الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-200-5
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٣٨
المبحث الثّامن : في أنّ النهي هل يدلّ على الصحّة أم لا؟
نقل أبو زيد عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن : أنّ النهي يدلّ على الصحّة. (١)
وخالفهما جماهير المعتزلة والأشاعرة.
احتجّ الجمهور بوجهين :
الأوّل : لو دلّ النهي على الصحّة ، لدلّ إمّا بلفظه أو بمعناه ، والتالي بقسميه باطل ، فالمقدّم مثله ، والشرطيّة ظاهرة.
وبيان بطلان التالي : أنّ الصحّة عبارة عن ترتّب أحكام الفعل عليه ، والنّهي لغة إنّما يدلّ على طلب ترك الفعل ، فلا إشعار له بغير ذلك نفيا ولا إثباتا بشيء من الدّلالة (٢).
الثاني : أجمعنا على وجود النهي من غير صحّة ، كما في بيع الملاقيح والمضامين ، وحبل الحبلة ، (٣) وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «دعي الصّلاة أيّام
__________________
(١) نقله الآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٢٥.
(٢) في «ب» : من الدلالتين.
(٣) نقله الهيثمي في مجمع الزوائد : ٤ / ١٠٤.
قال ابن الأثير في جامع الأصول : ١ / ٤١١ :
كان أهل الجاهليّة يبتاعون لحوم الجزور إلى «حبل الحبلة» وحبل الحبلة : أن تنتج الناقة ما في بطنها ، ثم تحمل الّتي نتجت ، فنهاهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن ذلك.
أقرائك» (١) وقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ)(٢).
فلو كان النّهي يدلّ على الصحّة ، لزم صحّة هذه المنهيّات ، وليس كذلك بالإجماع، أو وجود الدّليل من غير وجود مدلوله ، وهو خلاف الأصل.
احتجّا بأنّ المنهيّ عنه إمّا الشرعي أو غيره ، والثاني باطل ، أمّا أولا ، فلأنّ الألفاظ الموضوعة إذا أطلقت ، إنّما يراد بها ما وضعت له ظاهرا ، سواء كان الوضع من اللّغة ، أو الشرع ، أو العرف ، ولهذا إذا أطلق الشّارع لفظا ، وكان قد وضعه لمعنى ، حملناه على متعارفه الشرعيّ (٣) وألقينا غيره من اللّغة والعرف.
وأمّا ثانيا ، فلأنّا نعلم أنّه لم ينه في صوم يوم النحر عن الإمساك المطلق ، ولا في نكاح الأمّهات عن الالتقاء (٤) وكذا باقي الألفاظ ، فلم يبق النهي متوجّها إلّا إلى الشرع ، فنقول : ذلك المعنى الشرعي ، إمّا أن يمكن تحقّقه أو لا ، والثاني باطل ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق فثبت الأوّل.
وإذا أمكن تحقّق الصّوم الشرعيّ في يوم النحر ، ثبت المطلوب ، فإنّ الشرعيّ هو الصّحيح المعتبر في نظر الشارع ، فالنهي عن صوم يوم النحر يدلّ على انعقاده ، إذ لو استحال انعقاده لما نهي عنه ، فإنّ المحال كما لا يؤمر به ، كذا لا
__________________
وقال ابن زهرة في الغنية ـ قسم الفروع ـ ص ٢١٢ :
نهى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن بيع «حبل الحبلة» هو نتاج النتاج ، وعن بيع «الملاقيح» وهو ما في بطون الأمّهات ، وعن بيع «المضامين» وهو ما في أصلاب الفحول.
(١) الوسائل : ٢ / ٥٣٨ ، الباب ٣ من أبواب الحيض ، الحديث ٤.
(٢) النساء : ٢٢.
(٣) في «ب» : الشرعيّة.
(٤) في «ب» : عن الاكتفاء.
ينهى عنه ، فلا يقال للأعمى : «لا تبصر» كما لا يقال له : «أبصر» والنّهي عن الرّبا يدلّ على انعقاده.
