الوصائل الى الرسائل - ج ٨

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-08-2
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

ولم يترتب على موافقته ومخالفته سوى خاصيّة نفس المأمور به وتركه ، كما هو شأن الطلب الارشادي ، وإلى هذا المعنى أشار ، صلوات الله عليه ، بقوله : «اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس» ، وقوله : «من ارتكب الشبهات وقع في المحرّمات وهلك

______________________________________________________

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (١).

(و) معنى كونه إرشاديا : انه (لم يترتب على موافقته) أي : موافقة الأمر الاحتياطي (ومخالفته سوى خاصيّة نفس المأمور به وتركه) من النفع والثواب أو الضرر والعقاب ، فاذا أمر الطبيب ـ مثلا ـ المريض بشرب الدواء ، فانّه ان شربه نفعه ، وان لم يشربه ضرّه المرض من دون ان يكون لأمر الطبيب أثر فوق فائدة شرب الدواء وضرر تركه (كما هو شأن الطّلب الارشادي) سواء كان من المولى الحقيقي أم من المولى العرفي ، أم من أهل الخبرة في شئون السفر والحضر ، والزراعة والعمارة ، والعلاج والدواء ، وغير ذلك.

(وإلى هذا المعنى) أي : كون الأمر ارشاديا (أشار صلوات الله عليه ، بقوله : «اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس» (٢)) فانّ معنى هذه العبارة : ان البأس منحصر في الحرام الواقعي ، والحذر انّما هو من جهة الحرام الواقعي ، فاذا خولف ترك من لا بأس به بارتكابه ولم يصادف الحرام لم يكن فيه بأس.

(وقوله) صلوات الله عليه («من ارتكب الشبهات وقع في المحرّمات وهلك

__________________

(١) ـ سورة الانعام : الآية ١٦٠.

(٢) ـ اشارة الى الحديث الوارد عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس» انظر الصراط المستقيم : ج ١ ص ١٣٥ ، وقريب منه في تحف العقول : ص ٦٠ ، الالفين : ٣١٢ ، مجموعة ورام : ج ١ ص ٦٠.

٣٤١

من حيث لا يعلم».

ومن هنا ظهر انّه لا فرق في ذلك بين الاستناد في وجوب الاجتناب الى حكم العقل وبين الاستناد فيه الى حكم الشرع بوجوب الاحتياط.

______________________________________________________

من حيث لا يعلم») (١) فان ظاهر هذه العبارة : ان الهلكة انّما هي في الحرام الواقعي لا في المشتبه به (ومن هنا ظهر : انّه لا فرق في ذلك) الذي ذكرناه : من ان وجوب الاجتناب عن المشتبهين ارشادي لا فرق فيه (بين الاستناد في وجوب الاجتناب الى حكم العقل) الذي يوجب دفع الضرر المحتمل (وبين الاستناد فيه الى حكم الشرع بوجوب الاحتياط) وذلك من جهة كونهما للارشاد فان اخبار الاحتياط ايضا ترشد الى عدم الوقوع في الحرام ولا تدل على حرمة المشتبه الذي كان في الواقع حلالا كما سيأتي الالماع إلى ذلك.

ثم لا يخفى : انّه لم يقل أحد من الاصوليين بأن وجوب الاجتناب عن المشتبهين وجوب شرعي وانّما هو قول بعض الأخباريين فقط وذلك على ما نسبه الوحيد البهبهاني اليهم.

ثم إنّ المصنّف بعد أن ذكر انّ الأمر بالاحتياط ارشادي بمعنى : انّه ان ارتكب أحد المشتبهين ولم يصادف الواقع لم يكن فعله حراما ، أشكل على نفسه : بانّه إذا كان الظّن بالضرر الدنيوي لقوله : «لا ضرر ولا ضرار» (٢) يوجب العقاب وان

__________________

(١) ـ الكافي : (اصول) : ج ١ ص ٦٨ ح ١٠ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٨٠ ح ٤ وص ٢٩٢ ح ٢ وص ٢٩٤ ح ٨ ، معاني الاخبار : ص ٢٨١ ، غوالي اللئالي : ج ١ ص ٣٠٩ ح ١٨ ، نهج الحق : ص ٤٨٩ وص ٤٩٥ وص ٥٠٦ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ١٤٦ ب ٢٢ ح ٤.

٣٤٢

وأما حكمهم عليهم‌السلام بوجوب دفع الضرر المظنون شرعا واستحقاق العقاب على تركه وان لم يصادف الواقع فهو خارج عمّا نحن فيه ، لأنّ الضرر الدنيوي ارتكابه مع العلم حرام شرعا.

والمفروض أن الظن في باب الضرر

______________________________________________________

لم يصادف الواقع ، كما ذكره الفقهاء فكيف لا يكون الظن بأن أحد المشتبهين خمر موجبا للعقاب فيما إذا لم يصادف الواقع على ما ذكرتموه أنتم؟.

والجواب : إن هناك بين الضرر الدنيوي والضرر الاخروي ، وهو : ان الشارع جعل ظن الضرر الدنيوي محرّما بنفسه أي : موضوع الحرمة ، فيكون النهي عنه مولويا وذلك بملاحظة انّه إذا لم يجعله حراما وقع الانسان في ضرر كثير ، بخلاف الظنّ بالحرمة الذي هو ضرر اخروي فليس محرما بنفسه فيكون النهي عنه ارشاديا.

