تفسير ابن عرفة - ج ٤

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٤

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٣٩٩

يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة النساء : ٤٨] ، وإما أن نقول هذه الآية في الكفار وليست في العصاة.

قوله تعالى : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

الزمخشري : ما معناه أن ذلك كيف قال : (بِظَلَّامٍ) ، ولم يقل : بظالم مع أن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم؟ ثم أجاب بوجهين :

الأول : أن الظلم باعتبار التعلق ، فيقال : ما زيد بظالم لغيره لأنه عبد واحد ، وما زيد بظلام لعبيده ، فتبالغ في النفي لأنهم عبيد كثيرون ، فالمبالغة باعتبار المتعلق ، انتهى ، يلزم عليه سبب النفي المفهوم وهو أن لا يكون ظالما لمجموع عبيده فيكون ظالما لبعضهم.

قال : الجواب الثاني : أن الكبير العظيم من الناس إذا اتصف بقليل الذم فهو في حقه عظيم ، فلو تصور الظاهر من الله تعالى لما كان عظيما ، قال الشاعر :

العيب في العالم المحقور محقور

وفي ذوي الشرف المشهور منشور

كفوقة الظفر تخفى من حقارتها

ومثلها في سواد العين مشهور

انتهى.

وقال امرئ القيس :

يغطّ غطيط البكر شدّ خناقه

ليقتلني والمرء ليس بقتال

معناه : لا يقدر على قتلي إلا من هو قتال لا من هو قاتل ، فلا يقتلني إلا من اتصف بأبلغ القتل وأعلى درجاته ، وهذا الذي يطمع نفسه بقتلي لم يبلغ إلى أن يوصف بقتال.

وقال الآمدي في شرح الجزولية : فإن قيل : يظهر من قوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أن فعالا ليس للمبالغة إذ لو كان كذلك لاقتضى مفهومه إثبات قليل الظلم ، فالجواب : أن التكثير في الفعل على وجهين :

أحدهما : أن يكون المفعول جماعة ، تقول : جرحت الزيدين ولم يتكرر الفعل في كل واحد ، والآية من هذا والمراد من أن تكون كررته في المفعول ، تقول : جرحت زيدا ، ولما خفي هذا على الحريري.

قال في درة الفؤاد : له الصفة المذمومة قليلها في حق العظيم كثير ، كقوله : العيب في العالم المحقور محقور ، والصحيح ما تقدم ، انتهى ، بل الصحيح ما قال الحريري

٦١

بدليل ما خرجه مسلم : " أشد الناس عذابا ثلاثة : الشيخ الزاني ، والعالم المستكبر ، والأمير الكذاب" والظلم فسره بعض المتكلمين بأنه وضع الشيء في غير محله.

وقال آخرون : هو التصرف في ملك الغير ، قال بعضهم : وإنما يضع الشيء في غير محله جاهل ، فالظلم لا يقع إلا من جاهل.

وقال الأكثرون : يصدر من العالم والجاهل ، واحتيج الأولون بأن وضع الشيء في غير محله يقتضي ترجيح المرجوح وجعل الراجح مرجوحا ، وهذا جهل لا علم ، وأما على الوجه الآخر فيتوجه مطلقا لأن جميع الخلق ملك لله تعالى ، فإن قلت : كون الظلم وضع الشيء في غير محله مع منع اتصاف الله تعالى بذلك إنما يجري على مذهب المعتزلة في قاعدة التحسين والتقبيح ، لأن وضع الشيء في غير محله قبيح ، قلت : إذا وضع الله تعالى شيئا في أي محل كان فهو محله إجراء أجداد لا يوجد شيء في غير محله وجود أشد عشقا.

قوله تعالى : (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ).

ابن عطية ، عن الرماني ، تقوله : (خَزَنَتُها) ابن عطية : وكونها هي القائلة أظهر ، انتهى ، حقه أن يبين أن قول الرماني مخالف لمذهب أهل السنة لأن مذهبهم عدم اشتراط الحياء والهيبة في الكلام ، ومذهب المعتزلة اشتراط ذلك.

قوله تعالى : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ).

الزمخشري : (بِالْغَيْبِ) حال من المفعول أي خشية وهو غائب من حسن حسه لم يعرفه ، وكونه معاقبا إلا بطريق الاستدلال.

فتعقبه أبو علي عمر بن خليل السكوني بأن فيه سوء أدب من جهة إطلاقه على الله تعالى لفظ الغيبة ، وإطلاقه عليه لفظ مفعول ، وتعقبه غير لازم إذ لم يزل إمام الحرمين ، وغيره يقولون : قياس الغائب على الشاهد بالجوامع الأربعة فهو إطلاق معهود عند الأصوليين ، ويحتمل أن يكون المراد أنه يخشاه حالة كونه غائبا عن الناس وهي حالة الانفراد والانقطاع.

والزمخشري : من خشى بدل بعد بدل تابع لكل فألزمه أبو حيان تعدد الأبدال ، قال : وهو غير جائز عندهم ، انتهى ، ووجه المنع أن البدل على نية الطرح عن جهة المعنى ، فلا تتعدد المبدلات واختاره ابن باب في مقدمته ، والإبدال أنه ليس على نية الطرح فعلى هذا يصح بعدد الإبدال ، وقد يجري ذلك على الخلاف في تعدد الحال وخبر المبتدأ بغير حرف عطف ، فمنع الفارسي ، وابن عصفور ، والمحققون بعدد

٦٢

الحالات إلا أن بدل الغلط والبداء والنسيان ، قال : وينضاف إليها رابع ، وهو أن يقصد الإخبار عن رؤية زيد وعمرو على أن يبتدئ بذكر رؤية زيد ثم تضرب منه ، وتذكر رؤية عمرو من غير بدء يلحقك في ذلك ، وهو كالعطف في المعنى ، وقد حكي عن العرب : أكلت خبزا لحما تمرا ، فحمله بعض النحويين على حذف حرف العطف ، والأولى جملة وعلى هذا النوع ، وحذف حرف العطف ضعيف ولو جاز حذفه لجاز ، اختصم زيد وعمرو ولا بقوله أحد ، وقد حمل عليه ابن خروف ، قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) [سورة البروج : ٤ ، ٥] ، فقال : (النَّارِ) بدل إضراب من الأخدود ، وجعله الفارسي بدل اشتمال ، انتهى ، وهذا نص في صحة تعدد الإبدال.

