعسكره ، وهو في برنس حرير أخضر في القبر الذي هو في المشهد ، موضوعة على كرسيٍّ من خشب الآبنوس ، ومفروش هناك نحو نصف أردب من الطيب كما أخبرني بذلك خادم المشهد ، إلى أن قال في (ص ١٢٢) : فزر يا أخي هذا المشهد بالنيّة الصالحة إن لم يكن عندك كشف ، فقول الإمام القرطبي : إنّ دفن الرأس في مصر باطل. صحيحٌ في أيّام القرطبي فإنّ الرأس إنّما نقلها طلائع بن رزّيك بعد موت القرطبي.
قال الأميني : هذا التصحيح لقول القرطبي يكشف عن جهل الشعراني بترجمة القرطبي وطلائع ، وقد خفي عليه أنّ القرطبي توفّي سنة (٦٧١) بعد وفاة طلائع الملك الصالح بمائة وخمس عشرة سنة ، فإنّه توفّي سنة (٥٥٦) ونطفة القرطبي لم تنعقد بعدُ.
ثمّ مشهد رأس الحسين الذي بناه طلائع احترق سنة (٧٤٠) فأُعيد بناؤه مراراً ، وأخيراً أُقيم في جواره جامع ، حتى إذا كانت أيّام الأمير عبد الرحمن كخيا ـ أحد أُمراء المماليك ـ فأُعيد بناء المشهد الحسيني في أواخر القرن الماضي للميلاد ، وبعد
__________________
(١) مختصر تذكرة القرطبي : ص ١٩١.
ذلك أُعيد بناؤه برمّته في أيّام الخديوي السابق ، ولم يبق من البناء القديم إلاّ القبّة المغطّية لمقام الإمام ، فأصبح على ما نشاهده الآن ، وهو الجامع المعروف بجامع سيّدنا الحسين (١).
ولادته ووفاته ، مدائحه ومراثيه :
ولد الملك الصالح سنة خمس وتسعين وأربعمائة ، ومدحه الفقيه عمارة اليمني الآتي ذكره بقصائد توجد في كتابه النكت العصريّة (٢) منها :
دعوا كلّ برق شمتمُ غير بارق |
|
يلوحُ على الفسطاط صادقُ بشرهِ |
وزوروا المقامَ الصالحيَّ فكلُّ من |
|
على الأرضِ يُنسى ذكرُه عند ذكرهِ |
ولا تجعلوا مقصودَكم طلبَ الغنى |
|
فتجنوا على مجدِ المقامِ وفخرهِ |
ولكن سلوا منه العُلى تظفروا بها |
|
فكلُّ امرئٍ يُرجى على قدرِ قدرهِ |
ومدحه في شعبان سنة (٥٠٥) بقصيدة منها :
قصدتك من أرضِ الحطيمِ قصائدي |
|
حادي شراها سنّةٌ وكتابُ |
إن تسألا عمّا لقيت فإنّني |
|
لا مخفقٌ أملي ولا كذّابُ |
لم أنتجعْ ثَمَدَ النطافِ ولم أقفْ |
|
بمذانبٍ وقفتْ بها الأذنابُ |
وقال يمدحه :
أعندك أنّ وجدي واكتئابي |
|
تراجعَ مذ رجعتُ إلى اجتنابي |
وأنّ الهجرَ أحدثَ لي سلوّا |
|
يسكّن بردُهُ حرَّ التهابي |
وأنّ الأربعينَ إذا تولّت |
|
بريعانِ الصبا قَبُحَ التصابي |
__________________
(١) تاريخ مصر الحديث : ١ / ٢٩٨ [مؤلّفات جرجي زيدان الكاملة : مج ٩ / ٣١٠]. (المؤلف)
(٢) النكت العصرية : ص ٣٥.
