تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي

تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

المؤلف:

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-21-8
الصفحات: ٦٣٢

العظم والصغر وقوّة الاحتمال والضعف ، فالأوجه مع وجود الدليل تقديم ، سواء كان احتمال الأمر أو احتمال النهي ، وإلّا فالتخيير. (١)

وثانيا على الاعتماد إلى أخبار من بلغ ، فقد يمنع الجريان والإطلاق ـ كما عرفت ـ يمنعه.

نعم ، ربّما يشكل بأنّ اللازم حينئذ استحباب الفعل بتلك الأخبار ، وكراهة الترك بملاحظة حسن الاحتياط شرعا فيما يحتمل حرمته ، ولازمه اجتماع الضدّين ؛ فإنّ مقتضى استحباب الفعل شرعا مرجوحيّة الترك شرعا ، ومقتضى استحباب الترك رجحانه شرعا ، ومرجوحيّة الفعل كذلك ، وهو باطل.

وإذا لم يجتمع الحكمان فالثابت أحدهما ، ولا ترجيح لإبقاء الفعل في أخبار من بلغ على إبقاء الترك في أخبار الاحتياط.

وربّما يدّعى عدم تنافي ثبوت الحكمين ، وتحكيم كلّ من الدليلين ، وتوجيهه أنّ أخبار من بلغ تثبت استحباب الفعل بما هو فعل اخبر بثواب له ، ولازم ذلك رجحانه على نفس تركه ، ومرجوحيّة الترك بما هو ترك ، وأمّا الترك فلا يستحبّ بما هو ترك ، بل المستحبّ إنّما هو الترك للتجنّب عن الحرام الواقعي ، والترك المقيّد يكون مستحبّا ، ولازمه مرجوحيّة الفعل للوقوع في الحرام الواقعي ، ومرجوحيّته لا إشكال فيه.

والحاصل أنّ المرجوح من الترك شيء ، والراجح منه شيء آخر ، فالمرجوح هو نفس ترك الفعل وماهيّته ، والراجح الترك للخلوص عن الحرام الواقعي ، وهذا الترك المقيّد يغاير مطلق الترك ، فيختلف حكمهما ، ولا يمكن للمكلّف أخذ أحدهما.

__________________

(١) عن الشيخ الأنصاري رحمه‌الله : « لو فرض حكم العقل بأنّ دفع مضرّة التحريم المحتملة أولى من جلب منفعة الاستحباب المقطوع به ، حكم الشارع بطلب محتمل التحريم واستحبابه ، فلا بدّ من تقييد الأخبار بما عدا صورة احتمال التحريم » . رسائل فقهيّة ، ص ١٥٦.

٦٠١

وأوضح من ذلك أنّ لنا في المقام دليلين اشتملا على حكمين لموضوعين لا يتنافيان ، فأخبار التسامح تدلّ فيما نحن فيه ـ على ما هو الفرض ـ على الاستحباب ورجحان الفعل ، وأدلّة حسن الاحتياط واستحبابه شرعا في موارد احتمال الحرمة الواقعيّة لحصول قوّة في ملكة ترك المعصية وزيادة التقى ، وحسن الإطاعة ونحو ذلك تقتضي ترك هذا الفعل المحتمل حرمته في الواقع والاحتياط ، ففي مطلوبيّة الترك قصد إلى التجنّب ؛ فإنّ مجرّد الترك وعدم إيجاد الفعل لا يكون احتياطا ، بل الاحتياط هو إتيان الشيء بداعي إصابة الواقع وترك المحرّم الواقعي ، ولازم رجحان الاحتياط مرجوحيّة ضدّه ، وهو غير نفس الفعل مطلقا.

هذا غاية ما علمنا من توجيه ما قرّره الاستاد ـ دام ظلّه العالي ـ فجعل الاحتياط عنوان المطلوب ، واعتبر فيه القصد إلى الخلوص من المحرّم الواقعي ، يكون الاحتياط عبارة عن الترك بهذا القصد.

ولكن لا أفهم ما قرّره ـ سلّمه الله ـ فإنّ الظاهر من كثير من أخبار الاحتياط ـ مثل قوله : « قف عند الشبهة ؛ إنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » (١) وأضرابه ـ أنّ المطلوب من المكلّف في موارد الشبهة نفس الترك المستند إليه ، فالمأمور به نفس ماهيّة الترك الصادر عن المكلّف ، ويوضحه قوله : « خير من الاقتحام في الهلكات » ؛ فإنّ الظاهر منه أنّ نفس ارتكاب الشبهة ـ من غير احتياج إلى أمر آخر ـ اقتحام في الهلكة ، وتفسير الاقتحام قد بيّنّاه في مسألة البراءة مفصّلا.

مجمل القول فيه إرادة الإشراف على الهلكة ، (٢) ولا شكّ أنّ نفس ارتكاب الشبهة يكون اقتحاما بذلك المعنى.

__________________

(١) راجع : الكافي ، ج ١ ، ص ٥٠ ، ح ٩ ؛ التهذيب ، ج ٧ ، ص ٤٧٤ ، ح ١١٢ ؛ الزهد ، ص ١٩ ، ح ٤١ ؛ المحاسن ، ج ١ ، ص ٢١٥ ، ح ١٠٢.

(٢) وانظر للمزيد : العين ، ج ٣ ، ص ٥٤ ؛ لسان العرب ، ج ١٢ ، ص ٤٦٢ ( قحم ) .

٦٠٢

فإن قلت : إنّ فعل الشيء بعد معرفة أنّ حكمه الواقعي مشتبه وغير معلوم يكون اقتحاما ، وهو فعل مقيّد بالعلم بالاشتباه ، فالمرتكب ألقى نفسه في الهلكة ، ويحصل بذلك ما هو ضدّ القيد في جانب الترك المعتبر في صدق الاحتياط ، فارتكاب الشبهة بعد العلم بالاشتباه والالتفات إليه يكون إتيانا للفعل للوقوع في الحرام الواقعي.