الزمخشري : ويجوز أن يكون بدلا من موصوف : (أَوَّابٍ حَفِيظٍ) ولا يجوز أن يكون في حكم (أَوَّابٍ) و (حَفِيظٍ) لأن من لا يوصف به ولا يوصف من بين سائر الموصلات إلا بالذي وجده ، انتهى. يريد بقوله في حكم (أَوَّابٍ) أي صفة لأواب ، ونقل ابن حيان في شرح تسهيل الفوائد لابن مالك ، عن الزجاج : أنه أجاز وقوع من صفة.

قوله تعالى : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ).

ابن عطية : وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى : " اعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بل ما اطلعتم" (١) ، وروي عن جابر ، أن المزيد النظر إلى وجه الله عزوجل ، انتهى ، بله من ألفاظ الاستثناء بمعنى دع.

قال الترمذي : معنى الحديث سوى ما اطلعتم عليه ، وقيل : دع ما اطلعتم.

قوله تعالى : (أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً).

لم يقل : أبطش منهم مع أنه ثلاثي يصح بنا أفعل منه ، فما الحكمة في ذلك؟ وجوابه : أنه قصد التنبيه على اتصاف المفعول بشدة البطش لأن أفعل من تقتضي الشركة في مادة الفعل ، وتقدم نحو هذا للزمخشري في سورة البقرة في : (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [سورة البقرة : ٧٤].

قوله تعالى : (وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ).

__________________

(١) أخرجه الحسين بن مسعود البغوي في معالم التنزيل حديث رقم : ٩٣٠.

٦٣

هو والضمير على (السَّماواتِ) بمعنى الكلية والنوع ، فيدخل ما بين كل سماء وسماء ويكون ذكر ما عدى الأولى والأخيرة من السماوات مرتين بالمطابقة وبالتضمين أو الفرد.

قوله تعالى : (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ).

مقابل لقولهم : ذلك رجع بصيد وهو جاز على الأمثل في استعمال الأخص في الثبوت والأعم في النفي لأن كلامهم يجري مجرى النفي ، وقد استعمل فيه الرجع المطلق الذي هم من كونهم مجتمعين أو مفترقين ، وقيل في الجواب : [٧٠ / ٣٤٢] ذلك حشر لأن الحشر عبارة عن إعادتهم بقيد الاجتماع فهو أخص من الأول فأفاد الإعادة وزيادة ، فإن قلت : المطابق لقولهم ذلك حشر علينا قريب ، فالجواب من وجهين :

الأول : أن القريب أعم من كونه سهلا أو صعبا ويسير يفيد القرب ، وزيادة.

الثاني : أن المراد بالبعد في كلامهم الاستحالة لا بعد المسافة وضد الاستحالة الإمكان.

٦٤

سورة الذاريات

قوله تعالى : (وَالذَّارِياتِ).

قال ابن عرفة : أكد (الذَّارِياتِ) بالمصدر ولم يذكر مفعولها ، وذكر مفعول الحاملات ولم يؤكدها بالمصدر فما السر في ذلك؟ قال : والجواب : أن الحمل لما كان حامله محسوسا مشاهدا حصل العلم بمحمول ما بالإطلاق ، ولما كانت القرابة في شدة المحمول وقوته ، صرح بمفعول يناسبه وهو العظيم الثقل فيستلزم قوة حامله ، ولما كان لقاء الذاريات صالحا للقوة ، والفعل أكده بالمصدر ليفيد أنها بالقوة والفعل.

قوله تعالى : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ).

أخذ من هنا بعضهم إذ اللازم في قول القائل : أنت طالق فأنت طالق فأنت طالق واحدة ، وتقريره أن هذه الألفاظ مقتضيات للطلاق ، وألفاظ القسم مقتضيات للجواب ، والأصل تعدد المقتضي لتعدد المقتضى ، فلما اكتفى بهذه القسم هنا بجواب : واحد لزم كذلك في الطلاق ، قال : والجواب : عن هذا بأن اقتضاء القسم للجواب أمر لغوي لفظي ، لأن عند قوله تعالى : (فَالْحامِلاتِ) ولم بالجواب لما أفاد شيئا.

قال ابن عرفة : الفائدة الآية واقتضاء الطلاق لزوال العصمة أمر شرعي ، بدليل أنه لو سكت عند قوله أولا أنت طالق لترتب الحكم عليه بالطلاق ، ولو سكت عند قوله : (وَالذَّارِياتِ فَالْحامِلاتِ) ولم يأت الجواب لما أفاد شيئا.

قال ابن عرفة : وفي هذه الآية رد على من يقول لا يلزم المجتهد أن يحفظ من القرآن إلا آية الأحكام لاحتمال استنباط هذه الحكم ، أعني لزوم واحدة الطلاق فهذا الوجه وهو حكم شرعي وعدم حرمة اليمين بغير الله تعالى.

قوله تعالى : (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ).

لا شك في وقوع الموعود به للزومية صدق الوعد سمعا فما السر في التصريح به.

قوله تعالى : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) ولم يقل : إنكم لذو قول مختلف مع أن ذو تدل على اتصاف القائل باختلاف القول حقيقة ، فإنما عدل إلى اللفظ في الدال على ظرفية القول للقائل لأنه يلتزم اختلاف القائلين في القول ، ويلزم التناقض بقوله : مختلف فهو أبلغ في القرابة ، ولذلك أكده باللام ولم أريد مجرد الاختلاف لما كان فيه قرابة لأن مطلق اختلاف القول معلوم عندهم.

٦٥

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ).

ابن عرفة : السؤال على قسمين : سؤال استرشاد ، وسؤال لفت واستهزاء ، فالأول : يستدعي الجواب ، والثاني : لا يستدعيه وهذه الآية من الثاني ، فلذلك عدل عن الجواب.

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

وجمع الجنات وأفردها في سورة التوبة ، فقال تعالى (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [سورة التوبة : ١١١] فالجواب : عن الأول أن آية الطور تقدمها : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) [سورة الطور : ٧] ، فناسب تعقيبه بنقيضه وهو النعيم ، وعن الثاني أنهم باعوا أنفسهم في مرضاة الله تعالى ، فأقل ما يصدق عليه جنة ، وكان أبلغ في مدحهم فناسب إفرادها ، وأما هنا فلما كانوا في غاية إتيان بالتكاليف ناسب الجمع.

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ).

هذا تعليل أحرى أي المتقون في جنات ذات عيون لتقواهم وإحسانهم ، قال ابن عرفة : وكان يمشي لنا سؤالا وهو ما السر في ذكر القبلية مع أن لفظة كانوا يدل عليها.

