تفسير ابن عرفة - ج ٤

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٤

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٣٩٩

قيل العهن الصوف الأحمر ، وقيل [...] ألوانا ، واحتج هؤلاء بقول زهير :

كأن فتات العهن في كل منزل

نزلن به حبّ القنا لم يحطم

والقنا عنب الثعلب وحبه قبل التحطيم فيه الأصفر والأحمر والأخضر.

ابن عرفة : هو عنب الذئب عندنا ، وقال : لا علم الذات نفت من الشيء ، والعهن الصوف المتنوع المشبه بحب الفتا ، والقنا شجر له حب أحمر شبه ما تفت من العهن الذي يزين به الهودج (١) إذا نزلت بغصون القنا ، وقوله : لم يحطم أراد أنه إذا كسر ظهر له لون غير الحمرة ، وإنما تشتد حمرته ما دام صحيحا.

ابن عرفة : وذكر صاحب فقه اللغة أن البعض لا يصدق إلا على الصوف الملون والمنقوش المتخلخل الأجزاء ، وهو الذي ليست أجزاؤه متراصة ولا ينفصل بعضها من بعض ، فإن فصل موضع شيء هنا وشيء هناك فذاك تفريق لا نفش.

قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ).

ابن عرفة : الفاء إما للاستئناف أو للسبب على وجهين : إما باعتبار الوجوه ، مثل : قاتل زيد فظفر بعدوه ، وإما باعتبار الذكر البعضي ، مثل : نزل بزيد أمر مهول فقتل عدوه ، وسبيت زوجته وسلب ماله ؛ فالأول هنا غير الثاني ؛ لاستحالة كون الشيء سببا في نفسه ، وكذلك هو في هذه الآية ، والموازين إما جمع موزون ، أو جمع ميزان ، فعلى الأول الله زاد الرجحان بخلاف الثاني ، وهل الموزون الصحف أو الثواب المعدة على الأعمال ، وإما على الأعمال أنفسها فيستحيل وزنها ؛ لأنها أغراض قد ذهبت ، قال : وظاهر كلام ابن عطية أن المؤمنين لا بد أن ترجح [٨٣ / ٤١٧] كفة حسناتهم ، لكن من رجحت منهم حسناته على سيئاته لم يدخل النار بوجه ، ومن ساوت حسناته سيئاته اقتص منه بقدر سيئاته ثم يدخل الجنة ، والكفار ترجح سيئاتهم على حسناتهم ، قال : والمشهور عند أهل السنة أنه ميزان بكفين وعمود.

قال ابن عرفة : والآية عندي من حذف التفاؤل أي (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) ومرتبه خالية ، (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) فهو في عيشة كارهة وأمه هاوية (٢) ، قال :

__________________

(١) الهودج : الظعينة ، وهي للإبل التي عليها الهوادج كان فيها نساء أو لم يكن ، والظّعينة أيضا المرأة ما دامت في الهودج فإن لم تكن فيه فليست بظعينة.

(٢) أمه هاوية : أي ساقطة في النار ، مستقرة النار. القاموس المحيط مادة : (ه وى) ، لسان العرب (ه وى) ، مختار الصحاح (ه وى).

٣٤١

ومن الأظهر أن ما موصولة تقتضي وجود الموضوع للحكم عليه ، والشرطية لا تدخل على وجوده ، ولا على إمكان وجوده ، ومعنى أمه هاوية : إما أنها أم لهم مأوى ، وإما أنها بجهنم وهو الأظهر ، لقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) قال : وعلى الأول يعود الضمير على المفهوم من السياق أي ما هي منزلته ووصفها بحامية إشارة إلى التفاوت الذي بينها وبين نار الدنيا ، فنار الدنيا بالنسبة إليها ساكنة.

٣٤٢

سورة ألهاكم التكاثر

قوله تعالى : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ).

ابن عرفة : الشغل : هو الإقبال على الأمر الدنيوي بالبدن والقلب بحيث يذهل عن الأثر المصلح جملة ، قال : (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) [سورة الفتح : ١١] فلا يحسن اعتذارهم بذلك إلا إذا فهم أن قلوبهم لم تزل عامرة بالجهاد راغبة فيه ، ابن عرفة : وهذا خبر في معنى النفي وهو قليل في الخبر المثبت ، والأكثر في الخبر المثبت كونه يعني الأمر ، مثل (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ) [سورة البقرة : ٢٣٣] ، وفي الخبر النفي كونه بمعنى النهي (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [سورة الحديد : ٧٩] ابن عرفة : وعادتهم يقولون : هل هذا من باب لأرينك؟ ههنا ؛ لأن الفعل أسند لغير فاعله بخلاف : لا تعد يا سيدي كذلك هنا ليس المنهي التكاثر ، وإنما المنهي المفعول.

قال : وعادتهم يجيبون بأن ذلك إنما هو في الفاعل الذي يمكن وقوع الفعل منه ؛ لأن وقوع الرؤية هنالك من كل واحد منهما ممكن حقيقة ، وأما هنا فالتكاثر معنى لا يمكن وقوع الفعل منه بوجه ، وانظر ما تقدم في التغابن (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) [سورة التغابن : ٩] وفي الغاشية (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) [سورة الغاشية : ١١].

قوله تعالى : (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ).

إن أريد تفاخرهم بكثرة أحياء وأمواتا فماتوا حتى داخل فيما قبلها ، وإن أريد تفاخرهم بكثرة المال إلى أن ماتوا فما بعدها غير داخل ، وزيارة القبور محمودة ، وكان بعضهم يقول إذا رأيت الطالب في ابتداء أمره يكثر من زيارة القبور ، فاعلم أنه لا يفلح لاشتغاله عن طلب العلم بما لا يجدي شيئا.

قوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ).

قيل لابن عرفة : نص ابن مالك وغيره أن سوف أبلغ من التنفيس بالسين ، فكيف يفهم من قول ابن عبد العزيز بعث بالقوم للقيامة ورب الكعبة ، فإن الزائر منصرف غير مقيم ، فقال : لا يتنافيان والتنفيس يصدق بمطلق زمن موصوف بالطول.