والى هذا اشار المصنّف بقوله : (وأما حكمهم عليهم‌السلام) في الضرر الدنيوي (بوجوب دفع الضرر المظنون شرعا واستحقاق العقاب على تركه) أي : على ترك دفعه (وان لم يصادف الواقع) بأن لم يكن الضرر متحققا في الواقع (فهو خارج عمّا نحن فيه) فانه اذا ظنّ بأنّ استعمال الماء ـ مثلا ـ يضره ومع ذلك استعمل الماء ، كان ذلك حراما وموجبا للعقاب على ما ذكره العلماء حتى وان لم يكن في الواقع ضرر في استعمال الماء عليه.

وانّما كان خارجا عمّا نحن فيه فلا يقاس أحدهما بالآخر (لأنّ الضرر الدنيوي ارتكابه مع العلم حرام شرعا) فاذا علم الانسان بالضرر في استعمال الماء ـ مثلا ـ حرم شرعا ارتكابه وان لم يكن في الواقع ضرر بأن كان علمه جهلا مركبا.

هذا (والمفروض : ان) الشارع جعل مطلق (الظن في باب الضرر) حجة ،

٣٤٣

طريق شرعي إليه. فالمتقدم مع الظن كالمتقدم مع القطع مستحق للعقاب ، كما لو ظنّ سائر المحرمات بالظن المعتبر.

______________________________________________________

فهو (طريق شرعي إليه) أي : الى الضرر (فالمتقدم) على الضرر (مع الظن) بالضرر (كالمتقدم مع القطع) كلاهما (مستحق للعقاب) في الآخرة.

وعليه : فان مطلق الظن بالضرر الدنيوي يكون في الحكم (كما لو ظنّ سائر المحرمات بالظن المعتبر) من الخبر الواحد ونحوه ، فانه كما جعل الشارع الظن المعتبر بحرمة المرأة الفلانية ـ مثلا ـ كالظن الحاصل بسبب الخبر أو الاجماع أو الشهرة أو ما أشبه ، طريقا للوصول الى الحرمة حتى إذا خالف هذا الظن فعل حراما ، وكذلك في المقام جعل الشارع مطلق الظن بالضرر طريقا للوصول إلى الحرمة فاذا خالفه فعل حراما.

لكن لا يخفى : انّه يرد عليه ما يلي :

أولا : انّه ليس الموجب للحرمة لمن قال به في باب الضرر : الظن فقط ، بل الاحتمال العقلائي ولو كان وهما ايضا موجب للحكم الظاهري.

ثانيا : انّه لا دليل على ان من ارتكب ما يظن بضرر ، ولو لم يكن ضررا في الواقع ان يكون قد فعل حراما ، فمن أين قلتم : ان المرتكب لما قطع أو ظن أو احتمل ضرره ولم يطابق الواقع يكون مستحقا للعقاب وفاعلا للحرام؟.

ثالثا : من أين تقولون : انّ من ارتكب ما ظن بحرمته ظنا معتبرا من سائر المحرمات انّه يكون فاعلا للحرام اذا لم يصادف ظنّه الواقع؟.

نعم ، إذا صادف ظنّه الواقع كان فاعلا للحرام ، لأنّه فعل الحرام المنجز عليه بسبب الظن المعتبر ، لكن لا يقاس الظن بالضرر المخالف للواقع ، بالظن بالحرام الموافق للواقع.

٣٤٤

نعم ، لو شك في هذا الضرر يرجع إلى أصالة الاباحة وعدم الضرر ، لعدم استحالة ترخيص الشارع بالاقدام على الضرر الدنيوي المقطوع ، إذا كان في الترخيص مصلحة أخرويّة فيجوز ترخيصه بالاقدام على المحتمل لمصلحة ولو كانت تسهيل الأمر على المكلّف بوكول الاقدام على ارادته.

وهذا بخلاف الضرر الاخروي ، فانّه على تقدير ثبوته واقعا يقبح

______________________________________________________

(نعم ، لو شك في هذا الضرر) الدنيوي ، بان لم يعلم ـ مثلا ـ انّ سلوك طريق بغداد موجب للضرر أو لم يكن موجبا للضرر ، فانّه (يرجع إلى اصالة الاباحة و) اصالة (عدم الضرر) لأن الضرر أمر حادث ، فاذا شك فيه كان الأصل عدمه ، فيكون مرجعه عموم أدلة الحل والبراءة.

فان قلت : إذا احتمل الضرر فالعقل يرى لزوم الاجتناب في ما كان الاحتمال عقلائيا ، فكيف يرى الشارع جواز الارتكاب بسبب اجراء البراءة؟.

قلت : أدلة البراءة مطلقة تشمل المقام ، ولا تلازم بين المنع العقل واجازة الشارع (لعدم استحالة ترخيص الشارع بالاقدام على الضرر الدنيوي المقطوع) به ، فانّه حتى مع القطع بالضرر يمكن للشارع أن يأذن فيه (إذا كان في الترخيص مصلحة أخرويّة) فيكون ترخيص الشارع من باب الأهم والمهم ، كما أجاز الصدقات ونحوها ، مع انّ فيها الضرر الدنيوي ، وذلك لما فيها من المصالح الاخروية.

وعليه : (فيجوز) للشارع تطريق اولى (ترخيصه بالاقدام على المحتمل) من الضرر بعد ترخيصه في المقطوع منه (لمصلحة ولو كانت) تلك المصلحة (تسهيل الأمر على المكلّف بوكول الاقدام على ارادته) فانّه إذا جاز ترخيص الشارع مع القطع بالضرر ، جاز ترخيصه مع احتمال الضرر بطريق اولى.

(وهذا بخلاف الضرر الاخروي ، فانّه على تقدير ثبوته واقعا يقبح

٣٤٥

من الشارع الترخيص فيه.