قال : والجواب : إن كان يدل على اقتران الفعل بالجملة في الماضي وهي ظاهرة في الدوام فيحتمل عدمه ، فلما يقبل ذلك أفاد أن يكون في كون قبلية سابقة ، وإنما قال : (وَبِالْأَسْحارِ) ولم يقل : وفي الأسحار لأن الفاء تفيد أن الأسحار من وقت تحققها ظرفا للاستغفار ولا تدل على أن الاستغفار يكون منهم قبلها بيسير ، والباء تفيد الإلصاق وأفادتها الاستغفار أبلغ.

قوله تعالى : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).

وقال تعالى في سأل سائل حق معلوم ، قال : والجواب أنه لما صدر في سأل سائل بذم الإنسان في كونه (خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً) [سورة المعارج : ١٩ ، ٢٠] ، وأخرج منهم المسلمين بمدحهم فناسب ذلك الإطناب بذكر المعلومية أو ما تبرئه الذمة ، وهنا لم يصدر بمدحهم في كل الأحوال وارتفاع درجتهم حتى كان أموالهم كلها للسائل لم يخص معلوما فكان عدم ذكره أبلغ ، فقال : كذا كان يمشي لنا.

قوله تعالى : (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ).

٦٦

ابن عرفة : كان يمشي لنا ما السر في تخصيص جواب القسم بنطقهم ، ولم يقل : مثل ما أنكم تسمعون أو تبصرون أو تعقلون؟ فالجواب : بها ذكر في اللوامع أن النطق الذي هو مشتق من المنطق خلق في الداخل ونطق في الخارج ، والداخل كان المراد به الذات وذات كل أحد الشعور بها وإدراكها ضروري بديهي ، فصار التشبيه بها في غاية إفادة التحقيق للقسم له بالمقسم عليه ، أي هو حق مثل : (ما أَنَّكُمْ) أنتم بخلاف غيره فإنه لا يفيد هذا المعنى.

قوله تعالى : (أَتاكَ حَدِيثُ).

فيه سؤالان :

الأول : لم قال هنا : (حَدِيثُ) ، وفي سورة ص (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) [سورة ص : ٢١]؟ وجوابه : أن تلك فيها غرابة فناسب التعبير بالنبأ.

الثاني : لم أتى بهذه الجملة غير معطوفة وعطف تلك؟ وجوابه : أن تلك تقدم ذكر بعضها بخلاف هذه.

قوله تعالى : (فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ).

قال السكاكي وغيره من البيانيين : سلام إبراهيم أبلغ لأنه عبر بالاسم المقتضي للثبوت ، وسلام الملائكة بالنقل فجرى على أسلوب ، قوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) [سورة النساء : ٨٦] ، انتهى ، ويعترض هذا التأكيد فإن سلام الملائكة مؤكد بالمصدر المفيد إزالة الشك من الحديث ، فناسب التأكيد مناب الثبوت الذي زاد به سلام إبراهيم فاستويا فليس أحدها أبلغ من الآخر ، وجوابه : أن التأكيد بالمصدر إنما يفيد إزالة الشك عن الحديث في الخبر لأنه غير مشاهد ، فإذا قلت : قام زيد ، احتمل الحقيقة والمجاز ، فأتى بالمصدر لرفع المجاز وتعيين إرادة الحقيقة ، وأما الإنشاء فلا يزيد المصدر فيه ، وذلك أن الإنسان إذا ....... (١) بعت لزمه البيع وليس فيه مجاز ، وهذه الآية السّلام فيها من قبيل الإنشاء لا من قبيل الخبر ، فلم يزد فيها المصدر زيادة ؛ فبقى الأمر على ما كان عليه من اقتضاء الفعل التجدد والاسم الثبوت ، فسلام إبراهيم عليه الصلاة والسّلام أبلغ من سلام الملائكة ، فإن قلت : المصدر إنما يفيد إزالة الشك عن الحديث فهو يفيد تحقيق وقوع السّلام منهم على ما هو عليه ، وهو مدلول عليه بلفظ الفعل المقتضي للتجدد فكان قبل المصدر

__________________

(١) سقط في المخطوطة.

٦٧

محتملا ؛ لأن يكونوا أرادوا السّلام حقيقة أو معنى آخر يقاربه ، وعلى تقدير أن يريدوه فهو سلام لمجرد [...] فأزال المصدر الاحتمال الأول وبقى الثاني ، [٧٠ / ٣٤٣] قلت : التأكيد بالمصدر يزيل الشك عن الحديث فقط ، والأمر أن يصيره كلام إبراهيم ويقوم مقام الثبوت فيه ، فلما كان أبلغ فلا جواب عنه إلا ما قلنا ، وتقدم في سورة هود تمام الكلام في هذا الفخر في سورة براءة ، عند قوله تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) [سورة التوبة : ١٠٣] في قول الرجل لغيره : سلام عليك لطائف ، قال : ذكرتها وإن كان لا يناسب ذكرنا هذا الموضع خشية أن تضيع.

قال : قوله : (سَلامٌ) نكرة فيها معنى التعظيم الابتداء به لأن في الكلام حذف صفتها ، أي سلام تام كامل والخبر عليكم ، أو هو صفة لسلام والخبر مقدر أي كأين ، وقد يترجح حذف الخبر لقصد التهويل والتعظيم ، وجوابه وعليكم السّلام على عكس الترتيب الأول ، وسببه قول سيبويه : إنهم يقدمون الاسم وأيضا فلدلالة على الحصر فيكون الجواب أبلغ ، لقوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) [سورة النساء : ٨٦] ، وأما محمول الرجل لغيره السّلام عليك تعرفي ، فالسلام لفظ مفرد يحلى بالألف واللام لا يفيد إلا أصل الماهية ولا إشارة له بالأحوال العارضة لها ، فإذا كان التنكير أبلغ ، وكذلك حيث ما جاء لفظ السّلام من الله تعالى ورد منكرا ، وإنما ورد معرفا من قول موسى صلّى الله على نبينا محمد وعليه وسلم : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ) [سورة مريم : ٣٣] ، وكذا اختار الشافعي في التشهد تنكير السّلام ، قال : وسبب مشروعية السّلام بين المتلاقيين ليحصل به لكل واحد منهما اعتقاد سلامته من الآخر لأن الأصل في طبع الجيران الشر على الصحيح ، ودفع الشر أهم وأكد من جلب الخير ، قلت : ومنه قول المتنبي :

والظلم من شيم النفوس فإن تجد

ذا عفة فلعلّة لا يظلم

قال : وقوله : عليكم تقتضي مخاطبة جماعة ، وذلك أن الإنسان لا يخلو عن الحفظة من الملائكة وأرواح مجانسة له.