أو نقول : سوف للتحقيق والعطف بثم إما تأكيدا.

٣٤٣

قال الزمخشري : ويكون التأكيد بالثاني أبلغ ، وإما لاختلاف المعنى فالأول علمهم بالبرزخ ، والثاني علمهم بالقيامة ، وإما لاختلاف العلمين فالأول في الكفار والثاني في العصاة ، نقله ابن عطية ، وضعف ابن عرفة الأول ؛ لأن النحويين فرقوا بين العطف والتوكيد اللفظي في الجمل ، كقول المؤذن ، الله أكبر الله أكبر وليس فيه ، وضعف الأخير لقول الزمخشري : إن الإتيان مبالغة في التأكيد ، وأن الثاني أبلغ من الأول فلو قال الأول في العصاة والثاني في الكفار لكان صوابا.

قوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ).

كلا زجر لما تقدم فيتوقف قبلها ، ابن عرفة : ويحتمل أن يكون زجرا لمعنى لما بعد عاد لا سيما عند من يقول : أن لو أن نفيها إيجاب وإيجابها نفي ؛ لأن المعنى : لو تعلمون علم اليقين لانزجرتم (١) فيدل على أنهم لم يعلمون ذلك وغفلوا عنه فزجرهم على عدم العلم.

قوله تعالى : (عِلْمَ الْيَقِينِ).

من إضافة الصفة إلى الموصوف ، ابن عرفة : فيه عندي دليل على أن العلوم الحادثة متفاوتة ، وهي مسألة خلاف بين الأصوليين ، وهما مسألتان في أصول الدين ، فقيل : إن العلوم كلها متساوية ، وقيل مختلفة ، ومنهم من جعل الخلاف لفظا ، وقال بعضهم : أما في دلالة العلم فلا تفاوت بينهما أصلا ، وأما بالنسبة إلى الطرق المحصلة إلى العلم فلا يشك في ......... (٢) ضروري ونظري فالضروري لا يعرض له وهم ولا تشكيك ، والنظري يعرض فيه التشكيك والمخالفة في الاستدلال ، فهذا إذا كان راجعا إلى الآخرة فهو ضروري ، وهو أقوى العلوم فلذلك قال : علم اليقين ، وقد تقدم في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) [سورة البقرة : ٤٦] (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) [سورة التوبة : ١١٨] (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [سورة الحاقة : ٢٠] وتقدم أنه إن أريد نفس وقوع ما تعلق به الظن وهو بمعنى العلم ، وإن أريد بالظن وقته فهو على بابه.

قوله تعالى : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ).

__________________

(١) الزجر : هو الطرد والنهر والمنع. القاموس المحيط مادة : (ز ج ر) ، لسان العرب (ز ج ر).

(٢) بياض في المخطوطة.

٣٤٤

هذه رؤية البصرية فإن كانت للمؤمنين فهو أعم من المعاينة فقط والدخول ، وإن كانت للكافرين فهي دخول ، والثاني للكافرين ولذلك عطفه بثم ، وإن كان الأول للجمع فيكون بالثاني للكافرين ولمن يدخلها من عصاة المؤمنين ، ويجيء فيه تفكيك الضمائر ، وتقدم الفرق بين علم اليقين وعين اليقين ما هو الأبلغ فيهما وإن كان الثاني أبلغ.

قوله تعالى : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ).

إن كان سؤال التوبيخ للكافر فظاهر تأخيره عن رؤية الجحيم ؛ لأنهم يسألون ، فهنا قال تعالى (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [سورة المدثر : ٣٩ : ٤٢] ، وإن كان سؤال حقيقة فيكون بعد رؤية الجحيم الرؤية التي هي عرض ومعاينة لا بعد الدخول كما قال الزمخشري عن نعيم.

٣٤٥

سورة والعصر إن الإنسان لفي خسر

ابن عرفة : يحتمل أن يكون الإنسان عاما استثنى منه الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبقي ما عداهم مسكوت عنه ، أو يكون ذكر الكافر والطائع وبقي العاصي ، أو يكون العاصي متصفا بالخسران ؛ لأن مذهبنا وجوب إنفاذ الوعيد في طائفة من المؤمنين ، أو يكون بالإنسان الكافر والخسران في الدنيا ، إما باعتبار الإقبال عليها إقبالا موصوفا بالخسران ، وإما في الآخرة ، فإن قلت : لم كرر تواصوا مع أن السورة قصيرة فالأصل فيها الاختصار ، فالجواب من ثلاثة أوجه :

الأول : كان بعضهم يقول : سعادة الإنسان في قوتيه العلمية والعملية ، قال (تَواصَوْا بِالْحَقِ) راجع للقوة العلمية الاعتقادية ، وهو معرفة الأحكام الشرعية بالأدلة والبراهين أو معرفتها تقليدا بناء على أن الحاصل علم ، والتواصي بالصبر راجع للعمل ، للحديث : " حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات" (١) وهما شيئان متغايران.

الثاني : قال : وكان بعضهم يقول : الأمران راجعان للقوة العملية ، لكن التواصي بالحق راجع لامتثال المأمورات ، والتواصي بالصبر راجع لاجتناب الشبهات.

الثالث : قال الزمخشري : (تَواصَوْا بِالْحَقِ) أي بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره ، وهو الخير كله من توحيد الله وطاعته وتواصوا عن المعاصي والصبر على الطاعة وعلى البلاء.

وقوله : لا يسوغ إنكاره ، أي عقلا على مذهبه ، قلت : وقيده من شيخنا ابن عرفة ....... (٢).

__________________

(١) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ٤ / ٢١٧٤ (٢٨٢٢) ، وابن حبان في صحيحه ٢ / ٤٩٢ (٧١٦) ، والترمذي في سننه ٤ / ٦٩٣ (٢٥٥٩) ، والدارمي في سننه ٢ / ٤٣٧ (٢٨٤٣) ، واحمد في مسنده ٢ / ٣٨٠ (٨٩٣١). وقال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه صحيح.

