تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: پاسدار إسلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

المعارضة ، وأمّا عندها فهي أو العلم مسلوبة.

والحاصل أنّه مع عدم إرادة المعارضة فالمنتفى هو الدّاعى ، ومع ارادتها فأحد الأمرين فالصرفة متحقّقة دائما بأحد المعاني الثلاثة على سبيل منع الخلوّ ، وعلى هذا فكأنّه يعود النزاع لفظيّا على بعض الوجوه فتأمّل جيّدا.

ثمّ إنّه ربّما يستدلّ للقول بالصرفة بأنّ الصّحابة عند جمع القرآن كانوا يتوقّفون في بعض السور والآيات حتى تتحقّق شهادة الثقات بل حكى عن ابن مسعود أنّه بقي متردّدا في الفاتحة والمعوذتين ، بل المحكىّ عنه عدم عدّ المعوذّتين من القرآن ، ولو كان الإعجاز للفصاحة أو للأسلوب لكان يفهمه كلّ أحد.

ويمكن الجواب مع الغضّ عن إمكان عدم فهم البعض للفصاحة بحيث صار سببا للاختلاف ، ولذا نشأ القول بالصّرفة ونحوها ، بأنّ مجرّد مثل تلك الفصاحة لا يستلزم القرآنية ، فإنّها أعمّ مطلقا ، وهو لا يستلزم الأخصّ ، ولذا لا يصدق حدّ القرآن على أدعية الصحيفة السجادية وخطب «نهج البلاغة» وغيرهما ، وإن قلنا بعجز الآخرين عن الإتيان بمثلها ، بل وكذا الأحاديث القدسيّة فآيات التوراة والإنجيل والزبور وغيرها ممّا نزلت من عنده سبحانه لا للاعجاز والتعدّى بها ، وان كان العجز حاصلا معها ، فليس مجرّد حصول العجز من الأعراض الخاصّة القرآن ، ولا من مقوّماته الذاتيّة.

ومن هنا يظهر فساد إنكار غير الصرفة من وجوه الإعجاز ، نعم ربّما احتجّ القائلون بالفصاحة على فساد القول بالصرفة بوجوه :

أحدها أنّ الإعجاز لو كان للصرفة لكانوا قادرين على الإتيان بمثله قبل الصرفة ، فاذا وجدت الصرفة وحصل المنع وجب أن يجدوا ذلك من أنفسهم

٢٦١

ضرورة ، لأنّا نعلم بالضرورة أنّ من كان له قدرة أو قدرة على شيء ثمّ سلبا عنه يجد ذلك من نفسه ، ولو وجد وأسلب القدرة والعلم من أنفسهم لتحدّثوا به في مجالسهم ، ولو تحدّثوا به لاشتهر وذاع ، وتواتر وشاع ، لأنّه من الأمور العجيبة الّتى تتوفّر الدواعي على نقلها وكلّ هذه المقدّمات ضروريّة ، ولمّا لم يقع شيء من ذلك فكان القول بالصرفة باطلا.

ثانيها : أنّه لو كان الإعجاز بسبب الصرفة لوجب أن يكون القرآن في غاية الركاكة ، واللازم باطل فالملزوم مثله ، بيان الملازمة أنّ منعهم عن معارضته على تقدير ركاكته أبلغ في الإعجاز ممّا لو كان بالغا في الفصاحة وهو ضروري ، وأمّا بطلان اللازم فظاهر فيبطل الملزوم وهو المطلوب.

ثالثها أن حصول الصّرفة على فرضه إنّما هو بعد النبوة وتحقّق التحدّى ، وأما قبله فلا صارف لهم عن الإتيان بمثله ، والعادة تقضى بصدور مثله عنهم قبل ذلك ، فلو كان الوجه هو الصرفة لكان لهم أن يعارضوه بعد التحدّى بما صدر عنهم قبله.

