السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-186-6
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٥٦
مخطئ في خشيته للناس ، بل فيها : أن : يا محمد إن خشية الله هي الأهم والأولى.
فهو أسلوب من أساليب الإخبار بكفاية الله له أحد الأمرين اللذين كانا مفروضين عليه معا. وبعد أن حصلت الكفاية ، فإن عليه أن يصرف كل جهده في إنجاز الأمر الآخر ، الذي هو على درجة عظيمة من الأهمية ، بحيث يكاد يجب ترك كل شيء من أجله .. من قبيل من يشرب دواء ليتقي به بعض الأمراض .. وقد طمأنه الله تعالى إلى أنه قد تكفل بدفعها عنه فعليه أن يهتم بمعالجة الأمور التي تحتاج إلى مباشرة. أو هو من قبيل قولك : الطبيب الفلاني يعالج مرضى القلب ومرضى الملاريا والأولى والأهم هم مرضى القلب.
فليس معنى هذا : أنه قد أخطأ في معالجته لمرضى الملاريا إلى جانب مرضى القلب ، بل معناه : أن كلا الأمرين كانا حقا ، لكن معالجة مرضى القلب أحق وأولى.
وملاحظة أخيرة نذكرها هنا ، وهي : أن أول آية في سورة الأحزاب قد بدأت هكذا : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ ..) وهذا يشير إلى إرادة تعظيم التقوى ، حتى إن الله تعالى يطلب من نبيه أن لا يقتصر على بعض مراتبها ، بل المطلوب هو السعي لنيل سائر المراتب السامية والخطيرة منها.
فالأمر بالتقوى لا يستبطن اتهام النبي «صلىاللهعليهوآله» بعدم مراعاة جانبها .. وكذلك الحال بالنسبة لمراتب الخشية من الله تعالى. فإن قوله تعالى : (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) لا يدل على : أنه «صلىاللهعليهوآله» لا
يفعل ذلك ، بل فيها : أن عليه أن يواصل السير في طريق الخشية ، ونيل مراتبها واحدة بعد أخرى ، وأن لهذه المراتب درجات متفاوتة في الأهمية والخطورة ، وأن عليه أن يتابع مسيرته لنيل جميع تلك المراتب.
فخشية الله مطلوبة في السير والسلوك إليه تعالى ، فهي كمعرفة الله ، وتقواه وطاعته ، حيث لا موضع للقول بالجبر في أفعال العباد.
لا يكفي التشريع بالقول :
ولعلك تقول : لماذا لم يسجل الشارع انتفاء أحكام البنوة الحقيقية عن الابن بالتبني ، بمجرد القول ، كما هو الحال في أكثر الأحكام التي شرعها؟!
بل هو قد اختار أسلوب الممارسة الفعلية ، من قبل نبيه الأكرم «صلىاللهعليهوآله».
ونجيب عن ذلك : بأن هناك أمورا يصعب إقناع الناس بها بمجرد القول ، خصوصا إذا وجد الناس فيها حرجا ، أو يخشون من أن يسبب لهم ذلك عارا ، أو عيبا اجتماعيا ، أو تضمنت تمردا على وضع عاطفي ، ذي طابع معين.
فيحتاج تبليغ الحكم ، على مستوى الإقناع ، وإزالة حالات الإحراج فيه ، أو إبعاد الشعور بالعيب والعار إلى القول ، وإلى المبادرة المباشرة من النبي «صلىاللهعليهوآله» ، الذي هو الأسوة والقدوة في تحمل التبعات التي يخشاها الناس في مجال الممارسة.
وبذلك يكون «صلىاللهعليهوآله» قد قدم الأمثولة الفضلى للقيادة الحكيمة ، التي تبادر للتضحية في كل اتجاه في سبيل الأهداف العليا التي نذرت نفسها لها.
وهكذا حصل في موضوع أحكام الأبناء ، فإن القرآن صرح باختصاصها بالأبناء الذين هم من الأصلاب في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ..) (١).
ثم جاء فعل النبي «صلىاللهعليهوآله» ليكون الله تعالى قد سد كل الذرائع على الذين يريدون التعلل ، والهروب من الإلتزام بأحكامه تعالى.
هل كانت زينب متزوجة قبل رسول الله صلىاللهعليهوآله؟!
