أبي المؤيّد بن أحمد المكّي أخطب خوارزم [ خوارزمي ]
المحقق: الشيخ محمّد السماوي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: أنوار الهدى
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6223-01-X
الصفحات: ٣١١
قال الإمام الحسين يوم عاشوراء :
«اللهم احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبرة ؛ فلا يدع فيهم أحدا».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على أشرف المخلوقين محمّد ، الذي كان نبيا وآدم بين الماء والطين ، وعلى عترته وذريته أجمعين. وبعد : فقد اتّفقت الرواة في «المسانيد» و «التواريخ» ، على أنّ مقتل الحسين عليهالسلام كان ـ يوم عاشوراء ـ العاشر من محرّم لسنة إحدى وستين من الهجرة ، وإن اختلفوا : أكان يوم الجمعة أم يوم السبت؟ فلنشر إلى فضل هذا اليوم وشرفه.
١ ـ أخبرنا الشيخ الإمام الحافظ ناصر السنة أبو القاسم منصور بن نوح الشهرستاني ـ بها وقت رجوعي من السفرة الحجازية ، أعادها الله تعالى ، غرّة شهر جمادي الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة هجرية ـ ، أخبرنا شيخ القضاة أبو عليّ إسماعيل بن أحمد البيهقي ، أخبرنا والدي شيخ السنة أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي ، أخبرنا السيد أبو الحسين محمد بن الحسين بن داود العلوي ـ قراءة عليه ـ ؛ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي ـ إملاء ـ ، قالا : أخبرنا أبو محمد حاجب بن أحمد الطوسي ، حدثنا عبد
الرّحمن بن منيب ، حدثنا حبيب بن محمد المروزي ، حدثني أبي ، عن إبراهيم بن الصانع ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «من صام يوم عاشوراء كتبت له عبادة ستين سنة بصيامها وقيامها ، ومن صام يوم عاشوراء كتب له أجر سبع سماوات ، ومن أفطر عنده مؤمنا في يوم عاشوراء فكأنما أفطر عنده جميع أمة محمدصلىاللهعليهوآله ، ومن أشبع جائعا في يوم عاشوراء رفعت له بكل شعرة في رأسه درجة في الجنة».
فقال عمر : يا رسول الله! لقد فضلنا الله عزوجل في يوم عاشوراء.
فقال : «نعم ، خلق الله السماوات في يوم عاشوراء ، وخلق الكرسي في يوم عاشوراء ، وخلق الجبال في يوم عاشوراء ، والنجوم كمثله ، وخلق القلم في يوم عاشوراء ، واللوح كمثله ، وخلق جبرئيل عليهالسلام في يوم عاشوراء ، وخلق الملائكة كمثله ، وخلق آدم في يوم عاشوراء ، وحواء كمثله ، وخلق الجنة يوم عاشوراء ، وأسكن آدم الجنّة في يوم عاشوراء ، وولد إبراهيم خليل الرحمن في يوم عاشوراء ، ونجاه الله من النار في يوم عاشوراء ، وفداه في يوم عاشوراء ، وأغرق فرعون في يوم عاشوراء ، ورفع إدريس في يوم عاشوراء ، وكشف الله الكرب عن أيوب في يوم عاشوراء ، ورفع عيسى بن مريم في يوم عاشوراء ، وولد في يوم عاشوراء ، وتاب الله على آدم في يوم عاشوراء ، وغفر ذنب داود في يوم عاشوراء ، وأعطى سليمان ملكه في يوم عاشوراء ، وولد النبي صلىاللهعليهوآله في يوم عاشوراء ، واستوى الرب على العرش في يوم عاشوراء ، وتقوم القيامة في يوم عاشوراء».
قال الشيخ القاضي أبو بكر : استوى من غير مماسة ولا حركة كما يليق بذاته.
وقال شيخ السنّة أبو بكر : هذا حديث منكر ، وإسناده ضعيف ، وفي
متنه ما لا يستقيم ، وهو ما روي فيه من خلق السماوات والأرضين والجبال كلّها في يوم عاشوراء ، والله يقول : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) يونس / ٣ ، ومن المحال أن تكون هذه الستّة كلّها يوم عاشوراء ، فدلّ ذلك على ضعف هذا الخبر ، والله أعلم.
٢ ـ وبهذا الإسناد ، عن أحمد بن الحسين هذا ، أخبرنا أبو محمد عبد الله ابن يحيى السكري ببغداد ، أخبرني إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثني أحمد بن منصور ، حدثني عبد الرزاق ، أخبرني ابن جريج ، عن عبد الله بن يزيد ، أنّه سمع ابن عباس يقول : ما رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآله يتحرى صيام يوم يلتمس فضله على غيره إلّا هذا اليوم : يوم عاشوراء ؛ وشهر رمضان.