أقول : ويمكن الجواب عن الأوّل بأنّه لعلّهم كانوا يجدون ذلك من أنفسهم ويؤيّده أنّ من كان بصدد المعارضة مثل ابن أبي العوجاء ، وغيره كانوا يزعمون أوّلا قدرتهم على ذلك ، ثم ظهر لهم عجزهم ، أو تنصرف عن ذلك هممهم ، ولهذا هو الصرفة عندهم على ما سمعت ، ولعلّهم يريدون بها الصرفة الدائمة على أحد الوجوه لا على وجه التبدّل وحينئذ فتبطل الملازمة.

وعن الثاني بالمنع عن الاستلزام لمطلوبيّة الفصاحة نفسها ، مع انّ الركاكة في نفسها مانعة ، والإعجاز يجب أن يكون على الوجه الأبلغ ، سلّمنا لكنّ الأبلغ هو الاشتمال على وجوه الإعجاز.

٢٦٢

وعن الثالث بأنّ القائل بالصرفة لعلّه يلتزم بالمنع عن صدور مثله عنهم قبله أيضا لذلك أو عن المعارضة به على فرض الصدور ، هذا.

لكنّه لا يخفى عليك أنّ القول بالصرفة بمكان من القصور لما مرّ ويأتى من الوجوه الّتى فيها الإعجاز من جهات شتّى.

ومنها اشتماله على العلوم الحقيقيّة والمعارف الإلهيّة وأصول الحقائق وكشف الأسرار والدقائق بألفاظ فائقة رائعة مهذبّة مختصرة في غاية الإيجاز ، ونهاية الاختصار ، بل لا يخفى على من له خوض في العلوم العالية والحكمة المتعالية أنّ المقاصد الّتى أفنت الحكماء الفلاسفة الّذين هم قدوة أرباب العقول أعمارهم فيها ، ولم يصلوا بعد الرياضات الشديدة والمشاقّ الكثيرة إليها ربما أشرقت لوامع أنوارها من أفق بعض الآيات أو الكلمات على أفئدة بعض أرباب القلوب ، بل ربما ينفتح بالتأمّل في كثير من الآيات أبواب العلم بالغيوب ، بل لعلّك ترى كثيرا من المسائل الّتى صنّفوا فيها الكتب والرّسائل ، وأكثروا فيها من ذكر الوجوه والدلائل ربّما يمرّ عليك بأوضح تعبير وأيسر بيان في بعض آيات القرآن ، بل ليس بشيء من الحقائق والأسرار إلّا ولها أصل في كتاب الله ساطع الأنوار ، وإن احتجبت بعض القلوب بغشاوة الأستار وظلمة الأكدار ، مع كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نشأ في بلد لم يكن فيه عالم ولا حكيم ، ولم يعهد من حاله أنه تلمذ على أحد أو سافر في صقع من الأصقاع لذلك.

ومنها اشتماله على قصص الأنبياء السالفين وأحوال المتمّردة الماضين وجزئيّات أحوالهم وأقوالهم وما جرى عليهم مع عدم قراءته صلى‌الله‌عليه‌وآله لشيء من كتبهم ، ولا ملاقاته لأحد من علمائهم ، حتّى أنّ علماء اليهود وأحبار النصارى لم يقدروا على الإنكار عليه في شيء ممّا أخبر به عن الماضين ، مع غاية حرصهم على ذلك واجتهادهم فيه ، ولذا قيل :

٢٦٣

لم يقترن بزمان وهو يخبرنا

عن القرون وعن عاد وعن إرم

وقد قال أيضا : من وجوه الإعجاز اشتماله على الآداب القويمة والشرائع المستقيمة ، ومكارم الأخلاق ، ومحاسن الصّفات ممّا فيه نظم إصلاح أحوال العباد ونظم سياسة البلاد ، بحيث لو تأمّل فيه العالم البصير لعلم أنّه ليس إلّا تنزيلا من عليم خبير ، ومن العوارض النفسانية لكثير من النّاس عند قراءته واستماعه من المصيبة والخوف والخشية ، والشوق والرقّة والتوجّه الى المبدء ، والتذكّر لأمور الآخرة ، ودفع الحيرة ، وانكشاف العلوم الغيبيّة والمعارف الربانيّة ، وغير ذلك من الأطوار العجيبة والأحوال الغريبة المختصّة به دون غيره من الكلمات والخطب والأشعار وغيرها ، وإن اختلفت تلك الأحوال باختلاف الأشخاص والأزمان وغيرها.