قال إسماعيل حقي عن زينب بنت جحش : «كانت كالعارية عند زيد. ولذا قال حضرة الشيخ أفتاده أفندي (قده) : في اعتقادنا أن زينب بكر كعائشة رضياللهعنها ، لأن زيدا كان يعرف أنها حق النبي «عليهالسلام» ، فلم يمسها ، وذلك مثل آسية ، وزليخا.
ولكن عرفان عائشة لا يوصف. ويكفينا أن ميله «عليهالسلام» إليها كان أكثر من غيرها ، ولم تلد ، لأنها فوق جميع التعينات» (٢).
ونقول :
١ ـ إن الحكم بكون زينب بكرا يحتاج إلى دليل ، بل الدليل على خلافه موجود ، وهو زواج زيد بها ، ولم نجد ما يدل على أنه قد منع ، أو عجز عنها
__________________
(١) الآية ٢٣ من سورة النساء.
(٢) روح البيان ج ٧ ص ١٨١.
حينما انتقلت إلى بيت الزوجية عنده.
٢ ـ هناك روايات تحدثت عن أن زيدا قد منع عن زينب بعد أن رآها النبي «صلىاللهعليهوآله» ، وأحبها ، حيث إن زيدا لم يستطعها بعد ذلك ، رغم أنها كانت لا تمتنع منه. وقد قدمنا : أنها روايات مكذوبة ولا تصح.
٣ ـ إن قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) وقوله تعالى : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) ظاهر في أن زيدا قد وطئها وقضى وطره منها.
٤ ـ لماذا تكون زينب عند زيد كالعارية فتبقى بكرا ، ولا تكون سائر نسائه «صلىاللهعليهوآله» عند أزواجهن السابقين عليه «صلىاللهعليهوآله» كالعارية أيضا ، فيبقين أبكارا مثلها؟!
٥ ـ قد أثبتنا في الجزء الثالث عشر من هذا الكتاب : أن عائشة لم تكن بكرا ، لأنها كانت متزوجة برجل آخر ، وكان لها منه ولد اسمه عبد الله ، فراجع.
٦ ـ دعوى : أن زيدا كان يعرف أن زينب بنت جحش حق النبي «صلىاللهعليهوآله» لا دليل عليها. فهي لا تعدو كونها تخرصا ورجما بالغيب.
٧ ـ إن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» هو القائل : خير نسائكم الولود الودود .. فكيف أصبحت عائشة التي لم تلد خيرا من مارية أم إبراهيم؟! وبماذا امتازت على خديجة التي ولدت له الزهراء «عليهاالسلام»؟!
بل لماذا ، وبماذا كانت تمتاز على سائر نسائه ممن لم يلدن له ، كما لم تلد هي له؟!
٨ ـ ما معنى قوله : إن عائشة لم تلد لأنها كانت فوق التعينات ، ولماذا
كانت كذلك دون سائر أزواجه «صلىاللهعليهوآله»؟! .. وكيف صار هذا هو العلة في كونها لم تلد؟!
وما معنى قوله : «ولكن عرفان عائشة لا يوصف» ، ولماذا لا يوصف؟! وهل يستطيع أن يصف لنا عرفان خديجة؟! وعرفان أم سلمة؟! وعرفان ميمونة؟!.
٩ ـ إن دعوى أن ميله «صلىاللهعليهوآله» إلى عائشة كان أكثر من غيرها تحتاج إلى إثبات ، ولكن بطريقة علمية صحيحة ، فلا يعتمد في ذلك على رواياتها ، وروايات عروة بن الزبير ابن أختها ، وغيره من محبيها.
١٠ ـ ألا يكون ميله «صلىاللهعليهوآله» إلى إحدى نسائه أكثر من غيرها أمرا قبيحا منه ، لا يصح نسبته إليه «صلىاللهعليهوآله»؟!
١١ ـ ألا يتنافى قوله تعالى : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) مع القول : بأن زيدا كان يعلم : أن زينب كانت حق النبي «صلىاللهعليهوآله»؟!
الفصل الرابع :
الحجاب في حديث الزواج
متى ولماذا نزل الحجاب؟!
وقد روى الرواة عن زينب بنت جحش أنها قالت : فيّ نزلت آية الحجاب (١).