ولو لم ينهني شيبٌ نهاني |
|
صباحُ الشيبِ في ليلِ الشبابِ |
وأيّامٌ لها في كلِّ وقتٍ |
|
جناياتٌ تجلّ عن العتابِ |
أُقضّيها وتُحَسبُ من حياتي |
|
وقد انفقتهنَّ بلا حسابِ |
وقد حالت بنو رزّيك بيني |
|
وبين الدهرِ بالِمنن الرغابِ |
ومنها :
ولولا الصالحُ انتاش القوافي |
|
لكان الفضلُ مجتنبَ الجنابِ |
وكنتُ وقد تخيّرَهُ رجائي |
|
كمن هجرَ السرابَ إلى الشرابِ |
ولم يخفقْ بحمدِ اللهِ سعيي |
|
إلى مصرٍ ولا خاب انتخابي |
ولكن زرت أبلجَ يقتضيه |
|
نداهُ عمارة الأملِ الخرابِ |
ومنها :
أقمتَ الناصر (١) المحيي فأحيى |
|
رسوماً كنَّ كالرسم اليبابِ |
وبثَّ العدلَ في الدنيا فأضحى |
|
قطيعُ الشاءِ يأنسُ بالذئابِ |
وأنت شهابُ حقٍّ وهو منه |
|
بمنزلة الضياء من الشهابِ |
سعى مسعاك في كرمٍ وبأسٍ |
|
وشبَّ على خلائقك العذابِ |
فأصبحَ معلمَ الطرفينِ لمّا |
|
حوى شرفَ انتسابٍ واكتسابِ |
وصنتَ المُلْكَ من عزماتِ بدرٍ |
|
بميمونِ النقيبةِ والركابِ |
بأورع لم يزلْ في كلّ ثغرٍ |
|
زعيمَ القبِّ مضروبَ القبابِ |
مخوفَ البأسِ في حربٍ وسلمٍ |
|
وحدُّ السيف يُخشى في القرابِ |
وقال يمدحه بقصيدة أوّلها :
إذا قدرتَ على العلياء بالغلبِ |
|
فلا تعرّج على سعيٍ ولا طلبِ |
واخطبْ بألسنةِ الأغمادِ ما عجزتْ |
|
عن نيلِهِ ألسنُ الأشعارِ والخطبِ |
__________________
(١) هو الملك الناصر العادل بن الصالح بن رزّيك. (المؤلف)
ويقول فيها :
ألقى الكفيلُ أبو الغاراتِ كلكلَهُ |
|
على الزمان وضاعتْ حيلةُ النوَبِ |
وداخلت أنفسَ الأيامِ هيبتُهُ |
|
حتى استرابت نفوسُ الشكِّ والريبِ |
بثَّ الندى والردى زجراً وتكرمةً |
|
فكلُّ قلبٍ رهينُ الرعبِ في الرعبِ |
فما لحاملِ سيفٍ أو مثقّفةٍ |
|
سوى التحمّلِ بين الناسِ من إربِ |
لمّا تمرّد بهرامٌ وأسرته |
|
جهلاً وراموا قراعَ النبعِ بالغَربِ |
صدعت بالناصر المحيي زجاجتهم |
|
وللزجاجة صدعٌ غيرُ منشعبِ |
أسرى إليهم ولو أسرى إلى الفلك ال |
|
أعلى لخافت قلوب الأنجم الشهبِ |
في ليلةٍ قدحتْ زرقُ النصالِ بها |
|
ناراً تشبُّ بأطرافِ القنا الأشبِ |
ظنّوا الشجاعةَ تُنجيهم فقارعَهم |
|
أبو شجاعٍ قريعُ المجدِ والحسبِ |
سقُوا بأسكر سكراً لا انقضاءَ له |
|
من قهوةِ الموتِ لا من قهوةِ العنبِ |
ومنها :
للهِ عزمةُ محيي الدين كم تركتْ |
|