٣ ـ قال : وفي «المشاهير» ، عن أبي قتادة ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «صيام يوم عاشوراء كفّارة سنة».
٤ ـ وبهذا الإسناد ، عن أحمد بن الحسين هذا ، أخبرنا أبو الحسين علي ابن محمد الأشعراني ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله ـ ببغداد ـ ، حدثنا جعفر بن محمد ، حدثني علي بن مهاجر البصري ، حدثني الهيصم بن الشداخ الوراق ، حدثني الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «من وسع على عياله في يوم عاشوراء ، وسع الله عليه في سائر سنته».
وبهذا الإسناد ، عن أبي سعيد الخدري مثله.
٥ ـ وأخبرنا الإمام سديد الدين محمد بن منصور بن علي المقري المعروف بالديواني ـ بمحلة «نصرآباد» بمدينة الري ـ ، أخبرنا الشيخ الإمام أبو الحسين بن أحمد بن الحسين المعروف بالخلادي الطبري ، أخبرني القاضي الإمام أبو النعمان عبد الملك بن محمد الهلافاني ، أخبرني أبو العباس أحمد
ابن محمد الناطقي ، أخبرني أحمد بن يونس ، حدثني أبو الحسين عليّ بن الحسن الجامعي ، حدثني محمد بن نوكرد القصراني ، حدثني منجاب بن الحرث ، أخبرني عليّ بن مسهر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : «يوم عاشوراء يوم تاب الله على آدم ، واستوت سفينة نوح على الجودي يوم عاشوراء ، وردّ الله الملك على سليمان يوم عاشوراء ، وفلق البحر لموسى يوم عاشوراء ، وغرق فرعون ومن معه يوم عاشوراء ، وردّ الله على يعقوب بصره يوم عاشوراء ، وبعث زكريا رسولا يوم عاشوراء ، وتاب الله على يونس يوم عاشوراء ، وأخرج يونس من بطن الحوت يوم عاشوراء ، ورفع الله إدريس مكانا عليا يوم عاشوراء ، وكشف ضرّ أيوب يوم عاشوراء ، واخرج يوسف من الجب يوم عاشوراء ، وكسا هارون قميص الحياء يوم عاشوراء ، وألهم يحيى الحكمة يوم عاشوراء ، إن يوم عاشوراء سبعون عيدا فمن وسع على عياله فيه وسع الله عليه الى مثلها في السنة».
٦ ـ وذكر الحاكم : أن فاطمة عليهاالسلام ولدت يوم عاشوراء ، وأن الحسن والحسينعليهماالسلام كذلك ولدا يوم عاشوراء.
ولما كانت لهذا اليوم فضيلة على غيره من الأيام ، كانت فيه مصيبة آل الرسول كرامة لهم وفضيلة لجهادهم ، ليكون ثوابهم أكثر ، ودرجاتهم أعلى وأنبل ، وليكون عقاب أعدائهم أعظم ، ولعائن الله عليهم وعلى أتباعهم يوم القيامة أشد وأطول.
عدنا لحديثنا : ولما أصبح الحسين عليهالسلام يوم الجمعة عاشر محرّم ـ وفي رواية : يوم السبت ـ عبأ أصحابه ، وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا ـ وفي رواية : اثنان وثمانون راجلا ـ ، فجعل على ميمنته زهير بن
القين ، وعلى ميسرته حبيب بن مظاهر ، ودفع اللواء إلى أخيه العباس بن عليّ ، وثبت عليهالسلام مع أهل بيته في القلب.
وعبأ عمر بن سعد أصحابه ، فجعل على ميمنته عمرو بن الحجاج ، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن ، وثبت هو في القلب ، وكان جنده اثنين وعشرين ألفا ، يزيد أو ينقص.
٧ ـ أخبرنا الإمام الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد الهمداني ـ إجازة ـ ، أخبرنا أبو عليّ الحداد ، حدثنا أبو نعيم الحافظ ، حدثنا سلمان بن أحمد ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا الزبير بن بكار ، حدثنا محمد بن الحسن ، قال : لما نزل القوم بالحسينعليهالسلام ، وأيقن أنهم قاتلوهم ، قام في اصحابه خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :
«أما بعد ـ فإنّه نزل من الأمر ما ترون ، ألا وإن الدّنيا قد تغيرت وتنكرت ، وأدبر معروفها ، وانشمرت (١) ، ولم يبق فيها إلّا كصبابة الإناء من خسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون الحقّ لا يعمل به ، والباطل لا يتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء ربه ، وإني لا أرى الموت إلّا سعادة ، والعيش مع الظالمين إلّا برما».