قلت : فساد ذلك في كمال الوضوح والإفصاح عنه بأنّ الشبهة هو المحتمل للحرمة وغيرها ، ولا يصدق الاحتياط على تركها بعد معرفة الشبهة مطلقا ولو كان مثل تركه سائر المباحات ، بل المعتبر فيه كون الترك للفرار عن الحرام الواقعي ، فليس مجرّد الترك بعد معرفة الشبهة احتياطا ، بل يحتاج تحقّقه إلى معونة اخرى ، وهو القصد إلى الفرار عن المحرّم الواقعي ، ومجرّد العلم بالاشتباه لا يكفي في تحقّقه كما لا يخفى ، فكذا في جانب الفعل لا يكون إتيانه بعد العلم بالشبهة إتيانا برجاء الوقوع في الحرام الواقعي ، بل هو موقوف على أمر آخر كما لا يخفى.

والحاصل أنّ الظاهر من مثل الرواية أنّ أمر المكلّف في موارد اشتباه الحكم مردّد بين الوقوف والاحتياط المطلوب للخبر والاقتحام في الهلكة ولا ثالث ؛ فإنّ أخبار الترك سلك سبيل السلامة ، وإلّا اقتحم ، وهذا لا يتمّ إلّا مع كون الفعل بعد معرفة الاشتباه مرجوحا بما هو فعل مشتبه الحكم من غير ملاحظة أمر آخر ، وهو إرادة الوقوع في الحرام الواقعي بذلك الفعل وعدمه ، وإلّا لم يصحّ جعل غير الاحتياط مطلقا اقتحاما في الهلكة ، أو خصوص ما اوتي للقصد إلى الوقوع في الحرام الواقعي هو المفضّل عليه كما لا يخفى.

مضافا إلى أنّ إتيان المشتبه بما هو اقتحام واقعا لا يفرق فيه في الوقوع في الحرام الواقعي بين قصد المكلّف للوقوع في الحرام الواقعي وعدمه ، فكما أنّ المرجوح لم يقيّد بما ذكره فكذا الراجح.

مضافا إلى ما عرفت من الحاجة إلى مئونة زائدة على ترك الشبهة وارتكابه

٦٠٣

في تحقّق ما ذكره ، مع أنّ الروايات عنوانها الوقوف عند الشبهة وتركها وما يقرب من ذلك.

فإن قلت : قد عنون بالاحتياط في قوله : « احتط لدينك » (١) وأضرابه ، وهو يرشد إلى اعتبار أمر آخر غير نفس الترك فيما هو المطلوب من المكلّف في موارد اشتباه الحكم ، فلا ينفعك ما ذكرته من العناوين وما استدللت عليه من الوجه.

قلت : المراد بالاحتياط فيما ذكر هو نفس الترك ، لا أنّه أمر يتحقّق بالترك وأمر زائد ، ويرشدك إلى ما ذكرت ـ وإن كان المصطلح من الاحتياط غيره ـ أنّ العلماء في تلك الموارد يأمرون المكلّف بترك الفعل ، ويقولون : لا تشربنّ الشيء الفلاني ، ويتركه هو ، ويحكم بامتثاله ، ويستحقّ الثواب في صورة المصادفة جزما ، مضافا إلى أنّ المصلحة الكلّيّة أوّلا في المناهي إنّما هو في أصل عدم فعلها ، أو أنّ المفسدة في نفس فعلها ، فالمطلوب في الحقيقة ليس إلّا نفس ترك المشتبه ، وفيه المصلحة حتّى المصلحة الداعية إلى التكليف الاستحبابي بالترك ، كما لا يخفى على من تدبّر.

والحاصل أنّ المراد من الاحتياط أيضا نفس ترك المشتبه إلى المكلّف ، ولم يلاحظ فيه أمر زائد عليه ، ويرشد إليه أيضا ذكره بعد الأمر بالترك أو العكس أيضا.

وإطلاق الاحتياط على هذا المعنى في الروايات كثير جدّا : « خذ الحائطة لدينك » (٢) ، « أحرى لك أن تحتاط ، إنّا نحتاط » ، (٣) وقوله : « لا يسعكم إلّا الكفّ والاحتياط » (٤) ، إلى غير ذلك ، فلاحظ.

وملخّص المطلب أنّ الثابت رجحانه بأخبار الاحتياط الدالّة على استحبابه هو

__________________

(١) راجع : الأمالي للطوسي ، ص ١١٠ ، ح ١٦٨ ؛ وسائل الشيعة ، ج ٢٧ ، ص ١٦٧ ، ٣٣٥٠٩.

(٢) راجع : تهذيب الأحكام ، ج ٢ ، ص ٢٥٩ ، ح ١٠٣١ ؛ الاستبصار ، ج ١ ، ص ٢٦٤ ، ح ٩٥٢ ؛ عوالي اللآلي ، ج ١ ، ص ٣٩٥ ح ٤٢ ؛ بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٢٥٩ ؛ ح ٩.

(٣) راجع : جامع أحاديث الشيعة للسيّد البروجردي ، ج ١ ، ص ٣٣٨.

(٤) راجع : الكافي ، ج ١ ، ص ٥٠ ، ح ١٠ ؛ المحاسن ، ج ١ ، ص ٢١٦ ، ح ١٠٤ ؛ وسائل الشيعة ، ج ٢٧ ، ص ٢٥ ، ح ٣٣١١٣.

٦٠٤

مجرّد ترك المشتبه ، لا مجرّد عدم الفعل ، بل ترك المشتبه إلى المكلّف الذي يعدّ من أفعاله الاختياريّة ، ولم يقيّد بشيء ، فلازمه مرجوحيّة الفعل بما هو فعل ، ومقتضى أخبار التسامح رجحان الفعل ومرجوحيّة الترك ، فلا يجتمعان ، ولا أقلّ من دلالة أخبار الاحتياط على مرجوحيّة ما لا يكون احتياطا في مورد الاشتباه بضرورة مطلوبيّة الاحتياط ، ولازمه أيضا مرجوحيّة الفعل بما [ هو ] فعل ، فلا يجامع استحبابه ورجحانه كما لا يخفى ، وسوى ذلك واضح إن شاء الله.