قوله تعالى : (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ).

يدل على أن هذا العجل كان مشويا [...] منه أهله ، وأنه كان من عادته تهيئة الطعام برسم من يرد عليه أو أتاهم بما كان معدا لأهله.

قوله تعالى : (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً).

٦٨

ذكر هنا الخوف منه ، وقال في موسى : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً) [سورة طه : ٦٧] فلم يذكر صفة الخوف فيه ؛ لأن قائلا لا تخف هنا الملائكة ، وهناك الله تعالى فناسب عدم ذكر المخوف منه وعدم الامتثال به.

قوله تعالى : (بِغُلامٍ عَلِيمٍ).

دليل على شرف العلم ، ونقل ابن العربي في سراج المريدين ، عن ابن فورك : أنه رأى الملائكة ، ونقل أبو نعيم في الحلية ، عن سفيان الثوري ، أن الملك خاطبه في حكاية الحية ، قال كاتبه ، وخبر ابن عم والدي وهو الشيخ الصالح العابد الزاهد أبو فارس عبد العزيز البسيلي : أنه حين يقوم إلى صلاته بالليل يرى أن الملائكة تدخل عليه بيته وتسلم عليه في صفة طيور ذوي أجنحة.

قلت : ولما توفي رحمه‌الله صبيحة يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان عام أربعة وثمانين وسبع مائة رأيت كأني بين السماء والأرض وإذا برقعة هابطة من السماء ، فيها مكتوب بخط بين : عبد العزيز البسيلي من أهل الجنة ودفن رحمه‌الله بمقبرة خالد أبو إسحاق إبراهيم البسيلي.

قال لي شيخنا أبو مهدي عيسى الغبريني : لم أر أحدا في زماننا على طريق السلف الصالح غيره.

قوله تعالى : (فَما خَطْبُكُمْ).

قدم المقول للمخاطب على ندائه لأنه المقصود بالذات ، ولما فهم من القرائن أنهم نزلوا للعذاب عبر بالخطب ، وقال : (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) فعبر بالوصف الأعم فيهم وفي بني آدم ، ولم يقل : أيها الملائكة فعبر بالوصف الأخص لأن وصف الرسالة عند الله تعالى فيه تشريف وتعظيم ، ولآن فيه إيماء إلى المرسل إليهم.

قوله تعالى : (إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ).

تنكير (قَوْمٍ) إما تعظيما لوصف الإجرام أو ليفيد عموم تعلق العذاب بكل من اتصف بصفاتهم ، لأن تعليق الحكم على الوصف المناسب في النكرة يفيد قوة الشعور بما به ذلك الوصف للحكم أكثر من إفادته له في المعرفة.

قوله تعالى : (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً).

٦٩

لم يقل : لنرمي عليهم حجارة لاقتضاء مادة الرمي كونه بقصد وقوة الإرسال تقتضي أن يكون عن غير قصد ، فهو إشارة إلى أنهم قوم لا [...] لهم يشهد لهذا التفريق ما ذكره الفقهاء في رمي الحجار وإرسالها.

وفي المدونة قال ابن القاسم : أن وضع الحصاة وضعا أو طرحها لم يجزه.

قوله تعالى : (غَيْرَ بَيْتٍ).

أتى بدلالة الاقتضاء ، ولم يقل : غير أهل بيت تشريفا للبيت ، قيل على مذهب أهل السنة : أن الإيمان والإسلام متغايران يلزم أن يكون المخرج غير المخرج منه واللازم باطل فالملزوم مثله ، إذ لا يجوز أن يقول : أخرجنا من فيها من الناس فما وجدنا فيها غير البقر ، وأجيب : بأنهما متغايران تغاير الأعم والأخص ، كقولك : زيد عالم وزيد عليم ، فتقول : أخرجت العلماء فما وجدت فيها إلا العليم أو العلامة ، قيل : هذا في المثال يصح حيث يخرج شيء ويبقى شيء ، وأما هنا فالمخرج منه إذ لم يبق فيها أحد من المؤمنين ، أجيب : باحتمال أن يكون فيها بيوت ، جملة مؤمنين لكنهم متفاوتون بعضهم مؤمنون مسلمون وبعضهم مؤمنون فقط فأخرجوا في جماعة الأيك ، فإن قلت : لعل المراد أنهم كانوا منقسمين إلى مؤمن وكافر ولم يكن فيهم منافق يظهر الإسلام ويبطن الكفر ، بل إنكارهم الكل كانوا متظاهرين بالمخالفة ، قلت : هذا بعيد لأن العبرة بالباطن لا بالظاهر.

قوله تعالى : (وَفِي مُوسى).

كررت قصة موسى عليه‌السلام في القرآن لتكرار اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم.

قوله تعالى : (وَقَوْمَ).

ذكر فرعون على السلطان المبين لأنه المقصود بالتخويف به.

أبو حيان : وهذا مثل :

علفتها تبنا وماء باردا

أي وسقيتها ماء ، انتهى ، يريد لأن مدينة قوم لوط تركت بحيرة مالحة يراه الناس اليوم على طريق الشام إلى الحجاز فتركت فيها آية ، ولم يترك موسى عليه‌السلام آية بل جعل آية ، فجاء التقدير : وجعلنا في موسى أية ، مثل وسقيتها ماء.

قوله تعالى : (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ).

٧٠

سلك في أول الآية مسلك التسلية بذكر اسم النبي ، وإنما ذكر قومه الذي نزلت بهم العقوبة ، وظاهر هذه الآية أن عاد أهلكت ، خلاف ما يقتضيه قوله تعالى : في فصلت (صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [سورة فصلت : ١٣].

قوله تعالى : (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ).

إما على حذف الصفة ، أي من شيء منهم ومن أنعامهم أو عام مخصوص بالمخالفة لأنهم مسلمون.

قوله تعالى : (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ).

إن قلت : هلا قيل : جعلته رميما فهو أبلغ؟ قلت : الرميم هو الحالة التي يؤل إليها العظم والنبات ، والمقصود هنا أن الريح أهلكتهم في الحال لا أنها صيرتهم إلى حالة التي يؤول بهم إلى الرميم ، ولم يقل : جعلته رميما لاحتمل أمرين :

أحدهما حقيقة وهو أنهم صاروا في الحال رميما.