٨ ـ وأخبرنا الشيخ الإمام الزاهد ، سيف الدين أبو جعفر محمد بن عمر الجمحي ـ كتابة ـ ، أخبرنا الشيخ الإمام أبو الحسين زيد بن الحسن بن علي البيهقي ، أخبرنا السيد الإمام النقيب علي بن محمد بن جعفر الحسني الأسترآبادي ، حدّثنا السيد الإمام نقيب النقباء زين الإسلام أبو جعفر محمد ابن جعفر بن علي الحسيني ، حدثنا السيد الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين ابن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون بن محمّد بن القاسم بن الحسين
__________________
(١) ـ انشمرت : تقلصت فلم تحلب.
ابن زيد بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهمالسلام ، أخبرنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسيني ، حدثنا محمد بن عبد الله بن أيوب البجلي ، حدثنا عليّ بن عبد العزيز العكبري ، حدثنا الحسن بن محمد بن يحيى ، عن أبيه ، عن تميم بن ربيعة الرياحي ، عن زيد بن علي ، عن أبيه : «أنّ الحسين عليهالسلام خطب أصحابه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيها الناس خطّ الموت على بني آدم كمخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أو لعني بالشوق إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وإنّ لي مصرعا أنا لاقيه ، كأني أنظر الى أوصالي تقطعها وحوش الفلوات ، غبرا وعفرا قد ملأت مني أكراشها ، رضى الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ليوفينا اجور الصابرين ، لن تشذ عن رسول الله صلىاللهعليهوآله لحمته وعترته ، ولن تفارقه أعضاؤه ، وهي مجموعة له في حظيرة القدس ، تقر بها عينه ، وتنجز له فيهم عدّته».
٩ ـ وبهذا الإسناد ، عن السيد أبي طالب هذا ، أخبرني أبي ، أخبرني حمزة بن القاسم العلوي ، حدثني بكر بن عبد الله بن حبيب ، حدثني تميم ابن بهلول الضبي أبو محمد ، أخبرني عبد الله بن الحسين بن تميم ، حدثني محمد بن زكريا ، حدثني محمد بن عبد الرحمن بن القاسم التيمي ، حدّثني عبد الله بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عبد الله بن الحسن ، قال : لما عبأ عمر بن سعد أصحابه لمحاربة الحسين عليهالسلام ، ورتبهم في مراتبهم ، وأقام الرايات في مواضعها ، وعبأ الحسين أصحابه في الميمنة والميسرة ، فأحاطوا بالحسين من كلّ جانب حتى جعلوه في مثل الحلقة ، خرج الحسين من أصحابه حتى أتى النّاس فاستنصتهم ، فأبوا أن ينصتوا ، فقال لهم : «ويلكم ، ما عليكم أن تنصتوا إليّ ، فتسمعوا قولي ، وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد ، فمن أطاعني كان من
المرشدين ، ومن عصاني كان من المهلكين ، وكلكم عاص لأمري ، غير مستمع لقولي ، قد انخزلت عطياتكم من الحرام ، وملئت بطونكم من الحرام ، فطبع الله على قلوبكم ، ويلكم ألا تنصتون؟ ألا تسمعون»؟
فتلاوم أصحاب عمر بن سعد ، وقالوا : انصتوا له ، فقال الحسين : «تبا لكم أيتها الجماعة وترحا ، أفحين استصرختمونا ولهين متحيرين ، فأصرخناكم مؤدين مستعدين ، سللتم علينا سيفا في رقابنا ، وحششتم علينا نار الفتن التي جناها عدوكم وعدونا ، فأصبحتم إلبا على أوليائكم ، ويدا عليهم لأعدائكم ، بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، إلّا الحرام من الدنيا أنالوكم ، وخسيس عيش طمعتم فيه ، من غير حدث كان منا ، ولا رأي تفيل (١) لنا فهلّا لكم الويلات إذ كرهتمونا تركتمونا ، فتجهزتموها والسيف لم يشهر ، والجأش طامن ، والرأي لم يستحصف ، ولكن أسرعتم علينا كطيرة الدبا ، وتداعيتم إليها كتداعي الفراش ، فقبحا لكم ، فإنما أنتم من طواغيت الامة ، وشذاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ونفثة الشيطان ، وعصبة الآثام ، ومحرّفي الكتاب ، ومطفئي السنن ، وقتلة أولاد الأنبياء ، ومبيري عترة الأوصياء ، وملحقي العهار بالنسب ، ومؤذي المؤمنين ، وصراخ أئمة المستهزئين ، الذين جعلوا القرآن عضين ، وأنتم ابن حرب وأشياعه تعتمدون ، وإيانا تخذلون. أجل والله ، الخذل فيكم معروف ، وشجت عليه عروقكم ، وتوارثته اصولكم وفروعكم ، ونبتت عليه قلوبكم ، وغشيت به صدوركم ، فكنتم أخبث شيء سنخا للناصب ، وأكلة للغاصب ، ألا لعنة الله على الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ، فأنتم والله هم ، ألا إن الدعي بن
__________________
(١) ـ تفيل : أخطأ.