بتربة الحيِّ من خدِّ امرئٍ تربِ |
سما إليهم سموَّ البدرِ تصحبُهُ |
|
كواكبُ من سحابِ النقعِ في حجبِ |
في فتيةٍ من بني رزّيك تحسبهُمْ |
|
عن جانبيه رحىً دارتْ على قطبِ |
وقال يمدحه بقصيدة منها :
هل القلبُ إلاّ بَضعةٌ يتقلّبُ |
|
له خاطرٌ يرضى مراراً ويغضبُ |
أم النفسُ إلاّ وهدةٌ مطمئنّةٌ |
|
تفيضُ شعابُ الهمِّ منها وتنضبُ |
فلا تُلزِمنَّ الناسَ غيرَ طباعِهمْ |
|
فتتعبَ من طول التعابِ ويتعبوا |
فإنّك إن كشّفتَهمْ ربما انجلى |
|
رمادُهمُ من جمرةٍ تتلهّبُ |
فتاركْهمُ ما تاركوك فإنّهم |
|
إلى الشرِّ مذ كانوا من الخيرِ أقربُ |
ولا تغترر منهمْ بحسنِ بشاشةٍ |
|
فأكثرُ إيماضِ البوارقِ خُلّبُ |
وأصغِ إلى ما قلتُهُ تنتفعْ به |
|
ولا تطّرحْ نصحي فإنّي مجرِّبُ |
فما تنكُر الأيّامُ معرفتي بها |
|
ولا إنّني أدرى بهنّ وأدربُ |
وإنّي لأقوامٍ جذيلٌ محكّكٌ |
|
وإنّي لأقوامٍ عُذيقٌ مرجّبُ |
عليمٌ بما ترضى المروءةُ والتقى |
|
خبيرٌ بما آتي وما أتجنّبُ |
حلبتُ أفاويقَ الزمانِ براحةٍ |
|
تدرُّ بها أخلافُه حين تحلبُ |
وصاحبت هذا الدهَر حتى لقد غدتْ |
|
عجائبُه من خبرتي تتعجّبُ |
ودوّختُ أقطارَ البلادِ كأنّني |
|
إلى الريح أُعزى أو إلى الخضر أُنسبُ |
وعاشرتُ أقواماً يزيدون كثرةً |
|
على الألف أو عدّ الحصى حين يحسبُ |
فما راقني في روضهم قطُّ مرتعٌ |
|
ولا شاقني في وِردِهم قطُّ مشربُ |
تراني وإيّاهمْ فريقين كلّنا |
|
بما عنده من عزّة النفسِ معجبُ |
فعندهمُ دنيا وعندي فضيلةٌ |
|
ولا شكَّ أنّ الفضل أعلى وأغلبُ |
على أنّ ما عندي يدومُ بقاؤه |
|
عليَّ ويفنى المالُ عنهمْ ويذهبُ |
أُناسٌ مضى صدرٌ من العمرِ عندَهمْ |
|
أُصعّدُ ظنّي فيهمُ وأُصوِّبُ |
رجوتُ بهم نيلَ الغنى فوجدتُهُ |
|
كما قيلَ في الأمثالِ عنقاء مغربُ |
وكسّل عزمَ المدحِ بعد نشاطِهِ |
|
ندى ذمِّه عندي من المدحِ أوجبُ |
كأنّ القوافي حين تُدعى لشكرِهمْ |
|
على الجمرِ تمشي أو على الشوكِ تُسحبُ |
أفوه بحقٍّ كلّما رمتُ ذمَّهمْ |
|
وما غيرُ قولِ الحقِّ لي قطُّ مذهبُ |
وأصدق إلاّ أن اريد مديحَهُمْ |
|
فإنّي على حكمِ الضرورةِ أكذبُ |
ولو علموا صدقَ المدائحِ فيهمُ |
|
لكانتْ مساعيهمْ تهشُّ وتطربُ |
ولكن دروا أنّ الذي جاء مادحاً |
|
بغيرِ الذي فيهم يسبّ ويثلبُ |
وما زال هذا الأمرُ دأبي ودأبَهم |