(٢) سقط في المخطوطة.

٣٤٦

سورة أرأيت الذي يكذب بالدين

قال ابن عرفة : الخطاب للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، أو لكل واحد من الناس ، وذكروا إنما نزلت في أبي سفيان ، وخصوص السبب لا يمنع من قوم الحكم ، وإنما قال (يُكَذِّبُ) بالمضارع مع أن السياق يدل على أنه ماض لأمرين : إما للتصوير حتى كأنه أمر مشاهد في الحال ، وإما إشعارا لتأكيد إنكار ذلك لما منع الشرع من فعله ، فكأنه غير واقع ، فإن قلت : قوله تعالى : (يُكَذِّبُ) يتعدى بنفسه ومفعوله متأخر عنه ، فلم عدي إليه بحرف الجر ولا يصلح أن تكون الباء سببية ، والمفعول مقدر أي يكذبك أو يكذب الرسول بسبب الدين بل بسبب الإخبار بالدين فالدين نفسه ليس هو سببا في التكذيب بل السبب الإخبار به أو الدعاء إليه ، فالجواب : إما بأن الباء ظرفية أو الفعل مضمن معنى التساوي ، أي روى في الدين أو المفعول محذوف والمجرور على تقدير مضاف كما قلتم.

قوله تعالى : (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ).

الدع : إما الترك أو الدفع بعنف ، وهنا قالوا في الواجب والمندوب : أما الواجب فظاهر ؛ لأن الذم على الترك من خصائص الوجوب ، وأما المندوب فمشكل ، قيل لابن عرفة : لا إشكال فيه إذا فسرنا الدع بالدفع بعنف.

قوله تعالى : (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ).

الطعام إما اسم فهو على حذف مضاف أي على إطعام طعام المسكين إضافة استحقاق والمسكين إذا كان أحوج [٨٣ / ٤١٨] من الفقير ، فلا يتناول الفقير ، وإن كان الفقير منه يتناوله اللفظ من باب أحرى ، قال ابن عرفة : وهذا ينظر إلى قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " الصدقة برتها".

قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ).

قال الزمخشري : يتركونها حتى تفوتهم أو يصلونها من غير خشوع ، لما يكره من العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب والالتفات ، قال ابن عرفة : المراد بقوله (ساهُونَ) تركها بالكلية إذ لو تركها تركا كليا لما صدق أنهم مصلون فيما مضى وتاركون في الحال ، قيل : لا اسم أو لما اسم الفاعل حقيقة في الحال بلا خلاف ، واختلف فيه باعتبار المعنى إنما الخلاف في اسم الفاعل إذا أريد به الزمان ، وإنما إذا استعمل مجردا من الزمان محكوما به فلا حذف في صدقه على الماضي حقيقة كما يصدق على الحال والمستقبل.

٣٤٧

قوله تعالى : (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ).

الفاء إما جواب شرط مقدر أي إذ لم تعرفه بهذه المقالة فاعرفه بدعه اليتيم ، وإما عاطفة عطف الجمل أو عطف المفردات.

قال الزمخشري : وذلك إما عطف ذات على ذات أو صفة على صفة والموصوف محذوف ، والتقدير : أرأيت الإنسان الذي يكذب بالدين فذلك الإنسان الذي يدع اليتيم ، وإن كان من عطف الذوات كان التقدير : أرأيت الشخصين اللذين أحدهما يكذب بالدين ، والآخر يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين ، وتعقبه أبو حيان بأن ذلك معربة عن الشخص الذي يدع اليتيم فكيف يشار به إلى الشخص الآخر المكذب بالدين ، وهو غيره فيتعين أن يكون الذي يدع اليتيم هو الذي يكذب بالدين ، وأجاب شيخنا ابن عرفة عن الزمخشري بأن الإشارة هنا إلى لفظ الاسم دون معناه لا يعود الضمير على اللفظ دون المعنى ، مثل : عندي درهم ونقود.

قال النابغة :

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامتنا ونصفه فقد

وأنشد سيبويه :

أرى كل قوم قارنوا قيد محلهم

ونحن حللنا قيده فهو سارب

جعل ابن عصفور ذلك كله عائدا على اللفظ فقط أي عندي درهم آخر فاستقدم أو وانتقد الناس عليه ، قال : ويحتمل أن يريد ونصف مثله ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فيحتمل أن يكون أشار إلى لفظ الإنسان المكذب بالدين والمراد إنسان آخر.

قال ابن عرفة : وفي الآية معنى آخر حسن وهو أن الإنسان له ثلاثة أشياء يحمد على استخدامها في أعمال البر والرشاد ، ويؤمر على استخلاصها في ضد ذلك وهي : العلم ، والقول ، والفعل ؛ فالعلم يوصل إلى التصديق بوحدانية الله تعالى ، وأنه ليس في مكان ولا زمان ، وغير ذلك مما يجب له ويستحيل عليه ، وإن من ذلك جنة ونارا ، وثوابا وعقابا فهذا معلوم بالفعل أو بالعقل.

والفعل أن يفعل الخيرات والقول بأن يأمر بها ويحض عليها ، وقد وضعوا في الآية بعكس الأمور الثلاثة فكذبوا بالحساب والعقاب والثواب فهذا ودع اليتيم فعل ؛ لأنه الضرب بعنف ، ولم يحض على طعام المسكين فهذا القول ؛ يقرأ الحسن بفتح الدال وتخفيف العين ، ابن عرفة : وهذا أبلغ من الذم ؛ لأنهم إذا ذموا على ترك اليتيم

٣٤٨

وعدم إعطائه المال ، فأحرى أن يذموا على دفعه بعنف وضربه ؛ لأن يدع بالتشديد يقتضي الدفع بعنف.

قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ).

عبر بالفعل المقتضي للتقاطع والتجدد شيئا بعد شيء ؛ لأن المراءات إنما يكون للناس الناظرين له ، وهؤلاء يلامون أو يلاقون التكلف في كل الأوقات بل في أقلها ؛ لأنه في الليل وفي بعض النهار في داره لا يراه أحد ، بخلاف (ساهُونَ) فإن ترك الصلاة ملازم له فلذلك عبر فيه بالاسم فهذا مفاعلة.

