تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: پاسدار إسلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

موارده ومصادره إذ لم يأخذوه من أهله ، فضّلوا وأضلّوا ، ثم ذكر عليه‌السلام كلاما طويلا في تقسيم القرآن الى أقسام ، وفنون ، وجوه تزيد على مائة وعشرة الى أن قال عليه‌السلام وهذا دليل واضح على أنّ كلام البارئ سبحانه لا يشبه كلام الخلق ، كما لا تشبه أفعاله أفعالهم.

ولهذه العلّة وأشباهها لا يبلغ أحد معنى حقيقة تفسير كتاب الله إلّا نبيّه وأوصيائه الى أن قال عليه‌السلام ثم سئلوه عن تفسير المحكم من كتاب الله عزوجل فقال : أمّا المحكم الذي لم ينسخه شيء من القرآن فهو قول الله عزوجل : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) (١) الآية ، وإنما هلك الناس في المتشابه لأنهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له التأويلات من عند أنفسهم بآرائهم ، واستغنوا بذلك عن مسئلة الأوصياء ، ونبذوا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وراء ظهورهم الخبر (٢).

وفي الإحتجاج عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في إحتجاجه على زنديق سأله عن آيات متشابهة من القرآن فأجابه الى أن قال عليه‌السلام : وقد جعل الله للعلم أهلا وفرض على العباد طاعتهم بقوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٣) وبقوله : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (٤) ، وبقوله : (اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (٥) ، وبقوله :

__________________

(١) آل عمران : ٧.

(٢) المحكم والمتشابه عن تفسير النعماني ص ٥ ، وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٤٨.

(٣) النساء : ٥٩.

(٤) النساء : ٨٣.

(٥) التوبة : ١١٩.

٦١

(وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (١) ، وبقوله : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) (٢) ، والبيوت هي بيوت العلم الذي استودعته الأنبياء ، وأبوابها أوصيائهم ، فكل عمل من أعمال الخير يجري على غير أيدي الأوصياء ، وعهودهم ، وحدودهم ، وشرائعهم ، وسننهم ، ومعالم دينهم مردود غير مقبول ، وأهله بمحل كفر ، وإن شملهم صفة الإيمان الى أن قال عليه‌السلام بعد تأويل كثير من المتشابهات ، وبيان غفير من المجملات : وإنما جعل الله في كتابه هذه الرموز التي لا يعلمها غيره وغير أنبيائه وحججه في أرضه لعلمه بما يحدثه المبدلّون ، وتلبيسهم على الأمة فأثبت فيه رموزا وجعل أهل الكتاب المقيمين به العالمين بظاهره ، وباطنه من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، أي يظهر مثل هذا العالم لمحتمليه في الوقت بعد الوقت ، الى أن قال عليه‌السلام : ثم إنّ الله تعالى لسعة رحمته ورأفته بخلقه قسّم كلامه ثلاثة أقسام : فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسما لا يعرفه إلّا من صفي ذهنه ، ولطف حسه ، وصح تمييزه ممّن شرح الله صدره للإسلام ، وقسما لا يعرفه إلّا الله وأمناؤه الراسخون في العلم ، وإنما فعل الله ذلك لئلّا يدّعي أهل الباطل من علم الكتاب ما لم يجعله الله لهم وليقودهم الاضطرار الى الائتمار لمن ولّاه أمرهم الخبر (٣). بل فيه بطوله شواهد آخر على ما قدّمناه.

وروى البرقي في «المحاسن» عن الصادق عليه‌السلام في رسالته قال عليه‌السلام : فأمّا ما سألت عن القرآن فذلك أيضا من خطراتك المتفاوتة المختلفة ، لأنّ القرآن ليس على ما ذكرت ، وكلّ ما سمعت فمعناه على غير ما ذهبت اليه ،

__________________

(١) آل عمران : ٧.

(٢) البقرة : ١٨٩.

(٣) بحار الأنوار ج ١٩ الطبع القديم باب ١٢٩ ص ١٢٢ ، الإحتجاج ص ١٣٠.

٦٢

وإنّما القرآن أمثال لقوم يعلمون ، دون غيرهم ، ولقوم يتلونه حق تلاوته ، وهم الذين يؤمنون به ويعرفونه ، وأمّا غيره فما أشدّ إشكاله عليهم وأبعده من مذاهب قلوبهم ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه ليس شيء أبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن ، وفي ذلك يتحيّر الخلائق أجمعون إلّا من شاء الله ، وإنّما أراد الله بتعميته في ذلك أن ينتهوا الى بابه وصراطه وأن يعبدوه وينتهوا في قوله الى طاعة القّوام بكتابه ، والناطقين عن أمره ، وأن يستنبطوا ما احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم.

ثمّ قال عليه‌السلام : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (١) ، فأما عن غيرهم فليس يعلم ذلك أبدا ولا يوجد وقد علمت أنه لا يستقيم أن يكون الخلق كلهم ولاة الأمر ، لأنّهم لا يجدون من يأتمرون عليه ، ومن يبلّغونه أمر الله ونهيه فجعل الله الولاة خواصّ ليقتدي بهم فافهم ذلك إنشاء الله ، وإيّاك وإيّاك وتلاوة القرآن برأيك ، فإنّ الناس غير مشتركين في علمه كاشتراكهم فيما سواه من الأمور ، ولا قادرين على تأويله إلّا من حدّه وبابه الذي جعله الله له الخبر (٢).

وفي «الكافي» و «العلل» و «رجال الكشي» (٣) بالإسناد عن منصور بن حازم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ الله أجلّ وأكرم أن يعرف بخلقه ـ إلى أن قال : ـ وقلت للناس : أليس تعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان الحجّة من الله على

__________________

(١) النساء : ٨٣.