وإذا عرفت ذلك ، فهل يقدّم أخبار التسامح أو أخبار الاحتياط ؟ والذي يظهر لي الآن تقدّم أخبار التسامح على الاحتياط ، والوجه فيه أنّها حاكمة بثبوت الثواب على الفعل ، فهو كالحاكم بأن لا مفسدة فيه ، وأخبار الاحتياط لا تثبت المفسدة في نفس الفعل.

والحاصل أنّ النهي عن شيء وطلب تركه إنّما هو بواسطة مفسدة فيه ؛ فإنّ الترك بما هو ترك لا يكون ذا مصلحة حتّى يطلب له ، بل الداعي إلى طلبه المفسدة في الفعل في الحقيقة ، ولا يظهر من أخبار الاحتياط ثبوت مفسدة الحرام في ذلك العمل ، ولا مفسدة المكروه المطلوب تركه استحبابا ، بل مفسدة الفعل والمصلحة الداعية إلى طلب الترك استحبابا أمر ثابت في موضوع تلك الأخبار ، وهو عنوان المشتبه ، فلا جزم من الأخبار بالمفسدة في الفعل ، وقد حصل الجزم بالثواب من أخبار التسامح من الحكم المستفاد منها ، لا من موضوعها ، والحكم بالثواب مانع عن وجود المفسدة في الموضوع.

وبتقرير آخر : أنّ أخبار الاحتياط لوحظ في موردها وجود المفسدة الموجبة لمرجوحيّة الفعل ، حتّى يطلب تركه ، وهو ـ كما عرفت ـ بعد احتمال وجود مفسدة الحرام.

وبعبارة اخرى : من أجل احتمال وجود مفسدة الحرام في ذلك العمل يتحقّق

٦٠٥

عنوان المشتبه ، ويتحقّق المفسدة الموجبة لطلب الترك استحبابا على سبيل الجزم ، وإذا شمل أخبار التسامح لذلك العمل ، وحكم بأنّ الشارع يثيب عليه يحصل الأمن من مفسدة الحرام المحتملة ، لعدم تداخل وجودها فيما يثيب عليه الشارع ، وبواسطة اندفاع احتمال المفسدة بذلك الوجه كأنّه يرتفع الشبهة ، ولا يدخل العمل فيما يطلب تركه استحبابا بواسطة وجود مفسدة في الفعل يقينا أوجب مرجوحيّته ، فكان الحكم بالثواب يوجب الخروج عن موضوع الاحتياط بلا تعرّض فيها لأخبار التسامح بوجه من الوجوه ، فلاحظ ذلك جيّدا.

الثاني : الظاهر أنّه لا يشترط في تحقّق موضوع أخبار التسامح حصول الظنّ بالواقع من الخبر المبلّغ للإطلاق المحكّم والصدق العرفي ، وأمّا مع حصول الظنّ بالخلاف ، وإن كان الظاهر في بادي النظر شمول الإطلاق ، ولكن فيه عرفا لا يخلو عن وجه ، بل ويرشد إليه قوله : « فعمله التماس ذلك الثواب » ، وقوله : « طلبا لقول رسول الله » وأمثالهما ؛ فإنّ إمكان الالتماس والطلب مع مرجوحيّة الثبوت وموهوميّته لا يخلو عن إشكال ، فالبلوغ وإن كان صادقا إلّا أنّ الظاهر اعتبار إمكان العمل بذلك الوجه في موضوع أخبار التسامح ، وهو غير متحقّق في صورة وجود الظنّ بالخلاف كما لا يخفى.

الثالث : حكي عن صريح بعض وظاهر جماعة أنّ التسامح ثابت في المكروه أيضا ، بأنّ ما بلغ قد يكون عنوان الثواب ، أو الوجوب والاستحباب الملازمين له ، وقد يكون مرجوحيّة الفعل مثلا فهل يحكم برجحان الترك وإن لم يكن الخبر من الأدلّة المعتبرة في الشريعة ، أم لا ؟

وجه المنع ملاحظة الظهورات البدويّة ، وأمّا العموم فيتمسّك له بعدم القول بالفصل ، وما يستظهر من كلماتهم ، وبتنقيح المناط ؛ للاطمئنان بأنّ وجه إعطاء الثواب الموعود في صورة بلوغ الثواب على الفعل إنّما هو صدور الفعل من العبد للمولى ، وكونه في خدمته ومتحرّكا له ، وهذا الوجه بعينه موجود فيما ترك أمرا مرجوحا لأجله وإن لم يطابق الواقع في المقامين.

٦٠٦

وهذا لا يخلو عن تأمّل ؛ فإنّ الثابت من الأخبار أنّ الله ـ جلّ جلاله ـ من تفضّله وعد العالمين ثواب ما بلغه ، وإن لم يكن كما بلغه ، وهذا المعنى قابل للاختصاص بصورة دون اخرى ، وعمل دون آخر ، وفرض دون غيره ، وليس استحقاق ذلك الثواب الخاصّ ممّا يستقلّ به العقل حتّى تحكم به في التروك أيضا.

مضافا إلى عدم حصول القطع بالمناط ، واحتمال وجود الفارق ، ومثل قوله (١) بأنّ الواردة في مقام العمل بالأولويّة ونحوه ، ولكنّ الأقوى بعد ذلك عدم الحكم للأفعال والتروك.

ويدلّ عليه الإطلاق في روايات ، مثل ما في صحيحة هشام : « من بلغه شيء من الثواب » ، واريد بالثواب نفس العمل ، ولا شكّ في شموله لما نحن [ فيه ] خصوصا بعد ملاحظة ما عرفت سالفا من أنّ « بلغ كذا » يشمل ما يبلغ بالدلالة الالتزاميّة أيضا ، والبالغ وإن كان مرجوحيّة فعل شيء إلّا أنّ ذلك يستلزم رجحان تركه ، وكون تركه من الثواب بضرورة أنّ ترك كلّ مرجوح لله عليه ثواب لا يتوقّف على طلبه بطلب آخر شرعي كما لا يخفى.