قال الزمخشري : فالمراد في الناس عمله وهم يرون الثناء عليه والإعجاب به ، قيل لابن عرفة : أما ذم الذي يرائي الناس عليه فظاهر ، وأما ذم القاصر الذي يثنون عليه فمشكل وظاهر المفاعلة ترتب الذم على الجميع ، فأجيب بوجهين : إما بأن المفاعلة تستلزم ذم الفاعل لا ذم المفعول له كقوله" من قاتل عليا فهو مذموم" ولا يلزم منه طائفة على الذين من حزبه ونفر الذي يضارب زيد فلا يلزم مجيء زيد.

الثاني : أن يقول الذم يتناول من يثني على المرائي ويشكره ويشكوه وهو يعلم أنه مرائي في عمله وعبادته ، أما من يثني عليه وهو يظن أنه مخلص في عبادته فلا ذم عليه ، قيل لابن عرفة : والمرائي مذموم مطلقا سواء أثنى عليه أحد وتعجب من عمله أو لم يثن ؛ لأن الذم إنما هو على قصده ونيته ، قال ابن عطية : أن يثني عليه فلذلك كانت مفاعلة ، [...] الأجزاء المراءاة حقيقة إنما هي بالفعل وفي المعنى المقصود ولم يتصفا هنا من ذلك إلا أنهما اتفقا في نفس القصد لا في المعنى المقصود ، انتهى ، قلت : وتقدم لنا عند ابن عرفة في المتمة الأولى في هذه الصورة ما نصه : الكذب عبارة عن عدم مطابقة الخبر مدلوله ويستعمل في الماضي والمستقبل خلافا لابن قتيبة فإن الخبر بالمستقبل غير المطابق [.....] خلفا ، وهذه الآية رد عليه ؛ لأن الذي هو المجازات بالثواب والعقاب في يوم القيامة ، وإنما قال : يكذب بلفظ المضارع ، ولم يقل : كذب ؛ لأن فعل الحال يؤتى به عند تعظيم الأمر وتهويله فيقتضي ذلك الشيء في الذهن حتى كأنه كالحاضر بين يدي المخبر به ، قال تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [سورة الحج : ٦٣] ولم يقل : فأصبحت ، وقال هنا : يكذب بقبح مقالته وعظمها.

قوله تعالى : (عَنْ صَلاتِهِمْ).

٣٤٩

معمول الساهون وتقديم المعمول إما لإفادة الحصر قاله حازم أو لأجل رؤوس الآي لأن الفواصل فيها بالنون ولواو ولا يمكن الحصر هنا لاقتضائه أنهم ليسوا ساهين إلا عن صلاتهم وليس كذلك.

قوله تعالى : (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ).

والماعون الزكاة أو الدلو والحبل والسرجة وهي الزناد يطلبه منك الجار فتمنعه إياه ، قال ابن عرفة : وقد يكون إعارة الماعون واجبة ومندوب إليها مثل الأول : إعارة الإبرة لخياطة الجائفة وهي غيرها من الجروح التي تكون بحيث لو ترك صاحبها لمات ، وذكر القرطبي هنا وابن ماجه عن عائشة ، قالت : " يا رسول الله ، ما التي لا يحل منعه ، قال : الماء والنار والملح ، قلت : هذا الماء فما حال الملح والماء ، قال : من أعطى ملحا فكأنما تصدق بما يطيب به ، ومن أعطى نارا فكأنما تصدق بما يطبخ به ، ومن أعطى ماء حيث يوجد فكأنما عتق سبعين نفسا ، وإن كان حيث لا يوجد الماء فكأنما أحيا نفسا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا".

٣٥٠

سورة إنا أعطيناك الكوثر

قال ابن عرفة : انظر هل لهذا خبرا وانشاء ، فإن قيل : الإنشاء هنا مستحيل ؛ لأن كلام الله تعالى القديم الأزلي ، فالجواب أنه باعتبارهم متعلقة ، فإن التعلق فيه خلاف هل هو قديم أو حادث؟ ، قلنا : التعلق التميز في حادث ، وأما التعلق الصلاحي فيصح هنا ، وكذلك الفاعل هنا تشريفا للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم فهو أبلغ من قوله تعالى : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [سورة طه : ٣٦] بحذف الفاعل.

قوله تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ).

الفاء للتسبيب ، أي بسبب ذلك اشكر ربك وصل له ، والشكر يكون بالقول وبالفعل ، ولذلك يجب تخصيصه بالصلوات الواجبة ولا سيما إذا قلنا إنها صلاة الفجر يقع بجمع ، حكاه الزمخشري عن ابن عطية قال : وقيل صلاة العيد والأضحية ، وقيل : جلس الصلاة والنحر وضع اليمين على الشمال عند النحر ، قال ابن عطية : أمر بالصلاة على العموم ففيه المكتوبات بشرطها والنوافل على يديها ، قلت : وتقدم لشيخنا ابن عرفة في الختمة الأولى في عام تسع وخمسين وسبعمائة في شهر شوال عن [...] نصه قوله فصلّ الفاء للسبب ولا تكون عاطفة ، فإن قلت للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم لا يصل بسبب أن الله الكوثر بل يعبده لذاته ، وأنه أهل لأن يعبد ، فالجواب : أن المعنى فصل لأن الله أكرمك وأعطاك [...] خيرا كثيرا ، وليست السببية منحصرة في هذا بل بعبده لهذا ، ولكونه أهل لأن يعبد ، ولا تكون الفاء عاطفة ؛ لأنك إن عطفتها على الجملة الاسمية لم يصح إذ لا يصح عطف الفعلية على الاسمية فإن عطفها على الفعلية لم يصح أيضا إذ لا يصح عطف الطلبية على الخبرية.

قوله تعالى : (لِرَبِّكَ).

