تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: پاسدار إسلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

الله تعالى على كلّ حال» (١).

وموثّق الفضيل عنه عليه‌السلام : «لا بأس أن تتلوا الحائض والجنب القرآن (٢).

وفي صحيح الحلبي ، عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته : أتقرأ النفساء ، والحائض ، والجنب ، والرجل يتغوّط ، القرآن؟ فقال عليه‌السلام : يقرءون ما شاءوا (٣).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة ، مضافا إلى الإجماع المحصّل والمحكي في كلام الجماعة نقلا مستفيضا.

فلا ينبغي الإصغاء إلى ما يحكى عن سلّار (٤) في غير «المراسم» من تحريم القراءة للجنب مطلقا ، أوله ولأختيه ، لشذوذه وضعفه ، كضعف ما يستدلّ به من الخبرين :

أحدهما المرويّ عن «الخصال» عن السكوني (٥) ، عن الصادق عليه‌السلام ، من آباءه ، عن عليّ عليهم‌السلام ، قال : «سبعة لا يقرءون من القرآن : الراكع ، والساجد ، وفي الكنيف ، وفي الحمّام ، والجنب ، والنفساء ، والحائض (٦).

والآخر المرويّ في «الفقيه» و «الأمالى» و «العلل» عن أبي سعيد الخدري في وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلىّ عليه‌السلام أنّه قال : «يا على من كان جنبا في الفراش مع امرأته

__________________

(١) العلل ص ١٠٥.

(٢) التهذيب ج ١ ص ٣٦.

(٣) التهذيب ج ١ ص ٣٦.

(٤) سلار : حمزة بن عبد العزيز الديلمي الفقيه سكن بغداد وتوفي في «خسرو شاه» من قرى تبريز سنة (٤٦٣ ه‍) ـ الذريعة ج ١ ص ٧٣.

(٥) هو إسماعيل بن ابى زياد مسلم السكوني الشعيري عدّه الشيخ الطوسي في «عدّة الأصول» ممّن انعقد الإجماع على ثقته وقبول روايته وإن كان عاميّا.

(٦) الخصال ص ٣٥٧ باب السبعة ح ٤٢.

٣٤١

فلا يقرأ القرآن فإني أخشى أن ينزل عليهما نار من السماء فتحرقهما» (١).

إذ مع قصورهما سندا ودلالة لا يعارضان ما سمعت ، سيّما مع موافقتهما للعامّة ، وعاميّة السكوني معروفة ، والكلام في وصايا النبيّ مشهور.

وأضعف منهما ما يقال : من معروفيّة ترك الجنب قراءة القرآن في ذلك الزّمان ، نظرا إلى ما يحكى عن عبد الله بن (٢) رواحة ، حيث رأته امرأته مع جاريته ، فمضت لتأخذ سكّينا ، فأنكر عليها ذلك واحتجّ عليها بأنّه أليس نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقرأ أحدنا وهو جنب؟ فقالت له : اقرأ ، فقال :

شهدت بأنّ وعد الله حقّ

وأنّ النار مثوى الكافرينا

وأنّ العرش من فوق (٣) طباق

وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة شداد

ملائكة إلا له مسوّمينا

فقالت : صدق الله وكذب بصرى ، فجاء وأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، فضحك حتّى بدت نواجذه. (٤)

إذ إثبات الحكم الشرعي بمثله كما ترى.

فلا ريب في ضعف القول بالحرمة مطلقا ، بل ولا ريب أيضا في ضعف مالا يعرف القائل به من القول بحرمة ما زاد على سبع آيات ، أو السبعين ، وإن كان

__________________

(١) وسائل الشيعة ب ١٦ من أبواب الجنابة ج ١ ح ٣ ص ٤٩٣.

(٢) هو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الأنصاري الصحابي الشهيد في مؤتة (٨).

(٣) في مختصر تاريخ دمشق ج ١٢ ص ١٥٨ : «وأنّ العرش فوق الماء طاف» وفيه :

وتحمله ملائكة كرام

ملائكة إلا له مقرّبينا

(٤) مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر ج ١٢ ص ١٥٨ ـ ١٥٩ مع تفاوت.

٣٤٢

ربما يلوح من «المقنعة» و «النهاية» ، وظاهر «المهذّب» بل قد يستدلّ له بموثّقة سماعة ، قال : سألته عن الجنب هل يقرأ القرآن؟ قال عليه‌السلام : «ما بينه وبين سبع آيات إلّا أربع سور» (١).

وفي رواية زرعة عن سماعة قال : «سبعين آية» (٢).

ولذا ربما عدّهما بعضهم روايتين ، وآخرون رواية واحدة مضطربة.

إلّا أنّ فيه ، مع الإضمار ، وظهور الاضطراب ، وشذوذ القول به ، أنّ الخبر كما ترى غير صريح في الحرمة ، فلا يصلح مقيّدا ومخصّصا للمعتبرة المتقدّمة الّتى فيها الصّحاح وغيرها.

على أنّ التدافع بينهما حاصل على فرض التعدّد فلا ينبغي التأمّل في جواز القراءة من غير الأربع للمحدث بالحدث الأكبر مطلقا.