وإذا شمل قوله : « شيء من الثواب » ـ بعد التقرير ـ للفعل والترك معا عمّ الحكم ، ولا يمنعه قوله : « فعمله » ، فإنّ المراد منه إيجاد ذلك الثواب في الخارج ، إن فعلا فبالفعل ، وإن تركا فبالترك ، ولا يختصّ بالأفعال الوجوديّة جزما ، فلاحظ.

الرابع : أنّ فتوى الفقيه هل يصدق [ عليها ] « بلغ الثواب » أم لا ؟

وتحريره أنّ الفقيه إذا قال : يستحبّ العمل الفلاني ، فهو وإن كان إخبارا عن رأيه ، إلّا أنّه حاك ذلك عن أنّه الدين ، فهو حاك للحكم المستلزم للثواب ، فوجود الفتوى من فقيه يوجب تحقّق موضوع أخبار التسامح.

نعم ، هذا إذا كان مدرك الفتوى غير معلوم ، أو معلوما ولكن احتمل صحّته وصحّة

__________________

(١) كذا.

٦٠٧

الاعتماد عليه ، وأمّا إذا علم المدرك وفساده ، فإخباره الالتزامي يكون معلوم الكذب ، لا يجوز الاعتماد عليه ، ولا يصدق عليه بلوغ ثواب كما لا يخفى. (١)

الخامس : إذا وجد استحباب عمل في طريق المخالفين ، فهل يحكم بمقتضى تلك الأخبار بثبوت الثواب عليه واستحبابه ؟

فالظاهر من جماعة ـ ومنهم : السيّد في الإقبال ، والكفعمي في الكتابين ـ (٢) جواز ذلك ، وما اطردا من إيراد المندوبات من طرقهم. (٣)

ولكنّ الظاهر من أخبار عديدة عدم الجواز ، وهي ما دلّت إلى مخالفتهم بالأمر بسؤالهم ، والأخذ بضدّه ، وترك ما يميل إليه ثقاتهم ، خصوصا المعلّلات بأنّ الرشاد في خلافهم ، وأنّهم كانوا يسألون عن عليّ عليه‌السلام ثمّ يفعلون من قبل أنفسهم ضدّه ، وإلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الناهية عن الاعتماد إليهم والمشاركة معهم ، وسلوك واد واحد بالتأكيدات الأكيدة البليغة. (٤)

ومنه يظهر ضعف ما يدّعى من تخصيص أدلّة النهي بموارد الأحكام التكليفيّة من الوجوب والتحريم ؛ فإنّ تلك العمومات المعلّلة غير قابلة للتخصيص كما لا يخفى.

وكذا القول بعدم وجود الداعي إلى قصد المندوبات ، مضافا إلى ما شوهد منهم.

ولكنّ المناص عن ذلك أنّ أدلّة النهي تدلّ على أن لا حقّ معهم ، ويجب تركهم من تلك الجهة ، وأخبار التسامح لا يتوقّف كلّها على إثبات الحقّيّة حتّى يقال بالتنافي ، بل المصرّح به فيها ثبوت الثواب ، وإن كان مخالفا للواقع ، فالنهي لعدم وجود الواقع

__________________

(١) انظر للمزيد حول هذه المسألة : مفاتيح الاصول ، ص ٣٥١ ؛ عوائد الأيّام ، ص ٧٩٦ ؛ رسائل فقهيّة للشيخ الأنصاري ، ص ١١٢.

(٢) أي المصباح والبلد الأمين.

(٣) واستظهره المحقّق النراقي رحمه‌الله في عوائد الأيّام ، ص ٧٩٤ اتّكالا على عمومات التسامح ، ثمّ قال : « ولا ينافيه الأخبار الناهية عن أخذ الأحكام من أخبار المخالفين ؛ لأنّ الظاهر منها النهي عن الاستناد إليها ، وذلك ليس كذلك ، بل استناد إلى روايات أصحابنا » . واستقواه أيضا الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في رسالته.

(٤) انظر على سبيل المثال : علل الشرائع ، ص ٥٣١ ، ح ١ ؛ وسائل الشيعة ، ج ٢٧ ، ص ١١٦ ، ح ٣٣٣٥٧.

٦٠٨

بأيديهم لا ينافي ذلك التجوّز.

وقد يقرّر بوجه آخر ، وهو أنّ الثابت من تلك الأدلّة عدم جواز الاتّكال إليهم ، ولا نتّكل في مصاديق أخبار التسامح في حكمها من الاستحباب إلى تلك الأخبار ، بل المعتمد ما ذكرناه ، فيقف كذبهم ويضرّهم ، فلاحظ.

السادس : ذكر بعضهم أنّ الفقيه إذا أحرز الحكم من أخبار التسامح ، لا يجوز له الإنشاء باستحباب فعل ورد به خبر ضعيف لمقلّده ، وحاصله أنّ الحكم في أخبار التسامح مختصّ بالفقيه ولا يتعدّاه ، ولكن لا بعنوان كونه فقيها. (١)

ويمكن أن يستدلّ له بأنّ الحكم المستفاد من تلك الأخبار ثابت لموضوع خاصّ لم يتحقّق بعد ، وهو من بلغه ثواب على العمل فيما إذا فرض المقلّد غير مطّلع على تلك الرواية ، فلا يكون الحكم له أيضا ، ولا يكون بيانه له بيانا للحكم الشرعي وفتوى للفقيه.

فإن قلت : إذا سمع المقلّد ذلك القول يصدق أنّه بلغه ثواب حسب ما قرّر سابقا من كون الفتوى مستلزما للإخبار عن ثبوت الثواب في الواقع ، فيثبت الحكم.

قلت : الكلام في كون قوله : « الفتوى الفلاني مستحبّ » بيان حكمه ، وعلى المفروض إنّما يثبت له استحباب في الواقع بعد ما سمع الفتوى والخبر الالتزامي يتحقّق المناط في الاستحباب ، لا أنّه يكون المبيّن في كلام الفقيه نفس حكمه ، وله حينئذ ملاحظة المعارض من الخبر والفتوى ونحوهما ، وهذا كما ترى يخرج عن الفتوى والعمل به وأخذه كما لا يخفى.