وأجيب عنه بوجوه :
الأوّل : المنع من وجود عرف الشرع في هذه الأسماء. (١)
وليس بجيّد ، لما بيّنا ، من ثبوت الحقائق الشرعيّة.
الثاني : سلّمنا أنّ له عرفا ، لكن في الأوامر ، والنواهي ممنوع ، وعلى هذا ، فالنّهي إنّما هو عن التصرّف اللّغوي دون الشرعي. (٢)
وليس بجيّد ، فانّا قد بيّنا أنّ النّهي لم يقع في هذه المنهيّات عن اللّغوي ، بل عن الشرعي ، فإنّ الحائض لم تنه عن الصلاة اللّغويّة ، لجواز أن تدعو إجماعا.
الثالث : نمنع أن يكون عرف الشرع البيع المنعقد ، بل ما يمكن صحّته ، فيحمل عليه جمعا بين الأدلّة ، ولا يلزم من كون التصرّف ممكن الصّحّة وقوع الصّحّة (٣).
وليس بجيّد ، فإنّ ممكن الصّحّة ، إنّما هو الصحيح ، إذ ما لا صحّة فيه شرعا ، لا يمكن صحّته شرعا.
الرّابع : ما ذكرتموه يقتضي صرف النهي عن ذات المنهيّ عنه إلى غيره ، فإنّه لو كان منهيّا عنه في عينه ، استحال أن يكون عبادة منعقدة ، ومطلق النّهي عن
__________________
(١) الأجوبة الثلاثة للآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٢٦.
(٢) المصدر السابق.
(٣) المصدر السابق.
الشيء ، يدلّ على النّهي عن عينه ، إلّا أن يدلّ دليل ، فلا معنى لترك الظاهر من غير ضرورة.
وليس بجيّد ، لدلالة ما قلناه على صرف النهي إلى غيره.
الخامس : لو كانت الصّلاة عبارة عن الصحيحة ، لدخل الوضوء وغيره في مسمّاها ، والتالي باطل بالإجماع ، فالمقدّم مثله. (١)
وليس بجيّد ، فإنّ الشرط ليس جزءا من المسمّى ، ولو قيّدنا الصّلاة بالصّحيحة ، لم يدخل الوضوء فيها ، ولا غيره من الشرائط ، فكذا مع الإطلاق.
السادس : النقض بالمناهي المذكورة كبيع الملاقيح ، والمضامين ، وصلاة الحائض.
أجيب (٢) بأنّ قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «دعي الصّلاة أيّام أقرائك» (٣) وقوله تعالى (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ)(٤) حمل فيه الصّلاة ، والنكاح ، على المعنى اللّغوي ، على خلاف الوضع ، لدليل دلّ عليه.
وقوله : «لا صلاة إلّا بطهور» نفي لا نهي.
السابع : يجوز حمل النّهي على النسخ ، كما إذا قال للوكيل : «لا تبع» فإنّه وإن كان نهيا في الصّيغة ، لكنّه نسخ في الحقيقة.
وبالجملة ، فالمسألة لا تخلو من تعسّف.
__________________
(١) لاحظ رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ٣ / ٣٢ ، قسم المتن.
(٢) في «أ» و «ج» : إحسانا «بدل» أجيب.
(٣) الوسائل : ٢ / ٥٣٨ ، الباب ٣ من أبواب الحيض ، الحديث ٤.
(٤) النساء : ٢٢.
المبحث التاسع : في التخيير في النهي
فصّل أبو الحسين هنا جيّدا ، (١) فقال :
النّهي عن الأشياء إمّا أن يكون نهيا عنها على الجمع ، أو عن الجمع بينها ، أو نهيا عنها على البدل ، أو نهيا عن البدل (٢) فالأقسام أربعة :
الأوّل : النهي على الجمع ، بأن يقول الناهي للمخاطب : «لا تفعل هذا ولا ذاك» ويوجب عليه الخلوّ عنهما أجمع.
