تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: پاسدار إسلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

ومخالفتها لما يأتى ممّا هو أقوى سندا وأوضح دلالة لا تنهض حجّة لا ثبات نزوله على الوجوه السبعة بحسب المادّة ، أو الهيئة ، أو اللّغة ، حسبما يأتى إليها الاشارة.

ولذا قال الطبرسي في «مجمع البيان» : إنّ الشائع في أخبار الإمامية أنّ القرآن نزل بحرف واحد ، ثمّ نسب الى العامّة نزوله على سبعة أحرف (١).

وقال الشهيد في «المسالك» في باب المهر : إنّه قد ورد في أخبارنا أنّ السبعة ليست هي القراآت ، بل أنواع التركيب من الأمر ، والنهى ، والقصص ، وغيرها (٢).

أقول : بل ورد في أخبارنا أنّه على حرف واحد :

ففي «الكافي» في الصحيح ، عن الفضيل (٣) بن يسار ، قال : قلت لأبى عبد الله عليه‌السلام : إنّ الناس يقولون : إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ، فقال عليه‌السلام : كذبوا أعداء الله ، ولكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد (٤).

وفي الصحيح عن زرارة ، عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : إنّ القرآن واحد ، نزل من عند واحد ، ولكنّ الاختلاف يجيء من قبل الرّواة (٥).

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٢٥ ، وفيه : وما روته العامّة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «نزل القرآن على سبعة أحرف كلّها شاف كاف» اختلف في تأويله ...

(٢) بحار الأنوار ج ٩٣ ص ٤ وص ٩٧ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : انزل القرآن على سبعة أقسام : أمر ، وزجر ، ... وقصص.

(٣) الفضيل بن يسار أبو القاسم النهدي البصري روى عن ابى جعفر وابى عبد الله عليهما‌السلام وتوفّى في حياة الصادق عليه‌السلام ، وثّقه النجاشي والشيخ ـ معجم رجال الحديث ج ١٣ ص ٣٣٥.

(٤) الأصول من الكافي ج ٢ ص ٦٣٠ ح ١٣.

(٥) الأصول من الكافي ج ٢ ص ٦٣٠ ح ٢.

٢٨١

وعن معلّى بن خنيس ، قال : كنّا عند أبى عبد الله عليه‌السلام.

فقال عليه‌السلام : إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضالّ ، فقال ربيعة (١) : ضالّ؟ فقال عليه‌السلام : نعم ضالّ ، ثمّ قال عليه‌السلام : أمّا نحن فنقرأ على قراءة أبي (٢).

أراد قراءة أبيه عليه‌السلام ، والجمع له تفخيما أوله ولأصحابه.

ويمكن أن يراد قراءة أبيّ بن كعب لمطابقة قراءته لقرائتهم ، إلّا أنّها اليوم غير مضبوطة عندنا ، إذ لم تصل إلينا قراءته في جميع ألفاظ القرآن ، وإسناد القراءة إليه لعلّه للتقيّة عن ربيعة الرأى الّذى هو من رؤس ذوات الأذناب ، سيّما بعد الحكم بضلالة ابن مسعود على فرض المخالفة ، حيث إنّه قد اشتهر عنه أنّ الفاتحة ليست من القرآن ، بل المعوذّتان أيضا ليستامنه.

بل عن بعض علماء العامّة أيضا إنكار نزول القرآن على سبعة أحرف ، كما حكي عن جار الله الزمخشري أنّه أنكر تواتر السبع ، وقال : إنّ القراءة الصحيحة الّتى قرأ بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما هي في ضمنها ، وإنّما هي واحدة ، وانّ المصلّى لا تبرأ ذمّته من الصلاة إلّا إذا قرأ بما فيه الاختلاف على كلّ الوجوه ، كمالك ، وملك ، وصراط وسراط ، وغير ذلك ، انتهى (٣).

وعلى كلّ حال فقد ذكر لنزول القرآن على سبعة أحرف وجوه (٤) :

__________________

(١) هو ربيعة بن فرّوخ أبو عثمان المدني المعروف بربيعة الرأى من فقهاء العامّة توفّى سنة (١٣٦ ه‍) ـ الاعلام ج ٣ ص ٤٢.

(٢) الأصول من الكافي ج ٢ ص ٦٣٤ ح ٢٧.

(٣) انظر جواهر الكلام ج ٩ ص ٢٩٥.

(٤) قال الزركشي في «البرهان» ج ١ ص ٣٠٤ : قال الحافظ أبو حاتم ابن حبّان البستي :

اختلف الناس فيها

على خمسة وثلاثين قولا

٢٨٢

منها ما رواه في «مجمع البيان» عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : أمر ، وزجر ، وترغيب ، وترهيب ، وجدل ، ومثل ، وقصص (١).

وعن «النعماني» (٢) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : إنّ الله تبارك وتعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام كلّ قسم منها كاف شاف ، وهي : أمر ، وزجر ، وترغيب ، وترهيب ، وجدل ، ومثل ، وقصص (٣).

ومنها عن بعض العامّة من أنّه وعد ، ووعيد ، وأمر ، ونهى ، وجدل ، وقصص ، ومثل (٤). ومرجعه إلى الأولى.

ومنها ما عن بعضهم أيضا من أنّه ناسخ ، ومنسوخ ، ومحكم ، ومتشابه ومجمل ، ومفصّل ، وتأويل لا يعلمه إلّا الله تعالى (٥).

ولكن أخبارهم صريحة في أنّ الاختلاف ليس مقصورا على المعنى ، بل هو أعمّ منه ومن اللفظ ، فالوجوه المتقدّمة لا تسمن ولا تغني من جوع.