ومنها الاستخارات المجرّبة الّتى كأنّها بقيّة من الوحي الإلهى والإلهام حتّى انّه ربما يستفاد مقصد المستخير وجوابه وعاقبته من الآية تصريحا أو تلويحا ، بل كثيرا ما اتّفق لهذا العبد المسكين ، وغيري من المسلمين الإخبار عن مقصد المستخير بمجرّد التأمّل في الآية ، من دون علم سابق به ، وممّا يئول الأمر إليه في العاقبة ، وهذا واضح لمن جرّب ذلك.

ومنها اشتمال سوره وآياته وكلماته وحروفه على الأسرار العجيبة والخواصّ الغريبة من شفاء الأمراض والاعراض ، ودفع العافات والعاهات والبليّات ، واستجلاب الخيرات ، وأداء الديون والغرامات ، وغير ذلك ممّا سنشير الى جماعة منها في الباب الرابع عشر.

ومنها انطباق كثير من الأسئلة والأجوبة الواقعة فيه على القواعد الجفريّة التي هي من قواعد علم التكسير الّتى لم يطّلع عليها الّا الاوحديّ من الناس ، بل هو من علوم الأنبياء والأوصياء وخواصّ الأولياء.

٢٦٤

ولذا ترى أنّك إذا علمت في قوله تعالى : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (١) بالقواعد التكسيريّة يخرج الجواب : (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢).

وكذا إذا سألت بهذه العبارة : (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) يخرج الجواب : (خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (٣) ، إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على أهله.

ومنها اشتماله على الإخبار من الأمور الغائبة عن الحواسّ من الحوادث الكائنة والوقايع المستقبلة ، وخطرات قلوب المنافقين ، ومستجنات صدورهم وغير ذلك ، وهي بكثرتها وإن اشتركت في إفادة الإعجاز ، لكنّها تنقسم إلى نوعين :

الأوّل أنّه سبحانه أخبر في كثير من الآيات من أحوال المنافقين والكفّار ، وأقوالهم وأسرارهم وتناجيهم وخطرات قلوبهم ما يطلع عليها غيرهم ، حتى إنّهم بعد الإخبار ربما صدّقوا به ولم يسع لهم إنكاره ، وهذا النوع كثير في القرآن :

مثل ما أخبر عنه من أنّهم (إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) (٤).

وقوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) (٥) أى أتحدّثونهم بما بيّنه الله لكم في كتابكم من العلم ببعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والبشارة به.

__________________

(١) يس : ٧٨.

(٢) يس : ٧٩.

(٣) زخرف : ٩.

(٤) البقرة : ١٤.

(٥) البقرة : ٧٦.

٢٦٥

ومثل ما أخبر عمّا وقع عن بعضهم من ملامسة النساء بقوله : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ) (١).

ومثل ما روى أنّه تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خيبر ، وقرى عرينة (٢) وقال بعضهم لبعض : أدخلوا في دين محمّد أوّل النهار باللّسان دون الإعتقاد واكفروا به آخر النّهار ، وقولوا : إنّا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمّدا ليس بذلك وظهر لنا كذبه في بطلان دينه ، فإذا فعلتم ذلك شكّ أصحابه في دينه ، وقالوا : إنّهم أهل الكتاب ، وهم أعلم به منّا ، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم ، فنزلت : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٣). (٤)

وما روى من أنّهم كانوا ينالون (٥) من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره به جبرئيل ، فقال بعضهم لبعض : أسرّوا قولكم كيلا يسمع إله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (٦). (٧)

ومثل ما أخبر عن بعضهم بقوله : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) (٨).

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

(٢) عرينة (بضم العين المهملة) : موضع ببلاد فزارة ، وقيل : قرى بالمدينة ـ معجم البلدان ج ٤ ص ١١٥.

(٣) آل عمران : ٧٢.

(٤) مجمع البيان ج ٢ ص ١١٥.

(٥) نال منه : وقع فيه وشتمه وعابه.

(٦) الملك : ١٤.

(٧) مجمع البيان ج ٢ ص ١١٥.

