مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي
الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-21-8
الصفحات: ٦٣٢
التي لم يتعرّضوا لها ولا لحكمها.
ولعلّه لذا لم يتعرّض لذكر هذه المسألة المفروضة صريحا من تقدّم على المحقّق الشيخ عليّ (١) من الفقهاء أحد فيما أعلم ، ولا يحضرني الآن من كتب قدماء الفقهاء والاصوليّين من الخاصّة والعامّة شيء ؛ فتذكّر وتأمّل لعلّ الله يحدث لك بعد ذلك أمرا.
وأمّا ثانيا : فلمنع بطلان التالي بعد اشتهار القول بعدم جواز تقليد الميّت ، وبأنّ قول الميّت كالميّت ، وبأنّ المفتي إذا مات سقط قوله عن درجة الاعتبار فيما بينهم ، وبمصير جماعة من قدماء الفقهاء إلى وجوب الاجتهاد ، وعدم جواز أصل التقليد بغير العلم ؛ فتأمّل.
وأمّا ثالثا : فلأنّ هذا الوجه على تقدير تماميّته منقوض بكثير من الامور العامّة البلوى الآن ، مع أنّه غير مشتهر الحكم ولا متواتر ، فكلّ ما هو الجواب عن هذا فهو الجواب عن ذاك أيضا ؛ فتأمّل.
وأمّا رابعا : فلأنّ غاية ما يستفاد من هذا الوجه على فرض سلامته عمّا مرّ الظنّ بمختار الخصم ، وهذا الظنّ على اعتباره هنا معارض بما هو أقوى وأرجح منه من وجوه شتّى من الوجوه السالفة ، الدالّة على بطلان مذهب الخصم وصحّة المختار في أصل المسألة لو أغمضنا عن إفادة بعضها القطع بذلك ، وإلّا فالظنّ لا يصلح للمقاومة مع القطع ، بل مندفع به كما تقرّر في محلّه.
ومنها : ما تمسّك به أيضا السيّد السند المعظّم إليه في المفاتيح ، من العمومات النافية للعسر والحرج في الشريعة ؛ بناء على أنّه لو لم يصحّ البقاء وتعيّن العدول بعد موت المفتي إلى فتوى الآخر الحيّ الجامع للشرائط ، للزم العسر والحرج الشديدان ، إمّا غالبا ـ كما ادّعاه سيّدنا الاستاد دام ظلّه العالي (٢) ـ أو مطلقا ، أو في الجملة ،
__________________
(١) حاشية الشرائع ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ، ج ١١ ، ص ١١٢.
(٢) مفاتيح الاصول ، ص ٦٢٥.
والمفروض نفيهما في الشريعة بحكم هذه العمومات.
وفيه أيضا ما لا يخفى :
أمّا أوّلا : فلأنّا لا نمنع لزوم العسر والحرج أصلا ، كيف ؟ والرجوع حينئذ إلى فتوى المفتي الحيّ ليس بأصعب من رجوع من كان ابتداء تقليده للمفتي الحيّ إليه بالإضافة إلى ما يجب عليه الرجوع من الأحكام والمسائل ، ولم يقل أحد بلزوم الحرج والعسر حينئذ ، فليكن ما نحن فيه أيضا كذلك.
فإن قيل : عدم كون هذا الرجوع إلى فتوى أصعب من ذاك وإن كان مسلّما بالإضافة إلى المسائل التي لا خلاف بين هذين المفتيين في حكمها ، إلّا أنّه بالإضافة إلى المسائل التي يكون الحيّ في حكمها مخالفا للميّت ، أصعب من ذاك جدّا ؛ لفقد الحرج وعدم لزوم المحذور المذكور في التقليد الابتدائي أصلا ، بخلاف ما نحن فيه ؛ إذ على تقدير الرجوع حينئذ لا بدّ من الحكم بفساد ما بنى على صحّته وبصحّة ما بنى على فساده من العبادة والإيقاع والمعاملة ، ولا بدّ أيضا من الحكم بنجاسة ما بنى على طهارته وبطهارة ما بنى على نجاسته ، والحكم بعدم انتقال ما بنى على انتقاله ، وبانتقال ما بنى على عدمه ، إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على الخبير والبصير. وهل هذا إلّا كونه أصعب من ذاك ، وكونه حرجا عظيما وعسرا شديدا ؟
قلنا : هذا كما ترى واضح البطلان ، فإنّه إن كان المراد أنّ بعد الرجوع إلى فتوى الحيّ وبناء العمل على قوله ، لا بدّ من الحكم بما ذكر بالإضافة إلى مستقبل زمانه والمتأخّر عن الرجوع ، فيحكم بعد ذلك بالإضافة إلى الوقائع الواردة عليه والأفعال الصادرة عنه حينئذ خاصّة بفساد ما كان قبل ذلك قد بنى على صحّته ، وبصحّة ما كان قبله قد بنى على فساده ، وبنجاسة ما بنى قبله على طهارته ، وطهارة ما بنى قبله على نجاسته ، وهكذا ... فهو مسلّم وصحيح ، ولكنّه كما ترى لا يلزم منه حرج ولا عسر ، ولا كونه أصعب من ذاك ، بل هو مثله في عدم لزوم الحرج والعسر والصعوبة.
وإن كان المراد أنّ بعد الرجوع لا بدّ من الحكم بما ذكر بالإضافة إلى الزمان الماضي
والسابق على الرجوع أيضا.
ففيه ، أنّ اللازم من ذلك وإن كان ما ذكر من الحكم بصحّة ما بنى على فساده وبفساد ما بنى على صحّته ، وهكذا ، واستلزامه للحرج والعسر والأصعبيّة كما لا يخفى على الخبير المنصف ، إلّا أنّ اقتضاء الرجوع للحكم بما ذكر كذلك واستلزام القول به له في حيّز المنع جدّا.
كيف ؟ ولم يقل به أحد فيما أعلم ؛ مضافا إلى منافاته لهذه العمومات وغيرها من الأدلّة.