والثاني : مجاز وهو أنها إماتتهم فصاروا إلى حالة يؤول أمرهم فيها إلى الرميم ، فلما قال : (كَالرَّمِيمِ) أفاد نفي احتمال ذلك المجاز ، وأنهم في الحال شبهوا الرميم الذي تفتت من عظم وإنبات بطول القدم والمكث.

قوله تعالى : (حِينٍ).

ما بعد حتى داخل فيما قبلها ، فالحين جواز زمنه التمتع.

قوله تعالى : (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ).

دليل على أن النهي عن الشيء أمر بضده ؛ لأنهم كلفوا تكليفا عاما في الأمر والنهي ، أو يقال : أن جميع ما كلفوا به نهي وسمي أمرا.

قوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ).

إن قلت : لما أخرت [٧٠ / ٣٤٤] قصة نوح عليه‌السلام مع تقدم زمانه على أزمان أهل القصص المتقدمة؟ قلت : لأن رسالته لما كانت عامة لأهل الأرض حقت به تلك القصص كما حقت النبوة نبينا صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، فإن قلت : لم علل هلاك قومه بنسفهم ولم يعلل إهلاك غيرهم؟ قلت : لتطاول زمانه وشدة مقاساته قومه.

فإن قلت على قراءة حفص : إن كانت الواو للترتيب بطل قول الأصوليين ، إن قولك : جاء زيد وعمرو قبله تناقض وإن لم تكن للترتيب فما أفاد من قبل ، قلت : إما أن يقول هي للترتيب في الذكر وإنما يلزم التناقض ، وإن لم تكن للترتيب فما أفاد

٧١

(مِنْ قَبْلُ) ، قلت : أما إذا كانت ظاهرة فيصح التصريح ، بخلاف الظاهر فلا تناقض أو تقول : إنها ليست للترتيب ، وذكر القبلية ليعلم إذ لا يعلم ذلك عقلا والتاريخ فما اشتمل عليه القرآن العظيم.

قوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ).

برهان ودليل بعد الوعظ والتخويف ، فإن قلت : لم أفرد السماء والمناسب باعتبار الفهم الجمع لأنه إذا كان خلق السماوات بقوة فأحرى السماء الواحدة ، قلت : الآية إنما سيقت لبيان أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وأن ذلك دليل على كمال اتصافه بالقدرة والقوة الشديدة ، فإذا كان خلق السماء الواحدة دليل على اتصافه بالقوة الشديدة ، فأحرى أن يدل على ذلك خلق السماوات كلها ، وقرئ برفع السماء والواو على ذلك والحال لا عاطفة ، كما قال سيبويه في قوله تعالى : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) [سورة آل عمران : ١٥٤] والمعنى أن قوم نوح أهلكوا حالة وجود الدليل الدال على كمال قدرة الله تعالى وشدة بطشه.

ووقع في كلام القاضي الباقلاني ما يدل على أن السماء كروية ، لأنه لما دخل بلاد الروم رسولا عن الملك ناظره بعض النصارى ، فقال له : كيف تزعمون أن القمر انشّق لنبيكم ودخل نصفه تحت الأرض وبقى نصفه في السماء لو كان كذلك لرآه كل أفق؟ فقال له القاضي : يلزمكم هذا في المائدة التي نزلت على نبيكم هل انفردتم برؤيتها أو رآها جميع أهل الأرض ، فانقطع الرومي ، فقال له القاضي أبو بكر : الجواب : ما قلته أنك كما تشاهد كسوف الشمس والقمر في قطر دون قطر ، وفي موضع صلاة الظهر وفي آخر وقت صلاة العصر ، وكذلك يتصور اختصاص رؤية انشقاق بقطر دون قطر ، انتهى. وهذا إنما يتم له على أن السماء كروية وكذا الأرض ، وأقوى أدلة المنجمين على أنها كروية اختلاف أزمان الكسوف في الأقطار ، فتكشف الشمس عند باب تونس مثلا في أول النهار وفي أقصى المغرب بعد مضي ساعتين أو ثلاثا ، ولو كانت بسيطة لزم استواء الجميع في وقت رؤية الكسوف ، والأرض أصلها كروية لكن تحديث بأشياء وضعت على أجنابها كما تؤخذ الكرة فتصير مثمنة أو مربعة فتتحدب.

قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ).

المراد بذلك النقيضان كالحركة والسكون ، والاجتماع والاقتران ، والحياة والموت ، والإسلام والكفر ، والغناء والفقر.

٧٢

فإن قلت : فيه دليل لأهل السنة في أن الكفر مخلوق لله عزوجل ومراد له في كل شيء ، قلت : إنما يتم ذلك لو قيل : وكل شيء مخلوق منه زوجان فنحن خلقناه ، أو يقال : وكل شيء خلقنا زوجين مخلوقان لله تعالى ، والآية إنما دل عمومها على أنه لم يقل شيئا منفردا بل مع زوج مناظر له ، فإن قلت : فلم يخلق الإسلام منفردا بل مع الكفر المتناقض له؟ قلت : المعتزلي يقول : إن العبد مستقل بفعله فلم يخلق له الإسلام ولا الكفر.

قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

الزمخشري : إرادة أن تذكروا فتعرفوا وتعبدوه ، انتهى ، هذا اعتزال ، فإنهم يقولون : إن الله تعالى أراد من جميع الخلق الإسلام ، ونحن نقول : لو أراد ذلك لما وقع منهم كفر ، ومعنى التذكر إما لأن التعدد مظنة الافتقار والحاجة في الشاهد فيتذكر أن الله تعالى غني بذاته إذ هو واحد لا ثاني له ، أو لأن التعدد من لوازم الحادث والقديم واحد لا يتعدد.

قوله تعالى : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ).

راجع إلى الإقرار بوجوده (وَلا تَجْعَلُوا) راجع إلى الإقرار بوحدانيته وهو من باب الإتيان بالنتيجة عقب الدليل.

فإن قلت : يؤخذ منه أن ارتباط الدليل بالمدلول غير عقلي وإلا لما احتيج إلى ذكر ذلك ، قلت : بل نقول إنه عقلي لكن من الناس من بمعنى النظر ويستجد القريحة فيصل إلى الوجه الذي منه يدل الدليل وآخر لا يفعل ذلك.

وفسر الزمخشري هنا الآية على صريح مذهبه ، والآية تدل أن لفظ الإله كلي كما يقوله المنطقيون.