(٢) المحاسن ص ٢٦٨ ، وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٤١.

(٣) الكشي محمد بن عمرو بن عبد العزيز أبو عمرو ، فقيه ، رجالي ، إمامي اشتهر بكتابه (معرفة أخبار الرجال) مات نحو ٣٤٠ ، اختصر رجال الكشي شيخ الطائفة الطوسي وسماه إختيار الرجال وهو المعروف بين الناس اليوم.

٦٣

خلقه قالوا بلى ، قلت : فحين مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من كان الحجة على خلقه؟ قالوا القرآن ، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجئ ، والقدري ، والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته ، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّة إلّا بقيّم فما قال فيه من شيء كان حقا ، فقلت لهم : من قيّم القرآن؟ فقالوا : ابن مسعود قد كان يعلم ، وعمر يعلم ، وحذيفة يعلم ، قلت : كلّه؟ قالوا : لا ، فلم أجد أحدا يقال : إنّه يعلم القرآن كلّه إلّا عليا ، وإذا كان الشيء بين القوم ويقول هذا لا أدري وهذا لا أدري فأشهد أنّ عليا كان قيّم القرآن ، وكانت طاعته مفترضة ، وكان الحجّة على الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ ما قال في القرآن فهو حقّ فقال عليه‌السلام : رحمك الله (١).

وفي «الكافي» عن الصادق عليه‌السلام : إنّ رجلا سأل أباه عن مسائل فكان ممّا أجابه به أن قال عليه‌السلام : قل لهم : هل كان فيما أظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من علم الله اختلاف؟ فإن قالوا لا ، فقل لهم : فمن حكم بحكم فيه اختلاف ، فهل خالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقولون : نعم؟ فإن قالوا لا فقد نقضوا أوّل كلامهم فقل لهم : ما يعلم تأويله إلّا الله والراسخون في العلم ، فإن قالوا : من الراسخون في العلم؟ فقل : من لا يختلف في علمه ، فإن قالوا : من ذاك؟ فقل : كان رسول الله صاحب ذاك ، الى أن قال : وإن كان رسول الله لم يستخلف أحدا فقد ضيّع من في أصلاب الرجال ممّن يكونوا بعده قال وما يكفيهم القرآن؟ بلى لو وجدوا له مفسّرا قال : وما فسّره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال بلى فسّره لرجل واحد ، وفسّر للأمة شأن ذلك الرجل ، وهو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، إلى أن قال : والمحكم ليس بشيئين إنما هو شيء واحد ، فمن حكم بحكم ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم الله عزوجل ، ومن حكم

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ١٦٨ ، علل الشرائع ج ١ ص ١٨٣.

٦٤

بحكم فيه اختلاف فرأى أنه مصيب فقد حكم بحكم الطاغوت (١).

وفي خطبة مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّ علم القرآن ليس يعلم إلّا من ذاق طعمه ، فعلم بالعلم جهله ، وبصر به عماه ، وسمع به صممه ، وأدرك به ما قد فات ، وحيي به بعد إذ مات ، فاطلبوا ذلك من عند أهله وخاصّته فإنّهم خاصة نور يستضاء به ، وأئمة يقتدى بهم ، هم عيش العلم ، وموت الجهل ، وهم الذين يخبركم حلمهم عن علمهم ، وصمتهم عن منطقهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، لا يخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه (٢).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي منها خبر دخول الصوفّية على مولانا الصادق عليه‌السلام واحتجاجه عليهم لمّا احتجّوا عليه بآيات من القرآن في الإيثار والزهد المذكور في «الكافي» (٣) وغيره من الأخبار فلاحظ ، بل يدلّ عليه أيضا الأخبار المتواترة الدالّة على غموض علم القرآن ، والنهي عن الخوض والتكلّم

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٢٤٢.

(٢) يوجد ذيل الحديث في خطبتين من نهج البلاغة : الأولى خطبة ١٤٧ والثانية خطبة ٢٣٧.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٦٥ ، وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٣٥ عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث احتجاجه على الصوفية لمّا احتجّوا عليه بآيات من القرآن في الإيثار والزهد ، قال عليه‌السلام : ألكم علم بناسخ القرآن ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابه الذي في مثله ضل من ضل ، وهلك من هلك من هذه الأمة؟ قالوا : بعضه فأمّا كلّه فلا ، فقال عليه‌السلام لهم : فمن ها هنا أتيتم ، وكذلك أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى أن قال عليه‌السلام : فبئس ما ذهبتم اليه ، وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأحاديثه التي يصدقها الكتاب المنزل وردكم إياها لجهالتكم وترككم النظر في غريب القرآن من التفسير ، والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والأمر والنهي ـ الى أن قال عليه‌السلام : دعوا عنكم ما اشتبه عليكم مما لا علم لكم به ، وردوا العلم الى أهله تؤجروا وتعذروا عند الله ، وكونوا في طلب ناسخ القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابه وما أحلّ الله فيه مما حرّم ، فإنّه أقرب من الله ، وأبعد لكم من الجهل ، دعوا الجهالة لأهلها ، فإنّ أهل الجهل كثير ، وقد قال الله تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ).

٦٥

فيه بغير علم ، وإيجاب ردّ علمه الى أهله ، وإنه إنما يفهمه من خوطب به ، وخبر الثقلين وإنّهما لا يفترقان الى غير ذلك مما يوجب الاضطرار الى الحجة.

