تفسير ابن عرفة - ج ٤

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٤

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٣٩٩

كيف يفهم ما ورد في حديث الشفاعة من أن الخلق يأتون إلى نوح عليه‌السلام ليشفع فيهم فيذكر دعوته فيمتنع من الشفاعة مع أنه لم يدع إلا دعاء [...] فيه؟ فالجواب أن تلك الشفاعة عامة تشتمل الخلائق كلهم ، وفيهم قومه ، وقد كان دعا عليهم فكيف يشفع حينئذ فيهم.

قوله تعالى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ).

هذه ليست مغفرة الذنوب لأن الأنبياء معصمون من ذلك ، وإنما هو باعتبار تفاوت الدرجات كما ورد حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وبدأ بنفسه على سبيل الإقرار والاعتراف بأنهم أحوج الناس إلى ذلك ، وذكر المؤرخون أن آباءه كانوا مؤمنين إلى آدم ، والآية تدل على صحة ذلك ؛ لأن المغفرة إنما يدعى بها للمؤمن ، قال تعالى (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [سورة التوبة : ١١٣] وما استثنوا من ذلك سوى إبراهيم ، الزمخشري : أبوه لمك وأمه شمخا بنت أنوش كانا مؤمنين ، انتهى الذي ذكر أبو عمر ابن عبد البر أن أباه لامك ، وذكر البكري أن آدم عليه‌السلام عاش حتى رأى نوحا ولم يذكره غيره ، قال شيخنا : لما قرأنا هذا المحل في مجلس السلطان ابن الحسن المريني ، قال لبعض أولاده : يا ولدي الله الله أكثر من قراءة هذه السورة لاشتمالها على الدعاء ، وكان بعض الشيوخ يقول : إذا قرأها بهذا القصد فإنه يخرج الآية عن المعنى الذي سيقته ، فإن المراد بالوالد فيها والد نوح قطعا ، فإذا دعا القارئ ناديا والده خرجت عن معناها فلا يسوغ له هذا وإلزامه بعضهم أنه لا يصح دعاء من قرآن فإنه كذلك مهما دعا به نفسه فقد أخرج الآية عما أريد بها ، والصواب أن ذلك على قسمين : ففي الآيات العامة يجوز وإلا فلا.

__________________

ـ ٤١٨٢ ، ٢٠٢٧ ، ٦٢٩٩ ، ٥٤٩٤ ، ٥٠٨٣ ، وفي المعجم الكبير حديث رقم : ٨٣٣ ، ٨٣٢ ، ٨٢٨ ، ٦٨٤٨ ، ٨٢٤ ، ٨٢٦ ، والحميدي في مسنده حديث رقم : ١٠٦٣ ، وأبو نعيم الأصبهاني في المسند المستخرج على صحيح مسلم حديث رقم : ١٨٥٣ ، وأحمد بن حنبل في مسنده حديث رقم : ٦٩٩٨ ، ١٤٤٩٠ ، ١٠٠٢٠ ، ٨٨٨٦ ، ٧٥١٣ ، ٩١٠٠ ، ٧٩٧١ ، ٨٣٤٩ ، والبيهقي في السنن الكبرى حديث رقم : ١١٢٩٠ ، ١١٢٨٥ ، ١١٢٨٦ ، ١١٢٩٢ ، وفي السنن الصغير حديث رقم : ١٠٠٣ ، وأبو يعلى الموصلي في مسنده حديث رقم : ٩٠٥ ، ٦٢٩١ ، ٦٢٠٤ ، وابن حجر العسقلاني في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية حديث رقم : ٢٩٩١ ، وابن أبي شيبة في مصنفه حديث رقم : ٣١٤٣٥ ، وأبو داود السجستاني في سننه حديث رقم : ٤٠٩٤.

٣٠١

قوله تعالى : (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً).

أي لمن دخل شريعتي مؤمنا وهذه الحال إما مؤكدة ؛ لأن دخول يستلزم الإيمان ، وإما مبنية لأن مؤمنا اسم فهو دال على الثبوت ، أي لمن دخل شريعتي ثابتا على الإيمان فيرجع إلى كونها مؤكدة.

قوله تعالى : (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ).

ابن عطية : هذا رد مطّرد في كل ملة ، والذي استجاب دعوة نوح فأغرق أهل الأرض جدير أن يستجيب له فيرحم بدعوته المؤمنين ، انتهى ، وهنا سؤال وهو أن دعاء نوح عليه‌السلام للمؤمنين بالمغفرة إما أن يراد به عدم مؤاخذة العصاة بذنوبهم أو لا ، وعلى كل تقدير فيشكل باعتبار الفهم بأن يقال : فلا يبقى لشفاعة نبينا صلّى الله عليه وعلى آله وسلم الواردة في الحديث الصحيح ؛ لأنه أريد بالمغفرة عدم المؤاخذة بالذنب أن تكون أمة نبينا محمد صلّى الله عليه وعلى آله وسلم لا يدخلون النار فلا يحتاجون إلى الشفاعة ؛ لأن الظن بهذه الدعوة أنها مستجابة ، وإن أريد بالمغفرة الصفح عنهم بعد دخولهم النار لزم أن يكون خروجهم منها بدعوة نوح عليه‌السلام لا بشفاعة نبينا صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، والجواب : إما نوحا عليه‌السلام أراد مؤمني أهل زمانه ، وإما بأن تناول المغفرة على تخفيف العذاب لا على عدم المؤاخذة بالذنب فهم يخفف عنهم العذاب بدعوة نوح ، ويخرجون من النار بشفاعة النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم.

قوله تعالى : (إِلَّا تَباراً).

وقال قبله (إِلَّا تَباراً) فخص تلك بالضلال ؛ لأنها في حال الحياة الدنيا وهذه في حال الموت ؛ فناسب تعقبها بالهلاك ، الزمخشري : فإن قلت : ما ضل حتى أغرقوا ، فأجاب بأن غرقهم ليس عقابا بل سبب من أسباب الموت كما يموتون بغيره من الأنواع ، الطيبي ، عن صاحب الانتصاف : هذا السؤال إنما يتقرر على قاعدة المعتزلة في التحسين والتقبيح ؛ لأن هلاك الصبيان بغير سبب قبيح عندهم ، انتهى.