قوله تعالى : (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ).

ليس مدلول ذلك في الموضعين واحدا كما قال بعض المعبرين ؛ لأن الأول : إنذار من المعاصي وعذابها غير دائم ، والثاني : إنذار من الإشراك وعذابه دائم.

قوله تعالى : (كَذلِكَ).

في هذه الآية دليل لمن يقول : إن اتحاد المعلول يوجب اتحاد العلة لأنه جعل إليهم على الكفر معلولا باستوائهم الكل في الطغيان لا بوصية بعضهم لبعض.

قوله تعالى : (وَذَكِّرْ).

٧٣

احتراس بعد قوله : (فَتَوَلَ) بمعنى أن توليه إنما هو بمعنى عدم التمالك عليهم لا محض المشاركة بين أن التذكر ينفع لمن حصل له الإيمان بمعنى إقامة حدوده ، وطاعاته ، وفروع تكاليفه ، ويحتمل المراد من سيحصل له الإيمان ، والأول أظهر ، ثم أكد الأمر بالتذكير بكون الجن والإنس خلقوا للعبادة لا غير ، وظاهر الآية مشكل لأنهم خلقوا لغير ذلك عقلا إذ فيهم كثير من العصاة ، والدليل الظني السمعي إذا خالف الدليل العقلي يجب تأويله عند المحققين ، فاضطر المفسرين إلى تأويل الآية فذكروا وجوه.

فإن قلت : في الآية دليل المعتزلة في تعليل أفعال الله تعالى ، قلت : التعليل قسمان ، تعليل بمعنى أن الفعل مقصود به الفرض ، ولو لم يكن لما حصل ذلك الفرض ، فهذا عندنا لا يجوز في حق الله تعالى لاستلزامه النقص والافتقار ، وتعليل بمعنى ربط الأسباب بمسبباتها ، ولو شاء أن يقع دونها لوقعت لهذا جائز في حق الله تعالى وهو المراد في الآية.

الزمخشري : فإن قلت : لو أراد العبادة منهم لكانوا كلهم عبادا ، قلت : إنما أراد منهم أن يعبدو مختارين للعبادة لا مضطرين إليها لأنه خلقهم متمكنين فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريدا لها ، ولو أراد على القسم والإلجاء لوجدت من جميعهم عبادة ، انتهى. هذا السؤال مشكل ، وجوابه مشكل والعجب من الطيبي كيف لم يتعرض لذلك ، لأن هذا السؤال إنما يتوجه على مذهب أهل السنة إذ هو باطل عند المعتزلة والمورد للسؤال إنما يأتي فيه بما هو باطل عنده فيورده على معنى الشبهة على مذهبه.

والزمخشري : لا يقول أنه لو أراد العبادة لكانوا كلهم عبادا ، وإنما يقوله أهل السنة فكيف نورد عين مذهبه بسؤال على مذهبه ، وإنما كان نورده أن لو كان مخالفا لمذهبه فيورده شبهة على مذهبه ، ثم أجاب الزمخشري : بجواب غير مطابق للسؤال لأن الإرادة عندهم إنما تتعلق بفعل المريد ، والعبد عندهم بخلق أفعاله وفعله الاختياري مخلوق له فهو غير مراد الله بخلاف فعله القسري الإلجائي.

فإن قلت : لما عدل في الآية عن صريح الحقيقة إلى المجاز ، ولم يقل : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا) لأكلفهم العبادة؟ قلت : تهييجا على العبادة وعلى الاتصاف بها بالفعل.

ابن العربي في سراج المريدين في اسم [٧٠ / ٣٤٥] العابد خفيت هذه الآية على المبتدعة وأهل السنة ، فقال بعض المبتدعة : أراد منهم العبادة ففعلوا ما أرادوا.

٧٤

وقال أهل السنة : إن كان خلقهم ليعبدوه فقد وجد من لا يعبده ولا يصح أن يكون في خبره خلف ، وأيضا فإنه غني عن عبادتهم ، وظاهر الآية أنه خلقهم لما هو غني عنهم ، قال : والمعنى الصحيح في الآية : (لِيَعْبُدُونِ) أي لتجري أفعالهم على مقتضى قضائي فيكون فعل العبد على مقتضى حكم المولى ، وقد فهم بعض الصالحين هذا ، فقيل له : ما أراد الله من الخلق؟ فقال : ما هم عليه ، قال : والغافلون ظنوا أن العبادة في الآية بمعنى الطاعة ، ورأوا بعض الخلق عصاة فطلبوا الآية معنى عن معناه ، فخلطوا ولو فهموا معنى السجود ، في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [سورة الرعد : ١٥].

قال : كافر يكفر بلسانه وجوارحه كلها مؤمنة نعم ولسانه الكاذب شاهد لله عليه ما بدله ، وقال تعالى (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [سورة الإسراء ٦٥ ، سورة الحجر : ٤٢] فأضافهم إلى نفسه مما وهبهم من الحفظة ، وأطال الكلام في ذلك بما هذا حاصله ، فإن قلت : هلا قيل : وما أريد منهم إطعاما ، كما قال : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) ، قلت : قصد التمثيل بحال الخلق في الشاهد لأن الرزق في الشاهد دائم ، والإطعام إنما يكون شيئا بعد شيء ووقتا دون وقت فهو متجدد والرزق دائم.

قوله تعالى : (ذَنُوباً).

أي خطأ ، وظاهر استعمال الأدباء له أنه خاص بالشر ، ويصح أن يكون مشتركا بينه وبين الخير ، ومنه حديث الموطأ : " أمر بذنوب ماء فصبه على بول الأعرابي" ، وفي البخاري ومسلم في فضائل عمر : فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين ، ويؤخذ من الآية أن الصحبة تصدق بمطلق المشاركة في الوصف ، والمتحدثون مطبقون على منع ذلك وإنما اختلفوا ، فمنهم من يطلقها على المشاركة في الزمان ويجعل الصحابي من عاصر النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم وإن لم يره ، ومنهم من يقيد ذلك بالرؤية فإن هذه لغة وذلك اصطلاح ، قلت : بل هذا عرف فيصح فيمن اتصف بالكفر والعصيان يقال : هذا صاحب فرعون.

قوله تعالى : (مِنْ يَوْمِهِمُ).

هو واحد بالنوع ، فصدق على كل ما فسره به المفسرون ، وعبر بالكفر الذي هو أخص ومنعهم لأنه رتب عليه الوعيد الأخص.