نعم إنّما الكلام في أنّ الجواز هل هو من غير كراهة ، مطلقا ، كما هو ظاهر «الفقيه» و «الهداية» و «المقنع» ، وغيرهما ، ممّن نفى البأس عن قراءة القرآن كلّه ما خلا العزائم ، بل وصريح «المدارك» و «الحدائق» لظاهر الأخبار المتقدّمة الدالّة على نفى البأس الشامل بإطلاقه لنفى الكراهة ، كما هو مقتضى الأصل الّذي لا رافع له في المقام بعد تضعيف خبر السّبع والسّبعين ، وعدم صلاحيّته للتخصيص والتقييد.

أو أنّ الجواز مع الكراهة مطلقا ولو في أقلّ من السّبع كما عن ابن سعيد (٣)

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ٣٦ ـ وسائل الشيعة ج ١ ح ١٠ ب ١٩ من أبواب الجنابة ص ٤٩٤.

(٢) التهذيب ج ١ ص ٣٩ ـ الوسائل ب ١٩ من أبواب الجنابة ح ١٠ ج ١ ص ٤٩٤.

(٣) ابن سعيد ابو أحمد بن يحيى بن الحسن بن سعيد الحلي ولد سنة (٦٠١) وتوفّي سنة (٦٨٩) أو

٣٤٣

في «الجامع» حيث أطلق كراهة قراءة الجنب القرآن (١) ، وعن سلّار في «المراسم» حيث قال : إنّه يندب له أن لا يقرأ القرآن (٢).

ولعلّه للتعظيم ، وفحوى ما دلّ على استحباب الطهارة من الأصغر للقراءة ، وظهور أخبار الباب ، وإن اشتملت على الأمر في رفع الخطر الّذى هو أعم من الكراهة.

أو مع الكراهة فيما زاد على السبع لظاهر مفهوم موثّق سماعة المتقدّم ، وعليه المشهور ، جمعا بينه وبين الأخبار المتقدّمة.

وما فيه من الضعف والقصور منجبر بالشهرة العظيمة بين الطائفة ، وهؤلاء ذكروا اشتداد الكراهة بقراءة السبعين.

وتفرّد المحقّق الأوّل بإثبات مرتبة ثالثة للكراهة ، وهي غلظها فيما زاد عن السبعين ، ولا دلالة عليه.

أو معها فيما زاد عن السبعين (٣) ، لا ما نقص عنه مطلقا ، كما عن ابن حمزة ، أقوال.

ولعلّ الأظهر هو الثاني ، لما سمعت ، مضافا إلى أنّه من السنن الذي يتسامح فيها.

لكنّ المراد بالكراهة قلّة الثواب ، لا المرجوحية الصرفة ، جمعا بينها وبين

__________________

(٦٩٠) ه ـ معجم الرموز ص ٢٢٠.

(١) الجامع للشرايع كتاب الطهارة باب الجنابة ص ٣٩.

(٢) المراسم كتاب الطهارة باب غسل الجنابة وبالوجبه ص ٤٢.

(٣) حكاه العلّامة في «المنتهى» ج ١ ص ٨٧ عن بعض الأصحاب.

٣٤٤

الإطلاقات الآمرة بالقراءة مطلقا ، ولخصوص الجنب ، بل يستفاد من صريح المرسل المتقدّم حيث قال : ومتطهّرا في غير صلاة خمس وعشرون حسنة ، وغير متطهّر عشر حسنات» (١).

ومنه يظهر ضعف ما يقال : من نفى البلد عن الثاني نظرا إلى أنّ الأوّل لا يرتكب إلا في الشيء الذي لا يمكن أن يقع إلّا عبادة ، فنلتزم حينئذ بذلك ، إذا القراءة أيضا كذلك ، للإطلاقات الآمرة كقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (٢).

بل العمومات أيضا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في وصيّته لعليّ عليه‌السلام ، على ما رواه في «الكافي» و «المحاسن» : «وعليك بتلاوة القرآن» (٣).

مضافا إلى الأخبار الكثيرة الآمرة بذكر الله سبحانه على كلّ حال ، بل في أخبار كثيرة : أنّ موسى على نبينا وآله وعليه‌السلام سأل ربّه فقال : يا ربّ تمرّ بي حالات أستحيى أذكرك فيها.

وفي خبر آخر : يأتي عليّ مجالس أعزّك وأجلّك أن أذكرك فيها ، فقال تعالى : «يا موسى إنّ ذكرى حسن على كلّ حال» (٤).

وبالجملة قضيّة العمومات والإطلاقات الآمرة بالقراءة ، والدعاء ، والذكر ، وغيرها شمولها لجميع الأمر ، غاية الأمر نقصان ثوابها باعتبار بعض الحالات لفقد بعض المكمّلات ، وأمّا المرجوحيّة المطلقة بالنسبة إلى الترك فلا يستفاد من

__________________

(١) عدّة الداعي ص ٢١٢ ـ وسائل الشيعة ج ٤ ص ٨٤٨.

(٢) المزمّل : ٢٠.

(٣) المحاسن ص ١٧.