ومنها أنّ المراد من الحروف القراءات نظرا إلى أنّ الاختلاف فيها على سبعة أوجه :

الأوّل الاختلاف في اعراب الكلمة ممّا لا يزيلها عن صورتها في الكتابة

__________________

(١) رواه أيضا الطبري في تفسيره ج ١ ص ٢٤ برواية محمّد بن بشّار باسناده عن أبى قلابة.

(٢) النعماني هو محمد بن إبراهيم بن جعفر ابو عبد الله الكاتب المعروف بابن ابى زينب ، كان من أجلّاء تلاميذ الكليني ، صاحب كتاب «الغيبة».

(٣) رسالة النعماني في صنوف آي القرآن ، راجع بحار الأنوار ج ٩٣ ص ٤ وص ٩٧.

(٤) تفسير الطبري ج ص ١٨ ـ ومجمع البيان ج ١ ص ٢٦.

(٥) مجمع البيان ج ١ ص ٢٦.

٢٨٣

ولا يغيّر معناها ، كقوله : (فَيُضاعِفَهُ) (١) بالرفع والنصب.

الثاني الاختلاف في الإعراب ممّا يغيّر معناها ولا يزيل صورتها كقوله : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) (٢) وإذ تلقونه (٣).

الثالث الاختلاف في حروف الكلمة لا في الاعراب ممّا يغيّر معناها ولا يزيل صورتها كقوله : (كَيْفَ نُنْشِزُها) (٤) و «كيف ننشرها» بالراء والزاى.

الرابع الاختلاف في الحروف ممّا يغيّر الصورة دون المعنى ، عكس الثالث ، كقوله : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً) (٥) و «إلا زقية» (٦).

الخامس الاختلاف في الحروف ممّا يزيل الصورة والمعنى نحو (طَلْحٍ مَنْضُودٍ) (٧) وطلع (٨).

السادس الاختلاف بالتقديم والتأخير كقوله : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) (٩) وسكرة الحقّ بالموت (١٠).

__________________

(١) البقرة : ٢٤٥ ـ قال الطبرسي في المجمع ج ١ ص ٢٧٢ : فيه (اى في فيضاعفه) أربع قراءات : قرأ ابو عمرو ونافع وحمزة والكسائي بالألف والرفع. وقرأ عاصم بالألف والنصب ...

(٢) النور : ١٥.

(٣) تلقونه بكسر اللام وضم القاف مخفّفة من ولق إذا كذب راجع مجمع البيان ج ٥ ص ١٩.

(٤) البقرة : ٢٥٩ قرأ الكوفيّون وابن عامر بالزاي والباقون بالراء ـ التيسير للدانى ص ٨٢.

(٥) يس : ٢٩.

(٦) قال في المجمع ج ٥ ص ١٦ : في الشواذّ قراءة ابن مسعود وعبد الرحمن بن الأسود : (إلّا زقية) من زقا الطائر يزقو ويزقى إذا صاح.

(٧) الواقعة : ٢٩.

(٨) نقلها ابن خالويه في «مختصر شواذ القرآن» ص ١٧٨ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قرأها على المنبر ، و (طلح) بالحاء : الموز و (طلع) بالعين ما يبدو من ثمرة النخل في أوّل ظهورها.

(٩) ق : ١٩.

(١٠) ذكرها ابن خالويه في «مختصر شواذ القرآن» ص ١٤٤ عن ابى بكر وأبيّ بن كعب.

٢٨٤

السابع الاختلاف بالزيادة والنقصان كقوله : (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) (١) وما عملت أيديهم (٢).

قال في «المجمع» حكاية عن الشيخ أبي جعفر الطوسي قدس‌سرهما : أنّ هذا الوجه أملح ، لما روى عنهم عليهم‌السلام من جواز القراءة بما اختلف القرّاء فيه (٣).

أقول : لكنّك قد سمعت تظافر أخبارنا على ردّ خبر نزوله على سبعة أحرف ، وعلى فرضه فمقتضاه نزوله على الوجوه السبعة ، وأين هذا من جواز متابعتهم في قراءاتهم المختلفة الّتى ستسمع اختلافها.

ومنها ما يقال : من أنّ المراد سبع لغات من طوائف العرب كلغة هوازن ، وهذيل ، وقريش ، ويمن ، وكنانة ، وتميم ، وثقيف.

كما يقال : إنّ «الجبت» (٤) لم يكن معروفا في لغة أهل الحجاز ، وإنّما هو في لغة أهل الحبشة بمعنى السّحر ، لكنّ العرب أدخلوه في لغتهم.

قال الفيروزآبادي (٥) في «القاموس» : ونزل القرآن على سبعة أحرف ، أى

__________________

(١) يس : ٣٥.

ومثل هذا القسم أيضا. (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (البقرة : ٢٣٨) و (صلاة العصر) ذكرها الطبري في «التفسير» ج ٢ ص ٣٤٨ عن مصحف أم سلمة ، وعائشة ، وحفصة زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحوه أيضا : (أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) (الكهف : ٨٠) (وكان كافرا) أخرجه ابن جرير في «التفسير» ج ١٦ ص ٣ عن قتادة في حرف أبيّ بن كعب ومصحف ابن مسعود.

(٢) بدون الهاء كما في مصاحف أهل الكوفة ، راجع الكشّاف ج ٢ ص ٢٥٢.

(٣) مجمع البيان ج ١ ص ٢٦.

(٤) النساء : ٥١.