وتلك الأشياء ، قسمان :
الأوّل : أن يمكن الخلوّ عنها أجمع ، فيصحّ النهي ، الثاني : أن يمنع فيصحّ ، إلّا عند من يجوّز تكليف ما لا يطاق.
ولا فرق بين أن يكون النّهي إيجابا للخلوّ من الشيء ونقيضه ، أو منه ومن ضدّه إذا لم يكن هناك ضدّ غير المنهيّ عنها.
الثاني : النهي عن الجمع ، مثل : «لا تجمع بين كذا وكذا» فإن كان الجمع ممكنا جاز النّهي إجماعا إلّا أن يكون ملجأ إلى الجمع بينهما ، فلا يحسن نهيه.
وإن لم يكن الجمع ممكنا ، استحال النّهي عنه ، لأنّه عبث ، إلّا عند من جوّزه كالأشعريّة.
الثالث : النهي على البدل ، مثل : «لا تفعل هذا إن فعلت ذاك» أو «لا تفعل
__________________
(١) لاحظ المعتمد : ١ / ١٦٩.
(٢) النسخ هنا مشوّشة ، صحّحنا المتن على المصدر.
ذلك إن فعلت هذا» بأن يكون كلّ واحد منهما مفسدة عند الآخر ، وهو يرجع إلى النهي عن الجمع بينهما.
الرابع : النهي عن البدل ، ويفهم منه أمران :
الأوّل : أن ينهى [الإنسان] عن أن يفعل شيئا ، ويجعله بدلا عن غيره ، وذلك يرجع إلى النّهي عن أن يقصد به البدل ، فهو غير ممتنع.
الثاني : أن ينهى عن أن يفعل أحدهما دون الآخر ، بل يجمع بينهما ، وهو قبيح إن تعذّر الجمع ، وحسن مع إمكانه وامكان الإخلال به.
واعلم أنّ جماعة من المعتزلة ، جوّزوا إمكان خلوّ المكلّف من الأفعال أجمع ، كالمستند ، والمستلقي ، وكانت الأكوان باقية ، والباقي مستغن عن المؤثّر ، فحينئذ أمكن قبح جميع أفعال جوارحه ، فجاز تناول النهي لها أجمع.
أمّا إذا كانت الحال حالا لا يصحّ خلوّه فيها من الأفعال ، فلا يمكن قبح جميعها ، وإلّا لزم أن لا ينفكّ من القبيح ، وأن يكون معذورا فيه.
وقد يصحّ أن يقبح منه كلّ أفعاله على وجه ، ويحسن على آخر ، فمن دخل زرع غيره على سبيل الغصب ، فله الخروج بنيّة التخلّص ، وليس له التصرّف بنيّة الفساد ، ويصحّ أن يقبح بعض تصرّفه على كلّ حال.
والنهي عن ضدّين على الجمع يقبح من حيث يستحيل وجودهما معا ، فلا يقع من حكيم.
قال السيد المرتضى : واعلم أنّه غير ممتنع في فعل أن يقبح لكون ما يسدّ مسدّه معدوما ، كما لا يمتنع أن يكون صلاحا إذا كان غيره معدوما ، فغير ممتنع
على هذه الجملة أن ينهى الحكيم عن فعلين مختلفين على التخيير والبدل ، بأن يقبح كلّ واحد منهما بشرط عدم الآخر ، فلا يمكن القول بقبحهما جميعا على الإطلاق ، لأنّ الاشتراط الّذي ذكرناه يقتضي أنّهما متى وجدا لم يقبح واحد منهما ، ومتى وجد أحدهما قبح لا محالة.
فالنّهي عن المختلفين ـ إذا صحّ ما ذكرناه ـ على سبيل التخيير صحيح جائز وليس يجري المختلفان في هذا الحكم ، مجرى الضّدّين ، لأنّ كلّ واحد من الضّدّين متى وجد ، وجب عدم الآخر ، وما يجب (لا محالة) (١) يبعد كونه شرطا في قبحه ، وهذا في المختلفين أشبه بالصّواب ، وكذا المتماثلان. (٢)
واعلم أنّ بعضهم منع من تحريم أحد الأمرين لا بعينه ، وهو خطأ لإمكانه ، مثل : «لا تكلّم زيدا أو عمرا فقد حرّمت عليك كلام أحدهما لا بعينه ، ولست أحرّم عليك الجميع ، ولا واحدا بعينه».