يرد بأن السؤال بالإطلاق لا يتقرر إلا على قواعدهم وإما باعتبار التفصيل فيتقرر عندنا وعندهم ، فنقول إما باعتبار النقل فلا يلزم عندنا بل قد يهلكون وهم لم يعلموا شيئا ، وهم يقولون : إنما يهلكون لسبب ، وإما باعتبار الشرع فالتلازم معتبر عندنا وعندهم ؛ لأن الشرع ورد بتنعيم الطائع وتعذيب الناجين ، والأطفال لم ما يعملوا ما يعذبون عليه فيرد السؤال على مذهبنا وعلى مذهبهم.

٣٠٢

سورة الجن

الإتيان بقل دليل على عذابة المقول ، وأنه أمر عجيب ، وقوله (أُوحِيَ) مع أن القرآن كله موحا به ؛ لأنه لو قال اسمع لأوهم أنه يخبر عن من شاهد منهم ، وعلم فقد يقال له حينئذ كيف يسمعهم وليسوا من جنسه ولا من نوعه؟ فاحترز من ذلك بأنه إنما حصل له معرفة ذلك بالوحي لا بالمشاهدة ، قال القرطبي : والآية تدل على أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يرهم ولا سمع كلامهم ، انتهى.

يحتمل أن يكون لم يسمع كلامهم أولا ثم سمع كلامهم آخرا لما أعلم به فأصغى إليه.

قوله تعالى : (عَجَباً يَهْدِي).

عبر عن العجب فإنه راجع له في نفسه.

قوله تعالى : (فَآمَنَّا بِهِ).

ابن عطية : عطفه بالفاء التي للتعقيب مع أنهم ذكروا بين السماع والهداية والإيمان ، وعطفه في الآيتين الأخريين بالواو ، والجواب : أن هذه الآية في الجن وهو في أمورهم في غاية الإسراع فهو وإن كانت مهلة هو أقرب من غيره ، وإعجاز القرآن باعتبار لفظه ، ولذلك يقول الإمام فخر الدين شرط المعجزة أن تكون حادثة ، وأما معناها فهو الكلام القديم الأزلي ، ونقل القاضي أبو بكر الوليد الباجي في البقية المسمى بالتسديد في قواعد الاسم والتوحيد أن القاضي أبا بكر الباقلاني ذهب إلى أن إعجاز القرآن باعتبار لفظه ، وباعتبار معناه القديم الأزلي ، والجمهور على خلافه ، ونحوه ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني في تأليف في إعجاز القرآن الكريم وزاد أنه لا يشترط في إعجازه التحدي به إلا للعوام ، وأما علماء العرب وفصحاؤهم فهم بنفس أن يسمعوا شيئا عنه يدركون إعجازه بفطرته لما جبلوا عليه من الفطنة.

قوله تعالى : (فَآمَنَّا بِهِ).

الضمير عائد على القرآن أو على الله تعالى ، فيكونوا آمنوا أولا بوجود الله تعالى ثم وجدوه ، وفي التعبير بلفظ الرب دليل على أن حصول السمة المقومتين أو المدلول عن الدليل أمر عادي لا عقلي خلافا للمعتزلة فهو إشارة إلى رأفته ورحمته بعباده ، ولو لا ما أرشدهم ما اهتدوا إلى الإيمان.

قوله تعالى : (جَدُّ رَبِّنا).

٣٠٣

أي تعاظمت عظمته وتفسير الخطيب : الجد بالأصل خطأ ، واعتقاده كفر ، وعبر بالولد ليشمل الذكر والأنثى فيكون ردا على الجاهلية في قولهم : الملائكة بنات الله ، وعلى اليهود في قولهم : عزير ابن الله ، وعلى النصارى في قولهم : المسيح ابن الله ، فإن قلت : ففي المصاحبة [٨١ / ٤٠٤] يستلزم نفي الولد بما أو نفيه ، فالجواب : إما أن نقول أنه دلالة المطالبة أقوى من دلالة الالتزام ، وإما كون الصاحبة سبب في وجود الولد إنما هو سبب مادي لا عقلي.

قوله تعالى : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً).

هذا اعتذار منهم ؛ أي كنا نعتقد أن لا يكذب أحد منا ولا من غيرنا على الله ، وهو ظاهر إن قلنا إن العقل خلا من سمع ، وإن قلنا أنه لم يخل قط من سمع ؛ فيكون المراد بعض الإنسان وبعض الجن ، وهم الذين شاهدوهم ورأوهم ، ويكون البعض الآخر وهم المؤمنون والمصدقون بوجود الله ووحدانيته لم يرهم ولا بلغتهم مقالتهم ، فحينئذ يصح أن يكون هذا القول عذرا لهؤلاء ، وإلا فيقال سمعتم فدل الكاذبين من الفريقين ، وقول الصادقين فصدقتم الكاذبين واتبعتم قولهم لغير موجب ، وتركتم قول الصادقين فلا ظن لكم.

قوله تعالى : (حَرَساً شَدِيداً).

قيل : اسم جمع ، وقيل : جمع حارس ، فإن قلت : وصفه بالمفرد يدل على أنه ليس بجمع ، قلت : نص المبرد على أنه يصح وصف جمع التكسير بالمفرد وهذا خلاف كلام الزمخشري لاستدلاله على أنه اسم جمع بوصفه المفرد ؛ فمفهومه أنه لو كان جمعا لما وصف بالمفرد.

قوله تعالى : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ).

هذا دليل لأهل السنة في أنهم أجسام متحيزة خلافا للمعتزلة ، وورد أنهم كانوا يقعدون واحدا فوق واحد حتى يقرب السماء.

قوله تعالى : (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ).

من الشرطية تدل على الاستقبال دلالة ظاهرة ، والآن تدل على الحال دلالة نص ، فلا تناقض بينهم فصح أنه حال ، فإن قلت : على هذا يكون منع الشياطين بالشهب عن استراق السمع خاصا بذلك الزمان ؛ مع أن المشاهد أقامته واستمراره في المستقبل ، قلت : إنما جاء الخصوص من مفهوم الزمان في الآن ولنا أن نقول : إن المفهوم هنا غير معبر.

٣٠٤

قوله تعالى : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ).

تضمنت الآية أمرين :

الأول : أنهم حصل لهم العلم بأن الله تعالى موصوف بالحياة والعلم والقدرة والكلام لتعبيرهم بالإرادة ، ولم يقولوا : أشر يقع بمن في الأرض ، والإرادة تستلزم هذه الصفات كلها.