الدعي ، قد ركز بين اثنتين : بين القتلة والذلة ، وهيهات منا أخذ الدّنية ، أبى الله ذلك ورسوله ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، وانوف حمية ، ونفوس أبية لا تؤثر طاعة اللئام ، على مصارع الكرام ، ألا إني قد أعذرت وأنذرت ، ألا إني زاحف بهذه الاسرة على قلّة العتاد ، وخذلة الأصحاب ، ثم أنشد :
فإن نهزم فهزّامون قدما |
|
وإن نهزم فغير مهزّمينا |
وما أن طبّنا جبن ولكن |
|
منايانا ودولة آخرينا |
أما إنه لا تلبثون بعدها إلّا كريث ما يركب الفرس ، حتى تدور بكم دور الرحى ، عهد عهده إليّ أبي ، عن جدي (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) (١) (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).
اللهمّ! احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبرة ، فلا يدع فيهم أحدا ، قتلة بقتلة ، وضربة بضربة ، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم ، فإنهم غرونا وكذبونا وخذلونا ، وأنت ربّنا ، عليك توكلنا ، وإليك أنبنا ، وإليك المصير».
ثم قال عليهالسلام : «أين عمر بن سعد؟ ادعوا لي عمر» ، فدعي له وكان كارها لا يحب أن يأتيه ، فقال : «يا عمر! أنت تقتلني ، وتزعم أن يوليك الدعي بن الدعي بلاد الري وجرجان؟ والله ، لا تتهنأ بذلك أبدا ، عهد معهود ، فاصنع ما أنت صانع ، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، وكأني برأسك على قصبة قد نصب بالكوفة ، يتراماه الصبيان ويتخذونه غرضا
__________________
(١) ـ اقتبس الآيات من سورتين ، الأولى : يونس / ٧١ ، والثانية : هود / ٥٥.
بينهم». فغضب عمر بن سعد من كلامه ، ثمّ صرف وجهه عنه ، ونادى بأصحابه : ما تنظرون به؟ احملوا بأجمعكم إنما هي أكلة واحدة.
ثم إن الحسين عليهالسلام دعا بفرس رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ المرتجز ـ ، فركبه وعبأ أصحابه ، وزحف عمر بن سعد فنادى غلامه دريدا : قدم رايتك يا دريد! ثمّ وضع سهمه في كبد قوسه ، ثمّ رمى به وقال : اشهدوا لي عند الأمير أني أول من رمى ، فرمى أصحابه كلّهم بأجمعهم في أثره رشقة واحدة ، فما بقي من أصحاب الحسين أحد إلّا أصابه من رميتهم سهم.
وخرج يسار مولى زياد بن أبيه ؛ وسالم مولى عبيد الله بن زياد ، فقالا : من يبارزنا؟ فخرج إليهما برير بن خضير ؛ وحبيب بن مظاهر ، فقال لهما الحسين : اجلسا. فقام عبد الله بن عمير الكلبي ، فقال للحسين : ائذن لي أخرج! فرآه رجلا آدم طويلا ، شديد الساعدين ، بعيد ما بين المنكبين ، فقال : «إني أراه للأقران قاتلا ، أخرج إن شئت» ، فخرج إليهما فقالا له : من أنت؟ فانتسب لهما ، فقالا له : لا نعرفك ، ليخرج إلينا ـ زهير ابن القين أو حبيب بن مظاهر ـ ، ويسار أمام سالم ، فقال له : يا ابن الزانية! أو لك رغبة عن مبارزة أحد ، وليس أحد من الناس إلّا وهو خير منك؟ ثم حمل عليه فضربه حتى سكت ، وأنّه لمشتغل به يضربه بسيفه ، إذ شدّ عليه سالم ، فصاح به أصحابه : العبد قد دهاك ، فلم يلتفت إليه حتى جاء سالم وبدره بضربة ، فاتقاها الكلبي بيده ، فأطار أصابع كفّه ، ثم مال عليه الكلبي فقتله ، ثمّ قتل بعد ذلك.
قال أبو مخنف : فلما رموهم هذه الرمية قلّ أصحاب الحسين عليهالسلام ، فبقي في هؤلاء القوم الذين يذكرون في المبارزة ، وقد قتل منهم ما ينيف على خمسين رجلا ، فعندها ضرب الحسين عليهالسلام بيده إلى لحيته ، فقال : هذه
رسل القوم ـ يعني السهام ـ ، ثمّ قال : «اشتدّ غضب الله على اليهود والنصارى إذ جعلوا له ولدا ، واشتدّ غضب الله على المجوس إذ عبدت الشمس والقمر والنّار من دونه ، واشتدّ غضب الله على قوم اتّفقت آراؤهم على قتل ابن بنت نبيهم ، والله ، لا أجيبهم إلى شيء مما يريدونه أبدا ، حتى ألقى الله وأنا مخضب بدمي» ثم صاح عليهالسلام : «أما من مغيث يغيثنا لوجه الله تعالى؟ أما من ذاب يذبّ عن حرم رسول الله»؟
فلمّا سمع الحر بن يزيد هذا الكلام ، اضطرب قلبه ، ودمعت عيناه ، فخرج باكيا متضرعا ، مع غلام له تركي ، وكان كيفية انتقاله الى الحسين ، أنّه لما سمع هذا الكلام من الحسين أتى إلى عمر بن سعد ، فقال له : أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال : إي والله! قتالا شديدا أيسره أن تسقط الرءوس ، وتطيح الأيدي ، فقال : أما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضى؟ فقال : والله ، لو كان الأمر إليّ لفعلت ، ولكن أميرك قد أبى ذلك.