وهذا أمر معقول لا شكّ فيه.
احتجّ : بأن «أو» في النّهي للجمع دون التخيير ، كقوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً)(٣).
وليس بشيء ، لأنّ التّعميم هنا من خارج ، لا من الآية.
__________________
(١) ما بين القوسين يوجد في المصدر.
(٢) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ١٧٨ ـ ١٧٩.
(٣) الإنسان : ٢٤. قال القرّافي في نفائس الأصول : ٢ / ٤١٩ : ونقل عن المعتزلة احتجاجهم بقوله تعالى (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) فالواجب ترك الجميع ، وأجاب بأنّ ذلك من الإجماع لا من اللّفظ.
المقصد الخامس : في العموم والخصوص
وفيه أبواب
[الباب] الأوّل :
في العموم
وفيه فصلان :
الفصل الأوّل
في ألفاظه
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل : في تعريفه
قال أبو الحسين : العامّ كلام مستغرق لجميع ما يصلح له ، لأنّه المعقول من كون الكلام عامّا ، فإنّ قولنا : «الرّجال» عامّ من حيث استغرق جميع ما يصلح له ، وكذا لفظة «من» في الاستفهام ، فإنّها تستغرق كلّ عاقل.
ولا يرد التثنية ، مثل «رجلان» ولفظ العدد ك «ثلاثة رجال» فإنّ ذلك لا
يستغرق كلّ ما يصلح له ، فإنّه يصلح لهذين الرّجلين ، ولهذين الآخرين ، وكذا «ثلاثة» يصلح لكلّ ثلاثة من الرّجال ، ولا يستغرقها أجمع.
ولفظ النكرة ، عامّ على البدل ، فلا يتناوله الحدّ من حيث الجمع ، ويتناوله من حيث البدل ، لأنّه يتناول كلّ رجل على البدل.
قال : وقد زاد قاضي القضاة ما احترز به عن التثنية والجمع ، فقال : [العموم] لفظ مستغرق لجميع ما يصلح له في أصل اللّغة من غير زيادة ، فإنّ التثنية والجمع ، إنّما يكونان بزيادة تدخل على الواحد.
واعترضه أبو الحسين : بأنّه ينتقض بالعدد ، فإنّ قولنا : «عشرة» تستغرق آحادها بلا زيادة.
وأيضا ، يخرج منه اسم الجنس ، إذا دخله اللّام ، مثل : الرّجل و «الرّجال» فإنّ لام الجنس زيادة دخلت على الاسم (١).
(وفيه نظر ، فإنّ العشرة وإن استغرقت أجزاءها إلّا أنها لا تستغرق جزئيّاتها ، ولا فرق بين العشرة وكلّ لفظ يدلّ على معنى مركّب ، والغالب استعمال الزيادة في أجزاء الجملة) (٢).
واعترض (٣) على أبي الحسين في حدّه بوجوه :
__________________
(١) المعتمد : ١ / ١٨٩ ـ ١٩٠.
(٢) ما بين القوسين يوجد في «ج».
(٣) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٢٧ ، ومحمد بن محمود العجلي الأصبهاني في الكاشف عن المحصول : ٤ / ٢١٥ ـ ٢١٦.
الأوّل : أنّه عرّف العامّ بالمستغرق ، وهو مرادف ، وليس المراد تعريف اللّفظ.
الثاني : أنّه غير مانع ، لدخول «ضرب زيد عمرا» ، فإنّه لفظ مستغرق لجميع ما هو صالح له ، وليس بعامّ.
الثالث : يدخل فيه «عشرة».
وفيه نظر ، للمنع من الترادف في العامّ ، والمستغرق.