هذا مضافا الى أنّ التشابه في البعض ممّا يوجب الاستعلام والاضطرار للرّجوع إلى أبواب العلم وخزنة الوحي ، والتلقّي منهم ، وبه ينفتح لأهله باب معرفة القانون والمعيار الكلّي في الاستنباط حسبما نشير إليه إن شاء الله تعالى ، بل ربما تكون الحقائق لغموضها ودقّة مسالكها ومبانيها وخفاء معانيها لا يمكن التعبير عنها إلّا بالعبارات المتشابهة الّتي لا تعرف العامّة منها إلّا المعاني المأنوسة في أذهانهم.

٦٦

الفصل الرابع

في الناسخ والمنسوخ

النسخ لغة الإزالة كقولهم : نسخت الشمس الظلّ أي أزالته ، ومنه نسخت الريح آثار القدم ، والنقل والتحويل كقولهم : نسخت الكتاب أي نقلت ما فيه الى كتاب آخر ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١) أي ننقله الى الصحف ، بل منه أيضا ما قيل من تناسخ الأرواح لنقلها من بدن الى بدن آخر متنعمة فيه أن كانت محسنة ، ومعذّبة فيه أن كانت مسيئة ، وتناسخ القرون انقراضها قرنا بعد قرن ، وتناسخ المواريث نقلها وتحويلها من وارث الى غيره قبل القسمة.

وقد طال التشاجر بين الأصوليين وغيرهم في كون النسخ حقيقة في الأول كما عن المشهور ، أو الثاني كما عن القفّال (٢) ، أو أنّه مشترك بينهما كما عن الشيخ

__________________

(١) الجاثية : ٢٩.

(٢) القفّال عبد الله بن أحمد المروزي ، فقيه ، شافعي ، كان وحيد زمانه فقها وحفظا وزهدا ، كثير الآثار في مذهب الشافعي ، وكانت صنعته عمل الأقفال ، ولد سنة ٣٢٧ وتوفي بسجستان سنة ٤١٧.

٦٧

أبي جعفر الطوسي قدس سرّه (١) والباقلاني (٢) ، والغزالي (٣) ، والآمدي (٤) ، إلّا أنّ الأخير قيّده بأن لا يوجد في حقيقة النقل خصوص تبدّل صفة وجوديّة فهو رابع المذاهب ، وخامسها التوقّف كما عن جماعة ، ولم يصّرحوا بإرادة الاشتراك لفظا أو معنى ، وظاهر كلامهم بل الاستدلال بالاستعمال الظاهر في الحقيقة الأول ، ولذا أجابوا عنه بأنه أعم ، وأنّ الأظهر الأخير فهو السّادس ، بل لعلّه يظهر من

__________________

(١) شيخ الطائفة المحقة ، ورافع إعلام الطريقة الحقة محمد بن الحسن بن علي الطوسي ، فقيه ، محدث ، مفسّر ، أصولي ، ولد سنة ٣٨٥ هو انتقل من خراسان الى بغداد سنة ٤٠٨ هو أقام أربعين سنة ورحل الى الغري ، أحرقت كتبه عدة مرات بمحضر من الناس ، له تصانيف قيّمة في العلوم الإسلامية كالتبيان في التفسير ، والنهاية في الفقه ، والتمهيد في الأصول ، والعدّة فيه أيضا ، المبسوط في الفقه والإستبصار فيما اختلف فيه من الأخبار والتهذيب وغيرها ، كان فضلاء تلامذته الذين كانوا ، مجتهدين يزيدون على ثلاثمائة من الخاصة والعامة ، توفي بالنجف سنة ٤٦٠ ه‍ قال صاحب الصراط المستقيم في نخبة المقال : في ترجمة الشيخ :

محمد بن الحسن الطوسي أبو

جعفر الشيخ الجليل أنجب

جل الكمالات إليه ينتسب

تنجز القبض وعمره عجب

(٢) القاضي الباقلاني محمد بن الطيب من كبار علماء الكلام ، وناصر طريقة الأشاعرة وانتهت رئاستهم اليه وهو الذي ناظر الشيخ المفيد قدس‌سره وغلب عليه الشيخ فقال : الباقلاني : ألك في كل قدر مغرفة فأجاب الشيخ نعم ما تمثلت بأدوات أبيك. ولد الباقلاني في البصرة ٣٣٨ وتوفي ببغداد سنة ٤٠٣ ه‍.

(٣) أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي ، فقيه ، شافعي تلمذ بنيشابور على إمام الحرمين حتى صار مشارا بالبنان ، وصنّف كتبا كثيرة كالبسيط ، والوسيط ، والوجيزة في الفقه ، والجام العوام في علم الكلام ، التبر المسكوك في نصيحة الملوك ، والمقصد الأسنى في شرح الأسماء ، وأحياء العلوم في تهذيب الأخلاق على طريقة الصوفية ، وغيرها توفّي بالطايران (قرية بطوس) سنة ٥٠٥ ودفن هناك.

(٤) الآمدي بكسر الميم (منسوب الى الأمد هو بلد من بلاد الجزيرة) يمكن أن يكون مراده بالأمدي علي بن محمد بن عبد الرحمن أبا الحسن البغدادي : فقيه حنبلي ، بغدادي الأصل والمولد ، نزل (آمد) بديار بكر سنة ٤٥٠ ه‍ وتوفي به سنة ٤٦٧ له عمدة الحاضر وكفاية المسافر في الفقه نحو أربع مجلدات.

٦٨

كلمات أهل اللغة ولذا قال الفيّومي في مصباحه : نسخت الكتاب نسخا من باب نفع نقلته ، واستنسخته كذلك.