(٨) النساء : ٨١.

٢٦٦

وأخبر عن أصحاب العقبة أو غيرهم من المنافقين بقوله : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) (١) ، الى غير ذلك من الآيات الكثيرة المشتملة على هذا النوع.

الثاني أنّه سبحانه أخبر فيه عن كثير من الأمور المستقبلة التي لا يمكن الاطلاع عليها إلّا من طرق الوحي والإلهام مع مطابقة الجميع لما وقع بعد الإخبار كالإخبار بذلّة اليهود وعدم انتقال الملك والسلطنة إليهم الى آخر الدهر ، وقد تحقّق صدقه لتفرّقهم وذلّتهم في البلاد وضرب الجزية عليهم والاستخفاف بهم حتى ضربت بهم الأمثال كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) (٢).

وقوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) (٣).

والإخبار عن غلبته على الكفّار مع فقد ما يدلّ على ذلك من الأمارات والآثار سيّما مع قلّة الأنصار ، وانتشار الكفّار في أطراف الأرض وبسيطها غاية الانتشار. ومع ذلك فقد أخبر بغلبة المسلمين عليهم على وجه الحتم والجزم بقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (٤).

__________________

(١) التوبة : ٦٤ ـ ٦٥.

(٢) الأعراف : ١٦٧.

(٣) آل عمران : ١١٢.

(٤) آل عمران : ١٢.

٢٦٧

حيث إنّها نزلت في مشركي مكّة يوم بدر مع ظهور أمارات الغلبة من العدّة والعدّة للمشركين ، أو في اليهود حين استشعروا الضعف من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أحد فنقضوا العهد.

والاخيار عن انهزام الكفّار يوم بدر بقوله تعالى : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (١).

وعن غلبة الروم على فارس بقوله سبحانه (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ ...) (٢).

وذلك أنه غلبت فارس الروم ، وظهرت عليهم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفرحت بذلك كفّار قريش ، من حيث إنّ فارس لم يكونوا أهل كتاب مع أنّ كسرى خرق كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهان رسوله ، وقيصر كان من النصارى ، وقد كان أكرم وقبل كتابه ، وكان بيت المقدس لأهل الروم كالكعبة للمسلمين ، فدفعهم فارس منه ، فساء ذلك المسلمين فكان المشركون بمكة يجادلون المسلمين ، ويقولون : إنّ أهل الروم أهل كتاب وقد غلبهم الفرس ، وأنتم تزعمون أنّكم ستغلبون بالكتاب الّذى أنزل إليكم على نبيّكم ، فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم ، فنزلت الآية.

بل ورد أنّ أبا بكر ناحب (٣) بعض المشركين قبل أن يحرم القمار على شيء

__________________

(١) القمر : ٤٥.

(٢) الروم : ٤.

(٣) ناحب مناحبة فلانا على كذا : راهنه ، والذي راهنه أبو بكر هو أبي بن خلف.

٢٦٨

إن لم تغلب فارس في سبع سنين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لم فعلت؟ فكلّ ما دون العشر بضع ، فكان ظهور فارس على الروم في تسع سنين ، ثمّ أظهر الله الروم على فارس زمن الحديبيّة ، ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب (١).

وكالإخبار بأنّ المتخلّفين عن غزوة تبوك لا يقاتلون بعد ذلك معه أبدا ، حيث أنزل الله سبحانه : (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) (٢) فكان كذلك.

وأنّ أبا لهب وغيره من أهل النار ، لعدم ايمانهم به صلى‌الله‌عليه‌وآله أبدا ، فكان كذلك كما قد أخبر عنه بقوله في أبي لهب : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) وفي امرأته : (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) (٣).

وفي غيرهما من المنافقين : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٤).

وأنّ المشركين الذين كانوا بصدد معارضة القرآن لا يقدرون على ذلك أبدا ، حيث عنى ذلك بقوله سبحانه : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) (٥).

وقوله سبحانه : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) (٦) ، وفيه الإعجاز من وجهين فلا تغفل.

__________________

(١) مجمع البيان ج ٥ ص ٨ مع تفاوت يسير في الألفاظ.

(٢) التوبة : ٨٣.