(٥) الفيروزآبادي : أبو طاهر محمد بن يعقوب اللغوي مجد الدين الشيرازي ولد بكازرون من أعمال شيراز سنة (٧٢٩) وتوفى سنة (٨١٧) ـ الاعلام ج ٨ ص ١٩.

٢٨٥

سبع لغات من لغة العرب ، وليس المراد أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه ، وإن جاء على سبعة أو عشرة أو أكثر ، ولكنّ المعنى أنّ هذه اللّغات متفرّقة في القرآن (١).

وقال ابن الأثير في «النهاية» : أراد بالحرف اللّغة ، يعنى على سبع لغات من لغة العرب ، أى إنّها متفرّقة ، فبعضه بلغة قريش ، وبعضه بلغة هذيل ، وبعضه بلغة هوازن ، وبعضه بلغة اليمن.

ثم نفى إرادة القراآت السبع ... إلى أن قال : وممّا يبيّن ذلك قول ابن مسعود : إنّي قد سمعت القرّاء فوجدتهم متقاربين ، فاقرأوا كما علّمتم ، إنّما هو كقول أحدكم : هلّم ، وتعال ، وأقبل.

وفيه أقوال أخر ، هذا أحسنها. انتهى.

لكن قد يقال : إنّهم كانوا في مبدأ الإسلام مخيّرين في أن يقرءوا بما شاؤا منها ، ثمّ أجمعوا على أحدها ، وإجماعهم حجّة ، فصار انعقاد الإجماع منهم على ما أجمعوا عليه مانعا عن جواز القراءة بغيره.

أقول : ولعلّ هذا الإجماع هو الّذى يدّعون انعقاده في خلافة عثمان حسبما تأتى إليه الإشارة وقد تعرّض بعض أصحابنا له على وجه الحكاية ، بل صرّح به في «المحاضرات الأوائل» نقلا عن «الإتقان» للسيوطي ، قال : أوّل من جمع القرآن عثمان ، واقتصر من سائر اللّغات السبعة على لغة قريش حين اقتتل الغلمان والمعلّمون في خلافته ، كان يقول بعضهم لبعض : إنّ قراءتي خير من قراءتك فجمعهم على مصحف واحد ، وجمع المصاحف التي كانت بين الناس ،

__________________

(١) القاموس في كلمة (حرف).

٢٨٦

وأحرقها من خشية الفتنة عند الاختلاف ، وحملهم على القراءة بوجه واحد ، وأمر بإرسال المصاحف الى أقطار الأرض ، وإن كان المشهور بين الناس أنّ عثمان هو جامع القرآن مطلقا ، وليس الأمر كذلك ، بل الجامع الأوّل للسور المرتبّة الباقية إلى يومنا هذا هو أبو بكر ، وكان جمعه أوّلا على سبعة لغات ، لأنّه كان نزل على لغات قبائل شتّى من أهل الحجاز تأليفا لقلوب جميعهم حكمة بالغة منه سبحانه ، فكانت كل قبيلة تتداول لغتها ، وترجّحها على غيرها ، فجرى الاختلاف بذلك ، فاندفع بجمع عثمان ، وأمّا ترتيب القراءة على لغة خاصّة فهو لعثمان ، ولهذا ينسب إليه الرّسم ، فيقال : هذا رسم عثمانى ، إلى آخر ما ذكره.

ومنها ما يتوهّم أنّ المراد بها القراآت السبع المشتهرة في الأزمنة المتأخّرة ، وهو توهّم فاسد نبّه على فساده كثير من الخاصّة والعامّة ، حسبما تسمع اليه الإشارة ، بل صرّحوا بأنّ القراآت المتداولة بينهم في الأعصار المتقدّمة كانت أزيد من عشرين ، وقد صنّفوا فيها الكتب والتصانيف ، وأنّ أوّل من اقتصر على السبعة هو ابن مجاهد (١) ، وقد اعترضوا عليه في اختيار العدد والمعدود ، بل حكى الإجماع عنهم فضلا عن غيرهم على فساد هذا التوهّم (٢).

ومنها غير ذلك من الأقوال (٣) الكثيرة عنهم على نحو أربعين قولا ، بل ربّما

__________________

(١) هو أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد ، شيخ القراء أبو بكر البغدادي فاق في عصره سائر نظائره من أهل صناعته ـ توفي سنة (٣٢٤ ه‍) وسيجيئ ذكره إنشاء الله تعالى ـ معرفة القرّاء للذهبى ج ١ ص ٤٦٩.

(٢) قال أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي المتوفّى (٦٦٥ ه‍) :

ظنّ قوم أنّ القراآت السبع الموجودة الآن هي الّتى أريدت في الحديث ، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة ، وإنّما يظنّ ذلك بعض أهل الجهل. ـ الإتقان للسيوطي ج ١ ص ١٣٨.

(٣) منها : أنّ المراد التوسعة على القارى ولم يقصد به الحصر. بل المقصود الكثرة في الآحاد كما يراد من

٢٨٧

يقال : إنّ الخبر من المشكل الذي لا يدرى معناه ، لأنّ الحرف لغة يصدق على حرف الهجاء ، وعلى الكلمة ، وعلى المعنى ، وعلى الجملة. (١)

__________________

لفظ السبعين وسبعمائة الكثرة في العشرات أو المئات ، ونسب هذا القول الى القاضي عيّاض ومن تبعه. ـ البيان ص ٢٠٨.

ومنها : أنّ ذلك راجع الى بعض الآيات مثل قوله تعالى : (أُفٍّ لَكُمْ) الأنبياء : ٦٧ قرء على سبعة أوجه : النصب والجر والرفع بالتنوين وغيره ، وسابعها الجزم ـ البرهان ج ١ ص ٣١٥.