الثاني : أنهم حذفوا الفاعل على جهة الأدب مع الله في نسبة الشر إليه ؛ مع أن الكل من فعله وخلقه جل وعلا وعمموا الإرادة ، ولم يقولوا : أريد بنا ، وحمل الزمخشري على ذلك عاقبة الأمر ؛ أي لا يعلم هل يختم لهم بالإيمان أو بالكفر ، وهذا بناء منه على أنهم هدوا بعد ما آمنوا ، وحمله ابن عطية على حالتهم تلك ؛ أي لا نعلم هل يؤمن أهل الأرض يؤمن أو يدوموا على كفرهم وهم بناء على أنهم قالوا ذلك قبل أن يؤمنوا أو تكون الآية حكاية حال ماهية ، وعبروا بالرشد ؛ لأنه أخص واستعمال الأخص في الثبوت أولى من الأعم ، أو لأن ذلك كان في زمن النبوة حالة وجود المرشد إلى طريق الجنة ، وأول الآية يقتضي عمومية الفاعل والجهل بالمفعول وهو المراد ، وأخرها وهو قوله تعالى : (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) يقتضي عمومية المفعول وحذف الفاعل من الأول دون الثاني تأدبا مع الله تعالى في نسبة الخير إليه دون الشر ، وإن كان الكل من فعله.

قوله تعالى : (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ).

إن كان المعنى ، ومنا المقاربون لهم فلا يكون تقسيما مستوفيا ، وإن كان المعنى :

ومنا الكافرون فيكون مستوفيا.

قوله تعالى : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ).

ابن عطية والزمخشري : الظن هنا بمعنى العلم ، انتهى ؛ بل هو على بابه ويدل على ذلك ثلاثة أمور :

الأول : أنه تقرر في علم أصول الدين الاختلاف فيمن يجزم بنفي الصفات عن البارئ تعالى ، هل هو كافر أو لا؟ وذلك أيضا من يشك فيها.

الثاني : أنهم اعتقدوا ذلك في أول أمرهم من غير جزمهم ثم لما تمكن الإسلام في قلوبهم جزموا بذلك ، فقالوا : ولم نعجزه هربا.

٣٠٥

الثالث : أن الظن ليس متعلقا بعدم الإعجاز المطلق بل يفيد كونه في الأرض فهم جزموا بأنهم لا يعجزون الله تعالى بالإطلاق ، وظنوا أنهم لا يعجزونه في الأرض ؛ أي جزموا أنه يهلكهم ، وينتقم منهم ، وظنوا أنهم إنما ينتقم منهم في الأرض كما نعلم أن الله يميت زيدا ، ونشك هل يميته بعكا أو بالمدينة أو بغيرهما.

قوله تعالى : (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً).

إما معطوف على (وَأَنَّا ظَنَنَّا) فلا يكون مظنونا بل مستأنف ، وإما على أن (نُعْجِزَ اللهَ) فيكون مظنونا ؛ أي وظننا أن لن نعجزه هربا ، وفي الآية إبطال لمذهب الحكماء القائلين أن الجن جواهر مفارقة لا متحيزة ولا قائمة بالتحيز ، لأن المعذب من عوارض الأجسام إذ هو الانتقال بسرعة ، وذلك عين الحركة.

قوله تعالى : (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى).

أي سبب الهدى.

قوله تعالى : (فَلا يَخافُ).

الزمخشري : أي فهو لا يخاف ، قال : وفائدة تقرير الضمير الدلالة على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة ، وأنه هو المختص بذلك دون غيره ، انتهى ، يتقرر الأول بأن الشرط لما كان يصح ترتيب الأمر المحال عليه قدر ذلك بما يدل على ثبوت عدم الخوف وتحقق الطمأنينة ، وتقرير الثاني أن البناء على المضمر يفيد الاختصاص ، فإن قلت : لا حاجة إلى المضمر لأن الاختصاص مستفاد من مفهوم الشرط ، قلت : يكون تأكيدا وتحقيقا ، فإن قلت : البخس أعم فهلا اكتفى به عن الرهق ، قلت : البخس للمؤمن المتقي ، والرهق للفاسق ، فلم يتحد المتعلق ، ولا يخاف إما نهي أو نفي ، فالنهي ظاهر وأما النفي سقط ، فإن قلت : يلزم عليه الخلف في الخير ، قلت : هو معلق على وصف مناسب معانيه ثبت عدم الخوف ، والآية في قراءة الشكل الأول وتقريره السامع للهدى آمن به ، وكل من آمن به لا يخاف بخسا ، فالسامع للهدى لا يخاف بخسا.

قوله تعالى : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ).

عبر أولا بالإيمان وهنا بالأخص منه وهو الإسلام كما في حديث الحذر.

قوله تعالى : (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً).

٣٠٦

الزمخشري : زعم من لا يرى للجن ثوابا أن الله تعالى توعد القاسط بالعقاب ، وما وعد مسلميهم بالثواب ، وكفى بقوله تعالى : (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) وعد الذكر سبب الثواب وموجبه ، والله أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثبت الراشد ، انتهى ، وجوب ثواب الراشد عنده عقلا وعندنا نحن شرعا ، فإن قلت : ورد في الشرع ثواب الطائعين من الإنس ولم يرد ثواب الجن ، قلت : هذه المسألة في أسئلة المازري سئل هل الجن مكلفون يثابون أو لا؟ وأجاب بأنهم مكلفون بالطاعة ومثابون عليها ، وكذا قال ابن عطية القضاعي في موازنة الأعمال ، ويحتمل أن تكون الآية من حذف التقابل ؛ أي (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) وكانوا منعمين في الجنة ، (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) فأولئك أساءوا وأجرموا فكانوا لجهنم حطبا.

قوله تعالى : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ).