(٣) المسد : ٣ ـ ٤.

(٤) البقرة : ٦.

(٥) الإسراء : ٨٨.

(٦) البقرة : ٢٤.

٢٦٩

وأنّ العداوة والبغضاء قائمة بين اليهود والنصارى كما قال سبحانه : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) (١) ، أى الحرب للمسلمين.

وروى أنّه لمّا فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة ، ووعد أمّته ملك فارس والرّوم قالت المنافقون واليهود ، هيهات من أين لمحمّد ملك فارس والروم ، ألم يكفه المدينة ومكّة حتى طمع في الروم وفارس؟! فنزل قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) الآية (٢).

ويقال : إنّها نزلت يوم حفر الخندق حين ظهرت صخرة مروة (٣) بيضاء كسرت معاولهم إلى أن أرسلوا سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره بذلك ـ فهبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع سلمان الخندق ، وأخذ المعول من يد سلمان فضربها به ضربة صدعها (٤) ، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتّى لكأنّ مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تكبيرة ، وكبّر المسلمون ، ثمّ ضربها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثانية فكسرها ، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتّى لكأنّ مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تكبيرة فتح ، وكبّر المسلمون ، ثمّ ضربها صلى‌الله‌عليه‌وآله ثالثة فأضاء كذلك ، وكبّروا جميعا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ضربت ضربتي الاولى فبرق الّذى رأيتم ، أضائت لي منها قصور الحيرة ، ومدائن كسرى كأنّها أنياب الكلاب. فأخبرنى جبرئيل أنّ أمّتي ظاهرة عليها ، وأضائت في الضربة الثانية قصور الحمير من أرض الروم ، وأخبرنى جبرئيل أنّ أمّتي ظاهرة عليها ، وأضائت في

__________________

(١) المائدة : ٦٤.

(٢) آل عمران : ٢٦.

(٣) المروة : واحدة المرو حجارة صلبة تعرف بالصّوان.

(٤) صدع الشيء : شقّه ولم يفترق.

٢٧٠

الثالثة قصور صنعاء وأخبر جبرئيل ظهور أمّتي عليها فأبشروا ، فاستبشر المسلمون ، وقالوا : الحمد لله موعد صدق ، وعدنا النصر بعد الحصر ، فقال المنافقون : ألا تعجبون ، يمنّيكم ويعدكم الباطل ، ويخبركم أنّه يبصر من يثرب قصور الحيوة ومدائن كسرى ، وأنّها تفتح لكم ، وأنتم إنّما تحفرون الخندق من الفرق ، ولا تستطيعون أن تبرزوا؟!

فنزل قوله سبحانه : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (١).

وأنزل الله في هذه القصّة : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) (٢).

وكالإخبار بعود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى مكّة بعد هجرته عنها بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) (٣).

والمراد بالمعاد مكّة المكرّمة شرّفها الله لعوده إليها ، وليس في الآية كما ترى شرط ولا استثناء.

وكوعده بملاقاة إحدى الطائفتين : إمّا عير (٤) قريش وصاحبها أبو سفيان ، وإمّا النفير ، وهو جيشها ، فقال سبحانه : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) يعنى امّا العير وإمّا النفير ، (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) (٥) ، وهو العير ، وصاحبها أبو سفيان ويريد الله أن يحقّ بكلماته بإعزاز الإسلام وإهلاك وجوه قريش على أيديكم فكان كما أراد سبحانه.

__________________

(١) الأنفال : ٤٩.

(٢) آل عمران : ٢٦.

(٣) قصص : ٨٥.

(٤) العير : القافلة.

(٥) الأنفال : ٧.

٢٧١

والإخبار بظهور دعوته والغلبة على سائر الأديان بقوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (١) ، وقوله سبحانه : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٢).

والإخبار بدخول المسجد الحرام مع الأمن والحلق والتقصير ، فكان كما أخبر عنه بقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) (٣).

والتعليق بالمشيّة للتيمّن والتبرّك والامتثال.

والإخبار عن مواعدة عبد الله (٤) بن أبيّ وأصحابه لبني النضير ، وعدم الرفاء بوعده لهم بقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (٥).