وإن شئت توضيح ذلك ، فاعلم أنّ الأحكام الشرعيّة الثابتة لموضوعاتها المتعلّقة بأفعال المكلّفين باعتبار ترتّب آثارها الخارجيّة عليها حال التعلّق على أقسام :
منها : ما يقتضي الدوام والاستمرار والاستدامة مطلقا ، كالعتق المتعلّق بالمملوك حيث يقتضي الحرّيّة وأحكامها المترتّبة عليها على سبيل الدوام والاستمرار ما دام الحياة ، وكالرضاع ونحوه من الأسباب الموجبة لتحريم النكاح المؤبّد ، وكبعض أقسام الوقف.
ومنها : ما يقتضي الدوام والاستمرار ما لم يمنع عنه مانع شرعيّ ، ككثير من أقسام العقود والإيقاعات الصحيحة حيث يترتّب عليها آثارها المترتّبة عليها بعنوان الدوام والاستمرار إلّا إذا طرأ مانع من الموانع الشرعيّة ، كالطهارة والحدث والنجاسة والحلّيّة والحرمة المتعلّقة بالأعيان.
ومنها : ما لا يقتضي الدوام والاستمرار ، ككثير من العبادات والأحكام المتعلّقة بالحدود والقصاص والديات والنذور والعهود والمطاعم والمشارب والمكاسب والصيد والذباحة ونحوها ، حيث يترتّب عليها آثارها المترتّبة عليها ، ولكن لا بعنوان الدوام.
ومن البيّن أنّ الفتوى أيضا تختلف باختلافها من حيث الدوام والاستمرار مطلقا ، أو ما لم يمنع عنه مانع شرعيّ وعدمهما ، وتنقسم بانقسامها إلى الثلاثة ، ويلزم ذلك
اختلاف التقليد والعمل بها للمقلّد أيضا ، وانقسامهما أيضا إلى الثلاثة.
فإذا كان التقليد من القسم الأوّل ، فمقتضاه حيثما وقع صحيحا ترتّب آثاره المترتّبة عليه دائما ، فمن قلّد المفتي الحيّ الجامع للشرائط حال الحياة في مسألة العتق ، أو مسألة من الامور الموجبة لتحريم النكاح المؤبّد ، فأعتق مملوكا ، او أوقع نكاح المحرّمة كذلك بمقتضى فتوى المفتي مثلا ، انعتق هذا المملوك ، وفسد هذا النكاح دائما ، فلو قلّد بعد حياته من أفتى ببطلان مثل هذا العتق وصحّة هذا النكاح وحلّيّته فيهما ، لزمه البناء عليهما بالإضافة إلى ما يريد بعد ذلك من مثل هذا العتق وصحّة هذا النكاح وحلّيّته ، ولا يلزمه الحكم ببطلان ما فعل من العتق ، ولا الحكم بصحّة ما أوقع من النكاح ، لما مرّت إليه الإشارة سابقا ، من العمومات وغيرها من الوجوه القويّة.
نعم ، لو علم بعد البناء على فتوى المفتي الثاني بخطإ المفتي الأوّل اتّجه اللزوم بالإضافة إلى الحكم الوضعي المترتّب عليه خاصّة ، كما مرّ.
وإن كان التقليد من القسم الثاني ، فمقتضاه حيثما وقع صحيحا ترتّب آثاره المترتّبة عليه ما لم يمنع مانع شرعيّ كذلك ؛ لذلك.
وإن كان من القسم الثالث ، فمقتضاه حيثما وقع صحيحا ترتّب آثاره المترتّبة عليه لا دائما ، فمن قلّد المفتي الجامع للشرائط حال حياته في مسألة عدم وجوب السورة في الصلاة ، فصلّى بدونها ، ومسألة عدم نجاسة الخمر مثلا ، فصلّى معها ، ثمّ مات هذا المفتي ، وقلّد من أفتى بوجوب السورة ونجاسة الخمر ، وأراد الصلاة ، وجب عليه الصلاة مع السورة والطهارة عن الخمر ، ولكن حينئذ لا يجب عليه إعادة هذه الصلاة ولا قضاؤها وإن وجب عليه حينئذ غسل ما لاقى الخمر حال كونه مقلّدا لهذا المفتي لو أفتى بوجوبه المفتي الحيّ ؛ لكونه حينئذ محكوما عليه شرعا بالنجاسة ، وإن كان الأمر في المثال بالعكس انعكس ما قلناه من الحكم كما قلناه.
وممّا ذكر ظهر سند المنع المدّعى ، وبطلان الاقتضاء المذكور. كما ظهر أيضا عدم لزوم الحرج والعسر والصعوبة على المختار ، من وجوب الرجوع إلى فتوى الحيّ
المفروض ، وقد مرّ سابقا أيضا تحقيق ذلك ؛ فتذكّر واغتنم.
وأمّا ثانيا : فلأنّ هذه العمومات على تقدير شمولها لما نحن فيه معارضة بما هو أقوى وأرجح منها من وجوه شتّى من أكثر الوجوه السالفة المعتضدة بما مرّت إليه الإشارة ، فلا بدّ من تخصيصها بذاك ؛ جمعا بين الأدلّة ، وعملا بالقاعدة المقرّرة.
ولئن أغمضنا عن الترجيح ، فلا بدّ من التوقّف والرجوع إلى الأصل ، ومقتضاه ما اخترناه.
وأمّا ثالثا : فلأنّها على فرض سلامتها عمّا مرّ ، إنّما تقتضي البقاء بالإضافة إلى بعض الصور والأحكام المومئ إليها ، لا مطلقا ، ومقتضاه التفصيل في المسألة ، إلّا أن يتمّ بعدم القول بالفصل فيها المدّعى في المفاتيح (١) ، ولكنّه ـ كما ترى ـ لا يخلو عن شيء ؛ لإمكان المعارضة بالمثل من وجه ، بل أكثر ؛ فتدبّر.
وأمّا رابعا : فلأنّها على فرض سلامتها عمّا مرّ ، إنّما تتمّ فيما إذا لم يكن المفتي الحيّ الجامع للشرائط أعلم من الميّت المفروض ، أو لم نقل بوجوب الأخذ بفتوى الأعلم والأورع والرجوع إليه.