نعم ، وجوب دفعه عقليّ ولو مع الشّك ، لكن لا يترتب على ترك دفعه الّا نفسه ، على تقدير ثبوته واقعا حتى أنّه لو قطع به ثم لم يدفعه واتفق عدمه واقعا لم يعاقب عليه إلّا من باب التجرّي ،

______________________________________________________

من الشارع الترخيص فيه) كما في أطراف الشبهة المحصورة ، حيث انّ ما يرتكبه إذا صادف الواقع يترتّب عليه الضرر الاخروي والعقاب ، مما يكون الترخيص فيه محتمل الضرر الدنيوي لا يلازم جواز ترخيص محتمل الضرر الاخروي.

لكن لا يخفى انه ليس معنى عدم ترخيص الشارع محتمل الضرر الاخروي حيث لا يرخص فيه : انّه لو ارتكبه يكون فيه العقاب مطلقا ، بل يكون فيه العقاب إذا صادف الواقع ، فالنهي عن ارتكاب محتمل الضرر الاخروي ارشادي يدور امره مدار الواقع كأوامر الطبيب ، وقد أشار المصنّف إلى هذا المعنى بقوله :

(نعم ، وجوب دفعه) أي : محتمل الضرر الاخروي (عقليّ ولو مع الشّك) كما في أطراف الشبهة المحصورة حيث يشك الانسان في انّ ايّ واحد منها يصادف الواقع.

(لكن) حكم العقل بوجوب الدفع هذا : ارشادي محض (لا يترتب على ترك دفعه الّا نفسه) أي : نفس العقاب المحتمل وذلك (على تقدير ثبوته واقعا) امّا اذا لم يكن العقاب ثابتا واقعا بأن كان الذي ارتكبه هو الحلال لم يكن عليه شيء.

إذن : فالمرتكب لأحد اطراف الشبهة (حتى انّه لو قطع به) اي : بالعقاب (ثم لم يدفعه واتفق عدمه) أي : عدم العقاب (واقعا لم يعاقب عليه الّا من باب التجرّي) لأنّ المفروض انّ العقاب دائر مدار الواقع وقد فرضنا انّه ارتكب الحلال

٣٤٦

وقد تقدّم في المقصد الأوّل المتكفّل لبيان مسائل حجيّة القطع الكلام فيه وسيجيء أيضا.

فان قلت : قد ذكر العدلية في الاستدلال على وجوب شكر المنعم : بانّ في تركه احتمال المضرّة وجعلوا ثمرة وجوب شكر المنعم وعدم وجوبه استحقاق العقاب على ترك الشكر لمن لم يبلغه دعوة نبي زمانه عليه‌السلام ،

______________________________________________________

ولم يرتكب ما يصادف الواقع (وقد تقدّم في المقصد الأوّل المتكفّل لبيان مسائل حجيّة القطع الكلام فيه) أي : في التجري وانّه ليس بمحرم وانّما هو كاشف عن سوء سريرة المرتكب (وسيجيء أيضا) تتمة الكلام إن شاء الله تعالى.

ولا يخفى : إنّ في قول المصنّف : «نعم» إلى هنا موارد للنظر نضرب عنها صفحا خوف الخروج عن مقصد الشرح.

(فان قلت :) قولكم أيها الفقهاء هنا : بأن ارتكاب أحد المشتبهين إذا لم يصادف الحرام في الواقع لا عقاب عليه ، يخالف قول المتكلمين من العدلية ، حيث قالوا : بأنّ تارك شكر المنعم وان لم يصادف الواجب في الواقع ، بأن لم يجب عليه الشكر واقعا يعاقب عليه لحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل كما قال :

(قد ذكر العدلية في الاستدلال على وجوب شكر المنعم : بانّ في تركه احتمال المضرّة) الاخروية يعني : العقاب وهو دليل عقلي.

(وجعلوا ثمرة وجوب شكر المنعم وعدم وجوبه : استحقاق العقاب على ترك الشكر لمن لم يبلغه دعوة نبي زمانه عليه‌السلام) أي : ان العدلية قالوا : بوجوب شكر المنعم وان من لم يشكره يستحق العقاب وان لم يصله التكليف الشرعي بوجوبه ، واستدلوا لذلك : بحكم العقل بوجوب دفع الضرر الاخروي المحتمل

٣٤٧

فيدل ذلك على استحقاق العقاب بمجرّد ترك دفع الضرر الاخرويّ المحتمل.

قلت :

______________________________________________________

في ترك الشكر ، كما استدللتم انتم لوجوب اجتناب المشتبه واستحقاق العقاب لمرتكبه مع انه لا وجوب شرعي عليه : بحكم العقل بوجوب دفع الضرر الاخروي المحتمل في ارتكاب المشتبه.

وعليه : (فيدل ذلك) الذي استدل به العدلية من حكم العقل بوجوب شكر المنعم ، الشبيه لما استدللتم عليه لوجوب اجتناب المشتبه ، يدل (على استحقاق العقاب بمجرّد ترك دفع الضرر الاخرويّ المحتمل) وان لم يصادف الواقع ، وهنا يتناقض مع ما ذكرتموه سابقا : من ان الأمر الناشئ من احتمال الضرر الأخروي ارشادي محض يدور مدار الواقع فلا يوجب ارتكاب المشتبه مطلقا العقاب ، بل يوجبه إذا صادف الواقع؟.