وذكروا : أن ذلك كان في مناسبة تزويجها برسول الله «صلىاللهعليهوآله».
وذكروا : أن السبب في ذلك هو عمر بن الخطاب .. وجعلوا ذلك من فضائله ، حتى لقد رووا عن ابن مسعود أنه قال عن عمر : إنه فضّل على الناس بأربع ، وذكر منها :
أنه بذكره الحجاب أمر نساء النبي «صلىاللهعليهوآله» أن يحتجبن.
وروي أن عمر مرّ على نساء النبي «صلىاللهعليهوآله» وهن مع النساء في المسجد ، فقال : احتجبن ، فإن لكن على النساء فضلا ، كما أن لزوجكن على الرجال الفضل.
فقالت له زينب رضياللهعنها : وإنك لتغار علينا يابن الخطاب ، والوحي ينزل في بيوتنا؟!
__________________
(١) كنز العمال ج ١٣ ص ٧٠٤ عن ابن عساكر ، وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٣٥٦.
فأنزل الله : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) (١).
وقد صرحوا أيضا : بأن آية الحجاب التي نزلت في زينب بنت جحش هي قوله : تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ..) الآية .. (٢).
وكان وقت نزولها صبيحة عرس النبي «صلىاللهعليهوآله» بزينب بنت جحش ، في ذي القعدة سنة خمس (٣).
وعن أنس : ما بقي أحد أعلم بالحجاب مني ، ولقد سألني أبي بن كعب رضياللهعنه ، فقلت : نزل في زينب (٤).
وفي رواية عن أنس : أنه في قضية زينب بنت جحش ، أراد أن يدخل مع النبي «صلىاللهعليهوآله» ، فألقى الستر بينه وبينه ، ونزل الحجاب (٥).
__________________
(١) الدر المنثور ج ٥ ص ٢١٤ عن ابن مردويه ، وتفسير الماوردي ج ٤ ص ٤١٩ وجامع البيان ج ٢٢ ص ٢٨ و ٢٩ وروح البيان ج ٧ ص ٢١٥ والجامع لأحكام القرآن ج ١٤ ص ٢٢٤.
(٢) السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٧٩ وراجع ص ٢٨٣ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٢٠ وراجع سائر المصادر والمراجع التي أشرنا إليها في هذا البحث حول هذا الزواج.
(٣) تفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٤٨٤ وحاشية الصاوي على تفسير الجلالين ج ٣ ص ٢٨٥.
(٤) الدر المنثور ج ٥ ص ٢١٣ عن ابن سعد ، وابن مردويه ، وابن جرير. وصحيح مسلم (بهامش إرشاد الساري) ج ٦ ص ١٧٦ وراجع : بهجة المحافل ج ١ ص ٢٩٣ والمعجم الكبير ج ٢٤ ص ٤٩ وجامع البيان ج ٢٢ ص ٢٧.
(٥) راجع المصادر التالية : الدر المنثور ج ٥ ص ٢٠١ و ٢١٣ عن : ابن سعد ، وأحمد ، ـ
ودعوى نزول الحجاب في مناسبة زواجه «صلىاللهعليهوآله» بزينب موجودة في كثير من المصادر (١).
وتتحدث الروايات عن : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» أطعم الناس في مناسبة زواجه بزينب ، وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، «وزوج رسول الله التي دخل بها معهم ، مولية وجهها إلى الحائط ، فأطالوا الحديث ، فشقوا على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وكان
__________________
والنسائي ، والبخاري ، وأبي يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والطبراني.
وحديث أنس أيضا : رواه الترمذي ، وحسّنه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وراجع ما رواه عنه : ابن سعد ، وعبد بن حميد ، والبيهقي في شعب الإيمان وفي السنن ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن المنذر.
وراجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٨٠ و ٢٨١ و ٢٨٢ وصحيح مسلم (بهامش إرشاد الساري) ج ٦ ص ١٧٥ و ١٧٦ و ١٧٧ و ١٧٩ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٢٠١ وحدائق الأنوار ج ٢ ص ٦٠٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٢٠ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٩٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٤٦ عن البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، والأوائل لابن أبي عاصم ص ٥٣ وسنن النسائي ج ٦ ص ٧٩ و ٨٠ والمعجم الكبير ج ٢٤ ص ٤٩ والسنن الكبرى ج ٧ ص ٨٧ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٤٨٤.