وأمّا إذا كان أعلم وأورع وقلنا بوجوب الأخذ بفتواه ، فحينئذ يقع التعارض بينها وبين ما دلّ على وجوب الأخذ بفتوى الأعلم والأورع تعارض العامّين من وجه ، فلا بدّ إمّا من التفصيل أيضا بما لا قائل به ظاهرا في المسألة ؛ وإمّا من التوقّف والرجوع إلى الأصل ، ومقتضاه المختار ؛ وإمّا من الترجيح ، وهو أيضا مع ما دلّ على المختار ؛ فتأمّل فيه جدّا.
وأمّا خامسا : فلأنّه لو صحّ هذا الوجه ، لزم فيما إذا قلّد المفتي وبنى عمله على فتواه ثمّ حصل بعد العمل الرجوع للمفتي فيما أفتى به عنه إلى خلافه ، أن لا يصحّ للمقلّد البقاء على ما عدل عنه ، مع علمه بعدوله عنه إلى خلافه. واللازم باطل ، فكذا الملزوم.
__________________
(١) مفاتيح الاصول ، ص ٦٢٤.
أمّا الملازمة : فلعدم التفرقة بين الموردين في لزوم هذا المحذور ، وكونه على تقدير تماميّته مشترك الورود كما لا يخفى.
وأمّا بطلان اللازم : فلما قد عرفته سابقا.
وبتقرير آخر : أنّ ما ذكر على فرض تماميّته منقوض بهذه الصور ، فكلّ ما هو المخلص من هذا فيها ، فهو المخلص عنه فيما نحن فيه ؛ فتبصّر.
ومنها : ما ربما يقال : من إطلاق الإجماع المنقول على عدم جواز عدول المقلّد في الواقعة التي عمل فيها بفتوى المجتهد الجامع للشرائط عنها في ذلك الحكم بعد العمل إلى الآخر من دون سبب شرعيّ ؛ نظرا إلى شموله لما نحن فيه أيضا.
وفيه ما لا يخفى ، سيّما بعد ما مضى سابقا من جواز العدول في مثل هذه الواقعة ، وعدم نقل أحد من العامّة والخاصّة الإجماع على عدمه فيه أصلا ، فضلا عن إطلاقه.
نعم ، الإجماع المحصّل والمنقول في كلام جماعة واقع على عدم جواز العدول في نفس الواقعة التي عمل فيها بفتوى المجتهد الجامع للشرائط إلى الآخر بعد العمل ، ما لم يحصل القطع للمقلّد بفساد فتوى الأوّل وصحّة فتوى الثاني ، كما سبق بيانه في محلّه ، وأين هذا من ذاك ؟ !
ومنها : ما ربما يقال أيضا : إنّ قول هذا الميّت يفيد الظنّ ، فيصحّ العمل به والبقاء عليه ؛ لعموم ما دلّ على حجّيّة الظنّ.
وفيه أيضا ما لا يخفى :
أمّا أوّلا : فلمنع الصغرى ، خصوصا فيما إذا حصل من فتوى الحيّ المفروض الظنّ المساوي للظنّ الحاصل من فتوى الميّت ، أو أقوى ، فيكون الدليل على تقدير تسليم الكبرى أخصّ من المدّعى ، إلّا أن يتمّ بعدم القائل بالفصل في المسألة ، ولكنّه على فرض تماميّته معارض بالمثل أيضا ولو في الجملة ؛ فتدبّر.
وأمّا ثانيا : بعد الغمض من الصغرى ؛ فلمنع الكبرى إن كان المراد عموم ما دلّ على حجّيّة الظنّ بالإضافة إلى المقلّد ؛ لما عرفت سابقا ، من أنّ التقليد والعمل بفتوى
المفتي في مثل الفرض ليس من باب الظنّ ، بل من باب التعبّد المحض.
مضافا إلى عدم الدليل على حجّيّة الظنّ بالإضافة إليه ، بل الدليل على عدمها قائم كذلك.
وإن كان المراد عموم ما دلّ على حجّيّة الظنّ بالإضافة إلى المفتي ، فهو على تقدير تسليمه بحيث يشمل ما نحن فيه أيضا غير مفيد ؛ لعدم ارتباطه بالمدّعى ، مضافا إلى عدم تكرّر الحدّ الأوسط ، فلا يلزمه النتيجة المدّعاة.
مضافا إلى استلزامه لعدم حجّيّته ، بناء على حصول الظنّ لهذا المفتي الحيّ ، بخلاف ما أفتى به المفتي الميّت في المسائل المخالف هو له فيها ، وبعد ضميمة عدم القائل بالفصل المدّعى ، لا يتمّ المدّعى ، وهو خلاف مدّعى المستدلّ ؛ فهذا الوجه دليل لنا في الجملة أو مطلقا ، لا علينا.
مضافا إلى أنّه يرد على هذا الوجه هنا زيادة على ما ذكر بعض ما ذكرنا سابقا في الجواب عن هذا الوجه أيضا ؛ فتنبّه.
ومنها : ما يمكن أن يقال أيضا : عموم قوله سبحانه : ﴿ فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾(١) إلى آخر الآية.
فإنّ المستفاد من ظاهره رجحان اتّباع أحسن القول ، وبعد انضمام ما يستفاد من إطلاق قوله سبحانه : ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً ﴾(٢) من أنّ المفتي الجامع للشرائط أيضا ممّن دعا إلى الله وعمل صالحا ، وأنّه أحسن قولا ولو كان ميّتا ، إلى ذلك يتمّ المدّعى ، كما لا يخفى.
وفيه أيضا ما لا يخفى ، فإنّ هاتين الآيتين معا وإن اقتضتا ذلك ظاهرا بشهادة الإنصاف ، إلّا أنّهما لمعارضتها بالمثل ، أو بما هو أرجح منهما من وجوه شتّى ممّا مضى من العمومات ـ ولا سيّما عموم قوله سبحانه : ﴿ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ ﴾(٣) ،
__________________
(١) الزمر (٣٩) : ١٩.
(٢) فصّلت (٤١) : ٣٣.
(٣) فاطر (٣٥) : ٢٢.
وخصوص غيره ممّا مرّت إليه الإشارة ـ لا تصلحان للدلالة على ذلك جدّا.
ومن هنا يظهر لك أيضا ما في غيرها من العمومات السالفة الممكن احتجاج الخصم بها على مدّعاه ، خصوصا مع إمكان المناقشة في عموم كلّها أو جلّها بحيث يشمل المقام.