٧٥

سورة الطور

قوله تعالى : (وَالطُّورِ).

ابن عطية : قال بعض اللغويين : الطور اسم لكل جبل أجرد لا ينبت ثمرا.

وقال مجاهد : الطور الجبل بالسريات ، انتهى. إن إرادتها هربت فحق ، وإن إرادتها لم تزل سريانية فباطل ، والظاهر أن المراد بالكتاب القرآن لأن القسم بالشيء تعظيم له ، وإذا تعلق التعظيم بواحد من أمور متعددة قد احتملها اللفظ فالأولى عمل على أعظمها وأشرفها ، ولا شك أن القرآن له من التعظيم والشرف بالنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، وبالإعجاز ما ليس لغيره.

قال الزمخشري : وقيل : إنه القرآن ونكر ؛ لأنه كتاب مخصوص من بين جنس الكتب ، كقوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) [سورة الشمس : ٧] ، وقال في تلك الآية : نكرت (نَفْسٍ) لأحد وجهين :

أحدهما : أن يريد نفس خاصة وهي نفس آدم عليه الصلاة والسّلام كأنه قال :

وواحدة من النفوس.

والثاني : أن يريد كل نفس والتنكير لإرادة الخصوص لأن ما به التعظيم نظير ما قال تعالى في سورة الفجر (وَلَيالٍ عَشْرٍ) [سورة الفجر : ٢] ، ويرد بأن التنكير فيها إنما هو للإيهام والشيوع لا للخصوص.

ويجاب : بأن التعظيم يقتضي الخصوص لأن ما به التعظيم خاص بالمعظم ، وكذا التنكير لإرادة التعظيم ، ثم وصف ما سوى الطور لأن الطور علم لا اشتراك فيه.

فإن قلت : وكذا الكتاب علم ، قلت : لا يلزم من الوصف هو الاشتراك للموصوف بدليل (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [سورة الفاتحة : ١].

قوله تعالى : (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ).

ابن عطية : هو السماء والسقف طول في انحناء ومنه أسقف النصارى وهو عالمهم ، انتهى ، ظاهره أنها عنده كروية ، وفي وصفه بالمرفوع إشارة إلى أنه العرش لأنه فوق كل مخلوق ، وما تحته من السماوات بالنسبة إليه محفوظة لا مرفوعة.

قوله تعالى : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ).

٧٦

إشارة إلى تغليظ العذاب وشدته ، وأنه إذا كان بتحقق وقوعه مع استحضار مقام التربية والحنان والشفقة ، فأحرى مع استحضار مقام الجبروت والعزة والقوة والانتقام.

وقال الفخر : ذكر الرب إشارة إلى أن المكلف لا يزال طامعا في رحمة الله راجيا عفوه.

قوله تعالى : (يَوْمَ تَمُورُ).

قال مكي : العامل فيه واقع ولا يصح أن يعمل فيه ما له من دافع.

قال أبو حيان : ولم يبين له وجها ، انتهى. توجيهه أن القضية السالبة عند المنطقيين لا تقتضي وجود الموضوع ولا إمكان وجوده.

فإذا قلت : ليس زيد بقائم أمكن أن يكون جالسا وأن يكون معدوما ، فأثبت أولا وقوع العذاب بالإطلاق أعم من أن يكون في ذلك أو غيره ، ثم أخبر أنه ليس له رافع في ذلك اليوم ، ونفي الرافع أعم من وجود المرفوع في ذلك اليوم وهو العذاب أو عدم وجوده ، وإذا كان العامل فيه أن عذاب ربك لواقع اقتضت الآية إثبات وقوع العذاب في ذلك اليوم ، وفي الآية رد على الطبائعية القائلين بأن هذه السماوات لا تقبل الانفطار ولا الزوال ، بدليل أكد تمور بالمصدر فدل على أنه حقيقة لا مجاز.

فإن قلت : قدم هنا السماء على الجبل ، وعكس في أول السورة فقدم الجبل على السماء ؛ لأنه قدم الطور على السقف؟ فالجواب : بما أجاب به ابن مالك ، في قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [سورة الغاشية : ١٧] الآية ، قال : العادة أن الإنسان إذا أحسن بأمر مهول مخوف فأول ما ينظر إلى جهة فوق ثم ينظر إلى أسفل ، وهذه الآية جرت مجرى التخويف فابتدأ فيها بما إليه الإنسان أولا ، واليوم يحتمل أن يراد به اليوم المعهود والذي هو دورة أو نصف دورة ، والمقدار الحالي من الزمان كما أراد زهير في قوله : وأعلم علم اليوم فيكون المراد مقدار زمن المور والسير ، والظاهر الأول ليكون اليوم أوسع من ذلك يسعه ويسع غيره.

قوله تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ).

بدل من اليوم الأول ، إما بدل شيء من شيء إن كان الأول بمعنى الدورة أو نصف الدورة ، وإما بدل بعض من كل إن كان الأول بمعنى المقدار من الزمان ، ويكون الأول أوسع زمنا من الثاني.

قوله تعالى : (أَفَسِحْرٌ هذا).

٧٧

أي يقال لهم : (أَفَسِحْرٌ) ، والمعطوف عليه مضموم ، والتقدير أنتم مقيمون على إنكار فهذا سحر أم أنتم مقرون أنكم كنتم لا تبصرون.

قوله تعالى : (اصْلَوْها).

صيغة أفعل هنا للإهانة ، قال ابن التلمساني : وفي (اصْبِرُوا) التسوية.

الزمخشري : فإن قلت : لم علل استواء الصبر وعدمه ، بقوله تعالى : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) قلت : لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير ، فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة فلا فائدة فيه ، انتهى ، تقرير السؤال أن المشاهد في الدنيا أن الصابر على البلاء أحسن حالا من الذي لم يصبر ، فمساواة الصبر لعدمه سبب في مدح الصابر لا في التخفيف عليه في العذاب ولا في تشديده عليه ، فأجاب : بأنه قد يتوهم أن الصبر سبب في المكافأة عليه بتخفيف العذاب ، فقال : إنما تجزون عملكم موجب ، ويحتمل أيضا أن يجاب بأن قوله تعالى : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تعليل للحكم بمساواة الصابر لغير الصابر في العذاب ، والسؤال إنما يرد إذا جعلناه تعليلا للمساواة ، وتعليل الحكم بالمساواة لأنا نجد بعض الناس يصيبه الألم فيعظم قلقه ولا يصبر ، وآخر يصبر على الشدائد [٧٠ / ٣٤٦] العظام فيكون ذلك سببا لحقة الألم عنه وهو أحسن حالا من الأول ، فاخبر الله تبارك وتعالى أن هؤلاء عوقبوا بأمرين بالعذاب ، ويجعل صبرهم مساويا لعدم صبرهم في أنه لا فائدة تنشأ عنه ، ومعنى (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاء عملكم ، وفيه من الترك فعلي ، وهي مسألة اختلف فيها في الأصول والفروع.