فسر بوجهين : إما أن المعنى لو أطاعوا وتمادوا على الطاعة لأسقيناهم ، أو المراد لو عصوا وتمادوا على طريقة العصيان لأسقيناهم ، وأعاد ابن عطية الضمير في استقاموا على الإنس ، وأعاده الزمخشري على الجن ، ورجح الفخر الأول لقوله (لَأَسْقَيْناهُمْ) والجن لا يسقون ، وإنما يتم له ذلك على مذهب من يقول عنهم روحانيون لا يأكلون ولا يشربون ، ومذهبنا نحن أنهم أجسام يجوز أكلهم وشربهم كما ورد في الحديث ، فإن قلت : يترجح أن المراد بالاستقامة الطاعة كون الألف واللام في الطريقة للعهد ، فالمراد طريق الحق ، قلت : الطريقتان معهودتان ، لقوله (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) [سورة النساء : ١٦٩] ، وقال (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة الأحقاف : ٣٠] ، وإنما كون يترجح كون المراد بالاستقامة الطاعة المتعدية بعلى المقتضية للاستيلاء والاستعلاء ، فإن قلت : يحتمل أن يكون المعنى : لو استقام الخلق كلهم على الطاعة لأسقيناهم ماء غدقا يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ، كما ورد في الحديث : " لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم" ، قلت : هذا لم يقله أحد ، ويلزم عليه جعل الاستقامة سببا في الذنب ، فإن قلت : جعل الاستقامة وهي الطاعة على أحد البشيرين سببا في السقيا ، والسقيا سببا في الفتنة فهي سبب السبب مشكل إذا لا يعقل كون الطاعة سببا في النصب [٨١ / ٤٠٥] أو في الطاعة ؛ لأن فيه تحصيل الحاصل ، قلت : هي سبب ؛ لأن بعض المسلمين يرتد عن دينه ولا يدوم على الإسلام.

قوله تعالى : (عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ).

٣٠٧

الذكر إما الطاعة ، فالمصدر مضاف للمفعول ، أو الوحي فهو مضاف للفاعل وإلا هذا أخص عن الأول معصية ، وعن الثاني كفر ، ويحتمل أن يكون أراد الذكر حقيقة ؛ أي عن أن يذكر الله (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [سورة البقرة : ١٥٢] ، وفي الحديث : " وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه" (١) ؛ فيكون مضافا للفاعل.

قوله تعالى : (يَسْلُكْهُ عَذاباً).

إن أريد بالإعراض الكفر فظاهر ، وإن أريد ما دونه من المعاصي فهو عام مخصوص ؛ أي إن شئنا ذلك.

قوله تعالى : (عَبْدُ اللهِ).

الزمخشري : عبر بهذا اللفظ ، ولم يقل : قام الرسول أو النبي ؛ لأنه واقع في كلام النبي ، فعبر بما يقتضي التواضع والتذلل ، انتهى ، وهذا مسامحة ؛ لأنه ليس من كلامه إنما هو محكية عن الله تعالى ، وإنما الجواب أنه على سبيل التعليم له ولأمته في تعبير المتكلم عن نفسه بما يقتضي التواضع ، واختلفوا في معنى (يَدْعُوهُ) فقيل : في الصلاة ، وقيل : خارجها ، وعلى الثاني يكون من المسألة المختلف فيها ؛ لأن مالكا كره في التنبيه الدعاء قائما ، ومنهم من جعل قام من أفعال التوبة كأخذ وانظر التقريب والجزري.

قوله (إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) لفظ الرب تنبيه على أن اختصاص الله تعالى بعض خلقه بالنبوة محض تفضل منه ورحمة.

قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً).

الزمخشري : أي لا أستطيع أن أضركم وأنفعكم ، إنما الضار والنافع الله ، ولا أستطيع أن أقركم على الغناء والرشد ، وإنما القادر على ذلك الله ، انتهى ، هذا اعتزال ، والمعنى عندنا لا أستطيع أن أخلق لكم ضررا أو نفعا إنما خالقهما الله تعالى.

قوله تعالى : (لَنْ يُجِيرَنِي).

__________________

(١) أخرجه النسائي في السنن الكبرى حديث رقم : ٧٤٣٣ ، وابن حبان في صحيحه حديث رقم : ٨١٤ ، ٨١٥ ، ٣٣١ ، والبيهقي في الدعوات الكبير حديث رقم : ١٧ ، والطبراني في الدعاء حديث رقم : ١٥ ، ١٧٥٩ ، والطبراني في المعجم الكبير حديث رقم : ١٢٣٣٣.

٣٠٨

إن قلت : لم نفاه بلن ، ونفى ملكه الضار بلا؟ والجواب أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم في كل وقت يستحضر الموت ، ونظره إنما وقته الحالي وليس له تعلق بالمستقبل بوجه ، وملك الضر والرشد مضاف إليه فنفى بلا التي هي غير صريحة في المستقبل ، بل قد قيل : إنها تنتفي التي هي غير صريحة في الاستقبال ، بل قد قيل : إنها تنفي الحال ، ولما كان الذي يجاز منه هو الله تعالى وكانت الإجازة منسوبة إليه ، وإنما في الحال والاستقبال نفاه بلن ، وأجيب أيضا لما كان ملك الضر والرشد مما قد يتوهم نسبته للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم وقد رتبه عليه في الحال لم يحتج إلى نفي الإجازة من الله تعالى في الحال والاستقبال نفي باللفظ العام ، ولما كان صدور الذنب منه غير واقع في الحال لم يحتج إلى نفي الإجازة من الله تعالى في الحال ، ثم نفى الاستقبال على تقدير فرض وقوعه قبل ، وكذلك بعرض وقوعه في الحال.

قوله تعالى : (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً).

النفي الأول تعلق ببني آدم ، والثاني بغيرهم ؛ أي لن أجد مكان أختفي فيه وألجأ إليه.

قوله تعالى : (إِلَّا بَلاغاً).

الزمخشري : أي لن أجد من دونه ملجأ إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به ، وقيل : لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات ، والمعنى : إلّا أن أبلغ عن الله ، فأقول : قال الله كذا ، ناسبا لقوله إليه وأن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان ، انتهى.

إن قلت : يلزم عطف الشيء على نفسه ، كان معناه عنده وتبليغ رسالته ، قلت : إنما معناه عنده إلا أن أبلغ عنده بلاغا من الله أو من رسالاته ؛ لأن الشرائع التي أمر بتبليغها لنا قسمان ، منها ما تلقاه من الله مباشرة ، ومنها ما حفظه بواسطة الملك.

قوله (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) إن قلت : ما معنى الغاية هنا ، وحتى من جهة مخالفة لما بعدها لا قبلها فيلزم انقطاع الخلود برؤيتهم ما يوعدون مع أنه دائم ، فالجواب أن المراد أن زمن الغيبة وهو الذي كانوا يوعدون فيه بالخلود في النار ، وهي غائبة عنهم فينقطع برؤيتهم لها.

قوله تعالى : (فَسَيَعْلَمُونَ).

الفاء جواب إذا ، والسين للتحقيق لا للاستقبال ؛ لأنهم إذ رأوا العذاب يحصل لهم العلم الحالي لا الاستقبالي إذ تقول هي للاستقبال ؛ لأن الشرط مقدر الوقوع لا واقع.

٣٠٩

قوله تعالى : (أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً).