(١) قاله ابو جعفر محمد بن سعدان النحوي ، أحد القرّاء ، كان يقرأ بقراءة حمزة ثمّ اختار لنفسه قراءة نسبت إليه توفي سنة (٢٣١) ـ البرهان للزركشى ج ١ ص ٢١٣ ـ ابناه الرواة ج ٣ ص ١٤٠.

٢٨٨

الفصل الثاني

في منشأ اختلاف القرّاء وادّعاء التواتر

والإجماع على السبع

قد سمعت أنّ الصحيح من روايات أهل البيت عليهم‌السلام أنّ القرآن واحد ، نزل من عند واحد ، ولم يكن فيه اختلاف أصلا ، وأنّ الاختلاف من قبل الرواة ، وأنّه لم يكن لهؤلاء القرّاء ولقرائتهم ذكر في العصر الأوّل.

حكى ابن طاوس في «سعد السعود» عن محمّد بن (١) بحر الرهنى الذي هو من أعاظم علماء الإمامية في بيان الاختلاف في المصاحف قال : اتّخذ عثمان سبع نسخ وأرسل إلى مكّة صحفا ، وإلى الشّام مصحفا ، وإلى الكوفة مصحفا ، والى البصرة مصحفا ، والى اليمن مصحفا ، وإلى البحرين مصحفا ، وأبقى في المدينة مصحفا ، وهذه المصاحف لخلوّها عن الإعراب والنقط وقع فيها اختلافات كثيرة.

ويؤيّده ما يحكى عن السيوطي فيما سمّاه «بالمطالع السعيدة» في شرح

__________________

(١) محمد بن بحر بن سهل الرهنى أبو الحسين الشيباني ساكن ترماشيز من أرض كرمان ، له تصانيف كثيرة نحو خمسمائة مصنّف ، كان من أكابر الاماميّة في القرن الرابع ، وهو من مشايخ أبى العباس بن نوح السيرافي المتوفّى (٤٠٨ ه‍) ـ طبقات أعلام الشيعة ج ١ ص ٢٤٨.

٢٨٩

الفريدة في اللغة : أنّ أبا الأسود الدئلي أعرب مصحفا واحدا في خلافة معاوية.

ومنه يظهر أنّ منشأ الاختلافات إنّما هو اختلاف المصاحف العثمانيّة واحتمالاتها.

نعم قد يفسّر الحروف السبعة في الخبر المتقدّم بالقراءات السّبع ، بل قد غلب هذا الوهم على كثير من العامّة حتّى زعموا نزول القرآن على الوجوه السبعة ، لكنّك قد سمعت اختلافهم في معنى الخبر على وجوه تبلغ أربعين وجها ، بل صرّح الفيروزآبادي وابن الأثير كما سمعت على عدم ارادة القراآت السبع.

وقال محمد بن بحر الرهنى : إنّ كلّ واحد من القرّاء قبل أن يتجدّد القارئ الّذى بعده لا يجيز إلّا قراءته ، ثمّ لمّا جاء الثاني انتقل عن المنع الى الجواز وكذا في القراآت السبعة ، فاشتمل كلّ واحد على انكار قراءته ، ثمّ عاد الى خلاف ما أنكره ، ثمّ اقتصروا على هؤلاء السبعة.

ذكر ابن الجزري (١) الشافعي في «تحبير التيسير» في بيان السبب الباعث لتأليفه : إنّي رأيت الجهل قد غلب على كثير من العوامّ ، وشاع عند من لا علم له أنّه لا قراءة إلّا الّذى في هذين الكتابين ، يعنى «التيسير» (٢) و «الشاطبيّة» (٣) وأنّ

__________________

(١) هو محمّد بن محمّد بن على بن يوسف شمس الدين أبو النمير الدمشقي الشافعي الجزري ولد بدمشق سنة (٧٥١) وتوفّي بشيراز سنة (٨٣٣ ه‍) مصنّفات منها «تجسير التيسير» في القراآت ـ هديّة العارفين ج ٢ ص ١٨٧.

(٢) التيسير في القراآت السبع لأبى عمر وعثمان بن سعيد الداني المتوفى (٤٤٤).

(٣) الشاطبيّة قصيدة في القراآت السبع نظم في هذه القصيدة كتاب «التيسير» لأبى عمر والداني المتقدّم ذكره ، وأبياتها (١١٧٣) بيتا ، وناظمهما أبو محمد القاسم بن فيّرة الشاطبي الضرير المتوفى (٥٩٠) بالقاهرة ، وسمّاها (حرز الأمانى ووجه التهاني) ـ كشف الظنون ج ١ ص ٦٤٦.

٢٩٠

السبعة الأحرف المشار إليها بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«أنزل القرآن على سبعة أحرف» هي قراءات هذه السبعة القرّاء ، وأنّ ما عدى في هذين الكتابين من القراآت شاذّ لا يقرأ به ، أو لا يصحّ وكلّ قول من هذه الأقوال ونحوها باطل لا يلتفت إليه ، وخلف لا يعوّل عند علماء الإسلام عليه ، كما بيّنه غير واحد من الأئمّة ، وأوضحه المقتدى بهم من سراة الأمّة.