|
أغالب لومي فيهمُ وهو أغلبُ |
إلى أن أذلّتني الليالي وأعتبتْ |
|
وما خلتُها بعد الإساءةِ تعتبُ |
فهاجرتُ نحو الصالحِ الملكِ هجرةً |
|
غدتْ سبباً للأمن وهو المسبّبُ |
وقال يمدحه من قصيدة :
هي البدرُ من سنّة البدرِ أملحُ |
|
وغرّتُها من غرّةِ الصبحِ أصبحُ |
منعّمةٌ تسبي العقولَ بصورةٍ |
|
إلى مثلها لبُّ الجوانحِ يجنحُ |
كأنّ الظباءَ العفرَ يحكين جيدَها |
|
ومقلتَها في حين ترنو وتسنحُ |
كأنّ اهترازَ الغصن من فوق ردفِها |
|
هضيمٌ بأعلى رملةٍ يترنّحُ |
تعلّمتُ من حبّي لها عزّةَ الهوى |
|
وقد كنتُ فيه قبلَها أتسمّحُ |
وهيّج نارَ الوجدِ والشوقِ قولُها |
|
أحتى إلى الجوزاءِ طرفُكَ يطمحُ |
فلا جفنَ إلاّ ماؤه ثَمَّ يسفحُ |
|
ولا نارَ إلاّ زندُها ثَمَّ يقدحُ |
وما علمتْ أنّي إذا شفّني الهوى |
|
إليها بدعوى الصبر لا أتبجّحُ |
وإنّ اعترافي بالتأخّر حيث لا |
|
يقدِّمني فضلٌ أجلُّ وأرجحُ |
ألم ترَ فضل الصالح الملكِ لم يدعْ |
|
على الأرضِ من يثني عليه ويمدحُ |
كأنّ مساعي جملةِ الخلقِ جملةً |
|
غدت بمساعيه الحميدةِ تشرحُ |
تجمّعَ فيهِ ما تفرّقَ في الورى |
|
على أنّه أسنى وأسمى وأسمحُ |
يُرجّى الندى منه فيغني ويسمح |
|
ويخشى الردى منه فيعفو ويصفحُ |
له كلَّ يومٍ منّةٌ مستجدّةٌ |
|
يضوع جميلُ الذكرِ منها وينفحُ |
وقال يمدحه من قصيدة :
من كان لا يعشق الأجيادَ والحدقا |
|
ثمّ ادّعى لذّة الدنيا فما صدقا |
في العشق معنىً لطيفٌ ليس يعرفه |
|
من البريّةِ إلاّ كلُّ من عشقا |
لا خفّف اللهُ عن قلبي صبابتَهُ |
|
للغانياتِ ولا عن طرفيَ الأرقا |
ويقول فيها :
لو كنتُ أملكُ روحي وارتضيتُ بها |
|
بذلتُها لكِ لا زوراً ولا ملقا |
وإنّما الصالح الهادي تملّكَها |
|
بفيضِ جودٍ رعى آماله وسقى |
واقتادها الحظُّ حتى جاورتْ ملكاً |
|
تمسي ملوكُ الليالي عندهُ سُوَقا |
وقال يمدحه وولده وأخاه فارس المسلمين :
أَبيضٌ مجرّدةٌ أم عيونْ |
|
تسلّ وأجفانهنّ الجفونْ |
عجبت لها قضباً باتره
تصول بها المُقَلُ الفاتره
فتغدو لأرواحنا واتره
ظباءٌ فتكن بأسد العرينْ |
|
وغائرةٌ خرجت من كمينْ |
إذا ما هززن رماحَ القدودْ
حمين النفوس لذيذ الورود
حياض اللمى ورياض الخدود
فلا تطمعنّك تلك الغصونْ |
|
فإنّ كثيب نقاها مصونْ |
وفيهنّ فتّانةٌ لم تزلْ
أوامر مقلتها تُمتثلْ