إن قلت : فيه عطف الأعم على الأخص ، وهو غير جائز لما فيه من تقسيم إلى نفسه وإلى غيره ، وجعل قسما الشيء قسيما ، فالجواب أن في الكلام تقدير صفة أي أمرا بعيدا ، وأجاب الزمخشري بأن المراد بقريب الزمن الحالي ، وبالأمن الاستقبالي ، فليس من عطفه الأعم على الأخص بل من عطف الشيء على غيره فيلزمه المجاز في حمل القريب على الحال ، ويلزمنا نحن الإضمار وهو خير من المجاز ، فإن قلت : ليس مراد الزمخشري بالقريب الحال بل الزمن الذي يتوقع في كل وقت حضوره ، أي لا تدري أهذا الذي تدعون أواقع بكم ليس له حد محدود ؛ بل هو كل في زمن متوقع حلوله بكم إذ له أمر لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه كأجل الدين الحال مع الدين المؤجل ، قلت : إن أردت بالقريب أنه مؤخر عن زمن الحال ، فيتناوله لفظ الأمن ، وإن أردت به الحال فيلزمك المجاز ونفي العلم بقربه وبعده ؛ فيستلزم نفي العلم بعين وقته بخلاف العكس ، ولفظ الرب مناسب لما تضمنته الآية من الرحمة والشفقة عليه.

قوله (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) هذه الإضافة مجاز ؛ لأن المضاف إليه يكتسي من المضاف إليه وصفا مناسبا بحق زيد صاحب عمرو منه وصف الصحبة ، وكذا زيد ضارب عمرو واكتسى منه وصف الضرب حسبما ذكر الفخر نحوه في الحصول في إضافة أصول الفقه فيلزم فيه أن يكون الغيب صفة لله وهو باطل ، فإن قلت : هو صفة له بمعنى أنه فاعله في قوم دون قوم ، قلت : ذلك تغييب لا غيب ؛ لأنه من غيب ، وهذا من .... (١) فيرجع إلى المجاز الذي قلناه.

قوله (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ) استثناء متصل أو منفصل باعتبار أن الغيب هو حالهم ينصب عليه دليل ، وعلم الرسول للغيب بدليل فليس من الغيب في شيء واحد ، الزمخشري : في الآية إبطال كرامات الأولياء يرد بأن لا يلزم من نفي الخاص نفي العام فلا يلزم من نفي هذا الضياع الخاص ، أو نقول : هذا عام مخصوص بكرامات الأولياء ، أو نقول : الحاصل لهم ظن لا علم.

__________________

(١) كلمة غير واضحة في المخطوطة.

٣١٠

سورة المزمل

قال الزمخشري : مكية ، ثم قال : وعن عائشة أنها سئلت ما كان تزميله ، فقالت : كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعا نصفه عليّ ونصفه عليه وهو يصلي ، انتهى ، وهذا مناقض لقوله لو لا أنها مكية ؛ لأن بناءه صلّى الله عليه وعلى آله وسلم بعائشة كان بالمدينة.

قوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ).

الآية تقتضي أن الجزاء المأمور به من الليل شائع فيه وتلك رجح آخره لما في الحديث ، أبو حيان : المراد قم الليل كله ؛ وهو ظرف عند البصريين ومفعول به عند الكوفيين لاستغراق الفعل له ، انتهى.

ونقل ابن مالك عن سيبويه : لقيت زيدا الليلة ، أن اللقاء في جميع الليل.

قوله (نِصْفَهُ) قيل : بدل من قليل ، والضمير في (انْقُصْ مِنْهُ) إما للنصف المقدم أو المتروك ، والمعنى فيهما واحد ، وقال الزمخشري : أنه من الليل ، (إِلَّا قَلِيلاً) استثناء منه ، قال : ولنا أن نجعل نصفه بدلا من النصف ، أي قم أقل من نصف الليل ، والضمير في منه وطلبه للنصف فهو مخير بين أن يقوم نصف الليل على البيت وبين أن يختار النقصان من النصف أو الزيادة عليه ، وألزمه أبو حيان التكرار ؛ لأن قوله : انقص من نصف الليل قليلا هو معنى قوله : قم نصف الليل إلا قليلا ، قال المختصر : هذا لازم على أن نصفه بدل بعض من كل ، و (إِلَّا قَلِيلاً) استثناء منه ، قال : ولنا أن نجعل نصفه بدلا من الليل استثناء منه القليل بدل إضراب ، انتهى ، أراد أن النصف بدل من الليل باعتبار استثناء القليل منه ؛ لأنه بدل منه قبل الاستثناء فكأنه بعد الاستثناء ، تقول مثلا : قم خمسة أسداس الليل نصف ذلك أو انقص منه أو زد عليه ، أي قم سدسين ونصف سدس ، أو أقل أو أكثر ، ويلزمه التكرار لقوله : (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ؛) لأنه عين من الأول ؛ لأن الزيادة عليه من قيام الليل إلا قليلا ، وهو الذي فرض خمسة أسداس الليل وانظر ابن الصائغ.

قوله (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ) إن قلت : ما معنى التأكيد بإن هنا ، قلت : لأن المزمل مظنة الغفلة عن الشيء ، فكأنه قيل : هذا قول يقبل يحتاج إلى تيقظ واشتغال بعد السين للتحقيق ، وهذا من القول بنفسه [٨٢ / ٤٠٦] وبغيره ، كما قال ابن التلمساني : لأن هذه الآية من جملة ذلك القول ، وعبر بالقول تنبيها بالأدنى على الأعلى ؛ لأنه إذا كان القول نقيلا [.....].

٣١١

قوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ).

الأولى تغيير الرب بالخالق ؛ لأنه أعم فائدة ، فإن قلت : لم قدم المشرق على المغرب والصواب العكس؟ لأن العرب إنما يؤخرون ؛ فزمن الغروب متقدم على زمن الطلوع ، قلت : الآية خرجت مخرج التعظيم لقدرة الله تعالى في إبدائه هذا الخلق العظيم الذي هو جرى في الشمس فناسب البداية بالمشرق ، ورب مبتدأ ولا إله إلا هو خبره ، أو رب خبر مبتدأ مضمر أي هو رب ، ويترجح الأول بعدم الحذف ، وبأن الخبر محل الفائدة ، والكفار موافقون على أنه رب المشرق ، وإنما خالفوا في الوحدانية ، فإذا جعل (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) خبرا كان فيه زيادة فائدة ، ويترجح الثاني بأنهم قالوا بأن المبتدأ يحذف إذا كان الخبر لا يصلح إلا له ، والمشرق والمغرب إما اسم زمان أو اسم مكان أو اسم مصدر وهو الظاهر ؛ لأن رب لزمن شروق الشمس وغيره من الأزمان ، ورب لمكان طلوعها وغيره من الأمكنة ، وأيضا فزمن الشروق مختلف باختلاف البلاد ، وكذلك مكان شروقها فلا خصوصية فيه ، فلا يقال : رب سائر الأزمنة والأمكنة ، وإذا قلنا : المعنى رب الإشراق كان قائما في كل قطر وكل زمن.