وإنّما الكلام في جواز بيان الفقيه ذلك ، وعمل المقلّد بما بيّنه من غير انتظار شيء ، فإنّ هذا هو المسمّى بالفتوى والعمل بها.

وملخّص القول أن لا يصحّ الحكم على موضوع غير محقّق بعد ، كما في ما نحن فيه

__________________

(١) انظر : مفاتيح الاصول ، ص ٣٥١ ؛ عوائد الأيّام ، ص ٧٩٥.

٦٠٩

على ما عرفت.

وبتقرير آخر : أنّ الحكم مختصّ بخصوص من بلغه ثواب على عمل ، والمقلّد المفروض غير داخل في ذلك الصنف ، كما لا يخفى.

والجواب : أنّ أخذ العنوان : « من بلغه ثواب على عمل » ليس لمدخليّة البلوغ في ثبوت الثواب المتفضّل به على الفعل المأتيّ به برجائه ، وإن لم يصادف الواقع ، بل الأخذ إنّما هو من أجل أنّ من يبلغه ذلك لا يتمكّن من إتيان الفعل باشتراط البلوغ ، نظير اشتراط العلم فيما لا يختصّ بالعالم ، ولأنّ مفاد تلك الروايات استحباب تلك الأفعال المذكورة في تلك الموارد ، وثبوت الثواب عليها فضلا من الله الكريم إذا اوتي بها للفوز بالثواب ، وهذا لا يقتضي اختصاص الاستحباب بغير المقلّد الجاهل الذي لم يبلغه في تلك الأفعال رواية ولا فتوى بالاستحباب.

والحاصل أنّ البلوغ لم يؤخذ في الموضوع من أجل مدخليّته في ثبوت الثواب الموعود تفضّلا ، بل من أجل أنّ الإتيان بتلك الأفعال لله ورجاء درك الثواب واقعا المعتبر في تحقّق ذلك الثواب ، [ وهو ] لا يتحقّق إلّا بعد البلوغ ، وهذا غير القيود الملاحظة لمدخليّة الحكم ولاختصاص الحكم كما لا يخفى.

فالثواب إمّا هو على إيجاد تلك الأفعال الخاصّة طلبا لقول رسول الله [ صلى‌الله‌عليه‌وآله ] ، أو الثواب ونحوه ، ويرشد إليه انضمام الترغيب إلى إتيان تلك الأفعال من تلك الأخبار ، ويوضّحه ما ذكرناه من كون المستفاد من أخبار التسامح حكما فرعيّا ، وهو استحباب تلك الأفعال الخاصّة ، المشترك في من عرفه ومن لم يعرفه ، وأخذ البلوغ في الموضوع في الرواية لا يدلّ على اختصاص الحكم الشرعي المستفاد منه من وعد الثواب بشخص ، ولعلّ ذلك واضح.

ويجاب أيضا بأنّ الفقيه نائب عن العامي ، فأيّ موضوع دخل فيه الفقيه من الشاكّ وغيره يجري حكمه على المقلّد أيضا ، فهو يحرز تحقّق موضوع الحكم الفلاني ، ثمّ

٦١٠

يعلّمه الحكم وإن لم يعلّمه الموضوع كما في موارد الاصول العمليّة. والحاصل أنّ البلوغ إلى الفقيه غير أنّه البلوغ إلى العامي ، ولكن أصل نيابة الفقيه عن العامي لا يخلو عندي عن إشكال.

والوجه في ذلك أنّ الأدلّة والأمارات معتبرة من قبل الشارع ، وهي تشمل على الأحكام ، ولم يؤخذ في ذلك الفقاهة والعلم وإن كان لا يتمكّن من الاستفادة منها غير الفقيه ، وإذا تفقّه العالم أوجب الشارع بمقتضى قوله : « وأمّا الحوادث الواقعة » (١) إلخ ، وللعوامّ أن يقلّدوه ، ونحوه على العامي الرجوع إلى الفقيه ، وأخذ الحكم منه ، ولازمه وجوب ترتيب آثار الواقع على ما فهمه ، واشتراك ذلك الحكم فيها.

ويتّضح الجواب : أنّ البلوغ والعمل اعتبرا في متن الروايات والحكم المذكور فيها صريحا ، ولكنّ المستفاد من نسبة ذلك الحكم فيها إلى الموضوع المذكور فيها استحباب أفعال من عناوينها المعرّفيّة بلوغ ثواب فيها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا العنوان المعرّف على سبيل الإجمال لا يكون معتبرا في الموضوع ، بأن يوجب اختصاص الحكم بأن يكون استحباب تلك الأفعال لمن بلغه الثواب عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل الحكم على عمومه وعلى حدّ سائر الأحكام يشمله أدلّة العموم من مثل « حكم الله على الأوّلين والآخرين سواء » ونحوه.

والحاصل أنّ بلوغ الثواب من عناوين فعل حكم باستحبابه لا من عناوين من حكم بالاستحباب له ، ولو سلّم كونه من عناوين المكلّف ، فنقول كما سبق : لا مدخليّة له في الثواب ، وإنّما الثواب على الفعل الصادر من المكلّف ، فيعمّ الكلّ ، ويثبت الاستحباب بالاستلزام ، ولو سلّم كونه عنوان المعلوم مدخليّته فإمّا أن يدّعى بنيابة الفقيه وكون بلوغه بحكم البلوغ إلى العامي.

السابع : إذا ورد خبر ضعيف على الاستحباب وثبوت الثواب ، وورد خبر آخر مثله

__________________

(١) كمال الدين ، ص ٤٨٥ ، ح ٤ ؛ الغيبة للطوسي ، ص ١٧٦ ؛ الاحتجاج ، ص ٤٦٩.