وقال في «النشر في القراآت العشر» : لمّا توفّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقام بالأمر أبو بكر ، وقاتل الصّحابة أهل الردّة وأصحاب مسيلمة ، وقتل من الصّحابة نحو خمسمائة صحابي ، أشير على أبى بكر بجمع القرآن في مصحف واحد خشية أن يذهب بذهاب الصّحابة ، فتوقّف في ذلك من حيث إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يأمر في ذلك بشيء ، ثمّ اجتمع رأيه ورأى الصحابة على ذلك ، فأمر زيد بن ثابت بتتّبع القرآن وجمعه ، فجمعه في صحف كانت عند أبى بكر حتّى توفّي ثمّ عند عمر حتّى توفّي ، ثمّ عند حفصة ، ولمّا كان في نحو ثلاثين من الهجرة ، في خلافة عثمان حضر حذيفة بن اليمان فتح أرمينية ، وآذربيجان ، فرأى النّاس يختلفون في القرآن ويقول أحدهما للآخر : قراءتي أصحّ من قراءتك فأفزعه ذلك ، وقدم على عثمان وقال : أدرك هذه الامّة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى ، فأرسل عثمان الى حفصة أن أرسلى إلينا الصحف ننسخها ، ثمّ نردّها إليك ، فأرسلتها إليه. فأمر زيد بن ثابت وعبد الله (١) بن الزبير ، وسعيد (٢) بن العاص ، وعبد الرحمن (٣) بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف ، وقال : إذا اختلفتم أنتم وزيد في

__________________

(١) عبد الله بن الزبير بين العوامّ المقتول بمكة (٧٣).

(٢) سعيد بن العاص بن سعيد الأموي المتوفى (٥٩) ـ الأعلام ج ٣ / ١٤٩.

(٣) عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي المدني المتوفى (٤٣) ـ الاعلام ج ٤ ص ٧٣.

٢٩١

شيء فاكتبوه بلسان قريش فإنّما نزل بلسانهم ، فكتب منها عدّة مصاحف ، ووجّهها إلى الأمصار.

إلى أن قال : واجتمعت الامّة المعصومة من الخطاء على ما تضمّنته هذه المصاحف.

ثمّ قال : وقرأ أهل كل مصر بما في مصحفهم وتلقّوا ما فيه عن الصحابة الّذين تلقّوه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ ذكر القرّاء الذين تلقّوه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكر نحو أربعين قارئا غير القرّاء العشر المشهورين.

الى أن قال : تجرّد قوم للقراءة والأخذ ، واعتنوا بضبط القراءة أتمّ عناية ، حتّى صاروا في ذلك أئمّة يهتدى بهم ، ويرحل إليهم ويؤخذ عنهم ، قد أجمع أهل بلدهم على تلقّى قراءتهم بالقبول ولم يختلف عليهم فيها اثنان ، ولتصدّيهم للقراءة نسبت إليهم.

ثمّ ذكر عشرين قارئا منهم العشرة المشهورون ، وزاد عليهم : شيبة بن (١) نصاح ، وحميد بن (٢) قيس الأعرج ، ومحمد بن (٣) محيصن ، ويحيى بن (٤) وثاب ،

__________________

(١) هو شيبة بن نصاح بن سرجس المدني المقري مولى أمّ سلمة رضى الله عنها وكان من شيوخ نافع ، توفي سنة (١٣٠ ه‍).

(٢) حميد بن قيس الأعرج المقرئ المكي المتوفّى (١٣٠ ه‍).

(٣) هو محمد بن عبد الرحمن السهمي ابن محيصن المكي كان من المقرئين بالشواذ المقبولة في مصطلحهم ، توفّي سنة (١٢٣ ه‍).

(٤) يحيى بن وثاب الأسدى المقرئ الكوفي المتوفّى (١٠٣ ه‍).

٢٩٢

وسليمان (١) الأعمش ، وإسماعيل بن (٢) عبد الله المخزومي وعطيّة (٣) بن قيس الكلابي ، وإسماعيل (٤) بن عبيد الله بن أبى المهاجر ، ويحيى بن الحادث الذمارى (٥) ، وشريح بن (٦) يزيد الحضرمي.

ثمّ قال : إنّ القرّاء بعد هؤلاء المذكورين كثروا وتفرّقوا في البلاد وانتشروا ، وخلفهم أمم بعد أمم ، عرفت طبقاتهم واختلفت صفاتهم ، منهم المتقن للتلاوة ، المشهور بالرواية والدراية ، ومنهم المقتصر على وصف من هذه الأوصاف ، وكثر بينهم لذلك الاختلاف ، وقلّ الضّبط واتّسع الخرق ، وكاد الباطل يلتبس بالحقّ ، فقام جهابذة علماء الامّة ، وصناديد الائمّة ، فبالغوا في الاجتهاد ، وجمعوا الحروف والقراآت ، وميّزوا بين المشهور والشاذّ ، والصحيح والناد بأصول أصّلوها ، وأركان قد فصّلوها ، وها نحن نشير إليها ، ونعوّل كما عوّلوا عليها ، فنقول : كلّ قراءة وافقت العربيّة ولو بوجه ، ووافقت أحد المصاحف العثمانيّة ولو احتمالا ، وصحّ سندها ، فهي القراءة الصحيحة الّتى لا يجوز ردّها ، ولا يحلّ إنكارها ، بل هي من الأحرف السبعة الّتى نزل بها القرآن ووجب على النّاس قبولها ، سواء أكانت من السّبعة أم عن العشرة ، أم عن غيرهم من الأئمة

__________________

(١) سليمان بن مهران أبو محمد الأسدى الكوفي المعروف بالأعمش ، المتوفى (١٤٨).

(٢) إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين ابو إسحاق المخزومي المكّى المقرئ كان شيخ محمد بن إدريس الشافعي في القراءة توفي سنة (١٧٠ ه‍).