الزمخشري : وقرئ رب مرفوعا على المد صح المدح ومجرورا على البدل من ربك ، وعن ابن عباس على القسم بإضمار حرف القسم ، كقولك : الله لأفعلن ، انتهى ، إن أراد أن ابن عباس لم ينقل عنه غير القراءة فقط فليس فيه دليل على أنه قسم ، أو لعله بدل من ربك أو من الضمير في إليه ، وإن أراد أنه قرأها وجمعها على القسم فهذا لم ينقل مثله عن ابن عباس ولا عن عمر ولا غيرهما من الصحابة ؛ لأنهم لم يكونوا يقرءون اصطلاح النحويين إذ النحو حادث بعدمهم ، وإنما كانوا يتكلمون بطبعهم ، ويحتمل أن يقال : أن ابن عباس فسر المعني ففهم عنه خلقا على القسم.

قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

اختلفوا في دليل الوحدانية هل هو مستفاد من السمع وهو اختيار جماعة من المتأخرين ، أو من النقل وهو مذهب الأقدمين ، أو منهما معا وهو مذهب المحققين من المتأخرين ، وسبب الخلاف : هل الإيمان بالرسول متوقف على وجود الصانع فقط ، أو على وجود وحدانيته.

قوله (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) أخص من توكل عليه ، إن قلت : لم وصل هذا بما قبله بفاء العطف ، ووصله لا إله إلا هو بما قبله فلم يعطفه عليه وإلا نسب كان يكون العكس ؛ فإن الأوليين جملتان اسميتان والثانية فعلية ، والجملتان الاسميتان متفق على

٣١٢

جواز عطف أحدهما على الأخرى بخلاف عطف الفعلية الطلبية على الاسمية الخبرية ، فإن الأصح امتناعه ، فالجواب أن الجملتين الأولتين لما كانتا صفة لموصوف واحد أو خبرا عن موضوع واحد صارتا كالشيء الواحد فأتى بهما غير مفصولتين بحرف العطف ؛ لأنهما في مقام التوسط ؛ لأن كونه رب المشرق والمغرب ينتج أنه لا إله إلا هو ، وإلا لزم عليه وجود مقدور واحد بين قادرين ، ولما كان الموصوف باتحاد الوكيل هو النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم فليس هو عين الموصوف بالربوبية والوحدانية ، صارت هذه الجملة فائدة للأوليين ، ففصلت عنها بحرف العطف وهي مسببة عنهما ؛ والمسبب غير السبب.

قوله تعالى : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ).

أمره بالصبر على القول دون الفعل ؛ لأن القول أكثر من الفعل ، ولتعلق إذايته بالنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم وبالله تعالى إذ هو معنوي ، والفعل إذايته حسية لا تتعلق بالله تعالى ، والآية قيل : إنها منسوخة بآية السيف ، وقيل : تحكيه ، وقال ابن العربي : نسخ منها ما عدا المغلوب فإنه إذا لم يقدر على تغيير المنكر لا يجب عليه أن يغيره وهو يعلم أنه إن غير واقتحم بقتل كل تغيير يصبر على ذلك فهذا تخصيص لا نسخ ، ووصف الهجر بالجميل ولم يصف الصبر بذلك ؛ لأن الصبر كله جميل.

قوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ).

فيها دليل لصحة أحد القولين في الكائن في السفينة المتحركة هل له حركتان أو حركة واحدة؟ ذلك الخلاف في ذلك العجز ، والآية تدل على القول الثاني : إذ لو كان رجف الأرض رجفا للجبال لكان عطف الجبال عليها تأكيدا ؛ لأن الرجف مستلزم للحركة.

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ).

لما تضمن الكلام السابق الوعيد لهم بتعذيبهم على كفرهم عقبة ببيان أن ذلك إنما كان بعد الإعذار إليهم برسول أرسل إليهم ، وأكد الجملة بأن لا الخطاب يتم المنكرين لرسالته والمقرين بهما.

قوله تعالى : (شاهِداً عَلَيْكُمْ).

شهادته لنا وعلينا ، أو كلها لنا ؛ لأنهم قالوا إن أمة يشهدون على الأمم ويزكيهم فهو شاهد لهم بالتزكية ، لكن إنما قال : عليكم بخروج الآية مخرج الوعيد والتخويف ،

٣١٣

وانظر هل هذه شهادة اصطلاحية أو لغوية ، فإنهم قالوا : إن شهادة الإنسان لنفسه غير جائزة ، وهذه شهادته لأمته ؛ لأنهم صدقوه في رسالته وليبلوهم بتكذيبهم إياه ؛ فهي في الاصطلاح دعوى الشهادة ، لكن قال في المدونة في كتاب المحاربين أن السلامة أنه أشهد بعضهم لبعض جازت شهادتهم فسماها شهادة ، وكذلك إذا شهد أنه أوصى بهذا المال له ولزيد بطلت الشهادة فسماها أيضا شهادة.

قوله تعالى : (أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ).

قال الفخر : فيه دليل لصحة العمل بالقياس انتهى ، إن قلت : تشبيه لا يقاس ؛ لأن من شرط القياس أن لا يكون الحكم في الفرع منصوصا عليه ، وقد نص عليه هنا فهو قياس تمثيلي ولا خلاف فيه وإنما الخلاف في غيره من الأقيسة ، والمشبه هو النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، والمشبه به موسى ، وجه الشبه الرسالة ، وثمرة التشبيه عصيان هؤلاء كعصيان هؤلاء ، قلت : بل هو قياس باعتبار قوله تعالى : (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) لأن عقوبة هؤلاء لم ينص عليها.

قوله تعالى : (فَعَصى).