كما يظهر أيضا لك من مطاوي ما ذكر ضعف [ ...... ] المشار إليه وغيره الممكن هنا [ ........ ]
وكيف ما كان ، فالمختار هو الحقّ والصواب ، كما لا يخفى بعد على اولي الألباب.
المسألة الثامنة عشرة : لو تعذّر الوصول إلى المجتهد الجامع للشرائط السالفة ، فهل يصحّ شرعا للعامي ومن بحكمه حينئذ تقليد غيره ، أم لا ؟
الذي يقتضيه التحقيق : أنّ للمسألة صورا :
منها : ما كان الغير عاميّا بحتا ومن بحكمه.
وحينئذ لا إشكال ولا خلاف فتوى ودليلا في عدم صحّة تقليده له ما لم يفد قوله له الظنّ بالحكم ، وكذا إن أفاده له الظنّ به أيضا ، إلّا على بعض الوجوه الآتي إليه الإشارة.
ومنها : ما كان الغير غير عاقل.
وحينئذ أيضا لا إشكال ولا خلاف فتوى ودليلا في عدم صحّة تقليده وعدم مشروعيّته له ولو فرض كونه جامعا لسائر الشروط السالفة المعتبرة في المفتي.
ومنها : ما كان الغير مقطوعا بكون قوله وفتواه خلاف ما أنزل الله.
وحينئذ أيضا لا إشكال ولا خلاف فتوى ودليلا ـ كما مرّت إليه الإشارة ـ في عدم مشروعيّة تقليده وبطلانه ولو فرض كونه جامعا لسائر الشروط السالفة المعتبرة في المفتي.
ومنها : ما كان الغير مقطوعا بعدم كونه عالما حال الحكم والفتوى ـ ولو حكما ـ بكون ذا حكم الله الشرعي.
وحينئذ أيضا لا إشكال ولا خلاف فتوى ودليلا ـ كما مرّت إليه الإشارة ـ في عدم
مشروعيّة تقليده وبطلانه له حينئذ ولو فرض استكماله لسائر الشروط السالفة المعتبرة في المفتي ، ولو فرض كونه ظانّا به بالظنّ الغير المعتبر وحصل من قوله لمن وظيفته التقليد أيضا الظنّ بالحكم الشرعيّ ، إلّا في الوجه الآتي إليه الإشارة.
ومنها : ما كان الغير جامعا لجميع شروط الإفتاء ، عدا البلوغ.
وحينئذ أيضا لا إشكال ولا خلاف في عدم مشروعيّة تقليده وعدم صحّة العمل بفتواه له حينئذ ؛ لجملة ما مرّت إليه الإشارة من الاصول والعمومات وغيرها ، مع فقد الدليل المعتبر الدالّ على الصحّة والمشروعيّة ، عدا بعض ما مرّت إليه الإشارة ، ممّا دلّ بالإطلاق أو العموم عليها ، ولكنّه أيضا عند التأمّل لا يصلح للدلالة على ذلك.
نعم ، لو حصل له من قوله الظنّ بالحكم الشرعيّ ، اتّجه العمل له به على الوجه الآتي إليه الإشارة.
ومنها : ما كان الغير جامعا لجميع شروط الإفتاء ، عدا الإسلام.
وحينئذ أيضا لا إشكال ولا خلاف ظاهرا في عدم مشروعيّة تقليده وعدم صحّة العمل بفتواه حينئذ له ؛ لما مرّت إليه الإشارة ، مع فقد الدليل المعتبر الدالّ على الصحّة والمشروعيّة.
نعم ، لو حصل له من قوله الظنّ بالحكم الشرعيّ ، اتّجه العمل له به على الوجه الآتي إليه الإشارة.
ومنها : ما كان الغير جامعا لجميع شروط الإفتاء ، عدا الإيمان.
وحينئذ أيضا لا إشكال ولا خلاف ظاهرا في عدم مشروعيّة تقليده وعدم صحّة العمل له بفتواه له حينئذ ؛ لعموم ما مرّت إليه الإشارة.
مع عدم الدليل المعتبر على الصحّة والمشروعيّة ، إلّا إذا حصل له من قوله الظنّ بالحكم الشرعيّ على الوجه الآتي إليه الإشارة ، على إشكال ينشأ ممّا يأتي ، ومن الأخبار الكثيرة الماضي إلى بعضها الإشارة الآمرة بالأخذ بخلاف قوله ، والمصرّحة بأنّ الرشد في خلافه ؛ فتدبّر.
ومنها : ما كان الغير جامعا لجميع شروط الإفتاء ، عدا العدالة.
وحينئذ أيضا لا إشكال ولا خلاف ظاهرا في عدم مشروعيّة تقليده وعدم صحّة العمل له بفتواه حينئذ ، لعموم ما مرّت اليه الإشارة ، مع عدم الدليل المعتبر على الصحّة والمشروعيّة ، الّا إذا حصل له من قوله الظنّ بالحكم الشرعي على الوجه الآتي إليه الإشارة.
ومنها : ما كان الغير جامعا لجميع شروط الإفتاء ، عدا طهارة المولد.
وحينئذ أيضا لا إشكال ولا خلاف ظاهرا أيضا في عدم مشروعيّة تقليده وعدم صحّة العمل له بفتواه حينئذ ، لعموم ما مرّت إليه الإشارة ، مع فقد الدليل المعتبر على الصحّة والمشروعيّة ، إلّا إذا حصل له من قوله الظنّ بالحكم الشرعيّ على الوجه الآتي إليه الإشارة.
ومنها : ما كان الغير جامعا لجميع شروط الإفتاء ، عدا الذكورة.
وحينئذ أيضا لا إشكال ولا خلاف ظاهرا أيضا في عدم مشروعيّة تقليده وعدم صحّة العمل له بفتواه حينئذ ، لعموم ما مرّت إليه الإشارة ، مع فقد الدليل المعتبر الدالّ على الصحّة والمشروعيّة ، إلّا إذا حصل له من قوله الظنّ بالحكم الشرعيّ على الوجه الآتي إليه الإشارة.
ومنها : ما كان الغير متجزّيا في الفروع ، مع كونه جامعا لسائر شروط الإفتاء.