ثم حكى عن ابن فارس (١) : أن كل شيء خلّف شيئا فقد انتسخه فيقال انتسخت الشمس الظل ، والشيب الشباب أي أزاله ، وكتاب منسوخ ومنتسخ أي منقول ، والنسخة الكتاب المنقول منه انتهى ، حيث نبّه على أصل الباب وجعل منه انتساخ الشمس بل نسخ الكتاب أيضا ، وإن كان تفسيره به بل بالنقل الذي اشتهر التمثيل به في المقام لا يخلو عن تسامح فإنه ليس نقلا حقيقة ، بل حكاية لألفاظه وخطّه ولو بخطّ يخالفها.

ولذا قيل : إنّ الاستعمال لعلاقة المشابهة ، بل لعلّه الظاهر أيضا ممّا ذكره شيخنا الطبرسي رحمه‌الله قال : النسخ في اللغة أبطال شيء وإقامة آخر مقامه ، يقال نسخت الشمس الظلّ أي أذهبته وحلّت محله ، وقال ابن دريد (٢) : كل شيء

__________________

(١) أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي من أئمة اللغة والأدب ، قرء عليه البديع الهمداني والصاحب بن عبّاد ، له تصانيف نفيسة : منها مقاييس اللغة وجامع التأويل في تفسير القرآن وفقه اللغة ، ولد سنة ٣٢٩ وتوفي سنة ٣٩٥ ومن شعره :

قد قال فيما مضى حكيم

ما المرء إلّا بأصغريه

فقلت قول امرء لبيب

ما المرء إلّا بدرهميه

من لم يكن معه درهماه

لم يلتفت عرسه اليه

وكان من ذلة حقيرا

يبول سنّوره عليه

(٢) محمد بن الحسن بن دريد الأزدي من أئمة اللغة والأدب ، كانوا يقولون : ابن دريد أشعر العلماء وأعلم الشعراء ، ولد في البصرة سنة ٢٢٣ وانتقل الى عمّان فأقام اثني عشر عاما وعاد الى البصرة ثم رحل الى نواحي فارس وكان شيعيا وله في أهل البيت عليه‌السلام أشعار منها :

أهوى النبي محمّدا ووصيّه

وابنيه وابنته البتول الطاهرة

أهل العباء فإنني بولائهم

أرجو السلامة والنجا في الآخرة

٦٩

خلّف شيئا فقد انتسخه ، وانتسخ الشيب الشباب ، وتناسخ الورثة أن تموت ورثة بعد ورثة وأصل الباب الإبدال من الشيء غيره ، وأمّا ما ربما يظهر من «القاموس» من التعدّد والتغاير حيث قال : نسخه كمنعه أزاله وغيّره وأبطله ، وأقام شيئا مقامه إلخ. فلعلّه من حيث المورد والمتعلق.

وعلى كلّ حال فالخطب فيه سهل كسهولته في أنّه حقيقة هل هو الإبطال والإزالة كما يلوح عن بعض ، أو إقامة الغير مقام المزال كما يظهر من آخرين ، أو الأمران معا كما عن الراغب (١) الأصفهاني في «المفردات» حيث قال : إنّه لغة إزالة الصورة عن الشيء وإثباتها في غيره كنسخ الظل للشمس ، ثمّ يقال في إزالة الصورة من غير إثباتها في غيره نحو قوله تعالى : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) (٢) ، ويقال أيضا في إثبات مثل هذه الصورة في الغير من غير إزالتها عن الأوّل كنسخ الكتاب وهو إثبات ما فيه في محلّ آخر (٣).

__________________

وأرى محبّة من يقول بفضلهم

سببا يجير من السبيل الجائرة

أرجو بذاك رضي المهيمن وحده

يوم الوقوف على ظهوره الساهرة

توفّي ابن دريد سنة ٣٢١ ه‍.

(١) الراغب الحسين بن محمد بن المفضل الأصفهاني ، أديب من أهل أصفهان سكن بغداد واشتهر حتى كان يقرن بالغزالي له تصانيف قيّمة كمحاضرات الأدباء والذريعة الى مكارم الشريعة وجامع التفاسير كبير أخذ عنه البيضاوي في تفسيره ، وحلّ متشابهات القرآن والمفردات في غريب القرآن وهو من أجل كتبه وأجز لها فائدة وهو في الواقع تفسير جامع لما ورد في القرآن الكريم من الكلمات الصعبة توفىّ الراغب سنة ٥٠٢.

(٢) الحج : ٥٢.

(٣) المفردات ص ٤٩٠ قال : النسخ إزالة شيء بشيء يتعقبه كنسخ الشمس الظل الشمس ، والشيب الشباب فيفهم منه الإزالة وتارة منه الإثبات وتارة منه الأمران ونسخ الكتاب إزالة الحكم بحكم يتعقبه قال تعالى : (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) قيل معناه ما نزيل العمل بها أو نحذفها عن قلوب العباد ، وقيل : معناه ما نوجده وننزله من قولهم نسخت الكتاب وما ننساه أي نؤخره فلم ننزله (فينسخ

٧٠

بل وكسهولته أيضا في معناه الشرعي المتشرعي الذي اختلفوا فيه على أقوال عديدة لا يسلم جلّها أو كلّها عن وصمة الخلل التي لا تقدح في مثل هذه التعاريف التي ليس المقصود بها إلّا تحصيل نوع المعرفة أو المعرفة بالنوع ، ولعلّ أسلمها من بعض الوجوه ما يحكى عن الفاضل العلّامة أعلى الله مقامه. من إنه رفع الحكم الشرعي بدليل متأخّر على وجه لولاه لكان ثابتا ، إلّا أن هذا هو نسخ الحكم الذي يبحث عنه الأصوليون ، وإنما نبحث عن خصوص نسخ الآية حكما ، أو تلاوة ، أو معا بأن يخرج عن كونها كتابا وقرآنا محتوما ، وإن قيل بإمكان إدراجه في نسخ الحكم الى رفعه فهو حقيقة في نسخ الحكم ، لكنّه كما ترى لا يخلو من تكلّف ، ولذا احتمل أيضا الاشتراك اللفظي والتجوّز لوجود العلاقة المصحّحة.