فأقبل الحر حتى وقف عن النّاس جانبا ومعه رجل من قومه ، يقال له : قرّة بن قيس ، فقال له : يا قرة! هل سقيت فرسك اليوم ماء؟ قال : لا. قال : أما تريد أن تسقيه؟ قال قرّة : فظننت ، والله ، أنّه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال ، ويكره أن أراه يصنع ذلك مخافة أن أرفع عليه ، فقلت له : لم أسقيه وأنا منطلق فأسقيه.
قال : فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه والله لو أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين ، فأخذ يدنو قليلا قليلا ، فقال له رجل من قومه : يا أبا يزيد! إنّ أمرك لمريب ، فما الذي تريد؟ قال : والله ، إني اخير نفسي بين الجنّة والنار ، وو الله ، لا أختار على الجنّة شيئا ولو قطعت وحرقت.
ثم ضرب فرسه ، ولحق بالحسين مع غلامه التركي ، فقال : يا ابن رسول الله! جعلني الله فداك ، إني صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، وجعجعت بك في هذا المكان ، والله الذي لا إله إلّا هو ، ما ظننت القوم يردون عليك ما عرضت عليهم ، ولا يبلغون بك هذه المنزلة ، وإني لو سوّلت لي نفسي أنهم يقتلونك ما ركبت هذا منك ، وإني قد جئتك تائبا إلى ربي مما كان مني ، ومواسيك بنفسي حتى أموت بين يديك ، أفترى ذلك لي توبة؟
قال : «نعم ، يتوب الله عليك ويغفر لك ، ما اسمك»؟ قال : أنا الحرّ ، قال : «أنت الحر كما سمتك امك ، أنت الحرّ في الدنيا والآخرة ؛ انزل» ، فقال : أنا لك فارسا خير مني لك راجلا ، اقاتلهم على فرسي ساعة ، وإلى النزول ما يصير أمري. ثم قال : يا ابن رسول الله! كنت أوّل خارج عليك ، فأذن لي أن أكون أوّل قتيل بين يديك ، فلعلي أن أكون ممن يصافح جدّك محمدا غدا في القيامة. فقال له الحسين عليهالسلام : «إن شئت فأنت ممن تاب الله عليه ، وهو التواب الرحيم» ، فكان أول من تقدّم إلى براز القوم ، الحرّ بن يزيد الرياحي ، فأنشد في برازه :
إني أنا الحرّ ومأوى الضيف |
|
أضرب في أعناقكم بالسيف |
عن خير من حلّ بوادي الخيف |
|
أضربكم ولا أرى من حيف |
وروي : أنّ الحر لما لحق بالحسين عليهالسلام ، قال رجل من بني تميم ، يقال له يزيد بن سفيان : أما والله ، لو لقيت الحر حين خرج لأتبعته السنان ، فبينا هو يقاتل ، وإنّ فرسه لمضروب على اذنيه وحاجبه ، وإن الدماء لتسيل ، إذ قال الحصين بن نمير : يا يزيد! هذا الحرّ الذي كنت تتمناه ، فهل لك به؟ قال : نعم ، وخرج إليه ، فما لبث الحرّ أن قتله وقتل أربعين فارسا وراجلا ، ولم
يزل يقاتل حتى عرقب فرسه ، وبقي راجلا ، فجعل يقاتل وهو يقول :
إن تعقروا بي فأنا ابن الحرّ |
|
أشجع من ذي لبدة هزبر |
ولست بالخوار عند الكرّ |
|
لكنّني الثابت عند الفرّ |
ثمّ لم يزل يقاتل حتى قتل ، فاحتمله أصحاب الحسين عليهالسلام حتى وضعوه بين يدي الحسين وبه رمق ، فجعل الحسين يمسح التراب عن وجهه ، وهو يقول له : «أنت الحرّ كما سمّتك به امك ، أنت الحرّ في الدّنيا ، وأنت الحرّ في الآخرة». ثمّ رثاه بعض أصحاب الحسين.