وحينئذ ، هل يصحّ ويشرّع له تقليده والعمل فيما اجتهد فيه بفتواه حينئذ مطلقا ، أم لا كذلك ؟ إشكال ، ينشأ من عموم جملة ما مرّت إليه الإشارة ممّا دلّ على الصحّة والمشروعيّة.
ومن عموم الوجوه الكثيرة السالفة الدالّة على عدمها ، المؤيّدة أو المعتضدة بإطلاق فتاويهم في الصور الآتية ، وباستلزام القول بالصحّة والمشروعيّة هنا ـ كما في غيرها من الصور السالفة أيضا ـ إمّا للدور ، أو التسلسل ، كاستلزامه أيضا لعدم القول بهما ؛ فتدبّر جدّا.
مضافا إلى إمكان المناقشة في دلالة ما دلّ على الصحّة والمشروعيّة أيضا بما لا يخفى على المتأمّل المنصف.
فإذن يترجّح في النظر الثاني ، إلّا إذا حصل له من قوله الظنّ بالحكم الشرعيّ على الوجه الآتي إليه الإشارة.
ومنها : ما كان الغير جامعا لجميع شروط الإفتاء ، عدا الحياة.
وحينئذ ، هل يصحّ ويشرّع له تقليده والعمل بفتواه حينئذ مطلقا ـ كما هو خيرة بعض فضلاء العصر (١) ، وعزّاه فخر المحقّقين ـ على ما حكي (٢) ـ إلى والده العلّامة ، وغيره إلى ظاهر المولى السميّ المقدّس في مجمع الفائدة (٣) ، وثالث تارة إلى جمع كثير من المتأخّرين ، واخرى إلى جماعة منهم المحقّق الشيخ سليمان البحراني والعلّامة ركن الدين محمّد بن عليّ الجرجاني في شرح المبادي والشيخ الجليل عليّ بن الهلال وبعض المتأخّرين وغيره (٤) ـ وهو خيرة جميع من جوّز العمل بفتوى الميّت مطلقا ؟
أم لا كذلك ، كما في ظاهر حاشية الشرائع للمحقّق الشيخ عليّ (٥) ، والمنية لشيخنا الشهيد الثاني ـ طاب ثراهما (٦) ـ والمفاتيح للسيّد السند العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه العالي ـ وغيرها (٧) ، وعزّاه في المفاتيح إلى جماعة منهم بعض شارحي الجعفريّة (٨) .
ولعلّه اللائح من كلّ من أطلق القول بالمنع عن تقليد الميّت والعمل بفتواه ، كالعلّامة والشهيدين وغيرهم من نقلة الإجماع أو عدم الخلاف الماضي إلى ذكرهم الإشارة ، بل الظاهر من الشهيد الثاني في المنية ـ كاللائح ممّن عداه ممّن أطلق المنع ـ أنّ هذا القول هو مختار جميع القائلين بالمنع في صورة التمكّن من المفتي الحيّ الجامع
__________________
(١) حكاه عن المحقّق القمّي في حجّة الإسلام في مطارح الأنظار ، ص ٢٨٠.
(٢) حكاه عنه المحقّق الكركي في حاشية الشرائع ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ، ج ١١ ، ص ١١٥.
(٣) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٧ ، ص ٥٤٧.
(٤) حكاه عنهم في مطارح الأنظار ، ص ٢٩٣.
(٥) حاشية الشرائع ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ، ج ١١ ، ص ١١٥.
(٦) منية المريد ، ص ٣٠٥.
(٧) مفاتيح الاصول ، ص ٦٢٥.
(٨) مفاتيح الاصول ، ص ٦٢٥.
للشرائط (١) ؟
قولان ، أجودهما : الثاني ؛ للأصل والاستصحاب ، وسائر الوجوه السالفة ، المؤيّدة بما مرّت إليه الإشارة ، والمعتضدة بإطلاق جلّ الإجماعات المنقولة السالفة أو كلّها ، السليمة عمّا يصلح للمعارضة معها عند التأمّل والتحقيق.
مضافا إلى استلزام القول الأوّل ـ على فرض صحّته ـ لبطلانه ؛ نظرا إلى كون القول بعدم مشروعيّة تقليد الميّت وعدم صحّة العمل بفتواه حينئذ أيضا ، من جملة أقوال الموتى من المجتهدين.
مضافا إلى استلزامه إمّا الدور ، أو التسلسل ، أو التناقض ، أو غيرها بحكم ما مرّت إليه الإشارة في المسألة السابقة ؛ فتنبّه وتدبّر جدّا.
حجّة القول الأوّل وجوه :
منها : الإجماع ، نقله بعض فضلاء العصر ، حيث قال : وأمّا تقليد العامّي للميّت مع عدم إمكان تقليد الحيّ ، فهو أيضا بالإجماع والدليل العقلي. انتهى.
وفيه : ما لا يخفى :
أمّا أوّلا : فلمنع الإجماع لو اريد منه المحصّل منه ؛ لما عرفت وستعرفه. والمنقول منه أيضا لا اعتبار به ؛ لوهنه بظهور اشتباه ناقله ، وبمصير هؤلاء الجماعة إلى خلافه ، وما هذا حاله فلا عبرة به.
وأمّا ثانيا : فلمعارضته على فرض اعتباره بما هو أقوى وأرجح منه ، ممّا أفاده شيخنا الشهيد الثاني ـ طاب ثراه ـ في المنية ، بقوله :
في جواز تقليد الميّت مع وجود الحيّ أو لا معه ، أقوال ، أصحّها : عدم جوازه مطلقا ؛ لأنّ المذاهب لا تموت بموت أصحابها ، ولهذا يعتدّ بها بعدهم في الإجماع [ والخلاف ] ، ولأنّ موت الشاهد قبل الحكم لا يمنع الحكم بشهادته ، بخلاف فسقه ، والثاني لا يجوز مطلقا ؛ لفوات أهليّته بالموت ، ولهذا ينعقد
__________________
(١) منية المريد ، ص ٣٠٥.