٦١١

على نفي الثواب والاستحباب ، فالظاهر أن لا إشكال في إعمال أخبار التسامح ؛ لصدق بلوغ الثواب ، وعدم اعتبار المنافي ، وعدم قيام دليل على الأخذ بمضمونه أو لازمه تعبّدا ، وسوى ذلك واضح إن شاء الله. (١)

الثامن : أنّ المرويّ عن الكليني والإقبال يشمل الأخبار الواردة في نفس الموضوعات التي تكون للاستحباب أحيانا ، أعني ما يكون مضمون الخبر ومفاده وما اشتمل عليه من الأمر نفس ما يكون موضوع الاستحباب في وجه ، أو من متعلّقات ذلك الموضوع ، وذلك مثل ما ورد عن الضعاف في المواعظ والآداب والفضائل ونحو ذلك ممّا قد يستحبّ ، والظاهر هو التسامح فيه أيضا بمعنى ترتيب أثر الواقع من كلّ باب على الخبر الوارد في ذلك الباب من جواز النقل والسماع والاستماع والحفظ والكتب والنظر إلى غير ذلك واستحبابه ، ويعلم الحال في ذلك بالقياس على الصحاح ؛ فإنّ النقل على طريق الرواية فيها ممّا لا إشكال فيه ، ونقل المضمون في كلّ منها لا يخلو عمّا فيه رواية في إسقاط الواسطة ، ولكن مع العلم بوجود الواسطة ، واستناد الراوي إلى الخبر ، وحكايته له بناء على واقعيّة مضمون الخبر ممّا لا يبقى الإشكال فيه أيضا. (٢)

وهذان الأمران لا فرق فيهما بين الخبر المعتبر وغيره ؛ فإنّ اعتبار الخبر لم يوجب انكشاف الواقع حتما ، ولا يجوز الإخبار عنه بما هو إلّا مع العلم ، فلا بدّ من الإرشاد والنسبة إلى الرواية إلّا مع العلم بالاستناد إليها ، والإخبار على أشياء على واقعيّتها

__________________

(١) قال الشيخ الأنصاري رحمه‌الله : « لو ورد رواية ضعيفة بالاستحباب واخرى بعدمه ، فلا إشكال في التسامح ؛ لأنّ الخبر الضعيف ليس حجّة في عدم الاستحباب ، فوجوده كعدمه » ، ثمّ قال : « ومنه يعلم أنّه لو كان الدالّ على عدم الاستحباب أخصّ مطلقا من الدالّ على الاستحباب ، فلا يحمل هنا المطلق على المقيّد ، ولا العامّ على الخاصّ ؛ لأنّ دلالة الخبر الضعيف على عدم الاستحباب مطلقا أو في بعض الأفراد كالعدم » . رسائل فقهيّة ، ص ١٦٦.

(٢) راجع في المسألة : الرعاية في علم الدراية ، ص ٩٤ ؛ عوائد الأيّام ، ص ٧٩١ ؛ مفاتيح الاصول ، ص ٣٥٠.

٦١٢

ونقل الخبر المعلوم كذبه مضمونه كذب ، وبرواية ممّا قد يشكل فيه من باب لازم الإخبار بشيء من الظهور في اعتقاد الثواب ونحوه والإغراء ، وفيه ما لا يخفى ؛ فإنّ النقل بما هو نقل لا يكشف عن ذلك إلّا في مقام الاستناد والإشهاد ونحوه ، والإغراء لم يقم دليل على حرمته ، فقولك : « قال فلان كذا » وأنت ترى مخالفة ما أخبر به للواقع لا يكون كذبا ولا حراما إلّا أن يظهر اعتقاد الصحّة ، فهو يكون إخبارا حينئذ بالواقع ، ويتحقّق الكذب ، فلاحظ. (١)

التاسع : قد اشتهر بين الأصحاب حمل الخبر الضعيف الدالّ على الوجوب على الاستحباب ، والدالّ على الحرمة على الكراهة ، ولعلّ اعتمادهم في ذلك إلى أخبار التسامح ، فيكون الخبر بدلالته على الثواب في الجملة ـ إمّا على الفعل أو الترك ـ موضوع تلك الأخبار ، فيثبت استحباب ما بلغ فيه الثواب شرعا ، ولمّا كان استحباب الترك مطلوبا ، وثبوت رجحان فيه ملازما لمرجوحيّة الفعل ، ولكن من الامور المرجوحة في نفسها ، يثبت الكراهة فيما دلّ على الحرمة بعد التسامح بواسطة الملازمة بين استحباب ذلك الترك وكراهة الفعل.

العاشر : قد يتمسّك بعض المتأخّرين بأخبار التسامح في صورة دلالة الخبر على الحكم ، وفساده واضح ؛ لعدم بلوغ الثواب والخير ، وإنّما هو محتمل بمعنى أنّه يحتمل كون البالغ ثوابا وغير ثواب ، ولم يظهر من تلك الروايات حسن الإتيان بذلك المحتمل ، وأمّا الثابت مع الصراحة في الثوابيّة ، واحتمال كون البالغ مطابقا للواقع وعدمه ، ولا يتعدّاه ، ولعلّ ذلك واضح إن شاء الله.

الحادي عشر : لو دلّ الخبر الضعيف سندا على أفضليّة أحد المستحبّين المعلوم استحبابهما ، فهل يصحّ إثبات الأفضليّة استنادا إلى تلك الأخبار ؟

__________________

(١) في حاشية النسخة : « قد يتمسّك مع قطع النظر عمّا ذكرناه بعمومات الإبكاء والرثاء وذكر الفضائل وأشباه ذلك ، بأنّ مقتضى إطلاق استحباب ذلك جواز النقل في المشكوك. وفيه أنّ مورد ذلك الأمر المعلوم جوازها فإنّه القابل للاستحباب ونحوه ، بخلاف محتمل الحرمة ونحوه ، فلاحظ » .

٦١٣

الظاهر ذلك ؛ فإنّ ذلك المستحبّ بالنسبة إلى زيادة الثواب الموجبة لأفضليّته ممّا بلغ فيه الثواب وخير بلغ ، فيكون للعامل ذلك ، ولعلّ ذلك لا يخفى. (١)

الثاني عشر : لو كان مضمون الخبر الصريح في الدلالة الإخبار عن شيء يكون متعلّق بعض المستحبّات ، مثل تحديد مسجد الكوفة ـ مثلا ـ بالنسبة إلى فضل الصلاة فيه والكون فيه والكنس له ونحو ذلك ، فهل يصحّ التمسّك بأخبار التسامح بواسطة كون الخبر المزبور دالّا على فضل الصلاة في هذا الحدّ بالالتزام لما ثبت من الفضل للصلاة في ما هو جامع الكوفة واقعا ؟

الظاهر ذلك ؛ لما عرفت من شمول الأخبار للبلوغ الالتزامي ، وهذا منه إلّا أن يمنع الملازمة بديهيّ كون الفضل بما هو الحين مسجدا في زمان صدور الرواية في الفضل ، لا فيما بناه آدم ونوح ، وهو لا يخلو عمّا فيه كما لا يخفى.