(٤) أصول الكافي ج ٢ ص ٤٩٧.

٣٤٥

شيء من الأدلّة ، بل لعلّ المقطوع منها خلافه.

نعم قد يقال : إنّ الأولى للحائض والنفساء ترك القراءة مطلقا ، نظرا إلى ورود النهى منها ، مضافا الى خبر «الخصال» (١) المتقدّم في المرسلين : أحدهما النبويّ : «لا يقرء الجنب والحائض شيئا من القرآن» (٢).

والآخر : العلوي : «لا تقرأ الحائض قرآنا» (٣).

بل عن أبى جعفر عليه‌السلام : «إنّا نأمر نساءنا الحيّض أن يتوضّأن عند وقت كلّ صلاة ... إلى قوله عليه‌السلام : ولا يقربن مسجدا ، ولا يقرأن قرآنا» (٤).

لكن في خبر معاوية بن عمّار عن الصادق عليه‌السلام قال : «تتوضّأ المرأة الحائض إذا أرادت أن تأكل ، وإذا كان وقت الصلاة توضّأت واستقبلت ، القبلة ، وهلّلت ، وكبّرت ، وتلت القرآن ، وذكرت الله عزوجل (٥)».

هذا مضافا إلى ضعف المرسلين ، وقصورهما عن معارضة ما سمعت.

بقي في المقام أمور :

أحدها : أنّ الأظهر وفاقا للأكثر حرمة مسّ كتابة القرآن للمحدث بأحد الحدثين لقوله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (٦).

__________________

(١) الخصال باب السبعة ح ٤٢ ج ١ ص ٣٥٧.

(٢) عوالي اللآلي : الفصل الثامن ح ١٢ ج ١ ص ١٣١.

(٣) دعائم الإسلام ج ١ ص ١٢٨.

(٤) دعائم الإسلام : في أحكام الحيض ج ١ ص ١٢٨.

(٥) فروع الكافي ج ١ ص ١٠١ باب ما يجب على الحائض في أوقات الصّلوات ح ٢.

(٦) الواقعة : ٧٩.

٣٤٦

حيث إنّ الظاهر رجوع الضمير الى القرآن كما فهمه أكثر المفسّرين ، بل ظاهر «التبيان» و «مجمع البيان» نسبته إلى الإماميّة ، مضافا الى ما مرّ في خبره مولانا أبي الحسن عليه‌السلام من النهى عن المسّ ، للآية.

بل لعلّه الظاهر هو أيضا فيما مرّ من قول الصادق عليه‌السلام لابنه إسماعيل (١).

بل عن الباقر عليه‌السلام تفسير قوله تعالى : (إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (٢) بالمطهّرين من الأحداث والجنابات (٣).

وستسمع الكلام فيه وفي ضعف القول بالجواز ، وتحقيق معنى المسّ والكتابة عند التعرّض لتفسير الآية إنشاء الله تعالى ، وتمام الكلام في الفقه.

ثانيها : المحكي عن المرتضى (٤) رضى الله عنه حرمة مسّ ما عدى الكتابة من جلد المصحف ، وهامشه ، للآية ، وخبر أبي الحسن عليه‌السلام المتقدّم : «المصحف لا تمسّه على غير طهر ، ولا جنبا ، ولا تمسّ خطّه ، ولا تعلّقه ، إنّ الله يقول : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (٥). (٦)

وضعفه واضح ، إذا لضمير في الآية للقرآن لا للمصحف ، والخبر مع ضعفه عند السيّد ، فضلا عن غيره ، لا بدّ من حمله على الكراهة ، لاستقرار المذهب على نفى الحرمة ، وظهور الإجماع على الكراهة ، ولا أقلّ من الشهرة العظيمة التي تصلح دليلا للكراهة ، سيّما مع المسامحة في أدلّتها ، مضافا إلى التعظيم ،

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ٣٥.

(٢) الواقعة : ٧٩.

(٣) مجمع البيان ج ٥ ص ٢٢٦.

(٤) حكاه المحقّق في المعتبر ج ١ ص ١٩٠.

(٥) الواقعة : ٧٩.

(٦) وسائل الشيعة ج ١ ص ٢٦٩ ح ٣.

٣٤٧

وصحيح محمد بن مسلم ، عن أبى جعفر عليه‌السلام : «الجنب والحائض يفتحان المصحف من وراء الثياب ، ويقرآن من القرآن ما شاء إلّا السجدة» (١).

وتوهّم دلالته على مذهب السيّد ضعيف كأصل المذهب ، ومع فرضه فلا بدّ من حمله على الاستحباب لقضية ما مرّ ، مضافا إلى ما في «الفقه الرضوى» : «ولا تمسّ القرآن إذا كنت جنبا ، أو على غير وضوء ، ومسّ الأوراق» (٢).

وسبيله عندنا سبيل الأخبار الضعيفة الّتى نقول بحجّيتها بالانجبار في مثل المقام.

ثالثها : هل يستحبّ طهارة الثوب والبدن ، ومكان القارى من الأخباث؟

لم أر من تعرّض له من الأصحاب ، وقضيّة الأصل العدم ، غير أنّ الأوفق بالإكرام وتعظيم القرآن المأمور به في المعتبرة الاجتهاد في التنظيف والطهارة للقراءة.