التفات بالخروج عن التكلم إلى الغيبة ، إذ لم يقل فصل لنا ، ويحتمل أن يريد بالصلاة المفروضة والنافلة فيكون من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ؛ لأن صيغة الفعل حقيقتها للوجوب وهي للندب مجازا.

قوله تعالى : (وَانْحَرْ).

يريد الضحايا والهدايا ، فإن قلت : ثم قد جعلت للندب ؛ لأن الأضحية سنة فكيف يعطفها على صل وهي للوجوب عندنا ، والواو تشترك في الإعراب والمعنى ،

٣٥١

قلت : اختلف في الأضحية ، قد قيل : إنها واجبة سلمنا أنه مندوب إليها لكن نقول : [٨٣ / ٤١٩] الواو تشترك في معنى القائل خاصة تقول : زيد العاقل وعمرو قائمان ، فلا يلزم منه أن يكون عمرو عاقلا ، وإنما تركت بينهما في القيام خاصة ، وكذلك هنا تركت بينهما في مطلق الأمر بهما فقط ، وبقي نظر على أن الأصوليين اختلفوا في الأمر إذا عطف على أمر وكذلك قال ابن عرفة في كتاب الطهارة : لما ذكر الخلاف في النوم هل هو حدث أو سبب في الحدث.

٣٥٢

سورة قل يا أيها الكافرون

قال عرفة : القرآن كله مأمور بقوله وتبليغه وتخصيص ما خصص منه بالأمور بقوله (لَا) قرين إما تعظيما لأمره أو تهويلا لحاله واعتناء بشأنه ، وإما لأنه هو جواب عن سؤال مقدر كما قال (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) [سورة طه : ١٠٥] (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [سورة الإسراء : ٨٥] فهذه الآية على أن الكفار طلبوا من النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم أن يعبد آلهتهم ويعبدوا هم آلهتنا فقال : " معاذ الله أن نشرك بالله شيئا" ، قالوا : ما [...] نصدقك ونعبدك [...] فنزلت السورة.

قوله تعالى : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ).

هذه حقيقة وصفية ، أي لا أعبد ما أنتم عابدونه من حيث كفارا ، قيل لابن عرفة : أنهم كانوا يشركون بالله ، قال (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [سورة الزخرف : ٨٧] فهل عابدون الله؟ قال : لا يصدق عليهم ذلك ، وإنما المعنى لا أعبد ما تعبدونه من حيث إنكم كفار تشركون بالله ، ولا تؤاخذونه ، بل اعبدوا الله عبادة توحيد واختصاص ، قال : واختلفوا هل هذا التكرار تأسيس وتأكيد؟ فمنهم من قال : أن المراد بالأول : الاستقبال ، وبالثاني : الحال فهو تأسيس ، وقيل : هما معا للاستقبال ، وهو تأسيس ؛ لأن الأول تضمنه نفي العبادة منه ، والثاني تضمن نفيها عنهم ، ونفي الشيء عن الشيء ليس هو نفيه عن غيره ، وأجاب بعضهم بأنه تأكيد لا يستلزم الأول له ؛ لأنه نفى عنه الذي سيعبدونه في المستقبل عن العموم ، فيتناول كل معبوداتهم في المستقبل على الإطلاق ، وقد يتوهم أنهم يسلمون في المستقبل ، فعبادتهم في المستقبل يلزم منهم عدم إسلامهم في المستقبل ، وأنهم لا يعبدون في المستقبل الأصنام بقوله (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) تأكيد بهذا الاعتبار إلا أنه ليس صريح بل مستفاد من اللزوم ، فإن قلت : الجملة الأولى قابل فيها مضارعين بمضارعين ، والجملة الثانية قابل فيها ماضيا بمضارع فما [...] في ذلك ، وأجاب الزمخشري : فيه إساءة أدب ، قال : لأن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم لم يكن في ابتداء أمره يعبد الله عزوجل ، والكفار لم يزالوا في بدايتهم يعبدون الأصنام ، ورده شيخنا ابن عرفة ، بأن أكثر الأصوليين قالوا بأنه لم يزل متشرعا بشريعة إبراهيم عليه‌السلام ، قال : وإنما الذي عادتهم يجيبون به : أن عبادة الأصنام لما كانت مذمومة شرعا أتى بلفظ الماضي الذي وقع وانقطع ، وعبادة الله تعالى لما كانت مطلوبة فرغب فيها شرعا ، أتى بها بلفظ المضارع الذي وقع ودام إشعارا بالحض على هذه ، وبالنهي

٣٥٣

عن تلك ، انتهى كلام شيخنا في هذه الختمة ، وذلك في أول ذي القعدة في سنة ست وسبعين وسبعمائة ، وتقدم لنا عنه في الختمة الأولى فيها سؤالا عام تسعة وخمسين وسبعمائة ما نصه قوله تعالى : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) فيه سؤال لم يذكروه وهو أنه نفيت علة العبادة عنه صلّى الله عليه وعلى آله وسلم بلفظ الفعل ، ونفيت عنهم بلفظ الاسم المقتضي للتبري والممانعة ، والفعل يقتضي التجدد والانقطاع فكان ينبغي العكس ، قال : والجواب : أن ذلك في الثبوت ، وأما في النفي فلا فعل أبلغ ، ألا ترى أن قوله (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) لا الصرف يؤسف عبادتكم ولا أنتم عابدون معبودي ، فيكون بمعنى المعنى على ما قال الزمخشري ، وأجاب طلبة ابن عرفة بجواب آخر ، وهو لما عزم تفضيل النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم واستدامته على دينه ولم يحتج إلى نفي عبادته معبودهم عنه بلفظ الفعل ، ولما كان الأمر في حق الكافر محتملا للدوام على دينهم أو الإسلام ، بعد الله الإسلام عنهم بلفظ الاسم المقتضي للمبالغة واللزوم ليزول الاحتمال الذي يطرق بالاستماع ، قال ابن عرفة : واختلف نقل الزمخشري ، وابن مالك ، فقال الزمخشري : في أن لا مخلصات الفعل العقل للأسماء أن ما من مخلصاته للحال ، فقال ابن مالك : إنما الأغلب فيها الاستقبال وقد تخلص للحال ، ابن عرفة : وقول الزمخشري أصوب ؛ لأنه إذا تعارض عمل الكلية الواحدة على الاشتراك والانفراد فحملتها على الانفراد أولى.