والإخبار عن غلبة أصحابه المؤمنين واستخلافهم في الأرض بقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ

__________________

(١) التوبة : ٣٢.

(٢) التوبة : ٣٣.

(٣) الفتح : ٢٧.

(٤) هو عبد الله بن أبي بن مالك المشهور بابن سلول الخزاعي المدني رأس المنافقين في الإسلام أظهر الإسلام بعد قصة بدر تقاة ، مات سنة (٩ ه‍) ، الاعلام ج ٤ ص ١٨٨.

(٥) الحشر : ١١ ـ ١٢.

٢٧٢

وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) (١).

والإخبار عن قصّة طلحة بن أبيرق ومكر المنافقين بقوله تعالى :

والإخبار عن كذب المنافقين وقولهم بقوله سبحانه : (لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) (٢) ، وقوله تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) (٣). وقوله سبحانه : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٤).

والإخبار عن انشقاق القمر بقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (٥).

وهذا وإن كان بعد الوقوع إلّا أنّها قد تضّمنت معجزة اخرى وهي الإنشقاق لا سبيل الى إنكاره بعد بقاء الإخبار به عن زمان الدعوة.

والإخبار عمّا تكتمه اليهود من أحكام التوراة كما قال سبحانه : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) (٦) الى غير ذلك من الآيات الّتى تسمع تمام الكلام فيها في مواضعها من هذا التفسير إنشاء الله تعالى.

ويعدّ أيضا من وجوه الإعجاز أنّه على كمال فصاحته الّتى لا يدانيه فيها غيره قد اشتمل على أمور منافية للفصاحة في غيره كملازمة الصّدق والتجنّب

__________________

(١) النور : ٥٥.

(٢) التوبة : ٩٤.

(٣) التوبة : ٧٤.

(٤) التوبة : ١٠٧.

(٥) القمر : ١.

(٦) المائدة : ١٥.

٢٧٣

عن الكذب والإغراق في جميع القرآن ، فإنّ كلّ شاعر ترك الكذب ولازم الصدق ترك شعره ، ولذا قيل : إنّ حسّان (١) بن ثابت ولبيد (٢) بن ربيعة لمّا أسلما ترك شعرهما الإسلامى ، إذ لم يكن كشعرهما الجاهلى.

الفرق بين القرآن والحديث القدسي

وأمّا الفرق بين القرآن والحديث القدسي فقد فرّق العلماء بينهما بوجوه :

الأوّل أنّ القرآن يختصّ سماعه من الروح الأمين ، ولكن الحديث القدسي قد يكون إلهاما ونفثا في الروع ونحو ذلك.

الثاني أن القرآن مسموع بعبارة بعينها بخلاف الحديث القدسي.

الثالث أنّ القرآن مشتمل على الإعجاز بخلاف الحديث القدسي.

الرّابع أنّ القرآن مقطوع الصدور ، بخلاف الحديث القدسي فإنّه كسائر الأحاديث في ظنّية صدورها.

__________________

(١) حسّان بن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصارى أبو الوليد الصحابي الشاعر المدني أحد المخضرمين الذين أدركوا الجاهليّة والإسلام عاش (٦٠) سنة في الجاهليّة و (٦٠) سنة في الإسلام. مات سنة (٥٤ ه‍) ـ الاعلام ج ٢ ص ١٨٨.

(٢) لبيد بن ربيعة بن مالك أبو عقيل العامري أحد الشعراء الفرسان في الجاهليّة ، أدرك الإسلام ويعدّ من الصحابة ، قيل : إنّه ترك الشعر بعد إسلامه ولم يقل إلّا بيتا واحدا وهو :

ما عاتب المرء الكريم كنفسه

والمرء يصلحه الجليس الصّالح

وهو أحد أصحاب المعلّقات ، عاش عمرا طويلا وسكن الكوفة ، توفي سنة (٤١ ه‍) ، الاعلام ج ٦ ص ١٠٤.