ويعرف وضوح ذلك عمّا سبق في فتوى الفقيه ونحوها ، فلاحظ.

الثالث عشر : إذا تردّد المستحبّ المعلوم استحبابه بين الأمرين ، وعيّنه الخبر الضعيف ـ سواء كانا متباينين مثل تردّد المسح بالأصابع الثلاثة بين ما كان بطولها وبين ما كان بعرضها ـ أو دار الأمر بين الإطلاق والقيد ، فيكونان الارتباطيّين ، مثل تردّد النقل بين خصوص ما اشتمل على الاستقبال والأعمّ منه ، واتّحاد الجنس في الزيادة وعدمه.

وتنقيح البحث في ذلك أنّه إذا ثبت الاستحباب بدليل شرعي معتبر ، ثمّ تردّد الأمر في تعلّقه بين المتباينين أو الارتباطيّين ، فلا إشكال في الأخير في ثبوت استحباب القدر المتيقّن في الثاني وعدم خفاء فيه ، وأمّا في غيره والمتباينين فلا إشكال في خفاء المكلّف به ، والشبهة في تعلّق الحكم ، فهل يصحّ الإتيان بغير القدر الجامع في

__________________

(١) وجوّزه أيضا المحقّق الأعظم الشيخ الأنصاري رحمه‌الله ، ثمّ قال : « أمّا على قاعدة الاحتياط فواضح ؛ لأنّ طلب المزيّة المحتملة في أحدهما محبوب عقلا. وأمّا على الأخبار ؛ فلأنّ مرجع أفضليّة أحدهما إلى استحباب تقديم الفاضل على المفضول في الاختيار عند التعارض ، فيشمله الأخبار مضافا إلى عموم ما تقدّم عن الذكرى من أنّ أخبار الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم » . رسائل فقهيّة ، ص ١٧٢.

٦١٤

الارتباطيّين وأحد المتباينين احتياطا ؟

الظاهر ذلك ، وإن لم يكن هذا العمل احتياطا تامّا يوجب القطع بإحراز الواقع ؛ فإنّ ما يقضي بجنسه يحكم بجنس ما يوجب الامتثال الإجمالي أيضا ، وإن لم يكن بمرتبة التامّ ، فهو أيضا إطاعة حكميّة يكون فاعله أقرب ممّن ترك التعرّض لامتثال الأمر الواقعي على وجه الكلّيّة.

هذا مع قطع النظر عن أخبار التسامح ، وأمّا مع ملاحظتها فلا إشكال أنّ ورود الخبر الضعيف باستحباب غير القدر الجامع بلوغ الثواب فيه ، فيجري فيه ذلك ، وإن كان قد يكون لسان الدليل انحصار المستحبّ في المقيّد ، فإنّ ذلك لا يوجب القطع بعد استحباب غيره ليعلم كذب الخبر الضعيف.

وقد عرفت فيما سبق في فتوى الفقيه ونحوه صدق البلوغ مع بقاء احتمال الواقعيّة ، وأمّا في المتباينين فلا إشكال في صورة قيام الخبر الضعيف على تعيين أحد الأمرين في صدق البلوغ بالنسبة إلى استحباب ذلك العمل وثبوت فضل له ، وأمّا لو قام فيهما ، فربّما يقال : إنّ القطع باتّحاد المستحبّ يوجب ترك التمسّك بأخبار التسامح في كلّ منها ؛ للزوم الترجيح من غير مرجّح ، ولكنّ الحقّ جواز التمسّك فيهما أيضا ؛ لصدق بلوغ الثواب في كلّ منهما ، ولا قطع بانحصار الفضل في أحدهما خاصّة ، وإمكان ثبوته لهما ، ولكن لا يخفى أنّ جواز التمسّك بها إنّما هو بالنسبة إلى ثبوت استحباب كلّ واحد من العلمين ، دون تشخيص الماهيّتين ، بحيث لو تعلّق الوجوب بما هو مستحبّ واقعا ، فلا حصل الامتثال بأيّهما.

وكذا في صورة اتّحاد الخبر المعيّن ، والوجه في ذلك أنّ الثابت هو ثبوت الاستحباب وآثار المستحبّ ، وليس حصول الواجب وماهيّته بذلك العمل من آثار استحبابه ، وإنّما هو بملاحظة أمر آخر يعقل مخالفة تعلّقه لذلك ، وهذا هو الوجه في أنّ الأصحاب مع ذهابهم إلى التسامح في السنن لم يكتفوا بالضعيف في ثبوت

٦١٥

الماهيّات في واقعها ، بحيث يكون الآتي بمتعلّق الخبر الضعيف موجدا للماهيّات الشرعيّة ، ويدّعون أنّها ماهيّات مجهولة لا بدّ من معلوميّتها من قبل الشارع ولم يعلم. (١)

وهذا هو مقدار العمل بأخبار التسامح من أوّل الفروع إلى هنا ، فلا يثبت بالضعيف من الخبر بحيث لو تعلّق حكم آخر بتلك الماهيّة من غير تشخيص خصوص مفاد الخبر الضعيف لطلب الأفعال أصل الماهيّات بإيجادها ؛ لانحصار ما ثبت في ترتيب آثار استحباب ذلك الشيء ، وعدم ظهور فساد الأخذ بها مطلقا ، فلاحظ ذلك للفرق بين الموارد في أحكامها.

والحمد لله أوّلا وآخرا.

__________________

(١) انظر : رسائل فقهيّة للشيخ الأنصاري ، ص ١٦٧.