الثاني من الآداب الظاهرة : السّواك قبل القراءة ، للمعتبرة ، ففي «المحاسن» بالإسناد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : نظّفوا طريق القران ، قيل : يا رسول الله وما طريق القرآن؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أفواهكم ، قيل : بماذا؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بالسواك (٣).

وفيه ، عنه عليه‌السلام : «أفواهكم طريق من طريق ربّكم ، فأحبّها إلى الله أطيب بها

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ٣٦ وص ١٠٥.

(٢) فقه الرضا (عليه‌السلام) ص ٤ وعنه في البحار ج ٨١ ص ٥٢ ح ٢٣.

(٣) المحاسن ص ٥٨٨ ـ والجعفريات ص ١٥ ودعائم الإسلام ج ١ ص ١١٩.

٣٤٨

ريحا ، فطيّبوها بما قدرتم عليه» (١).

وروى الصدوق عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : إنّ أفواهكم طرق القرآن فطهّروها بالسواك (٢).

وفي «الخصال» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : في السواك اثنتا عشرة خصلة : مطهرة للفم ، ومرضاة للربّ ، ويبيّض الأسنان ، ويذهب بالحفر ، ويقلّ البلغم ، ويشهىّ الّطعام ، ويضاعف الحسنات ، وتصاب به السنّة ، وتحضره الملائكة ، ويشدّ اللثة ، وهو يمرّ بطريق القرآن ، وصلاة ركعتين بسواك أحبّ الى الله عزوجل من سبعين ركعة بغير سواك (٣).

وفي «الكافي» عن الصادق عليه‌السلام : «إذا قمت باللّيل فاستك ، فإنّ الملك يأتيك فيضع فاه على فيك ، فليس من حرف تتلوه وتنطق به إلّا صعد به إلى السّماء ، فليكن فوك طيّب الريح» (٤).

وفي «المحاسن» عنه عليه‌السلام : «إنّي لاحبّ للرجل إذا قام بالليل أن يستاك ، وأن يشمّ الطيب ، فإنّ الملك يأتى الرجل إذا قام بالليل حتى يضع فاه على فيه ، فما خرج من القرآن من شيء دخل في جوف ذلك الملك (٥).

إلى غير ذلك ممّا يدلّ على استحباب تطييب الفم للقراءة ، وغيرها

__________________

(١) المحاسن ص ٥٨٨.

(٢) أعلام الدين للديلمي ، وعنه البحار ج ٨٤ ص ٣٣٠ : وفيه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ أفواهكم طرق القرآن فطيّبوها بالسّواك ... إلخ.

(٣) الخصال ج ٢ ـ أبواب الاثنى عشر ـ ص ٤٨٠ ح ٥٢.

(٤) فروع الكافي ج ١ ص ٨.

(٥) المحاسن ص ٥٥٩ ، وعنه البحار ج ٨٠ ص ٣٤٣.

٣٤٩

بالسواك.

وهل يستحبّ التطيّب بالعطر ، ونحوه وجهان ، والأظهر الأوّل لفحوى ما سمعت ، وما دلّ على استحبابه للصلاة ، وغيرها.

وأمّا البحث عن كيفيّة السواك ونصابه ، وما يستاك به فمذكور في الفقه.

الثالث من الآداب الظاهرة : ستر العورة لما دلّ على النهى عن القراءة في الحمّام للعريان من غير إزار.

ففي «الكافي» و «الفقيه» عن محمّد بن مسلم قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام : أكان أمير المؤمنين سلام الله عليه ينهى عن قراءة القرآن في الحمّام؟ فقال عليه‌السلام : لا ، إنّما نهى أن يقرأ الرجل وهو عريان ، فأمّا إذا كان عليه إزار فلا بأس (١).

وروى الشيخ في «التهذيب» عن أبى بصير قال : سألته عن القراءة في الحمّام ، فقال عليه‌السلام : «إذا كان عليك إزار فاقرأ القران إن شئت كلّه» (٢).

ومن هنا يظهر أنّ الإطلاق النهى عن القراءة في الحمّام محمول على ما لم يكن معه إزار.

كما أنّ إطلاق نفى البأس عنها في خبر علي بن يقطين عن الكاظم عليه‌السلام : «أقرأ في الحمّام ، وأنكح فيه؟ فقال عليه‌السلام : لا بأس» (٣) ومثله غيره من الأخبار إنّما هو للإشعار بالجواز الذي هو أعمّ من الكراهة ، وإن كان معها في بعض الأفراد ، أو أنّه مقيّد بخصوص الستر.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧٦ ص ٧٧ ط طهران المطبعة الاسلاميّة.

(٢) التهذيب ج ١ ص ٣٧٧ ح ١١٦٥.

(٣) الفقيه ج ١ ص ٦٣ ح ٢٣٤.

٣٥٠

بل لعلّه يستفاد من فحوى الخبرين دوران النهى المحمول على الكراهة مدار كشف العورة وجودا وعدما ، ولو في غير الحمّام ، ولذا لم تقيّد العنوان به.