الفاء للتعقيب لا للسبب بخلافها في (فَأَخَذْناهُ) هي للسبب ، فإن قلت : العصيان سبب عن الإرسال ؛ لأن الطاعة موافقة للأمر ، والعصيان مخالفته فهي مسببه عن الإرسال ، قلت : لو كان كذلك للزم عليه أن يكون الإرسال سببا في الطاعة والمعصية فيكون سببا في الشيء ونقيضه وهو باطل ، وإنما المعصية مفرغة عنه ؛ لأنها مسببة.

قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ).

الإشارة للموعظة ، وأكد الموعظة بثلاثة أمور :

الأول : تصديقي ، وهو التأكيد بأن المقتضية للتصديق والربط.

والثاني : تصوري ، وهو اسم الإشارة ؛ لأن قوله : أكرم هذا العالم أبلغ من قوله : أكرم العالم.

الثالث : أنه جعلنا نذكر بمبالغة في كونها سببا في التذكرة.

قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً).

المشيئة هنا مجاز ؛ لأنه يقال في الواجب أو المندوب : من شاء أن يفعل كذا فليفعل فهذا خبر المراد به الأمر.

٣١٤

ابن عطية : تهديد أو وعيد أو لو كان كذلك كان أمرا حقيقيا ، مثل (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [سورة فصلت : ٤٠] ، أو يقال : المفعول محذوف وتقديره بأحد وجهين : من شاء النجاة اتخذ إلى ربه سبيلا ، أي سبيل ، وليس في هذا تكرار ؛ لأن سبيلا الثاني موصوف بصفة تقتضي تعظيمه ، فتنكيره للتعظيم ، أو نقول : متعلق التخيير تعيين التأكيد بأن مع أنه صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم عالم بأن الله يعلم ذلك باعتبار قدر قيامه ؛ لأنه عليه‌السلام غير عالم بذلك ، فإن قلت : لم أكد علم الله بذلك ولم يقل [.....]؟ قلت : لأنه يعلم إن ما علم الله وقوعه لا بد منه ، وما لم يعلم يستحيل وقوعه ، وعلم الله تعالى بوجود الشيء مستلزم لوجود ذلك الشيء ضرورة فلا فرق بين تأكيد علمه بوجود الشيء وبين علمه بالشيء المؤكد وجوده ، فإن قلت : هو أنا يشك في قيامه هذا المقدار ولا ينكر ، وهذا حرصا يأتي يبق فلا يحتاج ، قلت : لما كان يحتقر يختص ما يصدر منه من الطاعة كان منكرا.

قوله تعالى : (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ).

الظاهر أن المراد بالطائفة هنا الجماعة الكبيرة ؛ لأنها في معرض الثناء.

قوله تعالى : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ).

أي هو المخصوص بعلم مقاديرهما من غير مشارك له ، وهذا كما قال أبو طالب في القوت : إن الشمس في وسط النهار لها ستة زوالات : زوال لا يعلمه إلا الله تعالى ، [٨٢ / ٤٠٧] وزوال أجلا منه يعلمه الملك الموكل بها فقط ، وزوال أجلا منه يعلمه سائر الملائكة ، وزوال أجلا من ذلك كله يعلمه الأولياء ، وزوال أجلا من الجميع يعلمه خواص الناس ، وزوال أجلا من الكل يعلمه سائر الناس ، وبه عليهم ما ورد في الحديث : " أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم سأل جبريل هل زالت الشمس؟ فقال : لا نعم" ، وذكر القرافي في كتابه المسمى باليواقيت : أن فقيها كان ينكر على صالح في زمانه مبادرته بالصلاة أول الوقت ، ويزعم أنه يصليها أحيانا قبل وقتها ؛ فكان الصالح يستند في ذلك إلى العلم ، ويقول : إنه لا يصلي إلا في الوقت ، فرصده بعض المؤقتين يوما فوجده قد صلى الظهر قبل الزوال ؛ فسأله ، فقال : إنما صليتها في الوقت بعد الزوال ؛ فصوب الفقهاء رأي ذلك الفقيه المنكر ، انتهى.

والصواب : أنه يدينان كما قال مالك في التنبيه العتبية في رجلين أبصرا غرابا يطير فحلف أحدهما بالطلاق الثلاث أنه ذكر وحلف الآخر كذلك أنه أنثى ، قال مالك : يدينان ولا يحنثان ، فكذلك هذا قد يكون سمع الآذان من السماء فمعرفته أقوى من

٣١٥

معرفة صاحب الوقت بدليل عادي ، ومعرفته بالعيان والمشاهدة ؛ كما نفرق بين مشي رجل بصير في طريق لا يعلمها وبين مشي رجل أعمى في طريق يعلمها من قبل.

قوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ).

أي لن تقدروا زمن الإحصاء (فَتابَ عَلَيْكُمْ) فلم يؤاخذكم أعم من أن يكون لهم ذنب مغفور أم لا ذنب لهم.

قوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى).

إشارة إلى أن الأمر بالصلاة ، أو القراءة عام في الأصحاء والمرضى لكن يصل كل واحد جهة استطاعة.

قوله تعالى : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ).

الترتيب بين هذين ترقي بخلاف الأول فإنه مباين لهما ؛ لأنه جبري وهما كسبيان.

٣١٦

سورة المدثر

قال بعضهم ـ أظنه السهيلي ـ : فائدة هذه الصفة ما أشار إليه في الحديث" أنا النذير العريان" فقال هنا المدثر على سبيل الحضّ له على التدثر كما أشار إليه الزمخشري في (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) [سورة المزمل : ١].

قوله تعالى : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ).

في الآية إشكالان ، معنوي ولفظي ، أما الأول : فإذا ظرف بمعنى الوقت ؛ فالمعنى : فإذا حضر وقت النقر في الناقور فذلك الوقت وقت أن ينقر في الناقور ، وقت تمييز ؛ لأن التنوين في (يَوْمَئِذٍ) عوض من الجملة المحذوفة المفهومة من (فَإِذا نُقِرَ).

إلا أن يقال أن (يَوْمَئِذٍ) بدل من ذلك.

الإشكال الثاني : أن إذا ظرف لما يستقبل من الزمان و ..... (١) ظرف لما مضى فكيف صح اجتماعهما في كلام واحد ؛ لأنه إن كان ماضيا فلا معنى لإذا ، وإن كان مستقبلا فلا معنى لأن ، والجواب : أنه مستقبل وأدخلت إذ لوجهين : إما لتحقيق وقوعه مثل (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا) [سورة النحل : ١] ، وإما باعتبار ما يأتي بعده من الأمور المستقبلة عنه فهو ماض بالنسبة إليها.

قوله تعالى : (إِنَّهُ فَكَّرَ).