وقال الحاكم الجشمي : بل رثاه علي بن الحسين عليهالسلام بقوله :
لنعم الحر حرّ بني رياح |
|
صبور عند مشتبك الرماح |
ونعم الحر إذ نادى حسين |
|
فجاد بنفسه عند الصباح |
وروي : أنّه كان ينشد عند مكافحته :
آليت لا اقتل حتى اقتلا |
|
ولا اصاب اليوم إلّا مقبلا |
أضربهم بالسيف ضربا معضلا |
|
لا ناكلا فيهم ولا مهللا |
قال : ثمّ برز من بعده برير بن خضير الهمداني ، وهو يقول :
أنا برير وفتى خضير |
|
أضربكم ولا أرى من ضير |
يعرف في الخير أهل الخير |
|
كذاك فعل الخير من برير |
وكان برير من عباد الله الصالحين ، فحمل وقاتل قتالا شديدا ، وجعل ينادي فيهم : اقتربوا مني ، يا قتلة المؤمنين! اقتربوا مني ، يا قتلة أولاد البدريين! اقتربوا مني ، يا قتلة عترة خير المرسلين! فبرز إليه رجل يقال له : يزيد بن معقل ، فقال لبرير : أشهد أنّك من المضلّين ، فقال له برير : هلم ، فلندع الله أن يلعن الكاذب منّا ، وأن يقتل المحق منا المبطل.
فخرجا ، ودعوا الله تعالى في ذلك ، وتبارزا فضرب يزيد بريرا ضربة
خفيفة لم تضرّه ، وضرب برير يزيدا ضربة قدّت المغفر ، ووصلت إلى دماغه ، فسقط قتيلا ، فحمل بجير بن أوس الضبي على برير ، وهو مشغول بيزيد ، فقتله ، ثمّ جال في ميدان الحرب ، وهو يقول :
سلي تخبري عنّي وأنت ذميمة |
|
غداة حسين والرماح شوارع |
ألم آت أقصى ما كرهت ولم يحل |
|
غداة الوغى والروع ما أنا صانع |
معي يزني لم تخنه كعوبه |
|
وأبيض مشحوذ الغرارين قاطع |
فجرّدته في عصبة ليس دينهم |
|
كديني وإني بعد ذاك لقانع |
وقد صبروا للطعن والضرب حسرا |
|
وقد جالدوا لو أنّ ذلك نافع |
فأبلغ عبيد الله إما لقيته |
|
بأني مطيع للخليفة سامع |
قتلت بريرا ثم جللت نعمة |
|
غداة الوغى لما دعا من يقارع |
ثم إنه ذكر له بعد ذلك أن بريرا كان من عباد الله الصالحين ، ثم جاءه ابن عم له يقال له : عبيد الله بن جابر ، فقال له : ويلك ، يا بجير! أقتلت برير بن خضير؟ بأي وجه تلقى ربك غدا؟ فندم وقال :
فلو شاء ربّي ما شهدت قتالهم |
|
ولا جعل النعماء عند ابن جابر |
لقد كان ذاك اليوم عارا وسبّة |
|
تعير به الأبناء عند المعاشر |
فيا ليت أني كنت في الرّحم حيضة |
|
ويوم حسين كنت في رمس قابر |
ويا سوأتي ما ذا أقول لخالقي؟ |
|
وما حجّتي يوم الحساب القماطر؟ |
قال : ثمّ خرج وهب بن عبد الله بن جناب الكلبي ، وكانت معه أمه ، فقالت له : قم يا بني! فانصر ابن بنت رسول الله ، فقال : أفعل ، يا اماه! ولا اقصر إن شاء الله ، ثم برز ، وهو يقول :
إن تنكروني فأنا ابن الكلبي |
|
سوف تروني وترون ضربي |
وحملتي وصولتي في الحرب |
|
أدرك ثاري بعد ثأر صحبي |
وأدفع الكرب بيوم الكرب |
|
فما جلادي في الوغى للعب |
ثم حمل ، فلم يزل يقاتل حتى قتل جماعة ، فرجع إلى أمه وامرأته فوقف عليهما ، فقال: يا اماه! أرضيت عني؟ فقالت : ما رضيت ، أو تقتل بين يدي ابن بنت رسول الله ، فقالت له امرأته : أسألك بالله أن لا تفجعني بنفسك ، فقالت له امّه : لا تسمع قولها ، وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله ليكون غدا شفيعك عند ربّك. فتقدّم وهو يقول:
إني زعيم لك أمّ وهب |
|
بالطعن فيهم تارة والضرب |
فعل غلام مؤمن بالرب |
|
حتى يذيق القوم مرّ الحرب |
إني امرؤ ذو مرّة وعصب |
|
ولست بالخوار عند النكب |
حسبي بنفسي من عليم حسبي |
|
إذا انتميت في كرام العرب |
ولم يزل يقاتل حتى قطعت يمينه ، فلم يبال ، وجعل يقاتل حتى قطعت شماله ، ثمّ قتل ، فجاءت إليه أمه تمسح الدّم عن وجهه ، فأبصرها شمر بن ذي الجوشن ، فأمر غلاما له فضربها بالعمود حتى شدخها وقتلها ، فهي أوّل امرأة قتلت في حرب الحسين عليهالسلام.