الإجماع بعده ، ولا ينعقد في حياته على خلافه ، وهذا هو المشهور بين أصحابنا ، خصوصا المتأخّرين منهم ، بل لا نعلم قائلا بخلافه صريحا ممّن يعتدّ بقوله ، لكن هذا الدليل لا يتمّ على اصولنا ، من أنّ العبرة في الإجماع إنّما هو بدخول المعصوم ، كما لا يخفى ، والثالث : المنع منه مع وجود الحيّ لا مع عدمه. انتهى (١) .
وهو ـ كما ترى ـ ينادي بأعلى صوته بأنّ مذهب الإماميّة المنع بالإضافة إلى صورة الحيّ أيضا. ويعضده أيضا إطلاق سائر الإجماعات المنقولة السالفة على المنع.
ويؤيّده أيضا احتجاج جماعة منهم ـ كالعلّامة في النهاية والتهذيب والشهيد في الذكرى وغيرهم (٢) ـ بأنّ الميّت لا قول له ، وقوله كالميّت ، وبانعقاد الإجماع بعده على خلافه.
ومن البيّن أنّ هذا أقوى وأرجح من ذاك ، سيّما مع اعتضاده أو تأييده بفتوى المشهور أو الأكثر على الظاهر.
مضافا إلى الوجوه السالفة ، الدالّة على المنع وعدم الصحّة.
ومنها : عموم ما دلّ على نفي العسر والحرج في الشريعة ، بناء على استلزام القول بالمنع وعدم الصحّة للعسر والحرج الشديدين المنفيّين ، ويلزم نفيهما هنا للجواز والصحّة.
وفيه أيضا ما لا يخفى :
أمّا أوّلا : فلأنّ العسر والحرج إنّما يتحقّق حينئذ فيما إذا ثبت اشتغال ذمّة المكلّف المستفتي حينئذ بالتكليف ، ولم يتمكّن من تحصيل الحكم الشرعيّ بسهولة بالاجتهاد ، ولم يتمكّن أيضا عند تعذّر تحصيله به أو تعسّره من الاحتياط بما يحصل
__________________
(١) منية المريد ، ص ٣٠٥.
(٢) نهاية الوصول إلى علم الاصول ، الورقة ٣١٧ ؛ تهذيب الوصول إلى علم الاصول ، ص ٢٨٩ ؛ ذكرى الشيعة ، ج ١ ، ص ٤٤ ؛ وانظر مبادئ الوصول إلى علم الاصول ، ص ٢٤٨.
له اليقين بالبراءة والإتيان بالواقعة على النهج المشروع.
وأمّا في غير ذلك ، فلا نسلّم تحقّق العسر والحرج كما هو واضح ، فيكون الدليل أخصّ من المدّعى ، إلّا أن يتمّ بعدم القول بالفصل ، أو يخصّ المبحوث عنه بالصورة الاولى وفي كليهما تأمّل لا يخفى.
وأمّا ثانيا : فلأنّ تحقّق العسر والحرج حينئذ ـ على فرض تسليمه بعنوان الكلّيّة أو في الجملة ـ لا يستلزم حجّيّة هذه الفتوى بالإضافة إلى هذا المكلّف ؛ إذ وجودها حينئذ بعد عدم الدليل على اعتبارها أو الدليل على عدم اعتبارها يكون كالعدم.
ومن الواضح أنّ بعد فقد هذه الفتوى يكون تحقّق العسر والحرج أشدّ وآكد ، مع أنّ العمل بالفتوى حينئذ متعذّر أو متعسّر رأسا ، فكلّ ما هو حكم المكلّف حينئذ هو حكمه فيما نحن فيه ؛ فافهم.
وأمّا ثالثا : فلأنّ رفع الحرج والعسر على فرض تحقّقهما حينئذ لا ينحصر في العمل بفتوى الميّت والاعتماد عليها ؛ لإمكانه بغيره أيضا من المحتملات المشار إليها.
ومن الواضح أنّ العامّ لا دلالة له على خصوص الخاصّ بإحدى الثلاث ، فلا يصلح للدلالة.
وأمّا رابعا : فلأنّ هذا العموم حجّيّته إنّما هو بالإضافة إلى المجتهد الحيّ الجامع للشرائط كما تقرّر في محلّه ، فلا يصلح لغيره التشكيك به ، والفرض أيضا فقد المجتهد الحيّ الجامع للشرائط ، فكيف يصحّ التمسّك بهذا العموم ؛ فتدبّر جدّا.
وأمّا خامسا : فلمعارضة هذا العموم ـ على فرض سلامته ـ بما هو أقوى وأرجح من وجوه شتّى ممّا مضى ؛ فتأمّل.
ومع الغمض عن الترجيح ، فلا بدّ من التوقّف والرجوع إلى الأصل ، ومقتضاه ما قلناه.
مضافا إلى استلزامه ـ على تقدير سلامته عن جميع ما مرّ ـ إما للتناقض ، وإمّا لعدم جوازه وصحّته أو غيرهما بالتقريب المشار إليه سابقا ؛ فتذكّر وتأمّل لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرا (١) .
ومنها : عموم قوله سبحانه : ﴿ فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾(٢) بالتقريب المشار إليه سابقا.
وفيه أيضا لا يخفى ، سيّما بعد ما مضى آنفا وسابقا.
ومنها : سائر العمومات الدالّة على جواز العمل بقول العلماء وفتاواهم ، بالتقريب الذي قالوه في بيان الجواز والصحّة مع وجود الحيّ الجامع للشرائط.
وفيه أيضا ما لا يخفى ، سيّما بعد ما مضى.
ومنها : عموم ما دلّ على حجّيّة الظنّ وأصالتها ، فإنّه شامل لمحلّ البحث.
وفيه أيضا ما لا يخفى :
أمّا أوّلا : فلمنع العموم المعتبر ، بحيث يشمل ما نحن فيه ؛ لعدم الدليل المعتدّ به عليه ، بل الدليل ـ من الاصول وغيرها ـ على عدمه قائم بحكم ما أشرنا إليه ؛ فتأمّل.
وأمّا ثانيا : فلأنّ العموم على تقدير تسليمه إنّما يدلّ على الجواز والصحّة فيما يحصل للمستفتي من فتوى الميّت الظنّ بالحكم الشرعي خاصّة ، فيكون أخصّ من المدّعى كما لا يخفى.