(١) راجع المصادر التي سبقت والتي ستأتي في هذا البحث ، من قبيل : البحر المحيط ج ٧ ص ٢٤٦ والنهر الماد (بهامش البحر المحيط) ج ٧ ص ٢٤٥ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٤٧٢ وج ٣ ص ٤٨٤ وأسد الغابة ج ٥ ص ٤٩٤ والإصابة ج ٤ ص ٣١٣ وسنن النسائي ج ٦ ص ٨٠ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٤٨٤.
أشد الناس حياء الخ ..» (١).
وقد خرج «صلىاللهعليهوآله» إلى حجر نسائه ، ثم عاد ، وتكرر خروجه وعودته ، فكان يجدهم في كل مرة جلوسا على ما هم عليه ، ولم يتغير شيء ، فتضايق منهم ، ففرض الحجاب (٢).
وقد قال ابن كثير : «فناسب نزول الحجاب في هذا العرس ، صيانة لها ، ولأخواتها من أمهات المؤمنين ، وذلك وفق الرأي العمري ..» (٣).
ونقول :
إن لنا ملاحظات عديدة على هذه الروايات وأمثالها. فنحن نذكرها ، ضمن الفقرات التالية :
آية الحجاب :
لقد زعموا : أن آية الحجاب هي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ..).
__________________
(١) السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٨٢ و ٢٨٣ وصحيح مسلم (بهامش إرشاد الساري) ج ٦ ص ١٧٨ وبهجة المحافل ج ١ ص ٢٩٤ و ٢٩٥ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٤٨ والجامع لأحكام القرآن ج ١٤ ص ٢٢٤ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٤٨٤ والجامع الصحيح (مطبوع مع تحفة الأحوذي) ج ٩ ص ٥٩ و ٦٠.
(٢) راجع على سبيل المثال : أنساب الأشراف ج ١ ص ٤٣٤ و ٤٣٥ وطبقات ابن سعد ج ٨ ص ١٧٣ و ١٧٤ وشرح المواهب للزرقاني ج ٤ ص ٤١٢ وجامع البيان ج ٢٢ ص ٢٦ و ٢٧ وتفسير القاسمي ج ٥ ص ٥٣٣.
(٣) البداية والنهاية ج ٤ ص ١٤٧.
وهو زعم لا يمكن قبوله ، لأن هذه الآية إنما تنهى الناس عن دخول بيوت النبي «صلىاللهعليهوآله» من غير إذن .. وليس فيها أمر للنساء بشيء .. لا بحجاب ولا بغيره ..
ومن الواضح : أن اشتراط دخول البيوت بحصول الإذن من أصحابها ، له مصالح وموجبات خاصة به ، ولعل هذه الموجبات لا ربط لها بأمر الحجاب من الأساس.
مشاجرة زينب مع عمر :
ويلاحظ : أن حديث مشاجرة زينب مع عمر ، وقولها له : إنك لتغار علينا ، والوحي ينزل في بيوتنا ، يتناقض مع حديث نزول الحجاب في مناسبة زواجها ، فراجع ..
ويلاحظ هنا : أن سؤال زينب لعمر لا يخلو من لهجة تهكمية ، تتضمن إنكار صدق هذه الغيرة منه ، ثم الاستنكار عليه في أن يتدخل في هذا.
تناقض أسباب فرض الحجاب :
ثم إن من يراجع كتب الحديث والتاريخ عند أهل السنة يتبين له : أنها لا تتفق على سبب ومناسبة فرض الحجاب ، بل هي متناقضة في ذلك بصورة ظاهرة كما يظهر من الموارد التالية :
١ ـ إنهم وإن كانوا قد ذكروا ـ كما تقدم ـ : أن الحجاب قد فرض في مناسبة زواج النبي «صلىاللهعليهوآله» بزينب بنت جحش ، ولكن الواقف عليها يجد أن ثمة اختلافا في الصيغ ، والخصوصيات في هذه المناسبة.