والحاصل : انّ العدلية يقولون : من خالف حكم العقل بوجوب شكر المنعم وترك الشكر استحق العقاب ، سواء صادف الواقع أم لا ، بأن كان الشكر في الواقع واجبا ، وكذا من خالف حكم العقل بوجوب اجتناب المشتبه فارتكب احد الاطراف استحق العقاب ، سواء صادف الواقع أم لا ، بأن كان ما ارتكبه في الواقع حراما أو لم يكن كذلك ، بينما انتم تقولون انّه إذا لم يصادف الواقع لا عقاب عليه.

(قلت) : كلا انّ العدلية لا يقولون بالعقاب إذا ترك الشكر وكان الشكر في الواقع غير واجب ، بل يقولون بالعقاب إذا كان الشكر في الواقع واجبا ، فيكون ارتكاب أحد المشتبهين وتارك الشكر كلاهما سيّان من هذه الجهة ، فان كان الشكر واجبا ، والمشتبه خمرا ثبت العقاب على تارك الشكر وعلى مرتكب أحد المشتبهين ، والّا لا عقاب على أيّ منهما.

٣٤٨

حكمهم باستحقاق العقاب على ترك الشكر بمجرّد احتمال الضرر في تركه لأجل مصادفة الاحتمال للواقع ، فانّ الشكر لمّا علمنا بوجوبه عند الشارع وترتّب العقاب على تركه. فاذا احتمل العاقل العقاب على تركه ، فان قلنا بحكومة العقل في مسألة دفع الضرر المحتمل صحّ عقاب تارك الشكر ـ من أجل إتمام الحجّة عليه ـ بمخالفة عقلية ، وإلّا فلا.

______________________________________________________

وعليه : فانّ (حكمهم باستحقاق العقاب على ترك الشكر بمجرّد احتمال الضرر) الاخروي والعقاب ليس هو (في تركه) أي : ترك الشكر مطلقا ، بل (لأجل مصادفة الاحتمال للواقع) فانهم يقولون بالعقاب على ترك الشكر إذا صادف الواقع بأن كان الشكر واجبا لا مطلقا.

أمّا ان الشكر واجب واقعا أو ليس بواجب واقعا فيظهر من دليل شرعي ، كما قال : (فانّ الشكر لمّا علمنا) من الخارج (بوجوبه عند الشارع) وذلك بعد وصول احكامه الينا (و) علمنا (ترتّب العقاب على تركه) أي : على ترك الشكر ، علمنا : ان الشكر واجب واقعا : وان العقاب ترتب على تاركه.

وعليه : (فاذا احتمل العاقل) الذي لم يصله حكم الشارع (العقاب على تركه ، فان قلنا بحكومة العقل في مسألة دفع الضرر المحتمل) كما يقول به العدلية خلافا للأشاعرة حيث لا يقولون بحكم العقل (صحّ عقاب تارك الشكر ـ من أجل إتمام الحجّة عليه ـ بمخالفة عقلية) لان الشكر كان واجبا واقعا ، وقد تمت الحجة على هذا الشخص بدلالة عقله عليه.

(والّا) بأن لم يحتمل العاقل العقاب على تركه (فلا) عقاب عليه لوضوح : قبح العقاب بلا بيان وإن صادف الواجب الواقعي.

٣٤٩

فغرضهم أنّ ثمرة حكومة العقل بدفع الضرر المحتمل إنّما تظهر في الضرر الثابت شرعا مع عدم العلم به من طريق الشرع.

لا أنّ الشخص يعاقب بمخالفة العقل وإن لم يكن ضرر في الواقع ، وقد تقدّم في بعض مسائل الشبهة التحريمية شطر من الكلام في ذلك.

______________________________________________________

إذن : (فغرضهم) اي : غرض العدلية من كلامهم هذا هو : (أنّ ثمرة حكومة العقل بدفع الضرر المحتمل انّما تظهر) في صورة المصادفة للواقع ، بأن كان الشكر في الواقع واجبا وقد احتمله العاقل احتمالا عقلائيا ثم تركه ، فالنتيجة إذن تظهر كما قال : (في الضرر الثابت شرعا) أي : واقعا وقد احتمله عقلا (مع عدم العلم به من طريق الشرع) لعدم وصول أحكامه إليه ، (لا) ان مرادهم (أنّ الشخص يعاقب بمخالفة العقل وإن لم يكن ضرر في الواقع).

وعليه : فحكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل ارشادي محض ، وليس ممّا يترتب على تركه الضرر مطلقا صادف الواقع أم لم يصادفه ، فما قاله العدلية في وجوب الشكر المنعم ، هو ما قلناه نحن في وجوب اجتناب اطراف الشبهة المحصورة.

هذا (وقد تقدّم في بعض مسائل الشبهة التحريمية شطر) أي جزء (من الكلام في ذلك) عند ما استدل القائلون بوجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية : بأخبار التوقّف والاحتياط وتثليث الأقسام ، حيث أجاب المصنّف عنها : بأنها للارشاد إلى حكم العقل وليست مولوية ، بمعنى : انه لو صادف الواقع وكان الواقع منجّزا عليه كما في أطراف الشبهة المحصورة في العلم الاجمالي وجب الاجتناب ، والّا لم يجب كما في الشبهة البدوية.

هذا هو تمام الكلام في الوجه الأوّل من الوجوه التي تمسكوا بها لاثبات حرمة

٣٥٠

وقد يتمسّك لاثبات الحرمة في المقام بكونه تجرّيا ، فيكون قبيحا عقلا فيحرم شرعا ، وقد تقدّم في فروع حجّية العلم : الكلام على حرمة التجرّي حتى مع القطع بالحرمة إذا كان مخالفا للواقع.

كما أفتى به في التذكرة فيما إذا اعتقد ضيق الوقت فأخّر وانكشف بقاء الوقت وإن تردّد في النهاية.