وقولنا : ضرب زيد عمرا ، جملة من المحدود والمفرد.
وعشرة ، وإن استغرقت آحادها ، لكنّها لا تستغرق كلّ عشرة ، فهي بمنزلة رجل ورجال.
وقال السيّد المرتضى : العموم ما تناول لفظه شيئين فصاعدا (١).
وينتقض بالمثنّى والجمع المنكّر ، وأسماء العدد ، إلّا أن يجعلها عامّة بالنّسبة إلى ما يندرج تحتها.
وقال الغزّالي : العامّ اللّفظ الواحد الدالّ من جهة واحدة على شيئين فصاعدا ، واحترزنا بقولنا : «من جهة واحدة» عن قولهم : ضرب زيد عمرا ، وعن قولهم : ضرب زيد وعمرو (٢) فإنّه قد دلّ على شيئين ، لكن بلفظين لا بلفظ واحد ، ومن جهتين لا من جهة واحدة. (٣)
__________________
(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ١٩٧.
(٢) في المصدر : ضرب زيدا وعمرا.
(٣) المستصفى : ٢ / ١٠٦.
واعترض (١) بخروج «المعدوم» ، و «المستحيل» ، لأنّ مدلولهما ليس بشيء ، و «الموصولات» ، لأنّها ليست بلفظ واحد.
ويدخل فيه المثنّى وأسماء العدد ، فإنّ عشرة ليست عامّة ، وهي مع اتّحادها تدلّ على شيئين فصاعدا.
وقيل (٢) : العام هو اللفظ الواحد الدالّ على مسمّيين فصاعدا مطلقا معا.
فقولنا : «اللفظ» وإن اشترك بين العامّ والخاصّ إلّا أنّه يفيد اختصاص العموم بالألفاظ ، لكونه من عوارضها.
وقولنا : «الواحد» احتراز عن مثل «ضرب زيد عمرا».
وقولنا : «الدّالّ على مسمّيين» ليندرج تحته الموجود والمعدوم ، ويخرج عنه المطلق ، كرجل ودرهم ، وأسماء الأعلام ، فإنّ النّكرة وإن صلحت لكلّ واحد ، إلّا أنّها لا تتناول الجميع معا ، بل (٣) على البدل.
وقولنا : «فصاعدا» احتراز عن اثنين.
وقولنا : «مطلقا» احتراز عن «عشرة» و «مائة» ونحوهما ، ولا حاجة إلى قولنا : «من جهة» واحدة في الاحتراز به عن المشتركة والمجازيّة.
أمّا من يعتقد العموم فيهما ، فلا يكون الحدّ مع هذا القيد جامعا.
__________________
(١) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٢٧.
(٢) القائل هو الآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٢٨.
(٣) في «ب» : يقابل.
وأمّا من لا يعتقده ، فلأنّ المشترك غير دالّ على مسمّياته معا ، بل على طريق البدل ، وكذا الحقيقة والمجاز.
وفي الحدّ ، ما يمنع النقض بهما ، وهو قولنا : «الدالّ على مسمّيين معا» (١).
وقيل (٢) : «ما دلّ على مسمّيات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقا ضربة».
فقولنا : «اشتركت فيه» ليخرج به نحو «عشرة» و «مطلقا» ليخرج المعهودون ، و «ضربة» ليخرج نحو «رجل».
وفيه نظر ، فإنّه تعريف بالأخفى ، ومع ذلك فهو دوريّ (٣) لأنّ قوله : «مسمّيات» إن عنى به أنّها مسمّيات باسم العامّ ، فهو خطأ ، وإن عنى به مطلق التسمية ، دخل فيه نحو عشرة ، ولا يخرج بقوله «باعتبار أمر اشتركت فيه» فإنّ العشرة دلّت على مسمّيات باعتبار أمر اشركت فيه ، وهو الانضمام.