نعم قد يفرق بين النسخ والإنساء باختصاص الأول برفع الحكم ، وأمّا الثاني فهو رفعه ورفع التلاوة معا ، وقيل : إنّ النسخ إذهاب الى بدل ، والإنساء إذهاب لا الى بدل ، وردّ بقوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (١). لظهوره في الإتيان بالبدل ، وستسمع تمام الكلام عند تفسير الآية إن شاء الله تعالى.

نعم ينبغي أن يعلم أنّه مغاير للتخصيص (٢) والتقييد والبيان للمجمل ضرورة

__________________

الله ما يلقي الشيطان) ونسخ الكتاب نقل صورته المجردة الى كتاب آخر ، وذلك لا يقتضي إزالة الصورة الأولى بل يقتضي إثبات مثلها في مادة أخرى كاتخاذ نقش الخاتم في شموع كثيرة إلخ فما نقله المصنف في المفردات منقول بالمعنى.

(١) البقرة : ١٠٦.

(٢) وقد أطلق النسخ كثيرا على التخصيص في التفسير المنسوب الى ابن عباس. قال زعيم الحوزة العلمية آية الله أبو القاسم الخوئي في تفسيره القيّم (البيان) : النسخ في اللّغة هو الاستكتاب ،

٧١

في الأخيرين ، وأمّا الأوّل وإن قيل باشتراكه معه بأنّ كلّ واحد منهما قد يوجب تخصيص الحكم ببعض ما يتناوله اللفظ لغة ، إلّا أنّه قد فرّق بينهما بأنّ التخصيص يبيّن أن الخارج به عن العموم لم يرد المتكلم بلفظه الدلالة عليه ، والنسخ يبيّن أنّ الخارج به لم يرد التكليف به ، وإن كان قد أراد بلفظه الدلالة عليه ، وبأنّ التخصيص لا يرد على الأمر بمأمور واحد والنسخ قد يرد ، وأنّ النسخ لا يكون في نفس الأمر إلّا بخطاب من الشارع بخلاف التخصيص ، فإنّه يجوز بكل دليل عقلي أو سمعي ، ظنيّ أو قطعيّ ، وأنّ الناسخ لا بدّ أن يكون متراخيا عن المنسوخ بخلاف المخصّص فإنه يجوز أن يتقدّم العامّ ويقارنه ويتأخر عنه ، وأنّ التخصيص لا يخرج العامّ عن الإحتجاج به مطلقا في مستقبل الزمان ، لأنّه يبقى معمولا به فيما عدى صورة التخصيص بخلاف النسخ ، فإنّه قد يخرج الدليل المنسوخ حكمه عن العمل به في مستقبل الزمان بالكليّة عند ما إذا ورد النسخ بمأمور به واحد ، وأن النسخ يرفع الحكم بعد ثبوته بخلاف التخصيص ، ولذا قيل إنّ النسخ رفع والتخصيص دفع ، لكنّه بناء على الظاهر ، إذ في الحقيقة كلاهما دفع على ما قرّر في محلّه ، وأنّه يجوز نسخ شريعة بشريعة ، ولا يجوز تخصيص شريعة بشريعة أخرى ، وأنّ العامّ يجوز نسخه حتى لا يبقى منه شيء بخلاف التخصيص ، وأنّ النسخ تخصيص الحكم ببعض الأزمان ، والتخصيص قد يكون بإخراج بعض الأزمان وقد يكون بإخراج بعض الأعيان وبعض الأحوال فيكون أعمّ من النسخ ، وأنّ التخصيص يقع بالعقل والنسخ لا يقع به ، وأنّه يقع نسخ فعل

__________________

كالاستنساخ ، وبمعنى النقل والتحويل ، ومنه تناسخ المواريث والدهور ، وبمعنى الإزالة ، ومنه نسخت الشمس الظلّ ، وقد كثر استعماله في هذا المعنى في ألسنة الصحابة والتابعين فكانوا يطلقون على المخصّص والمقيّد لفظ الناسخ. (البيان في تفسير القرآن ص ٢٩٥).

٧٢

بفعل دون التخصيص ، وأنّ التخصيص يقع بالمخصّصات المتصلة والخبر الواحد وغيره من الأدلّة فيجوز تخصيص القطعي بالظني دون النسخ ، وأنّ النسخ لا بد أن يقع فيما علم بالإجماع أو الضرورة دون التخصيص ، وأنّ النسخ لا بد أن يكون في زمن وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دون التخصيص ، فيقع بعده ، إلى غير ذلك من الوجوه الّتي لا يخفى عليك ضعف بعضها ، ورجوع جملة منها إلى غيرها ، وإن كان بعض منها في محلّه.

فما ربما يقال من نفى المغايرة رأسا ورجوع النسخ الى التخصيص ، بل كونه من أفراده مطلقا إن كان هناك عموم أزماني وعن أفراد التقييد إن كان هناك إطلاق.