______________________________________________________

ارتكاب أطراف الشبهة المحصورة المقرونة بالعلم الاجمالي ، سواء صادف الواقع أم لم يصادفه ، وكان حاصله : حكم العقل بدفع الضرر المحتمل وقد عرفت جوابه : بانّه ارشادي محض لا مولوي.

وحيث انتهى المصنّف من الاستدلال بدليلهم الأوّل شرع في استدلال بدليلهم الثاني وهو ما ذكره بقوله : (وقد يتمسّك لاثبات الحرمة) لكل من أطراف الشبهة (في المقام) من الشبهة المحصورة وان لم يصادف الواقع (: بكونه تجرّيا ، فيكون قبيحا عقلا فيحرم شرعا) للتلازم بين حكم العقل وحكم الشرع ، فكلّما قبّحه العقل حرّمه الشرع ، وكلّما حرّمه الشرع قبّحه العقل.

هذا (و) لكن (قد تقدّم في فروع حجّية العلم : الكلام على حرمة التجرّي) وذكرنا هناك : بأنّه لا دليل على حرمة التجرّي (حتى مع القطع بالحرمة إذا كان مخالفا للواقع) فانّه مع المخالفة انّما يكشف عن سوء سريرة المتجري فقط فلا يكون حراما.

(كما أفتى به) أي : بعدم الحرمة (في التذكرة فيما إذا اعتقد ضيق الوقت فأخّر) الصلاة متجريا ولم يصلّها (وانكشف بقاء الوقت) ذلك ، قال العلامة : انّه لا يعاقب عليه ، لأنّه لم يكن الّا تجريا محضا حيث لم يكن مصادفا للواقع (وإن تردّد) العلامة من حيث الحرمة وعدم الحرمة في نفس هذه المسألة (في) كتابه (النهاية).

٣٥١

وأضعف من ذلك التمسك بالأدلة الشرعية الدالة على الاحتياط ، لما تقدّم من أنّ الظاهر من مادّة الاحتياط التحرّز عن الوقوع في الحرام.

كما يوضّح ذلك النبويّان السّابقان ، وقولهم صلوات الله عليهم : «إنّ الوقوف عند الشّبهة أولى من الاقتحام في الهلكة».

______________________________________________________

أمّا ثالث أدلتهم : فقد أشار اليه المصنّف بقوله : (وأضعف من ذلك) الذي ذكرناه : «من التمسك بالتجرّي لحرمة أطراف الشبهة المحصورة ، هو : (التمسك بالأدلة الشرعية الدالة على الاحتياط).

وانّما يكون أضعف (لما تقدّم : من أن الظاهر من مادّة الاحتياط) هو احراز الواقع ، و(التحرّز عن الوقوع في الحرام) فيكون التحريم وعدم التحريم دائرا مدار الواقع ، لأنّ معنى الاحتياط من حيث المادة : احراز الواقع ، وهذه المادة تقيّد هيئة الأمر في قوله عليه‌السلام : «احتط» الظاهرة في الوجوب ، فتصرفها عن الوجوب مطلقا الى الوجوب فيما إذا طابق الواقع ، بأن كان محرّما في الواقع.

(كما يوضّح ذلك) أي : كون أمر الاحتياط للارشاد حذرا من عقاب الواقع لو صادف الواقع (النبويّان السّابقان) : «اتركوا ما لا بأس به» (١) و«من أخذ بالشبهات» (٢) على ما ذكرنا هناك وجه كونهما ظاهرين في الارشاد المحض.

(وقولهم صلوات الله عليهم : «انّ الوقوف عند الشّبهة أولى من الاقتحام

__________________

(١) ـ اشارة الى الحديث الوارد عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس» انظر الصراط المستقيم : ج ١ ص ١٣٥ وقريب منه في تحف العقول : ص ٦٠ ، الالفين : ص ٣١٢ ، مجموعة ورام : ج ١ ص ٦٠.

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٨ ح ١٠ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

٣٥٢

الثالث :

إنّ وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين إنّما هو مع تنجّز التكليف بالحرام الواقعي على كلّ تقدير بأن يكون كلّ منهما بحيث لو فرض القطع بكونه الحرام كان التكليف منجّزا بالاجتناب ، فلو لم يكن كذلك بأن لم

______________________________________________________

في الهلكة») (١) حيث قد تقدّم في أخبار الاحتياط : أنّ مثل هذه العبادة دالة على انّه إذا ارتكب الشبهة ولم يكن في الواقع هلكة لم يكن عليه عقاب.

(الثالث) من التنبيهات : انّه لو كان أحد أطراف الشبهة المحصورة خارجا عن محل الابتلاء ، فانه لم يتعلق التكليف بالطرف الداخل في محل الابتلاء ، وذلك لأنّه يكون حينئذ من الشك في التكليف ، لا الشك في المكلّف به كما قال :

(إنّ وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين) من باب المقدمة لامتثال التكليف المنجّز بالعلم الاجمالي كما اخترناه نحن (انّما هو مع تنجّز التكليف بالحرام الواقعي) المعلوم بالاجمال (على كل تقدير) أي : سواء كان الحرام الواقعي في هذا الاناء أم في ذاك الاناء (بأن يكون كلّ منهما بحيث لو فرض القطع بكونه الحرام ، كان التكليف منجّزا بالاجتناب) عنه.

مثلا : إذا اشتبه الاناء النجس بالطاهر ، فان كان كل واحد من اطراف الشبهة قابلا لان يتعلق به تكليف الشارع بالاجتناب عنه ، وإلّا ، فلا يجب الاجتناب عنه.