٢٧٤

الباب الحادي عشر

في بيان نزول القرآن على سبعة أحرف

وفي هذا الباب يذكر أيضا منشأ اختلاف القراءات ،

وهل هي متواترة أم لا ونبذ من أحوال القراء

٢٧٥
٢٧٦

وفيه فصول :

الفصل الأوّل

في معنى نزول القرآن على سبعة أحرف

قد تظافرت الأخبار من العامّة في أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ، بل في بعضها أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينه أحدا عن الاختلاف في قراءة القرآن ، وأنّه قرّرهم عليه بل صرّح بجوازه ، ففي «صحيح البخاري» (١) عن ابن عبّاس انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : أقرأنى جبرائيل على حرف فراجعته فزادني ، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف (٢).

عن «جامع الأصول» (٣) عن البخاري ، ومسلم (٤) ، ومالك (٥) ،

__________________

(١) البخاري محمد بن إسماعيل الجعفي الحافظ المحدث المورّخ ، ولد في بخارى سنة (١٩٤ ه‍) وتوفّي في خرتنك سمرقند سنة (٢٥٦).

(٢) صحيح البخاري باب أنزل القرآن على سبعة أحرف ج ٦ ص ١٠٠ ح ٣٩٩١ وأخرجه مسلم في الصحيح ج ١ ص ٥٦١.

(٣) جامع الأصول لأحاديث الرسول لابن الأثير أبى السعادات المبارك المتوفى (٦٠٦) بالموصل.

(٤) مسلم بن الحجّاج النيسابوري الحافظ المحدّث المتوفى سنة (٢٦١).

(٥) مالك بن انس الأصبحي المدني ولد بالمدينة سنة (٩٣) وتوفى سنة (١٧٩).

٢٧٧

وأبي داود (١) والنسائي (٢) ، بأسانيدهم ، عن عمر بن الخطّاب قال : سمعت هشام (٣) بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاستمعت لقرائته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكدت أساوره (٤) في الصلاة ، فتربّصت حتّى سلّم فلبّبته بردائه ، فقلت : من أقرأك هذه السورة الّتى سمعتك تقرأها؟ قال : أقرأنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت : كذبت ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أقرأنيها على غير ما قرأت ، فانطلقت به أقوده الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقلت : إنّي سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرأنيها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كذلك أنزلت ، ثمّ قال : اقرأ يا عمر ، فقرأت القراءة الّتى أقرأنيها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : كذلك أنزلت ، إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسّر منه (٥).

قال في «جامع الأصول» أخرجه الجماعة ، وقال الترمذي : هذا حديث صحيح.

وروى مسلم ، والتّرمذي (٦) ، وأبو داود ، والنسائي في صحاحهم ، جميعا عن أبيّ (٧) بن كعب ، قال : كنت في المسجد ، فدخل رجل وصلّى ، فقرأ قراءة

__________________

(١) أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني المحدث المتوفى بالبصرة سنة (٢٧٥).

(٢) النسائي احمد بن على بن شعيب المحدّث الحافظ المتوفى سنة (٣٠٣).

(٣) هشام بن حكيم حزام بن خويلد ، صحابى ابن صحابى أسلم يوم فتح مكّة توفى بعد سنة (١٥) ـ الاعلام ج ٩ ص ٨٣.

(٤) ساور فلانا : واثبه أو وثب عليه.

(٥) أخرجه البخاري في ثلاثة مواضع من الصحيح : ج ٥ ص ٧٣ كتاب الخصومات الحديث (٢٤١٩) وفي ج ٩ ص ٢٣ كتاب فضائل القرآن الحديث (٤٩٩٢) و (٥٠٤١) ـ وأخرجه مسلم في الصحيح ج ١ ص ٥٦١ وفي مسند احمد بن حنبل ج ١ ص ٢٤.

(٦) الترمذي محمد بن عيسى المحدّث ولد سنة (٢٠٩) وتوفّى سنة (٢٧٩).