٢ ـ زعموا : أن عمر قال : وافقت ربي في ثلاث ، أو في أربع ، وذكر منها : أنه قال لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» : يا رسول الله ، يدخل عليك البر والفاجر ، فلو حجبت أمهات المؤمنين!! فأنزل الله عزوجل الحجاب (١).
وحسب تعبير البخاري ومسلم ، عن أنس ، قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو حجبتهن ، فأنزل الله آية الحجاب (٢).
فيلاحظ : أن التعبير في النص الأول : ب «يدخل عليك» ، وفي الثاني : ب «يدخل عليهن».
وفي هذا الثاني : إشعار بدخول البر والفاجر عليهن مطلقا ، ولو لم يكن النبي «صلىاللهعليهوآله» حاضرا. وهو كلام مرفوض جملة وتفصيلا.
٣ ـ وعن عائشة : أنها كانت تأكل مع النبي «صلىاللهعليهوآله» حيسا (٣) في
__________________
(١) السنن الكبرى للبيهقي ج ٧ ص ٨٨ و ٥٧ وراجع : تفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٤٨٣ وحاشية الصاوي على الجلالين ج ٣ ص ٢٨٩ وراجع : الجامع لأحكام القرآن ج ١٤ ص ٢٢٧ وراجع ص ٢٢٤ عن الطيالسي عن أنس ، وتفسير القاسمي ج ٥ ص ٥٣٣ وصحيح البخاري (كتاب التفسير) تفسير سورة الأحزاب.
(٢) راجع : فتح القدير ج ٤ ص ٢٩٩ وشرح المواهب للزرقاني ج ٤ ص ٤١٣ وروح البيان ج ٧ ص ٢١٥ وغرائب القرآن (بهامش جامع البيان) ج ٢٢ ص ٢٩ وجامع البيان ج ٢٢ ص ٢٧ و ٢٨ وراجع : الجامع لأحكام القرآن ج ١٤ ص ٢٢٤ والبحر المحيط ج ٧ ص ٢٤٦ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٤٨٣.
(٣) الحيس : طعام من تمر وسمن وسويق.
قعب ، فمر عمر ، فدعاه ، فأكل ، فأصابت إصبعه إصبعها.
فقال عمر : أوّه ، لو أطاع فيكن ما رأتكن عين ، فنزلت آية الحجاب (١).
٤ ـ ونص آخر عن مجاهد يزعم : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» كان يطعم ، ومعه أصحابه ، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة فكره ذلك النبي «صلىاللهعليهوآله» فنزلت آية الحجاب (٢).
٥ ـ عن عائشة : أن أزواج النبي «صلىاللهعليهوآله» كن يخرجن بالليل إذا برزن إلى المناصع ـ وهو صعيد أفيح يتبرزن فيه ـ وكان عمر بن الخطاب يقول للنبي «صلىاللهعليهوآله» : احجب نساءك فلم يكن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يفعل.
فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي عشاء. وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر ، بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة. حرصا على أن ينزل الحجاب. فأنزل الله تعالى الحجاب.
__________________
(١) الدر المنثور ج ٥ ص ٢١٣ عن النسائي ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه بسند صحيح. وراجع : طبقات ابن سعد ج ٨ ص ١٧٥ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٤٨٥ وتفسير الماوردي ج ٤ ص ٤١٩.
وراجع : مجمع الزوائد ج ٧ ص ٦٣ بسند صحيح ، وشرح المواهب للزرقاني ج ٤ ص ٤١٣ وعن شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ٣ ص ١٠٨ وفي بعض الروايات عن ابن عباس لم يصرح باسم عائشة.
(٢) الدر المنثور ج ٥ ص ٢١٣ عن ابن جرير ، وأنوار التنزيل ج ٤ ص ١٦٧ وجامع البيان ج ٢٢ ص ٢٩ والجامع لأحكام القرآن ج ١٢ ص ٢٢٥ والبحر المحيط ج ٧ ص ٢٤٦ وحاشية الصاوي على تفسير الجلالين ج ٣ ص ٢٨٩.
قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ..) الآية .. (١).
ولكن نصا آخر يذكر : أن ذلك قد حصل بعد فرض الحجاب ، فقد روي عن عائشة :
أن سودة قد خرجت لحاجتها بعد ما ضرب الحجاب ، فناداها عمر : يا سودة ، إنك ـ والله ـ ما تخفين علينا ، فانظري كيف تخرجين.