(٣) هو عطيّة بن قيس ابو يحيى الكلابي الحمصي الدمشقي التابعي القارى توفى سنة (١٢١) وقد جاوز المائة سنة ـ غاية النهاية ج ١ ص ٥١٣.

(٤) إسماعيل بن عبيد الله بن أبى المهاجر الدمشقي المتوفّى (١٣٢ ه‍) ـ تاريخ الاعلام ص ٣٧٦.

(٥) يحيى بن الحارث بن عمرو الذماري الدمشقي المقرئ المتوفى (١٤٥) ـ غاية النهاية ج ٢ ص ٣٦٧.

(٦) شريح بن يزيد الحضرمي الحمصي المقري المتوفى (٢٠٣) ـ غاية النهاية ج ١ ص ٣٢٥.

٢٩٣

المقبولين ، ومتى اختلّ ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة ، أو شاذّة ، أو باطلة ، سواء أكانت عن السّبعة ، أو عمّن هو أكبر منهم.

هذا هو الصحيح عند ائمّة التحقيق من السلف والخلف (١).

ثمّ حكاه عن جماعة (٢) من العامّة ، وحكى عن أبي شامة في كتابه «المرشد الوجيز» أنّه لا ينبغي أن يغترّ بكلّ قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الائمّة السّبعة ، ويطلق عليها لفظ الصحّة ، وأنّ هكذا أنزلت إلّا إذا دخلت في ذلك الضابط ، وحينئذ لا يتفردّ بنقلها مصنّف عن غيره ، ولا يختصّ ذلك بنقلها عنهم ، بل ان نقلت عن غيرهم من القرّاء فذلك لا يخرجها عن الصحّة ، فإنّ الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا على من نسبت إليه ، غير أنّ هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجتمع عليه في قراءتهم تركن النفس الى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم (٣).

إلى أن قال بعد كلام طويل : قال الإمام أبو محمد بن مكّى في مصنّفه ألحقه بكتابه «الكشف» : فإن سأل سائل فقال : فما الذي يقبل من القرآن الآن فيقرأ به ، وما الذي لا يقبل ولا يقرء به؟ فالجواب أنّ جميع ما روى في القرآن على ثلاثة أقسام :

الأوّل ما يقبل ويقرأ به ، وذلك ما اجتمع فيه ثلاث خلال : أن ينقل عن الثقات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويكون في العربيّة الّذى نزل به القرآن سائغا ، ويكون موافقا لخطّ المصحف.

__________________

(١) النشر لابن الجزري ج ١ ص ٩.

(٢) حكاه عن عثمان بن سعيد الداني ، وابى محمّد مكي بن ابى طالب ، وأحمد بن عمّار المهدوى.

(٣) النشر في القراآت العشر ج ١ ص ٩.

٢٩٤

الثاني ما صحّ نقله عن الآحاد ، وصحّ وجهه في العربيّة ، وخالف لفظ خطّ المصحف ، فهذا يقبل ولا يقرأ لعلّتين : أحدهما أنّه لا يثبت القرآن بخبر الواحد ، والاخرى أنّه مخالف لما قد أجمع عليه فلا يقطع على صحّته ، ولا يجوز القراءة به ، ولا يكفر من جحده.

والثالث ما نقله غير ثقة ، أو نقله ثقة ولا وجه له في العربيّة ، فهذا لا يقبل ولا يقرأ وإن وافق خطّ المصحف.

إلى أن قال : وأمّا هل القراآت الّتى يقرأ بها اليوم في الأمصار جميع الأحرف السّبعة ، أم بعضها؟ فهذه المسئلة مبنيّة على الفصل المتقدّم ، فإنّ من عنده لا يجوز للامّة ترك شيء من الأحرف السّبعة يدّعى أنّها مستمرّة النقل بالتّواتر الى اليوم ، وإلّا تكون الامّة جميعها عصاة مخطئين في ترك ما تركوا منه ، كيف وهم معصومون من ذلك.

وأنت ترى ما في هذا القول ، لأنّ القراآت المشهورة اليوم من السبعة أو العشرة ، أو الثلاثة عشرة بالنسبة الى ما كان قلّ من كثر ، ونزر من بحر ، فإنّ من له اطلاع على ذلك يعرف أنّ القرّاء الّذين أخذوا عن الائمّة المتقدّمين كثير ، والذين أخذوا عنهم أيضا أكثر ، وهلّم جرّا ، فلمّا كانت المائة الثالثة ، واتّسع الخرق ، وقلّ الضبط ، وكان علم الكتاب والسنّة أوفر ما كان في ذلك العصر ، تصدّى بعض الأئمّة لضبط ما رواه من القراآت ، فكان أوّل إمام جمع القراآت في كتاب هو أبو عبيد القاسم بن سلّام ، المتوفّى (٢٢٤) ، وجعلهم فيما أحسبه خمسة وعشرين قارئا مع هؤلاء السبعة (١).

__________________

(١) النشر في القراآت العشر ج ١ ص ٣٤.

٢٩٥

وكان بعده أحمد بن جبير بن محمد الكوفي نزيل أنطاكية ، جمع كتابا في القراآت الخمسة من كلّ مصر واحدا ، وتوفّى سنة (٢٥٨ ه‍).

وكان بعده القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي ، صاحب قالون ، ألّف كتابا في القراآت ، وجمع فيه قراءة عشرين إماما منهم هؤلاء السبعة ، توفّي سنة (٢٨٢ ه‍).

وكان بعده الإمام أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري ، جمع كتابا كافلا سمّاه «الجامع» ، فيه نيف وعشرون قراءة ، توفّي سنة (٣١٠ ه‍).