قال الفخر في المعالم : مذهب المعتزلة أن الترك فعل ويلزم منهم عليه الكفر ، وهو أن البارئ عزوجل يكون الأزل فاعلا فيلزم عليه قدم العالم ، وعد ... (١) محرز في كتاب القيد من ذلك مسائل كثيرة ، وعبر في تعملون بلفظ للتصوير.

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ).

الزمخشري : أي في (جَنَّاتٍ) ، وَأي (نَعِيمٍ) بمعنى الكمال في الصفة ، أو في جنات ونعيم مخصوص بالمتقين ، انتهى ، أراد أنه إذا صدق مقيدا صدق مطلقا ، كما قال المنطقيون في سفينة من حجراتها يصدق عليها سفينة ، وقوله (فِي جَنَّاتٍ)

__________________

(١) بياض في المخطوطة.

٧٨

مجاز لأنهم الآن ليسوا فيها إذ الخطاب للكفار أو للمتقين في الدنيا ، وعطف (نَعِيمٍ) من عطف الصفات ، كقولك : أعجبني زيد وحسنه.

فإن قلت : لم قال هنا : (وَنَعِيمٍ) ، وفي الذاريات (وَعُيُونٍ) [سورة الذاريات : ١٥] ، فالجواب : أنه تقدم هنا ذكر العذاب فناسب تعقيبه بذكر النعيم بخلاف تلك.

قوله تعالى : (وَوَقاهُمْ).

الأرجح كون الواو للحال لأن كونها للحال سلم من تقديم جلب الملائم على دفع المؤلم ، وإن كان المعنى إنهم لا يدخلون النار بوجه فيكون المراد بالمتقين المعنى الأخص والأ ... (١) المراد به الأعم ، أو المراد بالجحيم طبقات من طبقات جهنم.

قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا).

ظاهرة حقيقية وحمله الفخر على التنعيم المعنوي وهو نزعة فلسفية ، وفي الآية سؤال وهو أن الأمر الخارجي مقدم على الأمر التشكيلي ، وجاءت الآية على العكس فقدم فيها التفكه الجاري مجرى الأمر التكميلي على الأكل والشرب الجاري مجرى الضروري ، وجوابه أن المعنى كما تقدم أنهم يخالطون بأن يقال : (كُلُوا) زيادة في تفكههم والأكل حاصل لهم قبل التفكه وهو أعم من أكل التفكه والأكل ضروري.

قوله تعالى : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

نص في صدق العمل على القول والفعل ، كقوله : " إنما الأعمال بالنيات" (٢) ، وجعل ابن عطية الزيادة في الدرجات باعتبار العمل ونفس دخول الجنة فضلا من الله تعالى وهو يحكم ، وهلا كان الأمر بالعكس ، فإن قلت الحديث : " لن يدخل الجنة

__________________

(١) طمس في المخطوطة.

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه حديث رقم : ١ ، وأبو داود السجستاني في سننه حديث رقم : ١٨٨٦ ، والبيهقي في معرفة السنن والآثار حديث رقم : ١٥٦ ، والشهاب القضاعي في الشهاب في الحكم والآداب حديث رقم : ١٠٨٤ ، ١ ، والطبراني في المعجم الأوسط حديث رقم : ٧٢٣٤ ، ٤٠ ، وابن حبان في صحيحه حديث رقم : ٤٩٧٤ ، ٣٩١ ، والحميدي في مسنده حديث رقم : ٣٠.

٧٩

بعمله" (١) هنا معناه نفي استقلال العمل بإيجابه دخول الجنة بل به مع كونه فضلا من الله تعالى.

قوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ).

جاء على هذا الترتيب الوجودي في الدين لأن أهم الأمور على الإنسان الأكل والشرب ، ونص الأطباء على أن الوطء عقب ذلك في غاية ال ....... (٢) للبدن فهم يأكلون ثم يستريحون باتكاء ثم ينالون من أزواجهم ، وقوله تعالى : (عَلى سُرُرٍ) إما على التوزيع أو على كل واحد سرر.

قوله تعالى : (بِحُورٍ عِينٍ).

ابن عطية : قرئ بالإضافة ، والحور هي البيضاء الشديدة بياض أبيض العين والشديدة سوادها ، انتهى. فهو من إضافة الأعم إلى الأخص ومن إضافة الموصوف لصفته ، وفي سورة الأحزاب (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) [سورة الأحزاب : ٣٧] فعدا بنفسه وعد ، أبو حيان : هذا الفعل من أخوات اختار واستغفر ، ذكر ذلك في سورة الأعراف ، وفي آخر سورة يونس.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ).

قال بعضهم : المراد (الَّذِينَ آمَنُوا) : المتقون المتقدم ذكرهم المتصفون بأخص الإيمان لا بأعمه ، ولو كان المراد الأعم لزم الترجيح من غير مرجح ، والثاني باطل فالمقدم مثله بيان لملازمه أن المعنى المجهول عليه للإلحاق وهو الإيمان ، فإذا فرض مساواته للتقوى فليس إلحاق الذرية بالآباء بأولى من العكس.

فإذا قلنا : الإيمان أعم من التقوى لم يلزم الترجيح من غير مرجح لأن الأخص أقوى ، وجوابه : لا نسلم لزوم الترجيح من غير مرجح بل المرجح سبقية إيمان الآباء لأن زمن إسلام الجميع غير متحد وأيضا للآباء شرف التقدم في الوجود وفي جامع التنبيه في سماع أصبغ ، وعن ابن القاسم في ولد المسلمين يولد مخبولا أو يصيبه الخبل قبل أن يبلغ العمل ، قال : ما سمعت فيه شيئا إلا قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) أخرجه الربيع بن حبيب في مسنده حديث رقم : ٧٠٥ ، والدار قطني في الخامس من علل الدار قطني حديث رقم : ٣٢٧ ، وأحمد بن حنبل في مسنده حديث رقم : ٧٢٨٦ ، والطبراني في مسنده حديث رقم : ٦٩٢.

(٢) طمس في المخطوطة.

٨٠