وذكر مجد الأئمة السرخسكي ، عن أبي عبد الله الحدّاد : أن وهب بن عبد الله هذا ، كان نصرانيا ، فأسلم هو وأمه على يد الحسين عليهالسلام ، وأنّه قتل في المبارزة أربعة وعشرين رجلا ، واثني عشر فارسا ، فاخذ أسيرا ، واتي به عمر بن سعد ، فقال له : ما أشدّ صولتك! ثم أمر فضرب عنقه ، ورمي برأسه إلى عسكر الحسين ، فأخذت أمه الرأس فقبلته ، ثم شدّت بعمود الفسطاط ، فقتلت به رجلين ، فقال لها الحسين : «ارجعي أمّ وهب! فإنّ الجهاد مرفوع عن النساء». فرجعت ، وهي تقول : إلهي لا تقطع رجائي ، فقال لها الحسين : «لا يقطع الله رجاك ، يا أمّ وهب! ، أنت وولدك مع رسول الله وذريته في الجنّة».
قال : ثم برز من بعده عمرو بن خالد الأزدي ، وهو يقول :
اليوم يا نفس إلى الرحمن |
|
تمضين بالروح وبالريحان |
اليوم تجزين على الإحسان |
|
قد كان منك غابر الزمان |
ما خط باللوح لدى الديّان |
|
فاليوم زال ذاك بالغفران |
لا تجزعي فكلّ حيّ فان |
|
والصبر أحظى لك بالأمان |
فقاتل حتى قتل ، ثمّ تقدم ابنه خالد بن عمرو بن خالد الأزدي ، وهو يقول :
صبرا على الموت بني قحطان |
|
كيما نكون في رضى الرّحمن |
ذي المجد والعزّة والبرهان |
|
يا أبتا قد صرت في الجنان |
ثم حمل فقاتل حتّى قتل ، ثم خرج من بعده سعد بن حنظلة التميمي وهو يقول :
صبرا على الأسياف والأسنّة |
|
صبرا عليها لدخول الجنّه |
وحور عين ناعمات هنّه |
|
لمن يريد الفوز لا بالظنّه |
يا نفس للراحة فاطرحنّه |
|
وفي طلاب الخير فارغبنّه |
ثم حمل وقاتل قتالا شديدا فقتل ، ثم خرج من بعده عمير بن عبد الله المذحجي ، وهو يقول :
قد علمت سعد وحي مذحج |
|
أني ليث الغاب لم اهجهج |
أعلو بسيفي هامة المدجّج |
|
وأترك القرن لدى التعرج |
فريسة الضبع الأزل الأعرج |
|
فمن تراه واقفا بمنهجي |
ولم يزل يقاتل قتالا شديدا ، حتى قتله مسلم الضبابي ، وعبد الله البجلي ، اشتركا في قتله ، ثم خرج مسلم بن عوسجة الأسدي وهو يقول :
إن تسألوا عني فإني ذو لبد |
|
من فرع قوم من ذرى بني أسد |
فمن بغاني حائد عن الرشد |
|
وكافر بدين جبّار صمد |
ثمّ تابعه نافع بن هلال الجملي ، وهو يقول :
أنا على دين عليّ |
|
ابن هلال الجملي |
أضربكم بمنصلي |
|
تحت عجاج القسطل |
فخرج لنافع رجل من بني قطيعة ، فقال لنافع : أنا على دين عثمان ، فقال نافع : إذن أنت على دين الشيطان ، وحمل عليه فقتله ، فأخذ نافع ومسلم يجولان في ميمنة ابن سعد ، فقال عمرو بن الحجاج ـ وكان على الميمنة ـ : ويلكم ، يا حمقاء مهلا! أتدرون من تقاتلون؟ إنما تقاتلون فرسان المصر ، وأهل البصائر ، وقوما مستميتين ، لا يبرزن منكم أحد إلّا قتلوه على قلّتهم ، والله ، لو لم ترموهم إلّا بالحجارة لقتلتموهم.
فقال ابن سعد له : صدقت! الرأي ما رأيت ، فأرسل في العسكر يعزم عليهم : أن لا يبارز رجل منكم ، فلو خرجتم وحدانا لأتوا عليكم مبارزة. ثمّ دنا عمرو بن الحجاج من أصحاب الحسين ، ثم صاح بقومه : يا أهل الكوفة! ألزموا طاعتكم وجماعتكم ، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين ، وخالف إمام المسلمين.