ومن أجل سلطانها في المقلْ
تقول لها أعين الناظرينْ |
|
إذا ما رنت ما الذي تأمرينْ |
منعّمةٌ ردفها مخصبُ
وما اهتزَّ من خصرها مجدبُ
مقسّمة كلّها يعجبُ
فجسمٌ جرى فيه ماءٌ معينْ |
|
وقلبٌ غدا صخرةً لا تلينْ |
أما وعلى الصالح الأوحدِ
ردى المعتدي وندى المجتدي
وجعد العقوبة سَبط اليدِ
ومن نصر العترةَ الطاهرينْ |
|
ونعم النصيرُ لهم والمعينْ |
لقد شرفتْ مصرُ والقاهرة
بأيّام دولتِهِ القاهرة
وأصبح للدولةِ الطاهرة
بعزم ابن رزّيك فتحٌ مبينْ |
|
وعزمُ ابنه ناصرِ الناصرينْ |
إذا ما بدا المَلِك الناصرُ
بدت شيمٌ مالها حاصرُ
يطول بها الأمل القاصرُ
كريم السجيّةِ طلقُ الجبينْ |
|
برى اللهُ كلتا يديه يمينْ |
فتىً شأو همّته لا ينالْ
فما ذا عسى في علاهُ يُقالْ
وقد حاز أنهى صفاتِ الكمالْ
وخوّله اللهُ دنياً ودينْ |
|
وأصخى له كلُّ خلقٍ يدينْ |
فلا زال ظلُّ أبيه مديدْ
مدى الدهر في دولةٍ لا تميدْ
وبلّغ في نفسه ما يريدْ
وإخوته السادة الأكرمينْ |
|
وفي عمِّهم فارسُ المسلمينْ |
وقال يمدح الصالح ويرثي أهل البيت عليهمالسلام :
شأنُ الغرامِ أجلُّ أن يلحاني |
|
فيه وإن كنت الشفيقَ الحاني |
أنا ذلك الصبُّ الذي قطعتْ به |
|
صلةُ الغرامِ مطامعُ السلوانِ |
ملئت زجاجةُ صدرِهِ بضميرِهِ |
|
فبدت خفيّةُ شأنِهِ للشاني |
غدرت بموثِقها الدموعٌ فغادرتَ |
|
سرّي أسيراً في يدِ الإعلانِ |
عنّفتُ أجفاني فقامَ بعذرِها |
|
وجدٌ يبيحُ ودائعَ الأجفانِ |
ومنها :
يا صاحبيَّ وفي مجانبةِ الهوى |
|
رأيُ الرشادِ فما الذي تريانِ |
بي ما يذود عن التسبّبِ أوّله |
|
ويزيلُ أيسرُهُ جنونَ جناني |
قبضت على كفِّ الصبابةِ سلوةً |
|
تنهى النهى عن طاعةِ العصيان |
أُمسي وقلبي بين صبرٍ خاذلٍ |
|
وتجلّدٍ قاصٍ وهمٍّ دانِ |
قد سهّلت حزنَ الكلامِ لِنادِبٍ |
|
آلَ الرسولِ نواعبَ الأحزانِ |
فابذل مشايعةَ اللسانِ ونصرَهُ |
|
إن فاتَ نصرُ مهنّدٍ وسنانِ |
واجعل حديثَ بني الوصيّ وظلمهم |
|
تشبيبَ شكوى الدهرِ والخذلانِ |
غصبتْ أميّةُ إرثَ آلِ محمدٍ |
|
سفهاً وشنّت غارةَ الشنآنِ |
وغدت تخالفُ في الخلافِة أهلَها |
|
وتُقابلُ البرهانَ بالبهتانِ |
لم تقتنع أحلامُها بركوبِها |
|
ظهرَ النفاقِ وغاربَ العدوانِ |
وقعودُهمْ في رتبةٍ نبويّةٍ |
|
لم يبنِها لهمُ أبو سفيانِ |
حتى أضافوا بعد ذلك أنّهم |
|