وتتميمه بعدم القول بالفصل أيضا على تقدير إمكانه مشكل ؛ لإمكان المعارضة بالمثل.
وأمّا ثالثا : فلأنّ العموم ـ على تقدير سلامته عمّا مرّ ـ كما يدلّ على اعتبار الظنّ بالحكم الحاصل له من فتوى الميّت حينئذ بالإضافة إلى الوقائع والمسائل الفروعيّة ، فكذا يدلّ على اعتبار الظنّ الحاصل له بالحكم في هذه المسألة المتنازع فيها ، وهو
__________________
(١) مأخوذ من قوله تعالى في الآية ١ من سورة الطلاق (٦٥) .
(٢) الزمر (٣٩) : ١٨.
ـ كما ترى ـ بحكم أكثر ما مضى يقتضي المنع وعدم الاعتبار ، ومعه لا يصحّ الاعتبار بالظنّ الحاصل له من فتواه بالإضافة إلى سائر الأحكام والمسائل ؛ فافهم.
مضافا إلى اقتضائه على اعتباره وسلامته ـ عما مرّ ـ للتناقض أيضا وغيره ممّا مرّت إليه الإشارة ؛ فتذكّر.
وكيفما كان ، فالقول المختار هو الحقّ والصواب ، إلّا فيما إذا حصل من فتوى الميّت الظنّ بالحكم الشرعي على الوجه الآتي إليه الإشارة.
المسألة التاسعة عشر : لو تعسّر عليه بما لا يتحمّل عادة الرجوع إلى المفتي الحيّ الجامع للشرائط ، ففى إلحاقه بما لو تعذّر ، وعدمه ، وجهان.
معتمدهما : الثاني ؛ لأكثر ما مرّت إليه الإشارة.
المسألة العشرون : حيثما تعذّر عليه الوصول إلى من يصحّ له تقليده والعمل بفتواه من المفتي الحيّ الجامع للشرائط السالفة ، وقلنا بعدم جواز تقليد غيره أيضا مع وجوده ، فهل عليه حينئذ تكليف ، أم لا ؟
الذي يقتضيه التحقيق : أنّ للمسألة صورا :
منها : ما إذا كان جاهلا بفروع الشريعة رأسا ، وبكونه مكلّفا بها كذلك ، ولم يكن متمكّنا من تحصيلها أصلا لا بالاجتهاد ، ولا بالتقليد ، ولا بالاحتياط.
وحينئذ لا تكليف عليه شرعا بها ؛ لما دلّ من العقل والنقل من الكتاب والسنّة المقطوع بها وغيرها ، من المعتبرة والإجماع والمحصّل والمنقول في كلمات الطائفة على بطلان التكليف بما لا يطاق ، وعلى رفع التكليف بما لا يعلم.
مضافا إلى الأصل ، بل الاصول الدالّة على ذلك.
ومنها : ما كان عالما بفروع الشريعة بعنوان الإجماع ، وبكونه مكلّفا فيها كذلك ، وجاهلا بها بعنوان التفصيل ، ولكن كان قادرا على تحصيلها كذلك ، ومتمكّنا عنه بالاجتهاد خاصّة ، من دون عسر ومشقّة لا يتحمّل عادة.
وحينئذ فالواجب عليه الاجتهاد في تحصيلها ، كما صرّح به المحقّق الشيخ عليّ
في حاشية الشرائع (١) ، وسيّدنا الاستاد ـ دام ظلّة العالي ـ في المفاتيح ؛ (٢) لعموم ما دلّ على وجوبه ولو كفاية ، بناء على تعلّقه بجميع المكلّفين ، وسقوطه بفعل من يقوم به الكفاية ، والفرض عدمه.
مضافا إلى اختصاص وجوبه الكفائي بغير الأحكام الشرعيّة المحتاج إليها ، القادر على تحصيلها بالاجتهاد كذلك ، وتعيّن وجوبه العيني في حقّه وبالإضافة إلى نفسه.
مضافا إلى تعلّق التكليف بالأحكام به قطعا ولو إجمالا ، كما هو المفروض ، فلا بدّ له من تحصيلها بما يقدر عليه عقلا ونقلا ، وهو الاجتهاد كما هو المفروض ، فلا بدّ له من الاجتهاد فيه. وهذا واضح.
ومنها : ما كان عالما بها بعنوان الإجمال ، وبكونه مكلّفا بها أيضا كذلك ، وجاهلا بها بعنوان التفصيل ، وغير قادر على الاجتهاد أيضا ، ولكن كان قادرا على الاحتياط ، ومتمكّنا عنه بسهولة فيما يمكن الاحتياط فيه.
وحينئذ ، فالواجب عليه ولو من باب المقدّمة الأخذ بالاحتياط ما لم يلزم منه الحرج ، كما صرّح به جماعة ، منهم شيخنا الشهيد الثاني ـ طاب ثراه ـ في منية المريد (٣) ، وسيّدنا العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه العالي ـ في المفاتيح (٤) ، وغيرهما ؛ وعزّاه سيّدنا إلى جدّه البهبهاني ووالده السيّد العلّامة الطباطبائي (٥) ؛ لما دلّ من العقل أو النقل على وجوبه حينئذ.
وربما يلوح ، بل يظهر من بعضهم عدم وجوبه وسقوط التكليف حينئذ رأسا ، على ما حكاه شيخنا الشهيد الثاني ـ طاب ثراه ـ في تمهيد القواعد ، حيث قال فيه : إذا وقعت واقعة ولم يوجد من يفتي فيها ، فقيل : حكمها حكم ما قبل ورود الشرع ، وقيل :
__________________
(١) حاشية الشرائع ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ج ١١ ، ص ١١٥.
(٢) مفاتيح الاصول ، ص ٦٢٦.
(٣) منية المريد ، ص ٣٠٧.
(٤) مفاتيح الاصول ، ص ٦٢٦.
(٥) مفاتيح الاصول ، ص ٦٢٦ ؛ وهو في رسالة عدم جواز تقليد الميّت ( الرسائل الفقهيّة للوحيد البهبهاني ) ، ٢٧.
لا حكم فيها ولا تكليف أصلا (١) . انتهى.