وقال فخر الدين الرازي : هو اللّفظ المستغرق لجميع ما يصلح بحسب وضع واحد ، فإنّ الرّجال مستغرق لجميع ما يصلح له ، ولا يدخل عليه النكرات ، لعدم الاستغراق ، وكذا التثنية والجمع ، لصلوحهما لكلّ
__________________
(١) الإحكام للآمدي : ٢ / ٣٢٨.
(٢) القائل هو ابن الحاجب ، لاحظ رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ٣ / ٦١ ، قسم المتن.
(٣) في «أ» و «ب» : فهو رديّ.
رجلين ولكلّ ثلاثة ، ولا ألفاظ العدد ، لعدم استغراق الخمسة كلّ خمسة.
وخرج «بحسب وضع واحد» المشترك والحقيقة والمجاز ، فإنّ عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معا. (١)
وفيه نظر ، فإنّ المشترك لا يستغرق جميع ما يصلح له ، وكذا الحقيقة والمجاز.
وقيل (٢) : انّه اللّفظة الدالّة على شيئين فصاعدا ، من غير حصر ، فخرج باللفظة ، المعاني العامّة ، والألفاظ المركّبة ، وبالدالّة : الجمع المنكّر ، فإنّه يتناول جميع الأعداد على وجه الصلاحيّة ، لا الدّلالة وعلى شيئين عن النكرة المنفيّة ومن غير حصر أسماء الأعداد.
وفيه نظر ، فإنّ الجمع المنكّر يدلّ على شيئين فصاعدا ، من غير حصر ، ودلالته على جميع الأعداد على وجه الصّلاحية لا يخرجه عن دلالته على شيئين فصاعدا.
والأقرب : أنّ العامّ هو اللّفظ الواحد المتناول بالفعل لما هو صالح له بالقوّة ، مع تعدّد موارده.
فخرج بالواحد ، نحو ضرب زيد عمرا ، وبالباقي النكرة ، ومع تعدّد موارده ، الدالّ على معنى واحد.
__________________
(١) المحصول في علم الأصول : ١ / ٣٥٣.
(٢) كذا في المحصول للرازي من غير أن يعيّن قائله. لاحظ المحصول : ١ / ٣٥٣.
ولا ينتقض بأسماء العدد ، لتناولها لما لا يتناهى من مراتبها (١) قوّة وعدمه فعلا.
المبحث الثاني : في معروضه
اختلف الناس في أنّ العموم هل هو من عوارض المعاني ، بعد اتّفاقهم على أنّه من عوارض الألفاظ حقيقة؟
فقال قوم ـ وهم الأكثر ـ : إنّه ليس حقيقة فيها ، وهو اختيار أبي الحسين البصري (٢) والغزالي (٣) والسيّد المرتضى (٤) وجماعة من المحقّقين.
وقال الأقلّ : إنّه حقيقة فيها.
والذين منعوا الإطلاق حقيقة اختلفوا في الإطلاق مجازا ، فنفاه قوم ، وأثبته آخرون.
لنا : أنّه لو كان حقيقة في المعنى لاطّرد ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.
والشرطيّة ظاهرة ، لكونها من علامات الحقيقة.
وأمّا بطلان التّالي فظاهر إذ لا يوصف شيء من المعاني الخاصّة الواقعة في امتداد الإشارة إليها ، كزيد وعمرو ، بكونه عامّا لا حقيقة ولا مجازا. (٥)
__________________
(١) في «ب» : من معانيها.
(٢) المعتمد : ١ / ١٨٩.
(٣) المستصفى : ٢ / ١٠٦.
(٤) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٢٠٠.
(٥) الاستدلال للآمدي في الإحكام : ٢ / ٣٣٠.
وفيه نظر ، فإنّا لم نجعل العموم من عوارض كلّ معنى ، حتّى ينتقض بمثل زيد وعمرو ، بل جعلناه عارضا لكلّ كليّ ذي أفراد متعدّدة ، فلا يرد ما ذكرتموه نقضا.