قوله تعالى : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ).

أطلق [.....] من يعقل منهم من جعلها مصدرية ، أي عابدون عبادتي ، ومنهم من قال موضوعة موضع الصفة ، أي عابدون الحق الذي أنا أعبده ، لكن رأى زيد الشجاع ؛ فإما أن يقول : رأيت رجلا شجاعا ، أو يقول : رأيت الشجاعة فتضعها موضع الموصوف.

قوله تعالى : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

جعل الخطاب في أول السورة معلقة راجع للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، لكون أصل السورة خطابه ، وختمها به أيضا.

٣٥٤

سورة النصر

قوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ).

قال الزمخشري : إذا منصوبة بفتح ، وهو لما يستقبل والإعلام بذلك قبل كونه من إعلام النبوة ، قال ابن عرفة : أما قوله إنها منصوبة فرده عليه أبو حيان لأجل الفاصل بالفاء ، وهي مانعة من عمل ما بعدها فيما قبلها ، ونص ابن السيد في شرح آداب الكتاب على [...] ، واحتج بقول الشاعر :

إذا مات من بني تميم

[...] أن يعني مجيء مراد

قال ابن عرفة : والمعنى يدل على حمل سبح فيها ؛ لأنه إما أمر بالتسبيح وقت النصر ، قلت : وكذا قوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) [سورة النساء : ١٠٢] ، قال : وقوله الإعلام بذلك قبل كونه ، إن قلت : قبل كونه كان يحتمل الوقوع هلا عبر عنه بأن ، قلت : لما كان محقق الوقوع عبر عنه بإذا ، قال : وهي المجيء حقيقة ، فيكون مجازا في الإسناد وبمعنى الحصول فيكون مجازا في الأفراد ، وهو إلا سوف ، لأن الأول مختلف فيه عند الأصوليين.

قال ابن عطية : وقرأ ابن عباس إذا جاء النصر والفتح.

قال الزمخشري وقرأ ابن عباس : إذا جاء فتح الله والنصر ، قال ابن عرفة : المشهور أصوب ؛ لأن النصر سبب في الفتح ، والأصل تقديمه عليه.

قال الزمخشري : في قول النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم" أجد نفس ربكم من قبل اليمن" (١) يريد رحمة ربكم.

وعن الحسن لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم مكة أقبل العرب بعضهم على بعض ، قالوا : إما إذا ظفر بأهل العرب فليس له يدان ، أي فليس بالحرم يدان ، قيل لابن عرفة : نصر ربك هذا سبب لاقتضائه الرحمة ، فقال : اسم الجلالة هو الأصل ، وما ورد على الأصل فلا سؤال فيه.

قوله تعالى : (فِي دِينِ اللهِ).

هو الإسلام ، قال تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [سورة آل عمران : ٨٥] ، وقال (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [سورة آل عمران : ١٩] والمبتدأ

__________________

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط ٥ / ٥٧ (٤٦٦١) ، وفي مسند الشاميين ٢ / ١٤٩ (١٠٨٣) ، وأحمد في مسنده ٢ / ٥٤١ (١٠٩٩١) ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٥٦. وقال : رواه أحمد ورجاله رجال شبيب ، وهو ثقة.

٣٥٥

عندهم لا يكون إلا أعم من الخبر أو متساويا ، فلا يسمى غير الإسلام دينا ، ولا إسلاما بعد نزول هذه الآية ، قال تعالى (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) [سورة النحل : ١٢٠] مسلما فقال : المراد الإسلام اللغوي ، وهو لمجرد الانقياد وليس المراد الشرعي بوجه ، أو يقال : إن السؤال غير ما قيل ؛ لأنه إنما سماه مسلما على مقتضى شريعته ، وقد كان دينه إذ ذاك يسمى إسلاما ، ولذلك قال (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي من ذلك إما فلفظ التسبيح ، أو يجعل على التعزية والفاء للمصاحبة أو للسبب ، ابن عرفة : فإن قلت : الشكر لا يكون إلا في مقابلة النعمة ، والحمد إما قسيمه أو أعم منه ، والنصر والفتح المنصوص عليها نعم عظيمة ، فهلا قيل : فسبح بشكر ربك؟ فالجواب أن الحمد صفة من صفات الذات الراجعة لها ، وحمد الله لذاته أولى من حمده لفعله ، كما أن عبادة الله تعالى لذاته أولى من عبادته لإنعامه ، فأمر النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم بأشرف الأمور ، وهو أن تسبيحه مصاحبا لحمده المتعلق بذاته ؛ لأنه أهل لأن يحمد ، والمراد بالتسبيح خاص بالنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم من جعل النصر والفتح خاصين له ، وأما من جعلهما تامين في كل أمر ؛ فالخطاب أيضا بذلك لكل من انتصر وافتتح البلاد.

وقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْهُ) إن أريد به كل إنسان فهو على حقيقته ، وإن أريد النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم فهو على معنى يليق به باعتبار الانتقال من مقام إلى مقام أعلى منه.

قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً).

ولم تزل والتواب إما صفة فعل أو صفة معنى ؛ لأنه إن أريد به الذي يخلق التوبة لعباده ، فهو صفة فعل ، وإن أريد به القبول والصفح عن الجرائم المتقدمة فهو حكم شرعي ، والحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل الاقتضاء والتخيير ، وخطاب القديم الأزلي فيرجع إلى صفة المعنى فهو فعلي أو قولي معنوي يصح الأمران ، وقال الزمخشري : إن كان في الأزمنة الماضية مثل خلق المكلفين توابا عليهم إذا استغفروه.