ضعيف جدّا مردود باستقرار الاصطلاح من الشارع أو المتشرعة الذي لا مشاحّة فيه على خلافه ، وبظهور المغايرة جدّا من عدم الاكتفاء بأحدهما عن الآخر في أخبار كثيرة كالمرويّ عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته المحكي في «النهج» : خلّف فيكم كتاب الله مبيّنا حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله ، وناسخه ومنسوخه ، ورخصه وعزائمه ، وخاصّه وعامّه الخطبة (١) وفي خطبة أخرى بعد ما سئل عن أحاديث البدع الى أن قال : وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله الى أن قال : بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه ، وحفظ الناسخ فعمل به ، وحفظ المنسوخ فجنّب عنه ، وعرف الخاصّ والعامّ فوضع كلّ شيء موضعه (٢).

__________________

(١) الخطبة الأولى من نهج البلاغة قال عليه‌السلام : وخلّف فيكم ما خلّفت الأنبياء في أممها إذ لم يتركوهم هملا بغير طريق واضح ولا علم قائم ، كتاب ربكم مبيّنا حلاله وحرامه إلخ.

(٢) الخطبة (٢٠١) من نهج البلاغة أولها إنّ في أيدي الناس حقا وباطلا ، وصدقا وكذبا.

٧٣

فنبّه عليه‌السلام على التغاير مضافا الى التقابل بأنّ حقّ الناسخ العمل والمنسوخ الاجتناب ، وأمّا الخاصّ والعامّ فيوضع كلّ منهما موضعه.

وفي «العيون» عن مولانا الرضا عليه‌السلام في كتابه الى المأمون في حديث محض الإسلام الى أن قال بعد ذكر الكتاب : نؤمن بمحكمه ، ومتشابهه ، وخاصّه وعامّه ، ووعده ، ووعيده ، وناسخه ، ومنسوخه (١).

وفي «الكافي» عن سليم بن قيس : إنّ في أيدي الناس حقّا وباطلا ، وصدقا وكذبا ، وناسخا ومنسوخا ، وعامّا وخاصّا ، ومحكما ومتشابها إلى أن قال فإن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل القرآن منه ناسخ ومنسوخ ، وخاصّ وعامّ ، ومحكم ومتشابه ، إلى أن قال : فما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله آية من القرآن إلّا أقرأنيها وأملأها عليّ فكتبتها بخطي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها ، وناسخها ، ومنسوخها ، ومحكمها ، ومتشابهها ، وخاصّها ، وعامّها (٢).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الظاهرة في ذلك ، بل الأمر واضح من أن يحتاج الى الأطناب فيه بذكر الشواهد عليه.

وأمّا إنّ النسخ هل هو رفع للحكم الشرعي الثابت بالخطاب ، أو الدليل السابق المقتضي لشموله في الزمن اللاحق أيضا بظهوره لظاهر الأدلة ، أو أنّه بيان لانتهاء مدة الحكم لما استدلّوا به من الوجوه الضعيفة التي لا يليق بالتعرّض ، أو أنّ النزاع في ذلك لفظي لابتناء الأول على الظاهر والثاني على الواقع ، أو لغير ذلك ، أو أنّه مبنّي على تحقيق التكليف فإن كان مرجعه الى الإرادة الحقيقية أعني

__________________

(١) عيون الأخبار ج ١ ص ١٣١ ، وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٤٠.

(٢) الكافي ج ١ ص ٦٢ ، نهج البلاغة فيض الإسلام (٢٠١) ص ٦٥٦.

٧٤

محبوبية الفعل والرضا به واقعا تعيّن أن يكون النسخ كاشفا عن ارتفاع الحكم بالنسبة إلى زمن النسخ ، ومفيدا لانقضاء أمده ، ولا يمكن كونه رفعا للحكم الثابت في زمن النسخ لاستلزامه البداء بالمعنى الممتنع في حقّه سبحانه ، وأن كان المراد به بعض الأمور الاعتبارية كالإلزام وجعل الثواب والعقاب ، أو الأعمّ من الأول أمكن كونه رفعا للحكم الثابت في زمن الرفع لولاه ، وغير ذلك من مباحث النسخ فالكافل لتحقيق الكلام فيها هو أصول الفقه ، وإنّما نقتصر في المقام على البحث في أمرين :

الأوّل في جواز النسخ عقلا ، الثاني في وقوعه شرعا.

وهو أي وقوعه شرعا وإن كان مقطوعا به مدلولا عليه بعد الأصل بالضرورة القطعيّة من المذهب بل الدين ، إلّا أنّها لا تنهض حجة على اليهود حيث خالفت في الأول ، وإن نهضت على أبي مسلم الأصفهاني (١) من العامّة حيث خالف في الثاني ، نعم قد يحكى عن بعض اليهود أيضا المخالفة فيه خاصّة.

وبالجملة فيدلّ على الأول أنّه لا مانع منه عقلا فيجوز وقوعه ، بل قد يدعّي العلم الضروري عليه أيضا وهو كذلك ، على أنّ أفعاله تعالى إما أن تكون معللة بالأغراض والمصالح والحكم كما عن الإمامية ، وتبعهم فيه المعتزلة فالمصالح تتغيّر بتغير الأزمنة كما يتغيّر بتغيّر الأشخاص ، فكما يجوز أن يأمر زيدا

__________________

(١) أبو مسلم الأصفهاني ، أبو مسلم : وال من أهل أصفهان. معتزلي من كبار الكتّاب. كان عالما بالتفسير : وبغيره من صنوف العلم ، وله شعر ، ولي أصفهان وبلاد فارس ، للمقتدر العبّاسي ، واستمر إلى أن دخل ابن بويه أصفهان سنة ٣٢١ ه‍ ، فعزل. من كتبه «جامع التأويل» في التفسير أربعة عشر مجلدا ، ومجموع رسائله ، ولد أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني سنة ٢٥١ وتوفي سنة ٣٢٢ ه‍ (إرشاد الأريب ج ٦ ص ٤٢٠ ، الأعلام للزركلي ج ٦ ص ٢٧٣).