وكان في اثره أبو بكر محمّد بن أحمد بن عمر الداجوني المتوفّى (٣٢٤ ه‍) ، جمع كتابا في القراآت وأدخل فيه أبا جعفر أحد العشرة.

وكان في اثره أبو بكر أحمد بن موسى بن العبّاس بن مجاهد ، إمام القرّاء في عصره ، وهو أول من اقتصر على قراءة هؤلاء السبعة فقط ، توفّي سنة (٣٢٤ ه‍).

وقام الناس في مصره وبعده وألّفوا في القراآت أنواع التأليفات المشتملة على القراآت العشر ، والأكثر منها أو الأقلّ.

إلى أن قال بعد الإطناب الذي حذفناه للاختصار : ولا زال النّاس يؤلّفون في كثير القراآت وقليلها ، يروون شاذّها وصحيحها بحسب ما وصل إليهم ، أو صحّ لديهم ، ولا ينكر أحد عليهم ، بل هم في ذلك متّبعون سبيل السلف حيث قالوا : القراءة سنّة متّبعة يأخذها الآخر عن الأوّل ، وما علمنا أحدا أنكر شيئا قرأ به الآخر إلّا ما قدّمنا عن ابن (١) شنبوذ لكونه خرج عن المصحف العثماني ،

__________________

(١) هو : محمد بن احمد بن أيّوب المعروف بابن شنبوذ المقرئ البغدادي المتوفى (٣٢٨) ـ غاية النهاية

٢٩٦

وللناس في ذلك خلاف كما قدّمناه ولذا ما أنكر على ابن (١) مقسم من كونه أجاز القراءة بما يوافق المصحف من غير أثر.

أمّا من قرأ «الكامل» (٢) للهذلى ، أو «سوق العروس» (٣) للطبري أو «الإقناع» (٤) للأهوازى ، أو «كفاية» (٥) أبى العزّ ، أو «المبهج» (٦) لسبط الخيّاط ، أو «الروضة» (٧) للمالكى ، ونحو ذلك. على ما فيها من ضعيف وشاذّ عن السبعة والعشرة ، وغيرهم ، فلا نعلم أحدا أنكر ذلك ، ولا زعم أنّه مخالف لشيء من الأحرف السبعة (٨).

بل ما زالت علماء الامّة ، وقضاة المسلمين يكتبون خطوطهم ، ويثبتون شهادتهم في إجازاتنا بمثل هذه الكتب والقراآت.

__________________

ج ٢ / ٥٢.

(١) هو محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن بن مقسم البغدادي المتوفى (٣٥٤) ـ غاية النهاية ج ٢ ص ١٢٣.

(٢) الكامل في القراآت الخمسين لأبى القاسم يوسف بن على بن عبادة المعذلى المغربي المتوفى (٤٦٥) ـ كشف الظنون ج ٢ ص ١٣٨١.

(٣) سوق العروس في القراآت لأبي معشر الطبري عبد الكريم بن عبد الصمد المتوفى (٤٧٨).

(٤) الإقناع في القراآت الشاذّة لأبى على الحسن بن على الأهوازى المقرئ المتوفى (٤٤٦) ـ كشف الظنون ج ١ ص ١٤٠.

(٥) كفاية المبتدي وتذكرة المنتهى في القراآت العشر لأبى العزّ محمد بن الحسين بن بندار القلانسي الواسطي المتوفى (٥٢١ ه‍) ـ كشف الظنون ج ٢ ص ١٥٠٠.

(٦) المبهج في القراآت لعبد الله بن على البغدادي المعروف بسبط الخيّاط توفى سنة (٥٤١ ه‍) ـ كشف الظنون ج ٢ ص ١٥٨٢.

(٧) الروضة في القراآت السبع لأبى على الحسن بن محمد بن إبراهيم المقري البغداديّ المالكي المتوفى (٤٣٨ ه‍) ـ كشف الظنون ج ١ ص ٩٣١.

(٨) النشر في القراآت العشر ج ١ ص ٣٦.

٢٩٧

ثم قال : وإنّما أطلنا هذا الفصل لما بلغنا عن بعض من لا علم له أنّ القراآت الصحيحة هي الّتى عن هؤلاء السبعة ، وأنّ الأحرف السبعة الّتى أشار إليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هي قراءة هؤلاء السبعة ، بل غلب على كثير من الجهّال أنّ القراآت الصحيحة هي الّتى في «الشاطبيّة» و «التيسير» ، وأنّها هي المشار إليها بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنزل القرآن على سبعة أحرف» ، حتّى أنّ بعضهم يطلق على ما لم يكن عن هؤلاء السبعة شاذّا ، وربما كان كثير ممّا لم يكن في «الشاطبية» و «التيسير» عن غير هؤلاء أصحّ من كثير ممّا فيهما ، وإنّما أوقع هؤلاء في الشّبهة أنّهم سمعوا نزول القرآن على سبعة أحرف ، ويسمعون قراءات السبعة ، فظنّوا أنّ هذه هي المشار إليها ، ولذلك كره كثير من المتقدّمين اقتصار ابن مجاهد على سبعة من القرّاء ، وقالوا : لماذا اقتصر على هذا العدد (١).