وأيضا ، فإنّ أسماء هذه المعاني لا يعرض لها العموم حقيقة ولا مجازا ، فإن كان عدم اطّراده في المعاني يبطل عروضه لها حقيقة كان عدم اطّراده في الألفاظ يبطل عروضه لها حقيقة ، كان عدم اطّراده في الألفاظ ، يبطل عروضه لها حقيقة أيضا.
واحتجّ المثبتون : بأنّ أهل اللّغة أطلقوا إطلاقا شائعا : عمّ العطاء ، والإنعام ، والخصب ، والخير ، والمطر وغيرها ، وهذه الأمور من المعاني ، لا من الألفاظ ، والأصل في الإطلاق الحقيقة.
أجيب : بأنّ من لوازم العامّ أن يكون متّحدا ، ومع اتّحاده متناولا لأمور متعدّدة من جهة واحدة. والعطاء الحاصل لزيد ، غير الحاصل لعمرو ، وكذا المطر وغيره ، بخلاف اللفظ الواحد كالإنسان ، وحقيقة عموم المطر والخصب أن يكون بجملته حاصلا لكلّ واحد منهم ، وهو مستحيل بل جملة المطر يحصل بجملة النّاس وأجزاؤه لأجزائهم.
أمّا لفظ «المشركين» ، فإنّ تناوله لهذا ولهذا على حدّ واحد ، وليس يتناول جزء منه لشخص وجزء منه لآخر ، وليس في الوجود فعل واحد هو عطاء ، وتكون نسبته إلى زيد وعمرو واحدة ، وإن كانت حقيقته (١) واحدة في العقل (٢).
__________________
(١) أي حقيقة الوجود.
(٢) في «ب» و «ج» : الفعل.
وكذا الرّجل ، له وجود في الأعيان وفي الأذهان وفي اللّسان.
فالعينيّ (١) لا عموم فيه ، إذ ليس في الوجود رجل مطلق ، بل إمّا زيد ، وإمّا عمرو ، وليس يشملهما شيء واحد ، وهو الرجوليّة.
وأمّا في اللسان ، فلفظ الرّجل قد وضع للدلالة ، ونسبته إلى زيد وعمرو في الدّلالة واحدة ، فيسمّى عامّا باعتبار نسبة دلالته إلى المدلولات.
وأمّا الذهنيّ ، فالرّجل يسمّى كليّا من حيث إنّ العقل إذا شاهد صورة زيد استفاد معنى الرّجل ، فإذا رأى عمرا لم يستفد منه صورة أخرى ، وكان ما أخذه أوّلا نسبته إلى عمرو المتحدّد كنسبته إلى زيد الأوّل ، فهذا معنى كليّته ، ويجوز أن يسمّى عامّا بهذا الاعتبار ، من حيث إنّه متّحد ومطابق لماهيّته لمعاني الجزئيّات المندرجة تحته ، من جهة واحدة ، كمطابقة اللّفظ العامّ لمدلولاته.
وإذا كان عروض العموم للفظ (العامّ لموازاته) (٢) إنّما كان لمطابقته مع اتّحاده للمعاني الدّاخلة تحته من جهة واحدة ، فهذا بعينه متحقّق في المعاني الكليّة بالنسبة إلى جزئيّاتها ، (٣) فصحّ إطلاق العموم عليها ، لكن بنوع من المجاز.
__________________
(١) أي وجوده في الأعيان.
(٢) ما بين القوسين يوجد في «ج».
(٣) في «ج» : إلى أجزائها.
المبحث الثالث : في الفرق بين المطلق والعامّ
اعلم أنّ كلّ شيء متحقّق (١) في الأعيان أو متصوّر في الأذهان ، فإنّ له ماهيّة وحقيقة يتميز بها عما عداه ، ويكون هو بها ما هو ، لا يشاركه فيها غيره.
ثمّ تلك الحقيقة ، يعرض لها عوارض ، وتتّصف بأمور ، وتلك العوارض والأمور غير داخلة في الحقيقة ، بل خارجة عنها ، والمفهوم من تلك الحقيقة ، يكون مغايرا للمفهوم من تلك الأمور ، سواء كانت تلك الأمور من اللوازم ، أو من العوارض المفارقة ، وسواء كانت إيجابا أو سلبا.