نعم هل العبرة في عورة المرأة بعورة الصلاة ، أو النظر لغير المماثل ، أو المماثل؟ وجوه ، والأظهر الثالث ، فترتفع الكراهة بستر العضوين كالرّجل.

والتأمّل في شمول الحكم لها مع تعليقه في الخبر الأوّل على الرجل ولا دليل على الاشتراك ، مدفوع بظهور ، من الفحوى ، مضافا الى أنّ المسئول عنه في الخبر الثاني هو نفس القراءة.

الرابع من الآداب الاستعاذة ، للأمر بها كتابا وسنّة ، قال الله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (١) أى إذا أردت القراءة ، كما في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) (٢) ، وكما يقال : إذا لقيت العدوّ فخذ سلاحك.

والأخبار الآمرة بها كثيرة ، وستسمع إنشاء الله تعالى تمام الكلام فيها ، وفي وجوبها ، وندبها ، ومحلّها ، وكيفيّتها ، ومعناها في مفتتح فاتحة الكتاب وعند تفسيرها.

الخامس من الآداب القراءة من المصحف وإن كان حافظا للقرآن ، قادرا ، على قراءته عن ظهر القلب ، فإنّ النظر إلى المصحف عبادة مستقلّة ، مع ما يوجبه من سلامة البصر ، فالقراءة منه بمنزلة الجمع بين العبادتين ، بل لعلّ القراءة في المصحف أفضل منها عن ظهر القلب مع قطع النظر عن استحباب النظر.

__________________

(١) النحل : ٩٨.

(٢) المائدة : ٦.

٣٥١

فعن الصدوق في «ثواب الأعمال» مرفوعا عن الصادق عليه‌السلام قال : «من قرأ القرآن في المصحف نظرا متّع ببصره ، وخفّف على والديه وإن كانا كافرين» (١).

وفيه مرفوعا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ليس شيء أشدّ على الشيطان من القراءة في المصحف نظرا» (٢).

وفي «أمالى الطوسي ، عن أبي ذرّ قال : النظر إلى علي بن أبى طالب عليه‌السلام عبادة ، والنظر الى الوالدين برأفة ورحمة عبادة ، والنظر في الصحيفة ، يعنى صحيفة القرآن عبادة ، والنظر الى الكعبة عبادة» (٣).

وروى الصدوق مثله ... الى أن قال : «والنظر إلى المصحف من غير قراءة عبادة» (٤).

وفي «الكافي» عن إسحاق بن عمّار ، قال : قلت لأبى عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك إنّي أحفظ القرآن على ظهر قلبي ، فأقرأه على ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف؟ فقال عليه‌السلام لي : بل اقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل ، أما علمت أنّ النظر في المصحف عبادة» (٥).

وفيه عنه عليه‌السلام ، قال : «قراءة القرآن في المصحف تخفّف العذاب عن الوالدين ولو كانا كافرين» (٦).

__________________

(١) ثواب الأعمال ص ١٢٨ ـ الوسائل ج ٦ ص ٢٠٤ ح ٧٧٣٥.

(٢) ثواب الأعمال ص ١٢٩ ـ الوسائل ج ٦ ص ٢٠٤ ح ٧٧٣٥.

(٣) أمالي الطوسي ج ٢ ص ٧٠ ـ الوسائل ج ٦ ص ٢٠٥ ح ٧٧٣٨.

(٤) الفقيه ج ٢ ص ١٣٢ ح ٥٥٦ ـ الوسائل ج ٦ ص ٢٠٥ ح ٧٧٣٩.

(٥) الكافي ج ٢ ص ٤٤٩ ح ٥ ـ الوسائل ج ٦ ص ٢٠٤ ح ٧٧٣٨.

(٦) الكافي ج ٢ ص ٤٤٩ ح ٤.

٣٥٢

وفي «قرب الإسناد» عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : يستحبّ أن يعلّق المصحف في البيت يتّقى به من الشياطين.

قال : ويستحبّ أن لا يترك من القراءة فيه (١).

أقول : ويستفاد منه جهة ثالثة للاستحباب ، وهو استعمال المصحف وعدم ترك القراءة فيه ، فلا تغفل.

السّادس من الآداب خفض الصوت والإسرار بالقراءة لأنّه أبعد من الرياء ، وأقرب الى الخلوص وأحدى بتوجّه النفس وحضور القلب ، لنيل المقامات ، والتحقق بحقائق الآيات ، فإنّ الصوت كلّما ازداد جهارته ازداد توجّه النفس إليه ، واشتغال القلب به ، فإنّه (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (٢) فينصرف ، شطر من توجّه القلب إلى ضبط ميزان الصوت والتحسين ، والتحرير ، والانتقال ، وغير ذلك من الأحوال.

وأمّا خفض الصوت فالقارئ معه يتمكّن من صرف تمام القلب الى التدبّر في المعاني ، والتحقّق بحقائقها ، ولذا يمكن في الإسرار من التدبر والتفكير ما لا يمكن في الإجهار ، بل لعلّه يحصل في الاستماع من الالتفات ما لا يحصل في القراءة ، ولا تغفل عن هذه الدقيقة ، فإنّها كثيرة الفائدة.