فقال له الحسين : «يا ابن الحجاج! أعليّ تحرّض الناس؟ أنحن مرقنا عن الدين وأنتم ثبتم عليه؟ والله ، لتعلمنّ أينا المارق عن الدين ، ومن هو أولى بصلي النّار».
ثم حمل عمرو بميمنته من نحو الفرات ، فاضطربوا ساعة ، فصرع مسلم بن عوسجة ، وانصرف عمرو بن الحجاج ، وارتفعت الغبرة ، فإذا مسلم صريع ، فمشى إليه الحسين ، فإذا به رمق ، فقال له الحسين : «رحمك
الله يا مسلم! (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) الأحزاب / ٢٣ ، ودنا منه حبيب بن مظاهر ، فقال له : عزّ والله ، عليّ مصرعك يا مسلم! أبشر بالجنة. فقال قولا ضعيفا : بشرك الله بخير ، فقال له حبيب : لو لا أني أعلم أني لا حقّ بك في أثرك من ساعتي هذه ، لأحببت أن توصي إليّ بكل ما أهمّك ، حتى أحفظك في ذلك ، لما أنت أهله في القرابة والدين ، فقال له : بلى ، اوصيك بهذا رحمك الله ، ـ وأومأ إلى الحسين ـ أن تموت دونه. فقال له : أفعل وربّ الكعبة ، فما أسرع من أن مات ، فصاحت جارية له : يا سيداه! يا بن عوسجتاه! فنادى أصحاب عمر بن سعد مستبشرين : قتلنا مسلم بن عوسجة ، فقال شبث بن ربعي لبعض من حوله : ثكلتكم امهاتكم! أما أنكم تقتلون أنفسكم بأيديكم ، وتذلون عزّكم ، أتفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة؟ أما والذي أسلمت له ، لربّ موقف له في المسلمين كريم ، والله ، لقد رأيته يوم «آذربيجان» قتل ستّة من المشركين قبل أن تلتئم خيول المسلمين.
قال : ثمّ حمل شمر بن ذي الجوشن فثبتوا له ، وقاتل أصحاب الحسين قتالا شديدا ، وإنما هم اثنان وثلاثون فارسا ، فلا يحملون على جانب من أهل الكوفة إلّا كشفوه ، فدعا عمر بن سعد بالحصين بن نمير في خمسمائة من الرماة ، فأقبلوا حتى دنوا من الحسين وأصحابه ، فرشقوهم بالنبل ، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم ، وقاتلوهم حتى انتصف النهار ، واشتد القتال ، ولم يقدر أصحاب ابن سعد أن يأتوهم إلّا من جانب واحد ، لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض. فأرسل عمر بن سعد الرجال ليقوّضوا الأبنية من عن شمائلهم وأيمانهم ليحيطوا بها ، وأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخللون بينها فيشدون على الرجل وهو يقوّض وينتهب ،
فيرمونه من قريب فيصرعونه ويقتلونه ، فأمر عمر بن سعد أن يحرقوها بالنّار.
فقال الحسين لأصحابه : «دعوهم فليحرقوها ، فإنهم لو فعلوا لم يجوزوا إليكم منها». فأحرقوها وكان ذلك كذلك. وقيل : قال له شبث بن ربعي : أفزعت النساء ثكلتك امّك! فاستحيى من ذاك وانصرف عنه ، وجعلوا لا يقاتلونهم إلّا من وجه واحد ، وشدّ أصحاب زهير بن القين فقتلوا أبا عذرة الضبابي من أصحاب شمر.
قال : ولا يزال يقتل من أصحاب الحسين الواحد والاثنان ، فيتبين ذلك فيهم لقلّتهم ، ويقتل من أصحاب عمر العشرة والعشرون ، فلا يتبين ذلك فيهم لكثرتهم.
قال : ورأى أبو ثمامة الصيداوي زوال الشمس ، فقال للحسين : يا أبا عبد الله! نفسي لك الفداء ، أرى هؤلاء قد اقتربوا ، ولا والله ، تقتل حتى اقتل دونك ، واحبّ أن ألقى ربي وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها. فرفع الحسين رأسه إلى السماء ، وقال له : «ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلّين ، نعم ، هذا أول وقتها» ، ثم قال : «سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلّي».
فقال له الحصين بن نمير : إنها لا تقبل منك ، فقال له حبيب بن مظاهر : لا تقبل الصلاة زعمت من آل رسول الله ، وتقبل منك يا ختار! فحمل عليه الحصين ، وحمل عليه حبيب فضرب حبيب وجه الفرس ، فشبّ الفرس ، ووقع عنه الحصين فاحتوشه أصحابه فاستنقذوه.
فقال الحسين لزهير بن القين ؛ وسعيد بن عبد الله : «تقدّما أمامي» ، فتقدما أمامه في نحو من نصف أصحابه حتّى صلّى بهم صلاة الخوف.