فإذا تقرّر هذا فنقول : المطلق هو اللّفظ الدالّ على تلك الحقيقة من حيث هي هي ، لا باعتبار كونها واحدة أو كثيرة ، أو عامّة أو خاصّة ، بل ولا من حيث هي مجرّدة عن تلك الاعتبارات ، فإنّ اعتبار تجرّدها مغاير لاعتبارها من حيث هي هي.
فالإنسان ، من حيث هو إنسان ، لا واحد ، ولا كثير ، ولا عامّ ، ولا خاصّ ، بل صالح لعروض أيّ هذه الأمور فرض.
فالحيوان إذا أخذ من حيث هو ، كان مطلقا وإذا أخذ باعتبار عروض العموم ، كان عامّا ان لم تكن الكثرة معيّنة ، وكانت شاملة ، وإن كانت معيّنة ، فهو اسم العدد ، وإن لم تكن معيّنة ولا شاملة ، فهو الجمع المنكّر ، فإذن العامّ أخصّ من المطلق.
__________________
(١) في «أ» : محقّق.
والفرق بينهما ، فرق بين أخذ الماهيّة صالحة للعروض وأخذها مع العروض.
والفرق بين المطلق والنكرة ، ظاهر ، فإنّ المطلق هو اللّفظ الدّالّ على الماهيّة ، لا باعتبار الوحدة ، ولا الكثرة ، وإن كانت لا تنفكّ عنهما.
والنكرة لفظ دالّ على الماهيّة بقيد وحدة غير معيّنة ، ويسمّى الشخص المنتشر.
وبهذا ظهر فساد قول من ظنّ أنّ المطلق هو الدالّ على واحد لا بعينه ، فإنّ كونه واحدا ، وكونه غير معيّن قيدان زائدان على الماهيّة.
المبحث الرّابع : في أقسام العامّ
المفيد للعموم إمّا أن تكون إفادته لغة ، أو عرفا ، أو عقلا.
والأوّل : إمّا أن يفيده على الجمع أو على البدل.
والّذي يفيده على الجمع ، إمّا أن يفيده لكونه اسما موضوعا للعموم ، أو لأنّه اقترن به ما أوجب عمومه.
والموضوع للعموم ، إمّا أن يتناول «العالمين» خاصّة ك «من» في المجازاة ، والاستفهام.
أو غير العالمين خاصّة : إمّا الجميع ، وهو «ما».
وقيل (١) : إنّها تتناول «العالمين» [كقوله تعالى :](وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ)(٢) أو البعض ، ك «متى» المختصّة بالزّمان ، و «أين» و «حيث» المختصّتين بالمكان.
وأمّا المفيد للعموم باعتبار الدّاخل عليه : فإمّا في الثبوت ، وهو «لام الجنس الداخلة على الجمع» كالرّجال ، والإضافة كعبيدي.
وإمّا في العدم كالنكرة المنفية.
وأمّا المفيد للعموم على البدل ، فالنكرة المثبتة ، على اختلاف مراتبها في العموم والخصوص.
والمفيد للعموم عرفا كقوله [تعالى] : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ)(٣) فإنّه يفيد عرفا تحريم جميع وجوه الاستمتاع.
والمفيد عقلا ثلاثة :
الأوّل : أن يكون اللّفظ مفيدا للحكم وعلّته ، فيقتضي ثبوت الحكم أينما وجدت العلّة.
الثاني : أن يكون المفيد للعموم ما يرجع إلى سؤال السائل ، مثل : أن يسأل [النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم] عمّن أفطر؟ فيقول : «عليه الكفّارة» فنعلم العموم لكلّ مفطر.
__________________
(١) كذا في المحصول للرازي من غير أن يعيّن قائله ، لاحظ المحصول : ١ / ٣٥٤.
(٢) الكافرون : ٤.
(٣) النساء : ٢٣.