فانكفأت راجعة ، ورسول الله «صلىاللهعليهوآله» في بيتها ، وإنه ليتعشى ، وفي يده عرق ، فدخلت وقالت :
يا رسول الله ، إني خرجت لبعض حاجتي ، فقال لي عمر كذا ، وكذا. فأوحي إليه ، ثم رفع عنه ، وإن العرق في يده.
فقال : إنه قد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكن (٢).
٦ ـ عن ابن عباس : أن رجلا دخل على النبي «صلىاللهعليهوآله»
__________________
(١) الدر المنثور ج ٥ ص ٢١٤ عن ابن جرير ، وتفسير الماوردي ج ٤ ص ٤١٩ وجامع البيان ج ٢٩ ص ٤٠ وروح البيان ج ٧ ص ٢١٥ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٥٠٥ وج ٣ ص ٤٨٥ وفتح القدير ج ٤ ص ٢٩٩ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٧ ص ٨٨ والطبقات الكبرى (ط دار صادر) ج ٨ ص ١٧٤.
(٢) الدر المنثور ج ٥ ص ٢٢١ عن ابن سعد ، والبخاري ، ومسلم ، والبيهقي في سننه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وجامع البيان ج ٢٢ ص ٢٩ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٧ ص ٨٨ وراجع : الجامع لأحكام القرآن ج ١٤ ص ٣٣٠ وتفسير القاسمي ج ٥ ص ٥٣٤ عن البخاري (كتاب التفسير) تفسير سورة الأحزاب ، وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٤٨٥.
فأطال الجلوس ، فدخل عمر ، فرأى الكراهية في وجه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فقال للرجل : لعلك آذيت النبي «صلىاللهعليهوآله»؟!
ففطن الرجل ، فقام.
فقال عمر للنبي «صلىاللهعليهوآله» : «لو اتخذت حجابا ، فإن نساءك لسن كسائر النساء ، وهو أطهر لقلوبهن».
فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ).
فأرسل إلى عمر ، فأخبره بذلك (١).
قالوا : «وكان عمر (رض) يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة» (٢) ، وكان يذكره كثيرا ، وكان يود أن ينزل فيه.
وكان يقول : «لو أطاع فيكن ما رأتكن عين» (٣).
٧ ـ روي : أن النساء كن يخرجن إلى المسجد ، ويصلين خلف رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فإذا كان بالليل ، وخرجن إلى صلاة المغرب ، والعشاء ، والغداة ، يقعد الشباب لهن في طريقهن ، فيؤذونهن ، ويتعرضون لهن ، فنزلت الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً
__________________
(١) الدر المنثور ج ٥ ص ٢١٣ عن ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه. وأنوار التنزيل ج ٤ ص ١٦٧. وشرح المواهب للزرقاني ج ٤ ص ٤١٣.
(٢) غرائب القرآن (بهامش جامع البيان) ج ٢٢ ص ٢٩.
(٣) روح البيان ج ٧ ص ٢١٥.
رَحِيماً) (١).
٨ ـ وفي بعض الروايات : أن الناس لم يقوموا من مجلسهم في وليمة زينب ، إلا بعد نزول آية الحجاب ، وضرب الرسول الحجاب (٢).
٩ ـ وتذكر بعض الروايات عن قتادة : أن الذين أكلوا ، وجلسوا يتحدثون ، وطال مكوثهم ، إنما كانوا في بيت أم سلمة ، وأن الأمر بالحجاب قد صدر في هذه المناسبة (٣).
١٠ ـ وفي بعض الروايات : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» مر بنساء من نسائه ، وعندهن رجال يتحدثون ، فكره ذلك. وكان إذا كره الشيء عرف في وجهه.
فلما كان العشي خرج ، فصعد المنبر ، فتلا هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ..) (٤).
__________________
(١) البحار ج ٢٢ ص ١٩٠ وتفسير القمي ج ٢ ص ١٩٦ وطبقات ابن سعد ج ٨ ص ١٧٦.
(٢) المعجم الكبير ج ٢٤ ص ٤٨ و ٤٩ وحاشية الصاوي على الجلالين ج ٣ ص ٢٨٥ وأشار في هامش المعجم الكبير إلى مصادر كثيرة.