وعليه : (فلو لم يكن) كل واحد من اطراف الشبهة (كذلك ، بأن لم

__________________

(١) ـ وهي رواية سعد بن زياد التي رويت في تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٤٧٤ ب ٣٦ ح ١١٢ ووسائل الشيعة : ج ٢٠ ص ٢٥٩ ب ١٥٧ ح ٢٥٥٧٣ وج ٢٧ ص ١٥٩ ب ١٢ ح ٣٣٤٧٨ وكذا روى الزهري والسكوني وعبد الأعلى شبيه ذلك في الكافي (اصول) : ج ١ ص ٥٠ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٥٥ ب ١٢ ح ٣٣٤٦٥ وص ١٧١ ب ١٢ ح ٣٣٥٢٠ ، المحاسن : ص ٢١٥ ح ١٠٢ وفي الجميع (خير) بدل (أولى).

٣٥٣

يكلّف به أصلا ، كما لو علم بوقوع قطرة من البول في أحد اناءين أحدهما بول ، أو متنجس بالبول ، أو كثير لا ينفعل بالنجاسة ، أو أحد ثوبين أحدهما نجس بتمامه لم يجب الاجتناب عن الآخر لعدم العلم بحدوث التكليف بالاجتناب عن ملاقي هذه القطرة ، إذ لو كان ملاقيها هو الاناء النّجس لم يحدث بسببه تكليف بالاجتناب أصلا ، فالشكّ في التكليف بالاجتناب عن الآخر شكّ في أصل التكليف ، لا المكلّف به.

______________________________________________________

يكلّف به) اي : بالاجتناب عنه على أحد التقديرين لعدم قابليته للتكليف (أصلا ، كما لو علم بوقوع قطرة من البول في احد اناءين أحدهما بول ، أو متنجس بالبول ، أو كثير لا ينفعل بالنجاسة ، أو أحد ثوبين أحدهما نجس بتمامه) بحيث لا تؤثر النجاسة فيه شيئا ، فانّه (لم يجب الاجتناب عن الآخر) اذ لو وقعت القطرة في الاناء النجس أو في الكرّ لم يحدث تكليفا ، لوضوح : انّ النجس لا يتنجس مرة ثانية ، كما ان الكرّ لا يتنجس بوقوع قطرة من النجس فيه.

وانّما لا يجب الاجتناب عن الآخر (لعدم العلم بحدوث التكليف بالاجتناب عن ملاقي هذه القطرة) فهو من الشك في التكليف لا من العلم بالتكليف والشك في المكلّف به ، ومن الواضح : إنّ الشك في التكليف مجرى للبراءة ، بخلاف الشك في المكلّف به ، فانّه مجرى للاحتياط.

وانّما لا علم بحدوث تكليف جديد بالاجتناب عن ملاقي قطرة النجس (إذ لو كان ملاقيها) أي : ملاقي قطرة النجس ـ مثلا ـ (هو الاناء النّجس) أو الكرّ ، أو غير ذلك ممّا ذكرناه في المثال (لم يحدث بسببه تكليف بالاجتناب أصلا) لما عرفت : من أن النجس لا يتنجس ، وأن الكرّ لا يتأثر (فالشك في التكليف بالاجتناب عن الآخر ، شكّ في أصل التكليف لا المكلّف به).

٣٥٤

وكذا لو كان التكليف في أحدهما معلوما ، لكن لا على وجه التنجّز ، بل معلّقا على تمكّن المكلّف منه ، فانّ ما لا يمكّن المكلّف من ارتكابه لا يكلّف منجّزا بالاجتناب عنه ، كما لو علم وقوع النجاسة في أحد شيئين لا يتمكن المكلّف من ارتكاب واحد معيّن منهما ، فلا يجب الاجتناب عن الآخر ، لأنّ الشك في أصل تنجّز التّكليف ، لا في المكلّف به تكليفا منجّزا.

______________________________________________________

نعم ، إذا وقعت قطرة بول في هذا الاناء النجس بالدم أو ذاك الاناء الطاهر ، حدث التكليف قطعا ووجب الاجتناب عنهما ، إذ النجس بالبول يحتاج إلى التطهير مرتين ، بينما النجس بالدم يحتاج إلى التطهير مرة ، وكذا يجب الاجتناب عنهما لو كان هذا الاناء نجسا بولوغ الخنزير ـ مثلا ـ ثم ولغ كلب ولم يعلم في الطاهر أو في النجس بولوغ الخنزير ، لكن ليس الكلام في مثل هذه الأمثلة ـ كما لا يخفى ـ.

(وكذا) لا يجب الاجتناب عن الآخر (لو كان التكليف في أحدهما معلوما ، لكن لا على وجه التنجّز ، بل معلّقا على تمكّن المكلّف منه) والقدرة على ارتكابه (فانّ ما لا يمكّن المكلّف من ارتكابه) فعلا ـ عقلا أو عرفا ـ (لا يكلّف منجّزا بالاجتناب عنه) وذلك لأنّ العقل يرى فيه قبح تنجيز النهي على من لا يقدر على الارتكاب فعلا ، وكذلك بالنسبة إلى الاجتناب.

(كما لو علم وقوع النجاسة في أحد شيئين لا يتمكن المكلّف من ارتكاب واحد معيّن منهما) لكونه في بلاد نائية ـ مثلا ـ أو في كهف بعيد ، أو في بيت شخص لا يصل إليه المكلّف اطلاقا (فلا يجب الاجتناب عن الآخر) الذي هو عند هذا المكلّف.