٧٥

بشيء وينهى عمروا عنه بعينه في زمان آخر ، لاختلاف المصالح بالوجوه والاعتبارات التي من أعظمها مقتضيات الأزمنة الناشئة منها أو حدوث الطوارئ فيها.

أو لا تكون معلّلة بها كما عن الأشاعرة فالأمر أوضح فإنّه حينئذ يفعل ما يشاء كيف يشاء ، ويغيّر ويبدّل حسب إرادته ومشيئته ، فلا مانع من أن يأمر بشيء قد نهى عنه سابقا أو بالعكس لتساوي نسبة الأمرين إلى فعله سبحانه.

هذا مضافا إلى أنّ الامتناع أمّا أن يكون ناشئا من ذاته أو ممّا يترتّب عليه وكلاهما فاسد.

أما الأوّل فلأن النسخ إمّا رفع ظاهر ، أو بيان أمد الحكم وانتهائه ، وقد قضت الضرورة الفعلية بأنّه ليس شيء منهما من الممتنعات الذاتية.

وأمّا الثاني فإن كانت من جهة تأخير البيان عن وقت الخطاب فقد قرّر في الأصول جوازه ، أو من جهة اختلاف المصالح باختلاف الأزمنة فقد سمعت الكلام فيه على الوجهين ، أو من جهة أخرى فلا يدرك العقل شيئا يقتضي الامتناع ، بل الإنصاف إنّه يدرك عدمه.

وأمّا ما يقال سندا للمنع ، أو حكاية عن المانع من أنّ الفعل إن كان حسنا قبح النهي عنه ، وإن كان قبيحا قبح الأمر به ، ففيه أنّ الحسن والقبح على القول بهما حسبما ما هو المقرّر عند الإمامية كما يكونان بالذات كذلك يكونان بالوجوه والاعتبارات ، وقد سمعت أنّه قد يتغيّر المصالح بتغيّر الأزمنة ، ألا ترى أنّ الطبيب قد يأمر المريض بشيء من الأغذية أو الأدوية ثمّ ينهاه عنه ، أو بالعكس ، فحفظة الشرع الذين هم أطباء النفوس ربّما يأمرون الناس بشيء في زمان ، وينهونهم عنه في زمان لعلمهم بما هو أقرب إلى السداد وأبعد عن الفساد ،

٧٦

وأحرى بمصالح العباد ، هذا كلّه مضافا إلى جميع ما يأتي ممّا يدلّ على الوقوع فإنّه أدلّ دليل على الجواز.

وأمّا وقوع النسخ شرعا أعمّ من هذه الشريعة وغيرها من الشرائع وإن كان قد يعبّر عن صنف بالنسخ في الشريعة ، وعن آخر بنسخ الشريعة ، والأخير لا يتطرق إلى الأوّل لضرورة الخاتمية. فتدلّ عليه الضرورة القطعية من هذا الدين بل من سائر الأديان على تجدّد الشرائع واختلاف الأحكام بحسب اختلاف المصالح في الأزمنة ومقتضياتها التي من أجلها اختلف الشرائع والتكاليف بحسب الأزمنة وغيرها.

وتوهم اتحاد الشرائع وأنّ الأنبياء إنما بعثوا لتجديد الشرائع السالفة ، وتذكير الناس بها بعد اندراسها بينهم مدفوع بأنّه وإن كان بعض الأنبياء مبعوثين لذلك كأنبياء بني إسرائيل المجدّدين لمذهب موسى عليه‌السلام ، وكأوصياء عيسى عليه‌السلام المجدّدين لمذهبه ، بل وكذا أوصياء كل نبّي من الأنبياء إلّا أنّ القول به على سبيل الكليّة مخالف للضرورة القطعية. إذ من المعلوم بديهة أنّ ما جاء به نبيّنا خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله بل وكذا ما جاء به سائر الأنبياء والمرسلين عليهم‌السلام لم يكن بيانا وتجديدا لشريعة أبينا آدم عليه‌السلام ، ضرورة أنّ كتابه هو حروف التهجي وشريعته بعض الأمور المتعلّقة بالفلاحة ونحوها ، وإن كانت مشتملة على بعض العبادات أيضا.

ودعوى أنّ بناء كل شريعة من الشرائع على زيادة شيء من الأحكام على الشريعة السابقة لا نسخ شيء منها وإبطالها ، مدفوعة بأنّه التزام للإبطال أيضا ولو لمثل حكم الإباحة ونحوها.

على أنّ التأمل في أحكام الشرائع وتجددها يوجب القطع بما سمعت بحيث لا يبقى معه مجال لهذه الخيالات.

٧٧

وأمّا ما يقال من أنّا لا نسلّم أنّ نبوّة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله بل وغيره من الأنبياء عليهم‌السلام لا يصحّ إلّا مع القول بالنسخ ، لاحتمال أن يكون شرع من سبقه محدودا إلى بعثته ، إذ من الجائز أنّ موسى وعيسى عليهم‌السلام أمر الناس بشرعهم إلى ظهور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ بعد ذلك أمرا الناس بإتباع شرعه فبعد ظهوره زال التكليف بشرعهما وحصل التكليف بشرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بمقتضى أمرهما ، ومثله لا يكون نسخا ، بل جاريا مجرى قوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (١) بل قيل : إنّ المسلمين الذين أنكروا وقوع النسخ أصلا بنوا مذهبهم على هذا الكلام ، نظرا إلى أنّه قد ثبت في القرآن أنّ موسى وعيسى بشّرا في التوراة والإنجيل بمبعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ بالفتح عند ظهوره يجب الرجوع إلى شرعه ، ومعه يمتنع الجزم بالنسخ.