[٨٤ / ٤٢٠] قال ابن عرفة : وهذا جار على مذهبه ؛ لأنه ينفي ما قلنا ولا يثبته ، وقال الإمام فخر الدين الخطيب في شرح الأسماء الحسنى : توبة العبد عبارة عن عوده إلى الإحسان اللائق بالربوبية ، قال : وقال الخطابي : التوبة تكون لازمة ومتعدية ، يقال : تاب الله على العبد أي وفقه للتوبة ، كما قال تعالى (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) [سورة التوبة : ١١٨] ، ويقال : تاب الله عليه ، أي قبل توبته ، وهي من تسمية الشيء باسم قلائقه يلائمه.

٣٥٦

سورة تبت يدا أبي لهب

ولم تب (١) يدا أبي لهب؟ ؛ لأن اليد من محل القوة والتكسب ، فإسناد التب إليهما يستلزم تباب الجميع ، بخلاف ما لو قيل : تب أبو لهب لاحتمل أنه تب لتوب ولده أو جاريته أو ضاع بعض ماله ، ثم قال (وَتَبَ) لأحد معنيين : إما لنفي احتمال أن يكون تب يداه فقط ، وإما لتحقيق وقوع ذلك حتى كأنه موجود في الحال.

قال الشاعر :

جزى ربه عني عديّ بن حاتم

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

قال الزمخشري فيها قوله تعالى : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ) تقديم المجرور إشارة إلى أنه هو المقصود الأعم بالنصر ، قيل لابن عرفة : وما يحتمل أن يكون نافيها واستفهامه في معنى النفي ، فقال : كونها نافية أجود ؛ لأن الاستفهام في معنى النفي يقتضي أن المخاطب به توافق ، والمنقول في السير : أن ذلك لم يقع حتى يوافق المخاطب عليه ، وإنما توعد بوقوعه في الآخرة هو نفي حقيقة ، وقال هنا ما أغرب ماله ، وقال بلفظ الماضي : وفي سورة الليل (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) [سورة الليل : ١١] بالمضارع ، فالجواب أنه سابق إلى تحقيق وقوع ذلك ، قلت : وأيضا فهو في سورة الليل معطوف على جملة مستقبلة وهي (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) [سورة الليل : ٧] ، أو معنى لجملة مستقبلة ، وهنا أتى بجملة ماضية فناسب فيه المعنى.

قوله تعالى : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ).

هذا إما تفسير لتبت ، أو زيادة في ذمه ، والنفي عليه ؛ لأنا إن كان التب أعم يشمل دنياه وآخرته ، وباعتبار تقديمه بالنار في الآخرة فهو تفسير ولذلك أتت الجملة غير معطوفة ، وإن كان التب في الدنيا أو في الآخرة على الجملة فهو تأسيس ، وبيان ، ويكون خسرانه باعتبار ما يناله في عرصات (٢) القيامة من الأهوال.

قوله تعالى : (ذاتَ لَهَبٍ).

__________________

(١) التب : الهلاك. القاموس المحيط مادة : (ت ب ب) ، لسان العرب (ت ب ب).

(٢) هي كل بقعة بين الدور الواسعة ليس فيها بناء. القاموس المحيط مادة : (ع ر ص) ، لسان العرب (ع ر ص) ، مختار الصحاح (ع ر ص).

٣٥٧

تعظيم لها ، فهو أبلغ من لو قيل : ملتهبة ، قال ابن عرفة : احتج بها الأصوليون على جواز تكليف ما لا يطاق ؛ لأن أبي لهب مأثور بأن يؤمن بالنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم بكل ما جاء به ، ومن جملة ما أمر به إيمانا إجماليا وإنما يلزم تكليف ما لا يطاق لو كان مأمورا بأن يؤمن به بكل ما جاء به إيمانا تفصيليا ، فالأمر بالإيمان هو مطلق إجمالي يصدق ببعض الصور ، وإخباره له بأنه لا يصدقه ليس من تلك الصور من صدق النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم في كل شيء وكذبه في شيء واحد فهو كافر بإجماع ، فصح أن أبي لهب كافر مكذب له ولو في بعض الأشياء دون بعض ، ولا يلزم التناقض ، قلت : ولما ذكر ابن التلمساني في شرح المسألة الرابعة عشر من باب الأوامر ذكر الاحتجاج بهذه الآية على وقوع تكليف ما لا يطاق ، قال ما نصه : واعترض بمنع ورود التكليف له على هذا الوجه ، ويفتقر إلى نقل قاطع ، قالوا : وإنما كلف أن يؤمن به وهو مؤمن ، والله أعلم نبيه عليه‌السلام أنه لا يؤمن كما أعلم نوحا عليه‌السلام فيمن تكليفه لقومه وأمر أمراءهم أنه لم يؤمن به من قومه إلا من قد آمن ، قلت : وعبر ابن عرفة مرة أخرى عن الجواب الأول بأنه إنما يلزم التناقض أو كان تكليفا ، وبأن يؤمن وأن لا يؤمن ، وإنما هو مكلف بأن يصدقه في هذا الخبر المتضمن لعدم إيمانه به على الجملة ، قلت : وتقدم لابن عرفة في (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ) ما استفهامية ، وفائدة الاستفهامية يجيب المخاطب بما عنده وليس عنده إلا الموافقة على أنه لم يغن عنه ماله شيئا.

قوله تعالى : (سَيَصْلى ناراً).

قال الزمخشري : السين للتحقيق ، ابن عرفة : إنما دخلت للتحقيق ، لقوله تعالى : (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) [سورة الزخرف : ١٩] ؛ لأن الكتب واقع في الحال ، بخلاف هذا قال ابن عطية : روي أن أولاد أبي لهب اجتمعوا عند ابن عباس فتنازعوا وتدافعوا ، فقام ابن عباس ليحجز بينهم فدفعه أحدهم فوقع على فراشه ، وكان قد كفّ بصره فغضب وصاح أخرجوا عني هذا الكسب الخبيث ، قال ابن عرفة : وكذا نقل الزمخشري ، وابني أبي لهب احتكموا إليه فاقتتلوا فقام ليحجز بينهم ، قال : فدفعه بعضهم فوقع وغضب ، فقال : اخرجوا عني الكسب الكسب ، ونقل عن القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد السّلام أنه سئل لما قال (فِي جِيدِها) ولم يقل : في عنقها؟ ، فقال : إن الجيد لما كان محلا للعهد ، ولا يذكر إلا للمدح تهكم بها بذكره ، فقيل ذلك الموضع الرفيع [...] من العذاب بحبل من المسد الأصل وأقلها المسد.