أخذوا بثارِ الكفرِ في الإيمانِ |
فأتى زيادٌ في القبيحِ زيادةً |
|
تركتْ يزيدَ يزيدُ في النقصانِ |
حربٌ بنو حربٍ أقاموا سوقَها |
|
وتشبّهتْ بهمُ بنو مروانِ |
لهفي على النفرِ الذين أكفُّهمْ |
|
غيثُ الورى ومعونةُ اللهفانِ |
أشلاؤهمْ مِزقٌ بكلِّ ثنيّةٍ |
|
وجسومُهْم صرعى بكلّ مكانِ |
مالت عليهم بالتمالئِ أمّةٌ |
|
باعتْ جزيلَ الربحِ بالخسرانِ |
دُفِعوا عن الحقِّ الذي شهدت لهمْ |
|
بالنصِّ فيه شواهدُ القرآنِ |
ما كان أولاهمْ به لو أُيِّدوا |
|
بالصالحِ المختارِ من غسّانِ |
نساهمُا لمختارَ صدقُ ولائه |
|
كم أوّلٌ أربى عليه الثاني |
وقضى شاعرنا الملك الصالح شهيداً يوم الإثنين تاسع عشر من شهر رمضان سنة ستّ وخمسين وخمسمائة ، ورثاه الفقيه عمارة اليمني بقصيدة أولها :
أفي أهل ذا النادي عليمٌ أسائله |
|
فإنّي لِما بي ذاهبُ اللبِّ ذاهلُه |
سمعت حديثاً أحسد الصمّ عنده |
|
ويُذهل واعيه ويخرس قاتلُه (١) |
فهل من جوابٍ يستغيث به المنى |
|
ويعلو على حقِّ المصيبةِ باطلُه |
وقد رابني من شاهد الحال أنّني |
|
أرى الدست منصوباً وما فيه كافلُه |
فهل غابَ عنهُ واستناب سليلَهُ |
|
أم اختار هجراً لا يُرجّى تواصلُه |
فإنّي أرى فوقَ الوجوهِ كآبةً |
|
تدلُّ على أنّ الوجوهَ (٢) ثواكلُه |
ويقول فيها :
دعوني فما هذا أوانُ بكائِهِ |
|
سيأتيكمُ طلُّ البكاء ووابلُه |
ولا تنكروا حزني عليه فإنّني |
|
تقشّعَ عنّي وابلٌ كنت آملُه |
ولِم لا نبكّيه (٣) ونندبُ فقدَه |
|
وأولادُنا أيتامه وأراملُه |
فيا ليتَ شعري بعد حسنِ فعالِه |
|
وقد غاب عنّا ما بنا اللهُ فاعلُه |
أيكرمُ مثوى ضيفِكم وغريبكمْ |
|
فيمكثُ أم تطوى ببينٍ مراحلُه |
ومنها :
فيا أيّها الدستُ الذي غابَ صدرُه |
|
فماجتْ بلاياه وهاجتْ بلابلُه |
عهدتُ بكَ الطوَد الذي كان مَفزعاً |
|
إذا نزلتْ بالملك يوماً نوازلُه |
فمن زلزلَ الطوَد الذي ساخَ في الثرى |
|
وفي كلِّ أرضٍ خوفُه وزلازلُه |
ومن سدَّ باب الملك والأمرُ خارجٌ |
|
إلى سائرِ الأقطارِ منه وداخلُه |
ومن عوّقَ الغازي المجاهدَ بعد ما |
|
أُعِدّت لغزو المشركين جحافلُه |
__________________
(١) كذا في الديوان ، وفي نهاية الأرب : ٢٨ / ٣٢٧ ، وأعيان الشيعة : ٧ / ٤٠١ : قائلُه ، ولعله الصحيح بحسب المعنى.
(٢) في نهاية الأرب : ٢٨ / ٣٢٧ : النُّفوس بدل الوجوه.