وهو ـ كما ترى ـ ظاهر أو صريح في وجود القائل بعدم وجوبه ، وهو الظاهر من السيّد المرتضى رضي الله عنه أيضا في المسائل التبّانيّات كما ستقف على عبارته (٢) .
ولا يخلو عن وجه لو لا ما مرّت إليه الإشارة.
ومنها : ما كان عالما بها بعنوان الإجمال ، وبكونه مكلّفا بها كذلك ، وجاهلا بها بعنوان التفصيل ، وغير قادر على الاجتهاد ، ولا متمكّن أيضا من الاحتياط.
وحينئذ ، فهل يكون في واقعته مكلّفا بشيء يصنعه ؟
قال شيخنا الشهيد الثاني ـ طاب ثراه ـ في المنية : فيه نظر (٣) .
وقال السيّد السند المرتضى رضي الله عنه في المسائل التبّانيّات :
من لا يقدر على تمييز الحقّ من الباطل في فروع الدين ، لا يقدر على مثل ذلك في اصوله ، ومن هذه صفته فهو عامّي في الاصول والفروع ، ولا يجب عليه شيء من النظر والبحث ، ولا يجبان عليه ، فلا يجب عليه التقليد في الفروع ، كما لا يجب عليه مثل ذلك في الاصول ، وهذا جار مجرى البهائم والأطفال الخارجين عن التكليف ، فلا حرام عليهم ولا حلال لهم. انتهى (٤) .
وهذا ـ كما ترى ـ ظاهر أو صريح في سقوط التكليف عنه ، وعدم كونه مكلّفا بشيء فيها ، كما هو الظاهر أو الصريح من المحكيّ آنفا عن الشهيد (٥) .
وقال سيّدنا العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه العالي ـ في المفاتيح بوجوب الأخذ حينئذ بما هو المشهور بين الأصحاب إن تمكّن عنه ، وعزّاه إلى جدّه ووالده ـ طاب ثراهما ـ وإن لم يتمكّن عنه أيضا فاللازم تقليد أعلم الأموات وأزهدهم وإن لم يتمكّن عن معرفة جميع ذلك ، وانحصر تحصيل أحكامه في تقليد الميّت جاز حينئذ ، بل وجب ،
__________________
(١) تمهيد القواعد ، ص ٦٧ ، قاعدة ١٤.
(٢) انظر تخريجه في الصفحة الآتية.
(٣) منية المريد ، ص ٣٠٧.
(٤) جوابات المسائل التبّانيّات ( رسائل الشريف المرتضى ) ، ج ١ ، ص ٤٣.
(٥) تقدّم تخريجه.
لأن لا يخرج عن الدين ، ويبقى بلا عمل وطاعة. انتهى كلامه ـ دام ظلّه ـ ملخّصا (١) .
أقول : وإن كان ما أفاده لعلّه أحوط ، إلّا أنّ في وجوبه عليه وتعيّنه في حقّه تأمّلا وإشكالا من جهة الشكّ في أصل التكليف وكونه مكلّفا به ، نظرا إلى ما دلّ من العقل والنقل على اشتراط علم المكلّف بهما وبالمكلّف به ولو حكما وبواسطة.
نعم ، لو قلنا ببقائه وثبوته حينئذ أيضا في حقّه لاتّجه ذلك ؛ حذرا عن الإخلال بالتكليف الثابت ، وامتثالا وخروجا عن العهدة ، إلّا إذا حصل له الظنّ به من غير ذلك ، فحينئذ يحتمل قويّا لزوم اتّباعه ما لم يكن في اعتقاده مقطوعا بعدم اعتباره.
وكيف ما كان ، فهذه الصورة محلّ التأمّل والإشكال كما لا يخفى على العارف بحقيقة الحال.
ومنها : ما كان جاهلا بالحكم الشرعي في بعض الوقائع ، فإن لم يتمكّن عن تحصيله رأسا لا بالاجتهاد ولا بالاحتياط ولا بالتقليد أصلا.
وحينئذ لا تكليف عليه كما في الصورة الاولى ؛ لما سبقت إليه الإشارة ثمّة ، إلّا إذا كان الحكم الشرعي المجهول حكما وضعيّا ، فالتحقيق هنا ـ كما في الصورة الاولى ـ يقتضي البناء على ما يقتضيه الأصل.
فإن كان الحكم المجهول هو الصحّة ، بني على الفساد ظاهرا ، كما إذا كان هو المانعيّة أو السببيّة ، يبنى على المانعيّة في الأوّل ، وعدم السببيّة في الثاني ، وإن كان في الشرطيّة أو الجزئيّة أو الركنيّة ، فاللازم البناء على الشرطيّة في الأوّل ، والجزئيّة في الثاني ، والركنيّة في الثالث ، ما لم يحتمل في كلّ منهما المانعيّة.
وإن تمكّن عنه بالاجتهاد خاصّة ، وجب عليه قولا واحدا فيما أعلم ، فتوى ودليلا.
وإن تمكّن عنه بالاحتياط خاصّة ، وجب عليه ما لم يلزم منه الحرج ؛ لما مرّت إليه الإشارة ، إلّا إذا كان المجهول من الأحكام التكليفيّة التحريميّة أو الإيجابيّة ، ففي
__________________
(١) مفاتيح الاصول ، ص ٦٢٦.
وجوب الاحتياط عليه حينئذ تأمّل وإشكال وإن كان أحوط وأولى.
وإن لم يتمكّن عن الاحتياط أيضا كذلك ، فإن كان الحكم المجهول من الأحكام الوضعيّة ، فالذي يظهر لي هنا ـ كما في الصورة الرابعة أيضا ـ هو البناء ظاهرا على ما يقتضيه الأصل اللائق بالمقام ، والمدلول عليه بالعقل أو النقل المعتبر ، أو غيرهما ، بالتفصيل المشار إليه.
وإن كان من الأحكام الشرعيّة الإيجابيّة والتحريميّة ، فيجيء هنا ما مرّ في الصورة الرابعة من الخلاف والإشكال والتفصيل والاحتياط ، وإن كان الحكم بتعيّن التقليد حينئذ عليه بالتفصيل المشار إليه هنا أشدّ إشكالا ، كما لا يخفى ، سيّما على اولي النهى.