هذا مضافا الى قوله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٣) أى المجاوزين ما أمروا به في الدعاء من الإخفات ، ولذا قال

__________________

(١) قرب الاسناد ص ٤٢ المطبوع بطهران بأمر أية الله العظمى البروجردي قدس‌سره.

(٢) الأحزاب : ٤.

(٣) الأعراف : ٥٥.

٣٥٣

الصادق عليه‌السلام على ما رواه في «مصباح الشريعة» : «استعن بالله في جميع أمورك متضرّعا إليه أناء الليل والنّهار ، قال : والاعتداء من صفة قرّاء زماننا هذا وعلامتهم.

وفي «المجمع» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه كان في غزاة ، فأشرف على واد ، فجعل الناس يهلّلون ، ويكبّرون ، ويرفعون أصواتهم فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أيّها الناس اربعوا (١) على أنفسكم ، أما إنّكم لا تدعون أصمّ ، ولا غائبا ، إنّكم تدعون سميعا قريبا ، إنّه معكم» (٢).

وقال سبحانه : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) (٣).

وقد ورد في تفسيره ، عن أحدهما عليهما‌السلام : أنّه لا يعلم ثواب ذلك الذكر في نفس الرجل غير الله لعظمته (٤).

وفي «مجالس الشيخ» بالإسناد عن أبى ذرّ ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في وصيّة له قال : «يا أبا ذرّ اخفض صوتك عند الجنائز ، وعند القتال ، وعند القرآن» (٥).

وفي «الكافي» عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : من قرأ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) يجهر بها صوته كان كالشاهر سيفه في سبيل الله ، ومن قرأها سرّا كان كالمتشحّط

__________________

(١) اربعوا على أنفسكم : توقّفوا.

(٢) مجمع البيان ج ٣ ص ٧٨ ، وأخرجه أبو داود في صحيحة ج ١ ص ٣٥٠ ، والترمذي ج ١٣ ص ١٤ ومسلم ج ٨ ص ٧٣ بتفاوت يسير.

(٣) الأعراف : ٢٠٥.

(٤) الكافي ج ٢ ص ٢٠٥.

(٥) المجالس والأخبار ص ٣٣٨.

٣٥٤

بدمه في سبيل الله (١).

هذا مضافا إلى ما يدلّ على افضليّة العبادة سرّا عليها علانية ، كالنبوى : «أعظم العبادة أجرا أخفاها» (٢) والجعفري : «والله العبادة في السرّ أفضل منها في العلانية» (٣).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة ، وربما يرجّح الجهر على الإخفات لاقتضاء الحال ، أو لإعلاء كلمة الدّين ، أو لتعليم المؤمنين ، أو لانزجار النفس من الإخفات ، أو لاهتداء الناس في البراري ، سيّما الليالي ، أو لتنبيه الغافلين ، أو إيقاظ النائمين ، أو إسماع المستمعين ، أو لغير ذلك من المصالح التي لعلّه لا يمكن ضبط خصوصياتها ، فيرجّح الإجهار حينئذ على حسب ما اقتضته المصلحة.

وعلى شيء من ذلك أو غيره يحمل ما رواه الحلّي في آخر «السرائر» بالإسناد ، عن إسحاق بن عمّار ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرّجل لا يرى أنّه صنع شيئا في الدعاء وفي القراءة حتى يرفع صوته ، فقال عليه‌السلام : لا بأس ، إنّ علي بن الحسين عليه‌السلام كان أحسن الناس صوتا بالقرآن ، وكان يرفع صوته حتى يسمعه أهل الدار ، وإنّ أبا جعفر عليه‌السلام كان أحسن الناس صوتا بالقرآن ، وكان إذا قام من الليل وقرأ رفع صوته ، فيمرّ به مارّ الطريق من الساقين (٤) ، وغيرهم ، فيقومون

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٤٥٤ ح ٦ ـ الوسائل ج ٦ ص ٢٠٩ ح ٢٣.

(٢) الوسائل ج ١ ص ٧٩ ح ٨ ـ قرب الاسناد ص ٦٤ وفيه : أعظم العبادات.

(٣) الكافي ج ٤ ص ٨ ح ٢ ـ الوسائل ج ١ ص ٧٧ ح ٢.

(٤) في المصدر : السقّائين.

٣٥٥

ويستمعون الى قراءته (١).

وستسمع رواية أبى بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في الأمر بالقراءة بين القرائتين (٢) ، يعنى المتوسط في الرفع والخفض.

السابع من الآداب الظاهرية تحسين الصوت في قراءة القرآن بما لا يبلغ حدّ الغناء ، لما سمعت من خبر إسحاق بن عمّار ، ولما رواه الصدوق في «العيون» عن الرّضا عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «حسّنوا القرآن بأصواتكم ، فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا» (٣).

وفي رواية أخرى مثله ، وزاد : «وقرأ عليه‌السلام : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) (٤). (٥)

قلت : ويستفاد منه أنّ الصوت الحسن نعمة زائدة منه سبحانه.