وانّما لا يجب الاجتناب عن الذي عنده (لأنّ الشك في أصل تنجّز التّكليف ، لا في المكلّف به تكليفا منجّزا) فانه قد يتنجز التكليف ، لكن يكون الشك

٣٥٥

وكذا لو كان ارتكاب الواحد المعيّن ممكن عقلا ، لكنّ المكلّف أجنبىّ عنه وغير مبتلى به بحسب حاله ، كما إذا تردّد النّجس بين انائه وبين اناء الآخر لا دخل للمكلّف فيه اصلا ، فانّ التكليف بالاجتناب عن هذا الاناء الآخر المتمكن عقلا غير منجّز عرفا.

______________________________________________________

في المكلّف به : بأنه هل هو هذا أو ذاك؟ وقد يكون الشك في انّه هل تنجّز عليه التكليف أم لا؟.

مثلا : لو كان دار زيد إلى جوار دار الملك ، ووقعت قطرة نجس إمّا في اناء زيد وإمّا في اناء الملك الذي لا يصل زيد إليه اصلا ، فانّه يشك في توجه التكليف إليه بالاجتناب ، لا انّه يقطع بتوجه التكليف إليه ويشك في انّه هل هو الاجتناب عن انائه أو عن اناء الملك؟.

(وكذا) لا يجب الاجتناب عن الآخر الذي هو عند المكلّف (لو كان ارتكاب الواحد المعيّن ممكن عقلا ، لكنّ المكلّف أجنبيّ عنه وغير مبتلى به بحسب حاله ، كما إذا تردّد النّجس بين انائه وبين اناء الآخر) أي : الشخص الآخر الذي (لا دخل للمكلّف فيه أصلا).

مثلا : إذا وقعت قطرة بول في انائه أو إناء جاره ، وكان إناء جاره ليس محل ابتلائه إطلاقا وأن تمكن أن يذهب إلى جاره ويطلبه منه ، لكنّه عرفا غير متمكن منه ، (فانّ التكليف بالاجتناب عن هذا الاناء الآخر المتمكن عقلا) منه ، غير المتمكن منه عرفا لخروجه عن محل ابتلائه ، لا يتعلق التكليف الشرعي باجتنابه ، فهو إذن (غير منجّز عرفا).

والفرق بين هذه الصورة والصورة السابقة : أنّ الصورة السابقة : كان يعدّ فيها المكلّف غير متمكن منه عقلا لعدم التمكن من الوصول إليه وفي هذه الصورة يعدّ

٣٥٦

ولهذا لا يحسن التكليف المنجّز بالاجتناب عن الطعام أو الثوب الذي ليس من شأن المكلّف الابتلاء به.

نعم ، يحسن الأمر بالاجتناب عنه مقيّدا بقوله : إذا اتفق لك الابتلاء بذلك بعارية أو بملك ، أو اباحة فاجتنب عنه.

والحاصل : أنّ النواهي المطلوب فيها حمل المكلّف على الترك ، مختصّة بحكم العقل والعرف ـ بمن يعدّ مبتلى بالواقعة المنهيّ عنها.

______________________________________________________

فيها المكلّف غير متمكن منه عرفا ، لخروجه عن محل ابتلائه.

(ولهذا لا يحسن التكليف المنجّز بالاجتناب عن الطعام أو الثّوب الذي ليس من شأن المكلّف الابتلاء به) عقلا أو عرفا فلا يقال : اجتنب عن انائك او اناء الملك ، ولا عن انائك أو اناء جارك.

(نعم ، يحسن الأمر بالاجتناب عنه مقيّدا بقوله : إذا اتفق لك الابتلاء بذلك) الاناء (بعارية ، أو بملك ، أو اباحة) أو ما أشبه ذلك (فاجتنب عنه) لكنّه ما دام بعض أطراف الشبهة خارجا عن محل الابتلاء ، امّا لعدم التمكن منه عقلا وأمّا لعدم التمكن منه عرفا ، فلا يحسن الأمر بالاجتناب عنه ، فيخل العلم الاجمالي إلى ما لم يتعلق به التكليف وهو الخارج ، والى شك بدوي في الذي عنده ، فيجري فيه البراءة.

(والحاصل : انّ النّواهي المطلوب فيها حمل المكلّف على الترك ، مختصّة) تلك النواهي (بحكم العقل والعرف ـ بمن يعدّ مبتلى بالواقعة المنهيّ عنها) وكذلك في باب الأوامر ، فاذا علم بوجوب إطعام عليه ، لكن لا يعلم هل متعلّق الاطعام زيد أو عمرو ، وهو قادر على اطعام كل منهما في غير موارد ، مثل : «قاعدة العدل التي توجب لتضيف» ، وجب عليه أن يطعم كليهما؟.

٣٥٧

ولذا يعدّ خطاب غيره بالترك مستهجنا الّا على وجه التقييد بصورة الابتلاء.

ولعلّ السرّ في ذلك : أنّ غير المبتلى تارك للمنهيّ عنه بنفس عدم ابتلائه ، فلا حاجة إلى نهيه ، فعند الاشتباه لا يعلم المكلّف بتنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي.

______________________________________________________

أمّا إذا لم يتمكن عقلا أو عرفا من اطعام كليهما ، لأن عمرا ـ مثلا ـ كان خارجا عن متناول يده ، فانّه لا يجب عليه اطعام زيد أيضا ، لأنّه من الشك في التكليف ، لا الشك في المكلّف به.

(ولذا) أي : لأجل ما ذكرناه : من ان ما نحن فيه من الشك في التكليف ، لا من الشك في المكلّف به (يعدّ خطاب غيره) أي : غير المبتلى (بالترك مستهجنا) لا يصدر من العقلاء (الّا على وجه التقييد بصورة الابتلاء) كما تقدّم بأن يقول : ان ابتليت بإناء الملك فاجتنب عنه ، أو ان ابتليت بإناء جارك فاجتنب عنه ، وهكذا.