٣٥٨

سورة الإخلاص

قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ).

ذكر ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية في أوائل الباب السابع : أن كل ما لا يتوقف ثبوته على المعجز يصح إثباته بالسمع ، فيصح بخلاف وجود الإله بأنه لا يثبت إلا بالعقل.

وقال في شرح المعالم اللدنية : أن ذلك مستفاد من العقل والسمع والعقل ، أو بعض في شرائعه شراحه أنه لا يصح إثبات الوحدانية بالسمع وإنما تثبت بالعقل ، وانظر ما تقدم في سورة الأنبياء.

قوله تعالى : (اللهُ الصَّمَدُ) ولم يقل : هو الصمد (١) ؛ لأن هويتهم [...] منهم فيمن يعود عليه الجلالة صريحة في معناها ، فإن قلت : لم نكر أحد وعرف الصمد؟ فالجواب : أن تنكير أحد جاء على الأصل في الأسماء التنكير ، وإنما عرف الصمد لاختصاصه بالله تعالى ولا يوصف به غيره بوجه بخلاف الأحد ، واعلم أن الأحد يطلق على معنيين : فتارة يراد به المنفرد في ذاته وهو بهذا المعنى مشترك بين القديم ، والحادث ، وتارة يراد به المنفرد بذاته وصفاته ، وهو بهذا المعنى يختص بالقديم ، قلت : وأخبرنا سيدنا الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إدريس الحارس المالكي أن شيخه الشيخ الفقيه الخطيب أبا محمد عبد الله بن محمد القرشي الرحبي ، كان يقول : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) نفي للكثرة والتعدد ، (اللهُ الصَّمَدُ) نفي للنقص والتقلب ، (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) نفي للعلة والمعلول ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) نفي للاشتباه والأضداد ، قلت : وحكي أن الفقيه أبا القاسم ابن البراسيع ، عن أبي العباس أحمد العياطي أنه يقرئ أصول الدين فأرسل وراءه ليختبره ، فخاف منه ، فدخل على سيدي الحسن الزبيدي ، فقال له قبل أن يخبره بأمر : قل هو الله الصمد إلى آخر السورة ، فلما اجتمع مع ابن البراء ، فقال : ما خشية الله وما نسبته ، فقال (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فسكت عنه ، وأنكر ابن عرفة هذه الحكاية ، وقال : هذا لفظ موحش ، وإنما سمعت أنا أنه سئل سيدي الشيخ أبا محمد عبد الله المرجاني عنده وألهم في التفسير [...] في الحديث ، والدولة الأولى في الفروع وما مثالهم في ذلك ، فقال له : هيء لنا

__________________

(١) السيد الدائم الذي انتهى إليه السودد ، وقيل هو الدائم الباقي ، وهو المقصود في الحوائج.

القاموس المحيط مادة : (ص م د) ، لسان العرب (ص م د).

٣٥٩

من المنقول في الكتب كذا وكذا ويظرفها كذا وكذا فأعجبه كلامه ، فأمر أن يعطى الثعالبي من مدرسة السماعين ، قال ابن عرفة : ويدخل في قوله تعالى : صفات الغير وصفات الأفعال ؛ لأن المتصف بصفات الكمال الذي لا يفتقر إلى غيره ، ويفتقر غيره إليه ، ومن ذلك استقلاله بالخلق والقدرة وغير ذلك.

وقوله تعالى : (لَمْ يَلِدْ) لها صفة سلبية ، وما قبلها ثبوت وإما تنزيه بإثبات القدم لدخل على .... (١) وفي القدم خلاف ، فقال أبو العالية : إنه ثبوتي ، واختار المقترح أنه سلبي.

قوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

إن قلت (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) يغني عنه ، فإنه إذا ثبت أنه واحد في ذاته ثبت أنه لا كفو (٢) له ، فالجواب : أن المراد بالكفاية نفي المشابه والمماثل المشابه للشيء لا يكون قوته فلا يلزم من إثبات الوحدانية نفي الكفو المماثل ، كما سبق تقديره في (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [سورة الشورى : ١١] ولم يقل : ليس مثله شيء ، إذا قلنا إن الكاف زائدة ، ولذلك جعلوا افتتاح بالله الله أكبر ليعتقد المصلي أن جميع ما يخطر بباله فالله أكبر منه وأعلى ، فيجمع جميع صفات التنزيه ، قلت : تقدم فيها في الختمة الأولى قوله تعالى : (أَحَدٌ) هو ضمير الأمر والشأن ، وقال أهل علم اللسان : أن ضمير الأمر والشأن يؤتى به مقدما للاهتمام والتعظيم.

قوله تعالى : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ).

لم لنفي المنقطع وهي هنا لنفي الماضي المنقطع وهي هنا لنفي الماضي المتصل بالحال ، قلت : ونقل عن القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد السّلام ، أنه قيل له : ما السر في نفي الولادة والكفو بلم ، وهلا قيل : لم يلد وهو أبلغ إذ هو نفي للماضي المتصل بزمن الحال؟ ، فأجاب بأن لما لنفي قد فعل ، وقد فيها معنى التوقع ، والبارئ جل وعلا لم يلد ولم يتوقع ذلك منه البتة فحسن دخول لم ، قال الإمام فخر الدين بن الخطيب في شرح الأسماء الحسنى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فيها ثلاثة أسماء تنبيها على ثلاثة مقامات :

__________________

(١) بياض في المخطوطة.

(٢) الكفو هو : المماثل والنظير. القاموس المحيط مادة : (ك ف و) ، لسان العرب (ك ف و).

٣٦٠