ويؤيّده ما في «المجمع» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الآية : «إنّه هو الوجه الحسن ، والصوت الحسن ، والشعر الحسن (٦).

وعن الصادق عليه‌السلام في معنى الترتيل : «هو أن تمكث وتحسّن به صوتك» (٧).

وفيه ، عن علقمة بن قيس ، قال : كنت حسن الصوت بالقرآن ، وكان

__________________

(١) مستطرفات السرائر ص ٩٧.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٤٥١ ح ١٣.

(٣) عيون اخبار الرضا عليه‌السلام ص ٢٢٧ ـ البحار ج ٧٩ ص ٢٥٥ ح ٤.

(٤) فاطر : ١.

(٥) عيون الاخبار ج ٢ ص ٦٩ ح ٣٢٢ وعنه في البحار ج ٦٩ ص ١٩٣ ح ٦.

(٦) مجمع البيان ج ٨ في تفسير سورة الملائكة ص ٤٠٠.

(٧) مجمع البيان ج ١٠ ص ٢٧٨.

٣٥٦

عبد الله بن مسعود يرسل إليّ فأقرأ عليه ، فاذا فرغت من قراءتي ، قال : زدنا من هذا فداك أبي وأميّ ، فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «إنّ حسن الصوت زينة القرآن» (١).

وعن أنس بن مالك ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ لكلّ شيء حلية ، وحلية القرآن حسن الصوت» (٢).

وفي «الكافي» عن النوفلي (٣) ، عن أبى الحسن عليه‌السلام قال : ذكرت الصوت عنده ، فقال عليه‌السلام : إنّ على بن الحسين عليه‌السلام كان يقرأ ، فربما مرّ به المارّ فصعق من حسن صوته ، وانّ الإمام لو أظهر من ذلك شيئا لما احتمله النّاس من حسنه ، قلت : ولم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّى بالناس ويرفع صوته بالقرآن؟ فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحمل الناس من خلفه ما يطيقون» (٤).

وفيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام ما مرّ عن أنس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥).

وعنه عليه‌السلام ، قال : كان علي بن الحسين صلوات الله عليه أحسن الناس صوتا بالقرآن ، وكان السقّاؤون يمرّون ، فيقفون ببابه يسمعون قراءته وكان أبو جعفر عليه‌السلام أحسن النّاس صوتا (٦).

إلى غير ذلك ممّا يدلّ على استحباب تحسين الصوت ، بل وإنّه من مننه

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ١٦ الفنّ السابع من مقدّمة الكتاب.

(٢) جامع الاخبار ص ٥٧ ـ بحار الأنوار ج ٩٢ ص ١٩٠ عن الجامع.

(٣) هو على بن محمّد بن سليمان النوفلي رمي ، روايات عن ابى الحسن العسكري عليه‌السلام.

(٤) الكافي ج ٢ ص ٦١٥ ح ٤.

(٥) الكافي ج ٢ ص ٦١٥ ح ٩.

(٦) الكافي ج ٢ ص ١٦ ح ١١.

٣٥٧

العظيمة ، ونعمه الجسيمة على عبده ، وأنّ النبي والإمام أكمل الناس في ذلك.

وأمّا ما بلغ من ذلك حدّ الغناء والترجيح فقد عبّر عنه في الأخبار بلحون أهل الفسق ، وأهل الكبائر.

كما في «الكافي» عن الصّادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها ، وإيّاكم ولحون أهل الفسق ، وأهل الكبائر ، فإنّه سيجيء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح ، والرهبانيّة ، لا يجوز تراقيهم ، قلوبهم مقلوبة ، وقلوب من يعجبه شأنهم» (١).

وفي «المجمع» عن عبد الرحمن بن سائب ، قال : قدم علينا سعد بن أبى وقّاص ، فأتيته مسّلما عليه ، فقال : مرحبا يا ابن أخى بلغني أنّك حسن الصوت بالقرآن ، قلت : نعم والحمد لله ، قال : إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «إنّ القرآن نزل بالحزن ، فإذا قرأتموه فابكو ، فإن لم تبكو فتباكوا وتغنّوا به ، فمن لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا» (٢).

قال شيخنا الطبرسي قدس‌سره : تأوّل بعضهم تغنّوا به بمعنى استغنوا به ، قال : وأكثر العلماء على أنّه تزيين الصوت وتحزينه (٣).

قال الفيض قدس‌سره في «الصّافى» بعد ذكره ، وذكر بعض ما سمعت من الأخبار : إنّ المستفاد منها جواز التغنّي بالقرآن والترجيع به ، بل استحبابهما ، فما ورد من النهى عن الغناء كما يأتى في محلّه ينبغي حمله على لحون أهل الفسوق والكبائر ، وعلى ما كان معهودا في زمانهم عليهم‌السلام في فسّاق الناس ، وسلاطين بنى

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٦١٤ ح ٣.

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ٣٦ ـ الفنّ السابع من مقدّمة الكتاب.

(٣) مجمع البيان ج ١ ص ٣٦ ـ الفنّ السابع من مقدّمة الكتاب.