(٧) أبيّ بن كعب بن قيس الخزرجي المدني أبو المنذر ، صحابي كان قبل الإسلام من أحبار اليهود ، يكتب

٢٧٨

أنكرتها ، ثمّ دخل رجل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه ، فلمّا قضيت الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقلت : إنّ هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ، فدخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه ، فأمرهما النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقرأ ، فحسّن شأنهما ، فسقط في نفسي من التكذيب ، ولا إذ كنت في الجاهليّة ـ فلمّا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما غشيني ضرب في صدري ، ففضت عرقا كأنما أنظر إلى الله فرقا ، فقال لي : يا أبيّ أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف ، فرددت إليه أن هوّن على أمّتى ، فردّ إليّ في الثانية أن أقرأ القرآن على حرفين ، فرددت إليه أن هوّن على أمّتي ، فردّ إليّ في الثالثة أن اقرأه على سبعة أحرف ، ولك بكلّ ردّة رددتها مسألة تسألنيها ، فقلت : أللهمّ اغفر لامّتي ، اللهمّ اغفر لامّتى وأخّرت الثالثة ليوم يرغب فيه إليّ الخلق كلّهم حتّى إبراهيم عليه‌السلام (١) وفي النبوىّ المرويّ من طرقهم : «الكتب تنزل من السّماء من باب واحد ، وإنّ القرآن أنزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف» (٢).

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الّتى لا داعي للتعرّض لها ، وفي بعضها : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقى جبرائيل ، فقال : يا جبرائيل إنّى بعثت إلى أمّة أمّيين ، منهم العجوز والشيخ الكبير ، والغلام ، والجارية ، والرجل الذي لا يقرأ كتابا قطّ ، فقال

__________________

ويقرأ ، توفّى بالمدينة سنة (٢١) ـ الاعلام ج ١ ص ٧٨.

(١) صحيح مسلم ج ١ ص ٥٦١ كتاب صلاة المسافرين وقصرها وأخرجه احمد بن حنبل في مسنده ج ٥ ص ١٢٧ ، وأخرجه الطبري عن أبى كريب بطرق اخرى باختلاف يسير أيضا وأخرجه الزركشي عن صحيح مسلم في البرهان ج ١ ص ٣٠٢.

(٢) جامع البيان للطبري ج ١ ص ٢٣ وفيه : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : كان الكتاب الأوّل نزل من باب واحد ، وعلى حرف واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب وعلى سبعة أحرف : زجر ، وأمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ـ وأمثال ـ.

٢٧٩

لي : يا محمّد إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف» (١).

وورد في بعض أخبارنا أيضا مثل ذلك :

ففي «الخصال» عن عيسى بن (٢) عبد الله الهاشمي عن أبيه ، عن آباءه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أتانى آت من الله فقال : إنّ الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد ، فقلت : يا ربّ وسّع على أمّتي ، فقال : إنّ الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف (٣).

وفيه أيضا عن الصّادق عليه‌السلام ، حين قال له حمّاد بن عثمان : إنّ الأحاديث تختلف عنكم ، قال : فقال عليه‌السلام : «إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ، وأدنى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه ، ثم قال : هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب (٤). (٥)

لكنّه لا يخفى عليك أنّ هذه الأخبار لضعف سندها ، وقصور دلالتها وموافقتها للأخبار العاميّة المتقدّمة ، بل جملة منها بعينها مرويّة عن طرقهم ،

__________________

(١) تفسير الطبري ج ١ ص ١٢ مع تفاوت يسير ـ وسنن الترمذي ج ٥ ص ١٩٤.

(٢) مشترك بين رجلين : أحدهما عيسى بن عبد الله بن على بن عمر بن على بن الحسين بن على بن أبي طالب عليهم‌السلام.

والثاني عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن على بن أبي طالب عليه‌السلام وعلى أيّ حال لا يحكم بوثاقته ، مضافا الى أنّ الراوي عنه كما في الخصال أحمد بن هلال أبو جعفر العبرتايى المتوفّى (٢٦٧) وهو على ما في كتب الرجال كان غاليا متّهما في دينه. انظر معجم رجال الحديث ج ٢ ص ٣٥٥ ، وج ١٣ ص ٢٠٢.

(٣) الخصال ج ٢ ص ٣٥٨ باب السبعة ح ٣٤.

(٤) سورة ص : ٣٩.

(٥) الخصال ج ٢ ص ٣٥٨ باب السبعة ح ٤٣.

٢٨٠