وعليه : فلو علم اجمالا ، بكون هند أو دعد اخته من الرضاعة ، وكانت دعد خارجة عن محل ابتلائه لانّها متزوجة ، جاز له أن يتزوّج بهند لأنّه لا يعلم بتوجه تكليف بالتحريم إليه ، بينما إذا كانتا معا خليّتين وأمكن التزويج من كل واحدة منهما حرم التزويج بكل منهما ، لأنّه من الشك في المكلّف به للعلم بتوجه الخطاب إليه بالاجتناب.

(ولعلّ السرّ في ذلك) الاستهجان (: انّ غير المبتلى تارك للمنهيّ عنه بنفس عدم ابتلائه ، فلا حاجة إلى نهيه ، فعند الاشتباه) بأن لم يعلم المكلّف انّ القطرة وقعت في انائه او اناء الملك ـ مثلا ـ (لا يعلم المكلّف بتنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي) اذ كانت القطرة وقعت في إناء الملك لم يتوجه التكليف إليه اصلا.

٣٥٨

وهذا باب واسع ينحلّ به الاشكال عمّا علم من عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة في مواقع مثل : ما إذا علم اجمالا بوقوع النجاسة في إنائه أو في موضع من الأرض التي لا يبتلى به المكلّف عادة أو بوقوع النجاسة في ثوبه أو ثوب الغير ، فانّ الثوبين لكل منهما من باب الشبهة المحصورة مع عدم وجوب اجتنابهما ،

______________________________________________________

وعليه : فانّه حيث لم يعلم بتوجه التكليف إليه ، كان الأصل البراءة بالنسبة الى انائه.

وهكذا في كل أمرين كان أحدهما خارجا عن محل الابتلاء من المرأتين أو المتاعين أحدهما مغصوب ، أو ما أشبه ذلك.

(وهذا) الذي ذكرناه : من ان شرط التكليف في مورد الاشتباه عدم الخروج عن محل الابتلاء (باب واسع ينحلّ به الاشكال عمّا علم : من عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة في مواقع) كثيرة ، فانهم ذكروا عدم وجوب الاجتناب فيها ، لكنّهم اختلفوا في وجه عدم اجتنابها مع أن العلم الاجمالي موجود فيها ، والجواب الصحيح هو : ما ذكرناه ، لا ما ذكره جماعة من وجود الأدلة الخاصة في أمثال هذه المقامات.

(مثل : ما إذا علم اجمالا بوقوع النجاسة في إنائه أو في موضع من الأرض التي لا يبتلى به المكلّف عادة) لا في صلاته من جهة سجدته ، ولا محل تيممه ، ولا باستعماله برطوبة ، ولا بالمشي عليه لأجل تطهير قدميه ، أو ما أشبه ذلك.

(أو) مثل ما إذا علم إجمالا (بوقوع النجاسة في ثوبه أو ثوب الغير ، فانّ الثوبين لكل منهما) أي : من الشخصين (من باب الشبهة المحصورة) وليست من الشبهة غير المحصورة (مع عدم وجوب اجتنابهما) للشخصين.

٣٥٩

فاذا أجرى أحدهما في ثوبه أصالة الحلّ والطّهارة لم يعارض بجريانهما في ثوب غيره ، اذ لا يترتب على هذا المعارض ثمرة عمليّة للمكلّف يلزم من ترتبها مع العمل بذلك الأصل طرح تكليف متنجّز بالأمر المعلوم اجمالا.

______________________________________________________

وعليه : (فاذا أجرى أحدهما في ثوبه أصالة الحلّ والطّهارة ، لم يعارض بجريانهما) أي : بجريان أصالة الحل والطهارة ، (في ثوب غيره) ولذا يجوز لكل منهما أن يرتّب أثر الطهارة والحلية في محتمل النجاسة والغصبية بالنسبة إلى ثوبه (اذ لا يترتب على هذا المعارض ثمرة عمليّة للمكلّف يلزم من ترتبها) أي : ترتب تلك الثمرة العملية (مع العمل بذلك الأصل) أي : أصل الحل وأصل الطهارة (طرح تكليف متنجّز) على المكلّف يتعلق (بالأمر المعلوم اجمالا).

وعليه : فانه وان كان هنا علم اجمالي بالنجاسة ، لكنّه غير منجز للتكليف على أحد منهما ، فيجري أصل الحل والطهارة في كل من الثوبين المشتبهين بلا معارض ، وذلك لوضوح : انّ الأصلين الجاريين في المشتبهين انّما يتعارضان إذا كان لكل منهما أثر ، بحيث إذا أجراهما المكلّف ترتب على اجرائهما طرح تكليف منجّز ، والمقام ليس كذلك ، فانّه لا يترتب من اجرائهما طرح تكليف منجز لما عرفت : من عدم تنجز التكليف هنا.

نعم ، إذا كان كلاهما محل ابتلاء شخص واحد فجريان الأصلين يترتب عليهما طرح تكليف منجز ، فيتساقطان ويكون المرجع هو العلم الاجمالي الذي بسبب الاحتياط.

وهكذا بالنسبة إلى الشبهة الوجوبية ، كما إذا علم المكلّف بوجوب الظهر أو الجمعة عليه ، وجب الاحتياط باتيانهما ، امّا إذا علم بفوات صلاة منه أو من صديقه فلا يجب القضاء على أحد منهما لجريان البراءة بالنسبة إلى كل منهما ،

٣٦٠