٣٥٨

أميّة ، وبنى العبّاس من تغنّي المغنيّات بين الرّجال ، وتكلّمهنّ بالأباطيل ، ولعبهنّ بالملاهي من العيدان ، والقصب ، ونحوها (١).

قال في «الفقيه» : سأل رجل عليّ بن الحسين عليهما‌السلام عن شراء جارية لها صوت ، فقال عليه‌السلام : ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنّة (٢).

قال : يعنى بقراءة القرآن ، والزهد ، والفضائل التي ليست بغناء ، وأمّا الغناء فمحظور.

وفي «الكافي» و «التهذيب» عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : أجر المغنيّة التي تزّف العرائس ليس به بأس ، ليست بالّتي تدخل عليها الرّجال (٣).

وفي معناه أخبار أخر ، وكلام الفقيه يعطى أنّ بناء الحلّ والحرمة على ما يتغنّى به ، والحديث الآخر يعطى أنّ السماع صوت الأجنبيّة مدخلا في الحرمة ، فليتأمّل انتهى.

حرمة الغناء : أمّا حرمة الغناء في الجملة فلا ريب فيه ، وكأنّه من ضروريات المذهب ، بل الدين ، وادّعوا عليه إجماع المسلمين ، نعم ربما يحكى عن بعض أهل الخلاف الخلاف فيه ، كما حكاه بعض العامّة عن معاوية (٤) ،

__________________

(١) الصافي ج ١ ص ٤٦ ـ المقدّمة الحادية عشرة.

(٢) من لا يحضره الفقيه ج ٤ ص ٤٢ ح ١٣٩.

(٣) الكافي ج ٥ ص ١٢٠ ح ٣ ـ التهذيب ج ٦ ص ٣٥٧ ح ١٠٢٢.

(٤) معاوية بن أبى سفيان صخر بن حرب الأموي المولود (٢٠) قبل الهجرة والمتوفي (٦٠) ه حكى العيني في عمدّة القارى شرح صحيح البخاري ج ٥ ص ١٦٠ أنّ معاوية كان ممّن ذهب إلى إباحة الغناء.

وقال الغزالي في احياء العلوم ج ٢ ص ١٣٨ : نقل أبو طالب المكي إباحة السماع عن جماعة ، فقال : سمع من الصحابة عبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن الزبير ، والمغيرة بن شعبة ، ومعاوية وغيرهم.

٣٥٩

والمغيرة (١) بن شعبة ، وابن الزبير (٢) ، وعبد الله (٣) بن جعفر ، بل كان يعدّ ذلك من مطاعنهم.

ولذا قال ابن أبي الحديد : ما ينسب الى معاوية من شرب الخمر سرا لم يثبت إلّا أنّه لا خلاف في أنّه كان يسمع الغناء (٤).

وحكى الشيخ في «الخلاف» عن أبي حنيفة (٥) ، ومالك ، والشافعي (٦) كراهة الغناء ، وعدم حرمته (٧).

وما ربما يوجد في أخبارنا ممّا يوهم الإباحة محمول على التقيّة قطعا ، فإنّ الإماميّة قديما وحديثا على الحرمة ، بل عدّها المحدّث (٨) الحرّ العاملي في «الفوائد الطوسية» ، والمدقّق (٩) القمى من الضروريات ، والأخبار متواترة على التحريم في الجملة ، بل قال في «الفوائد الطوسيّة» : إني اعتبرتها من جميع كتب

__________________

(١) المغير بن شعبة بن ابى عامر الثقفي المتوفّى (٥٠) ـ الاعلام ج ٨ ص ١٩٩.

(٢) عبد الله بن الزبير بن العوّام المقتول (٧٣) ـ تاريخ ابن الأثير ج ٤ ص ١٣٥.

(٣) عبد الله بن جعفر بن أبي طالب المتوفّى (٨٠) ـ العبر ج ١ ص ٩١.

(٤) شرح «النهج» لابن ابى الحديد ح ٥ ص ١٣٠ وفيه : أنّ نوم معاوية كان بين القيان المغنيّات واصطحابه معهّن.

(٥) ابو حنيفة : النعمان بن ثابت الكوفي المتوفى (١٥٠) ـ تاريخ بغداد ج ١٣ ص ٣٣٣.

(٦) الشافعي : محمد بن إدريس القرشي المتوفى بمصر (٢٠٤) ـ تذكرة الحفاظ ج ١ ص ٣٢٩.

(٧) لم أظفر على هذه : الحكاية في خلاف الشيخ ، نعم في «الرسالة القشيريّة» ص ٤٦٧ : من قال بإباحته (اى السماع والغناء) من السلف مالك بن أنس ، وأهل الحجاز كلّهم يبيحون الغناء ، إلى ان قال : وأمّا الشافعي فإنّه لا يحرّمه ، ويجعله في العوامّ مكروها.

(٨) هو محمّد بن الحسن بن عليّ العاملي المتوفّى (١١٠٤) ـ الاعلام ج ٦ ص ٣٢١.

(٩) هو أبو القاسم بن محمد حسن الجيلاني الشفتي القمى المتوفّى (١٢٣١ ه‍) ـ معجم المؤلفين ج ٨ ص ١١٦.

٣٦٠