٦١٦

فهرس الموضوعات

تمهيد........................................................................................................ ٧

١. موازين الأحكام

( ١١ ـ ٤٢ )

مقدّمة التحقيق.......................................................... ١٣

المؤلّف وتقسيم مؤلّفاته............................................ ١٣

فهرسة مؤلّفاته الفقهية والاصولية.................................... ١٤

في رسالة موازين الأحكام............................................... ١٧

النسخ المعتمدة....................................................... ٢٠

موازين الأحكام......................................................... ٢٥

المقصد الأوّل : لا بدّ للمستدلّ من ملاحظة امور خمسة.................... ٢٥

المقصد الثاني : لا بدّ في ترتّب ثمرة الاستدلال من امور خمسة............... ٢٥

المقصد الثالث : أنّ المسائل على خمسة أقسام............................ ٢٦

المقصد الرابع : أنّ الدلائل على خمسة أقسام............................. ٢٦

المقصد الخامس : في كيفيّة الاستدلال................................... ٢٧

المرجّحات الاجتهاديّة :................................................ ٣٥

الأوّل : المرجّح السندي........................................... ٣٥

٦١٧

الثاني : المرجّح المتني............................................... ٣٥

الثالث : المرجّح بحسب الدلالة..................................... ٣٦

الرابع : المرجّح المدلولي............................................. ٣٧

الخامس : المرجّح الخارجي.......................................... ٣٨

٢. نخبة العقول في علم الاصول

( ٤٣ – ١٠٤ )

مقدّمة التحقيق ٤٥ المؤلّف............................................... ٤٥

آثاره وتأليفاته........................................................ ٤٨

حول نخبة العقول..................................................... ٥٣

نخبة العقول في علم الاصول.............................................. ٦٣

المقدّمة : فيها تنبيهات ولطائف......................................... ٦٣

التنبيه الأوّل : معظم مباحث الاصول دلالات الألفاظ................ ٦٤

التنبيه الثاني : في وقوع اختلاف عظيم في هذا العلم................... ٦٥

التنبيه الثالث : المباحث التي لا تليق بالتعرّض في علم الاصول.......... ٦٧

التنبيه الرابع : إشارة إلى بعض طرق التحصيل........................ ٦٨

الباب الأوّل : في الأوامر والنواهي........................................ ٨٠

دهليز فيه تميز........................................................ ٨٠

نخبة : صيغة « افعل » حقيقة في الإيجاب................................ ٨٠

محاكمة لمن له إدراك بين أهل الاختصاص والاشتراك................... ٨٠

نخبة : الأمر حقيقة في الفور............................................ ٨١

محاكمة لمن في قلبه السلامة بين الشيخ والعلّامة....................... ٨١

نخبة : الأمر حقيقة في المرّة............................................. ٨٢

٦١٨

محاكمة لذوى مرّة بين أهل الاشتراك والمرّة............................ ٨٢

نخبة : الأمر بالشيء يستلزم الأمر بما لا يتمّ إلّا به......................... ٨٢

محاكمة لأهل الفهم بين العقل والوهم................................ ٨٢

نخبة : الأمر بالشيء يتضمّن النهي عن تركه.............................. ٨٣

نخبة : صيغة « لا تفعل » حقيقة في التحريم.............................. ٨٤

محاكمة للعاقلين بين المجملين والمفصّلين.............................. ٨٤

محاكمة للمميّزين بين المانعين والمجوّزين................................ ٨٤

نخبة : تقييد الأمر والنهي بالشرط يحصّل لهما مفهوما مخالفا................. ٨٥

الباب الثاني : في أحوال الأوامر والنواهي................................... ٨٥

نخبة : الصيغ الثابت عمومها حقائق فيه................................. ٨٥

محاكمة لذى فهم جيّد بين الشيخ والسيّد............................ ٨٦

نخبة : مخصّص العامّ متّصل ومنفصل.................................... ٨٧

نخبة : في المطلق والمقيّد................................................ ٨٨

نخبة : في المجمل...................................................... ٨٩

نخبة : تأخر البيان عن وقت الحاجة ممنوع................................ ٨٩

نخبة : في النسخ...................................................... ٩٠

الباب الثالث : في الأخبار................................................ ٩٠

نخبة : في معنى الخبر والحديث و......................................... ٩٠

محاكمة للمتدبّرين بين القدماء والمتأخّرين............................. ٩١

غيبة تدفع بها ريبة................................................. ٩٢

نخبة : في تعريف خبر الصحيح والحسن و................................ ٩٢

نخبة : في كيفيّات الأخذ............................................... ٩٣

محاكمة للبصيرين بين الأصحاب وابن سيرين......................... ٩٣

نخبة : فعل الرسول حجّة كقوله......................................... ٩٤

٦١٩

نخبة : الدليلان لا يتقابلان إلّا ......................................... ٩٤

الباب الرابع : في الإجماع................................................. ٩٥

نخبة : في معنى الإجماع................................................. ٩٥

الباب الخامس : في دليل العقل. وهو الاستصحاب والتمثيل................. ٩٧

نخبة : في الاستصحاب................................................ ٩٧

محاكمة للمتعلّمين بين الفقهاء والمتكلّمين............................ ٩٨

نخبة : في التمثيل..................................................... ٩٨

محاكمة لاولي الألباب بين القول وعمل الأصحاب.................... ٩٩

خاتمة : في الاجتهاد والتقليد............................................ ١٠١

نخبة : في تعريف المجتهد.............................................. ١٠١

نخبة : في التصويب والتخطئة......................................... ١٠٢

نخبة : في الحكم والفتوى............................................. ١٠٢

نخبة : في عدم جواز التقليد لمن أمكنه الجهد............................ ١٠٣

٣. الفتوى

( ١٠٥ ـ ٣٢٠ )

مقدّمة التحقيق ....................................................... ١٠٧

المؤلّف............................................................. ١٠٧

أساتذته............................................................ ١٠٧

مؤلّفاته............................................................ ١٠٨

إطراء العلماء فيه.................................................... ١٠٩

وفاته.............................................................. ١١٠

حول الرسالة........................................................ ١١٠

منهج التحقيق...................................................... ١١١

٦٢٠