ففيه أنّا لا نعني بالنسخ إلّا زوال الحكم الثابت سابقا ، وإبطاله بعد ثبوته والتعبّد به ، بلا فرق بين كون الحكمين في شريعة واحدة ، أو في شريعتين ، ولا بين الإخبار بزواله وعدمه ، فكلّ من الكليم والمسيح عليهم‌السلام وإن بشّرا قومهما برسول يأتي من بعدهما اسمه أحمد ، وأمرا الناس باتّباع الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ، إلّا أنّ هذا إخبار منهما ببطلان حكم شريعتهما بعد قدومه ، لا أنّ التديّن بشريعته صلى‌الله‌عليه‌وآله من أحكام شريعتهما ، بل كونه إخبارا عن انتهاء حكم شريعتهما بشريعته لا يخرجه عن النسخ كما توهم ، بل كأنّه إختيار لأحد

__________________

(١) البقرة : ١٧٨.

٧٨

القولين أو الأقوال في معناه حسب ما سمعت.

هذا مضافا إلى أنّه قد يلزم اليهود بأنه جاء في التوراة : أنّ الله تعالى قال لنوح عليه‌السلام عند خروجه من الفلك : إنّي جعلت كل دابّة مأكلا لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم ما خلا الدم فلا تأكلوه ، ثم إنّه حرّم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان.

وبأنّه ورد في التوراة أنّ الله تعالى أمر آدم عليه‌السلام أن يزوّج بناته من بنيه ، وقد حرّم ذلك في شريعة من بعده ، وهذا ممّا حرّفوه في التوراة وإنما ذكرناه على سبيل الإلزام عليهم وإلّا فالمستفاد من أخبار أهل البيت عليهم‌السلام أنّه لم يزوّج بناته من بنيه على ما يأتي في تفسير سورة النساء إن شاء الله تعالى.

وبأنه أباح السبت ثم حرّمه ، وجوّز الختان ثم أوجبه ، ويرد الإلزام عليهم بكل حكم وضعي أو شرعي اقتضائي أو تخييري تجدّد في شيء من الشرائع.

هذا كلّه مضافا إلى ما سمعت من جوازه عقلا ، وعدم المانع من وقوعه ، إذ غاية ما يستدلّ به للمنع أنّ موسى عليه‌السلام لما بيّن شرعه ، فإن كان قد دلّ على دوامه مع التنبيه بأنه سينسخه فهو باطل بالضرورة للمنافاة بين الأمرين ، ولأنّه لو كان كذلك لنقل متواترا لتوفّر الدواعي ، ولأنّه من الكيفية التي تتبع الأصل في النقل ومعه يستحيل منازعة الجمع الكثير فيه.

ومع عدم التنبيه يستحيل أن ينسخ ، وإلّا كانت تلبيسا ممتنعا على أصحاب الشرائع مع تطرّقه إلى شرعنا أيضا إذ بالكسر غاية الأمر أنّ الشارع نصّ على تأييده وقد فرضنا مثله في شريعة موسى عليه‌السلام مع تحقق نسخة مضافا إلى أنّه يرفع

٧٩

الوثوق بوعده ووعيده.

وإن لم يدلّ على دوامه وانقطاعه فإن اقتضى الإطلاق الأول ولو للاستصحاب أو اقتضاء الأمر التكرار والدوام فالبحث البحث ، وإن اقتضى الثاني ولو لاقتضاء الأمر المرّة فهو باطل للإجماع على الدوام في الجملة ، ولأنّه حينئذ لا يقبل النسخ.

وأنّه قد تواتر النقل عن موسى عليه‌السلام أنه قال : تمسّكوا بالسبت أبدا وقال : تمسكوا بالسبت ما دامت السماوات والأرض وقوله حجة وطريقه التواتر الذي لا شكّ فيه.

وإن نسخ ما أمر به إمّا لحكمة ظهرت لم تكن ظاهرة حال الأمر فهو البداء المستحيل في حقّه تعالى أو لا لحكمة فعبث قبيح عليه سبحانه.

وأنّه لو جاز نسخ الأحكام الشرعية لاختلاف الحكم والمصالح لجاز نسخ ما وجب من الإعتقادات في باب التوحيد ، والعدل ، والمعاد وغيرها ، وهو باطل بالإجماع.

وأنّ المنسوخ إمّا مؤقّت فلا يقبل النسخ ، أو مؤبّد فيستلزم الجهل ، أو مطلق منزّل على أحدهما. والكلّ كما ترى لظهور ضعف الأوّل بأنّ موسى عليه‌السلام قد نبّه على نسخ شريعته ، ووصيّ قومه بأن يؤمنوا بمن يأتي من بعده من الأنبياء خصوصا خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله كما وقع التلويح بل التصريح به في مواضع من التوراة والإنجيل والزّبور وكتب دانيال ، وزكريا ، وشعيا ، وحيقوق ، وغيرهم من الأنبياء حسبما تصدّى لنقله عنها كثير من الأعاظم. وعدم تواتر النقل لعلّه لإجماله المقتضى لعدم توفّر الدواعي ، أو لانقطاع تواترهم باستئصال بخت نصّر إيّاهم ،

٨٠