(٣) الدر المنثور ج ٥ ص ٢١٣ عن عبد بن حميد ، وابن جرير ، وجامع البيان ج ٢٢ ص ٢٨ والجامع لأحكام القرآن ج ١٤ ص ٢٢٤ عن الثعلبي.
(٤) تفسير الماوردي ج ٤ ص ٤١٨ وأشار في هامشه إلى المصادر التالية : صحيح البخاري ج ٨ ص ٤٠٦ و ٤٠٧ وصحيح مسلم ج ٢ ص ١٠٥٠ وجامع البيان ج ٢٢ ص ٣٧ والدر المنثور ج ٦ ص ٦٤٠ عن أحمد ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه.
١١ ـ وعند الترمذي عن أنس : أنه «صلىاللهعليهوآله» أتى باب امرأة عرس بها ، فإذا عندها قوم ، فانطلق فقضى حاجته ، فاحتبس ثم رجع وعندها قوم ، فانطلق فقضى حاجته ، فرجع وقد خرجوا ، فدخل ، وأرخى بيني وبينه سترا الخ .. (١).
ولنا مع النصوص المتقدمة وقفات ، هي التالية :
ألف : من تناقضات الروايات :
إن من يقارن بين نصوص الروايات المتقدمة يجد : أنها مختلفة فيما بينها إلى حد التناقض في العديد من الموارد ، ولذلك حاول البعض الجمع بينها كما يلي :
قال الزرقاني : «قال الحافظ : يمكن الجمع : بأن ذلك (أي نصيحة عمر للنبي بحجاب نسائه) وقع قبيل قصة زينب ، فلقربه منها أطلق نزول آية الحجاب بهذا السبب. ولا مانع من تعدد الأسباب» (٢).
ونقول :
إن روايات قضية الحجاب كلما رتقت من جانب ، فتقت من جانب ، إذ إن هناك تناقضات أخرى لا ينفع فيها هذا الجمع ، مثل قولهم : إن ذلك كان في بيت أم سلمة.
ومثل التناقضات بين روايات الحجاب في قضية زينب نفسها.
والتناقضات التي بين روايات نصيحة عمر.
__________________
(١) الجامع الصحيح (مطبوع مع تحفة الأحوذي) ج ٩ ص ٥٨.
(٢) شرح المواهب للزرقاني ج ٤ ص ٤١٣.
وهل كان الذي يأكل مع النبي «صلىاللهعليهوآله» خصوص عمر ، أو هو وآخرون؟! أو غير ذلك؟ فراجع وقارن.
والذي يبدو لنا هو : أن الحجاب ـ كما سيأتي ـ كان مفروضا من أول الإسلام استمرارا لأحكام الشرائع السابقة .. ولكن تسامح الناس في رعاية هذا الأمر دعا إلى نزول آيات في موارد عديدة ، من أجل تذكير الناس بما يجب عليهم ، ولتؤكد ضرورة الالتزام بأحكام الله سبحانه ..
ب : حماسة عمر لفرض الحجاب :
ويلاحظ هنا : أنهم يدّعون : أن عمر كان مهتما بفرض الحجاب ، بحجة أنه يدخل على نساء النبي «صلىاللهعليهوآله» البر والفاجر ، وبحجة أن ذلك أطهر لقلوبهن. فجاء القرآن بموافقته.
ولكننا نجد في النصوص ما يشير : إلى أن عمر نفسه لم يكن مهتما بحجاب نسائه. وذلك مثلما روي : من أن سلمة بن قيس أرسل رجلا إلى عمر ، يخبره بواقعة من الوقائع ، فلما قدم له عمر الطعام نادى امرأته أم كلثوم بنت علي : ألا تأكلين معنا؟
فقالت له : لو أردت أن أخرج لكسوتني ، كما كسا ابن جعفر ، والزبير ، وطلحة نساءهم (١).
وإنما نورد هذه الرواية : لإلزام هؤلاء الناس بها ، وإن كنا نحن نعتقد بعدم صحتها ، وذلك للأمور التالية :
__________________
(١) المرأة في عالمي العرب والإسلام ج ٢ ص ١٦٦.