ثمّ أطال الكلام الى أن قال : وكان من جواب الشيخ الإمام مجتهد العصر أبى العبّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السّلام ابن تيمية (٢) : لا نزاع بين العلماء أنّ الأحرف السبعة الّتى ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّ القرآن أنزل عليها ليست قراءات القرّاء السبعة المشهورة ، بل أوّل من جمع ذلك ابن مجاهد ، فيكون ذلك موافقا لعدد الحروف الّتى أنزل عليها القرآن لا لاعتقاده أو اعتقاد غيره من العلماء أنّ القراآت السبع هي الحروف السّبعة ، وانّ هؤلاء السبعة هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم ، ولهذا قال بعض من قال من أئمّة القرّاء : لو لا أنّ ابن مجاهد سبقني الى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي إمام جامع البصرة ، وإمام قرّاء البصرة في

__________________

(١) النشر في القراآت العشر ج ١ ص ٣٦.

(٢) ابن تيميّة : أحمد بن عبد الحليم الحرّانى الدمشقي الحنبلي ابو العبّاس المتوفّى سنة (٧٢٨ ه‍) ـ الأعلام ج ١ ص ١٤٠.

٢٩٨

زمانه في رأس المأتين.

ثم قال ابن تيميّة : ولذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبعون من السّلف والأئمّة في أنّه لا يتعيّن أن يقرأ بهذه القراآت المعيّنة في جميع أعصار المسلمين ، بل من تثّبت عنده قراءة حمزة والكسائي فله أن يقرأ بها ، بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع والخلاف ، بل أكثر العلماء الأئمّة الّذين أدركوا قراءة حمزة كسفيان (١) بن عيينة ، وأحمد بن (٢) حنبل ، وبشر (٣) بن الحارث ، وغيرهم يختارون قراءة أبى جعفر ابن القعقاع ، وشيبة بن نصاح المدنييّن ، وقراءة البصريّين لشيوخ يعقوب وغيرهم على قراءة حمزة والكسائي.

ثمّ أطال الكلام في ذلك والنقل عن جماعة من العلماء بمثل هذا القول ، وانكار الاقتصار على السبع ، وأنّ وجه الاقتصار على السبعة إنّما هو لقصور الهمم ، ونقص العلم ، وأنّه إنّما اقتصر على قراءة العشر لذلك ، وإلّا فهي غير محصورة فيهم ، إلى آخر ما ذكر.

وإنّما أطلت الكلام بنقله للتنبيه على مبدأ الأمر ونهايته حسبما صرّحوا به مضافا إلى سراية ذلك التوهّم الى أذهان جملة من الأعيان حسبما تسمع ، ولعلّه إلى ذلك أشار الشهيد في بحث المهور من «المسالك» بعد خبر الأحرف السبعة :

__________________

(١) سفيان بن عيينة بن ميمون الكوفي ، ولد بالكوفة سنة (١٠٧) ، وتوفّى بمكة سنة (١٩٨) ـ الاعلام ج ٣ ص ١٥٩.

(٢) احمد بن محمد بن حنبل الشيباني ولد ببغداد سنة (١٦٤) وتوفى سنة (٢٤١) له مصنّفات منها «المسند» ستة مجلّدات تحتوى على ثلاثين الف حديث ـ الاعلام ج ١ ص ١٩٢.

(٣) بشر بن الحارث بن عبد الرحمن المروزي المتوفى (٢٢٧) ه ـ التقريب ج ١ ص ١٢٧.

٢٩٩

أنّه قد فسّرها بعضهم بالقراءات السبعة ، وليس بجيّد ، لأنّ القراآت المتواترة لا تنحصر في السبعة ، بل ولا في العشرة كما حقّق في محلّه ، واقتصروا على السبعة تبعا لابن مجاهد ، حيث اقتصر عليها تبرّكا بالحديث ، وفي أخبار : أنّ السبعة ليست هي القراآت ، بل أنواع التركيب من الأمر ، والنهى ، والقصص ، وغيرها ، انتهى.

إلّا أنّ فيه : أنّ دعوى التواتر في شيء منها فضلا عن جميعها ليست في محلّها ، وإن سبقه فيها بل لحقه عليها كثير من الفريقين ، بل ذكر والدي العلّامة أعلى الله مقامه في «شرحه للشرايع» : أنّ المشهور بين المتأخرين من الطائفة تواتر القراآت السبع ، وقد استفاض عليه حكاية الشهرة عن الأجلّة ، وممّن ذهب إليه الفاضل (١) في «التذكرة» كما عن «المنتهى» و «النهاية» ، والمحقّق الثاني (٢) في «جامع المقاصد» (٣) والشهيد (٤) في «الروض» و «المقاصد العليّة» فقالوا : إنّ الكلّ نزل به الرّوح الأمين على قلب سيّد المرسلين تخفيفا على الأمّة ، وتهوينا على هذه الملّة ، استنادا إلى ما رواه الجمهور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «نزل القرآن على سبعة أحرف» ، مدّعيا تواتر ذلك منه ، الى آخر ما ذكره عطّر الله مرقده.

وذكر في «المدارك» بعد حكاية الإجماع عن جمع من الأصحاب على تواتر القراآت السبع : أنّه نقل جدّى قدس‌سره عن بعض محقّقى القرّاء أنّه أفرد كتابا في أسماء الرّجال الذين نقلوا هذه القراآت في كلّ طبقة ، وهم يزيدون عمّا

__________________

(١) هو العلّامة الحلّى الحسن بن يوسف المتوفى (٧٢٦ ه‍).

(٢) هو على بن الحسين بن عبد العلى ، الكركي المتوفّى (٩٤٠ ه‍).

(٣) جامع المقاصد ج ٢ ص ٢٤٤.

(٤) المراد به هو الشهيد الثاني زين الدين بن على العاملي الشهيد في سنة (٩٦٦).

٣٠٠