(٣) تقول : بكيت الرجل وبكّيته إذا بكيت عليه.
ومن أكرهَ الرمحَ الردينيَّ فالتوى |
|
وأرهقه حتى تحطّم عاملُه |
ومن كسرَ العضبَ المهنّدَ فاغتدى |
|
وأجفانهُ مطروحةٌ وحمائلُه |
ومن سلبَ الإسلامَ حليةَ جيدِهِ |
|
إلى أن تشكّى وحشةَ الطرقِ عاطلُه |
ومن أسكتَ الفضلَ الذي كان فضلُه |
|
خطيباً إذا التفّت عليه محافلُه |
وما هذه الضوضاءُ من بعد هيبةٍ |
|
إذا خامرتْ جسماً تخلّتْ مفاصلُه |
كأنّ أبا الغارات لم ينشِ غارةً |
|
يريك سوادَ الليل فيها قساطلُه |
ولا لمعتْ بين العجاجِ نصولُه |
|
ولا طرّزتْ ثوبَ الفِجاج مناصلُه |
ولا سار في عالي ركابَيْهِ موكبٌ |
|
ينافسُ فيه فارسَ الخيلِ راجلُه |
ولا مرحتْ فوق الدروعِ يراعُه |
|
كما مرحتْ تحت السروجِ صواهلُه |
ولا قُسّمتْ ألحاظُه بين مخلصٍ |
|
جميلِ السجايا أو عدوٍّ يُجاملُه |
ولا قابلَ المحرابَ والحربَ عاملاً |
|
من البأسِ والإحسانِ ما اللهُ قابلُه |
تعجّبتُ من فعلِ الزمانِ بنفسِهِ |
|
ولا شكَّ إلاّ أنّه جُنَّ عاقلُه |
بمن تفخرُ الأيّامُ بعد طلائعٍ |
|
ولم يكُ في أبنائِها من يُماثلُه |
أَتُنزِل بالهادي الكفيلِ صروفَها |
|
وقد خيّمتْ فوق السماكِ منازلُه |
وتسعى المنايا منه في مهجةِ امرئٍ |
|
سعت هِممُ الأقدارِ فيما تحاولُه |
ورثاه بقصيدة أخرى منها :
تنكّد بعد الصالحِ الدهرُ فاغتدتْ |
|
مجالسُ أيّامي وهنّ غيوبُ |
أيجدبُ خدّي من ربيعِ مدامعي |
|
وربعيَ من نعمى يديهِ خصيبُ |
وهل عنده أنّ الدخيلَ من الجوى |
|
مقيمٌ بقلبي ما أقامَ عسيبُ |
وإنْ برقتْ سنّي لذكرِ حكايةٍ |
|
فإنّ فؤادي ما حييتُ كئيبُ |
ورثاه بقصيدة أوّلها :
طمعُ المرءِ في الحياة غرورُ |
|
وطويلُ الآمالِ فيها قصيرُ |
ولكم قدّر الفتى فأتتْهُ |
|
نُوَبٌ لم يُحِطْ بها التقديرُ |
ومنها :
فضَّ ختمَ الحياةِ عنك حِمامٌ |
|
لا يراعي إذناً ولا يستشيرُ |
ما تخطّى إلى جلالِك إلاّ |
|
قَدَرٌ أمره علينا قديرُ |
بذرتْ عمرَكَ الليالي سفاهاً |
|
فسيعلمنْ ما جنى التبذيرُ |
وقال :
ليتَ يومَ الإثنينِ لم يتبسّم |
|
من محيّاه للّيالي ثُغورُ |
طلعتْ شمسُهُ بيومٍ عبوسٍ |
|
حيَّر الطيرَ شرُّه المستطيرُ |
وتجلّى صباحُهُ عن جبينٍ |
|
إثمدُ الليل فوقَه مذرورُ |
صَبَحَ المجدَ في صبيحةِ ذاك ال |
|
ـيومِ غبراءُ صيلمٌ عنقفيرُ (١) |
بلغَ الدهرُ عندها ما تمنّى |
|
وعليها كان الزمانُ يدورُ |
حادثٌ ظلّت الحوادثُ ممّا |
|
شاهدتْهُ من جورِهِ تستجيرُ |
ترجفُ الأرضُ حين يذكر عنه |
|
وتكاد السماءُ منه تمورُ |
طبّق الأرضَ من مصابِ أبي الغا |
|
راتِ خطبٌ له النجومُ تغورُ |
ومنها :
لك رضوان زائرٌ ولقومٍ |
|
هلكوا فيه منكرٌ ونكيرُ |
حفظتْ عهدَكَ الخلافةُ حفظاً |
|
أنت منها به خليقٌ جديرُ |
أحسنتْ بعدكَ الصنيعةَ فينا |
|
فاستوتْ منك غيبةٌ وحضورُ |
وأبى اللهُ أن يتمَّ عليها |
|
ما نوى حاسدٌ لها أو كفورٌ |
__________________
(١) صبح القوم صبحاً : أتاهم صباحاً. صيلم : الأمر الشديد. يقال : وقعة صيلمة أي مستأصلة. عنقفير : أحسبه مصحّف خنشفير ، أي الداهية. (المؤلف)
ضيّقوا حفرةَ المكيدةِ لكن |
|
ضاقَ بالناكثينَ ذاك الحفيرُ |
وتجرّوا على القصورِ بغدرٍ |
|
وسراجُ الوفاء فيها ينيرُ |
حَرَمٌ آمنٌ وشهرٌ حرامٌ |
|
هتكتْ منهما عرىً وستورُ |
لا صيامٌ نهاهمُ لا إمامٌ |
|
طاهرٌ تُربُ أخمصيهِ طهورُ |
أخفروا ذمّةَ الهدى بعد علمٍ |
|
ويقينٍ أنّ الإمامَ خفيرُ |
وإذا ما وفتْ خدورُ البوادي |
|
بذمامٍ فما تقول القصورُ |
غضِبَ العاضدُ الإمامُ فكادتْ |
|
فَرَقاً منه أن تذوبَ الصخورُ |
أدرك الثأرَ من عداهُ بعزمٍ |
|
لم يكنْ في النشاطِ منه فتورُ |
واستقامتْ بنصرِهِ وهداهُ |
|
حجّةُ اللهِ واستمرَّ المريرُ |
دُفِن الملك الصالح بالقاهرة ، ثمّ نقل ولده العادل سنة سبع وخمسين وخمسمائة في تاسع صفر تابوت أبيه من القاهرة إلى مشهد بُني له في القرافة (١) في وزارته ، وحفر سرداباً يوصل فيه من دار الوزارة إلى دار سعيد السعداء ، وعمل فيه الفقيه عمارة اليمني قصائد منها :
خربتْ ربوعُ المكرماتِ لراحلٍ |
|
عمرتْ به الأجداثُ وهي قفارُ |
نعشُ الجدودِ العاثراتِ مشيّعٌ |
|
عميتْ برؤيةِ نعشهِ الأبصارُ |
نعشٌ تودُّ بناتُ نعشٍ لو غدت |
|
ونظامُها أسفاً عليه نثارُ |
شخصَ الأنامُ إليه تحتَ جنازةٍ |
|
خفضتْ برفعةِ قدرِها الأقدارُ |
ومنها :
وكأنّها تابوتُ موسى أُودِعتْ |
|
في جانبيهِ سكينةٌ ووقارُ |
أوطنْتَهُ دارَ الوزارةِ ريثما |
|
بُنيت لنقلتِهِ الكريمةِ دارُ |
__________________
(١) جبانة في مصر والكلام فيها طويل ، بسط القول فيها المقريزي في الخطط : ٤ / ٣١٧ [٢ / ٤٤٣]. (المؤلف)