من الأصوليين من جعل الفكر عين النظر وهو الفخر ، قال : النظر والفكر ترتيب أمرين ليتوصل بهما إلى ثالث ، ومنهم من جعلهما متغايرين وهو إمام الحرمين ، فالفكر هو استحضار أمور ومعلومات ، والنظر هو ترتيبها ليتوصل بها إلى نتيجة.

قوله تعالى : (ثُمَّ قُتِلَ).

العطف بثم إشارة إلى أنه لعن لعنا بعد لعن [...] التكثير والتكرار مثل : ثم [...] الجيش [...] البصر ، وقال مالك في كتاب الأيمان بالطلاق : وإذا قال لها : أنت طالق ثم طالق ثم طالق إنه يلزمه الثلاث ، وتوقف في العطف بالواو.

قوله تعالى : (ثُمَّ نَظَرَ).

__________________

(١) طمس في المخطوطة.

٣١٧

أما أن يراد الإبصار أي نظر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى قومه ، أو يراد بالنظر غير الفكر فيكون أولا استحضر المعلومات فقط فحكم بما حكم به من غير جزم ، ثم نظر ثانيا ورتب الدلائل فحكم بما حكم جازما به ومعتقد أنه أحق.

قوله (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) إما أن يكون على معنى حرف العطف فتكون الجملتان متباينتين ، وإما أن نقول أنهما على حقيقتهما متصلتان لأجل اشتراكهما في مخالفتهما القرآن وفي القدح فيه ، فالأولى تضمنت أنه سحر ، والثانية أنه مخلوق حادث لحصولهما شيء واحد هو أنه مستفعل مختلف ، ولا يصح أن تكون الثانية بدلا من الأولى ؛ لأن القول أعم من السحر ، والأعم لا بد له من الأخص.

قوله تعالى : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ).

أي لا تبقي شيئا حاصلا فينا إلا محقته ، ولا تذر شيئا خارجا منها يستحق الدخول فيها إلا أدخلته فيها.

قوله تعالى : (تِسْعَةَ عَشَرَ).

قال بعضهم : السر في تخصيص هذا العدد أن مجموع ساعات الليل والنهار أربع وعشرون ساعة ، منها خمس ساعات للصلوات الخمس المفروضات ، يبقى العدد المذكور في الآية.

ابن عطية : قال بعض الناس : أنهم على عدد بسم الله الرحمن الرحيم ، نريد على عددها مكتوبة ، فيعد بسم ثلاثة أحرف ، والله أربعة أحرف ، والرحمن ستة ، ولا يعد الألف المحذوفة ولا الحرف المشدد.

ابن الخطيب في شرح الأسماء الحسنى ، قوله تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) فسر بثلاثة أمور :

أحدهما : أن اليوم بليليه أربع وعشرون ساعة ، خمس منها مشغولة بالصلوات الخمس وبقيت تسعة عشر خالية عن ذكر الله تعالى فكان عدد الزبانية كعددها.

الثاني : أبواب جهنم سبعة ، ستة للكفار وواحد للفساق ، وأركان الإيمان ثلاثة : إقرار واعتقاد وعمل ، فالكفار تركوا الثلاثة فلهم تحسب تركهم ثلاثة من الزبانية على كل باب من الستة فالمجموع ثمانية عشر ، والفساق أتوا بالإقرار والاعتقاد دون العمل فلهم من الزبانية واحد فالمجموع تسعة عشر.

٣١٨

الوجه الثالث : أن عدد الزبانية في الآخرة على عدد القوى الجسمانية المانعة من تفرقة الله وخدمتها النفس الناطقة ، وتلك القوى تسعة عشر خمسة في الحواس الظاهرة ، وخمسة في الحواس الباطنة ، واثنان هما الشهوة والغضب ، وسبعة في القوى الطبيعية ، وهي : الجاذبة ، والماسكة ، والهاضمة ، والرافعة ، والبادئة ، والناهية ، والمؤكدة فمجموع هذه القوى تسعة عشر ، وهي الزبانية الواقعة على باب جهنم ، وعلى وفق هذه العدة زبانية جهنم الآخرة.

قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً).

الزمخشري : من إيقاع المسبب موقع السبب ؛ أي وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر ، وكونهم تسعة هو سبب الفتنة ؛ لأن الفتنة أعم من كوننا تسعة عشر أو أقل أو أكثر ؛ فالعلة بالإطلاق ليست فتنة ، وإنما الفتنة هذه العدة الخاصة ، فإن قلت : إضافتها إليهم تفيد هذه المعنى فلا يحتاج إلى تقدير ، قلت : الإضافة لا عهد فيها ، وإنما العهد في الألف واللام ، وفرق ابن البناء في رفع الحجاب بين العدد والعدة ، فانظره ، وحمله ابن عطية على حذف الفتنة ؛ أي وما جعلنا عدتهم هذا القدر المخصوص إلا فتنة ، أو وما جعلنا عدتهم تسعة عشر إلا فتنة.

قوله تعالى : (لِيَسْتَيْقِنَ).

أبو حيان : يمتنع تعلقه بجعلنا لما يلزم عليه من تعليل الفعل الواحد بعلتين مستقلتين ، انتهى.

الحكم الشرعي : يجوز عندنا تعليله بعلتين مستقلتين فالجمع يجوز ذلك فيه من باب آخر ، لكن نص النحويون على منع إتيان حالين أو ظرفين أو مجرورين أو مفعولين لأجل من فعل واحد إلا بحرف العطف إلا أن يكونا في معنى واحد ، فلا يجوزون إكراما لك هيبة لعمرو فلهذا قال : ولكن أنه على تقدير فعلنا ذلك لنستيقن.

قوله تعالى : (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً).

اختلفوا في زيادة الإيمان ونقصه على ثلاثة أقوال : والثالث أنه يقبل الزيادة دون النفس وهو ظاهر وهو مشكل على قواعد الأصوليين ؛ لأن الزائد على الإيمان إما أن يكون مثله أو غيره ، فإن كان غيره فليس [.....] قالوا : إيمانا ، وإن كان مثله فيلزم عليه اجتماع المثلين في المحل الواحد وهو باطل ؛ لأن الصفة إذا قامت بمحل أوجبت له الاتصاف بها ؛ فذلك القدر الذي ازداد هذا إيمانا إن كان بحيث لو زال عنه ثبت له ضده وهو الكفر وهو إيمان ، ويمتنع اجتماعه مع مثله إذ لا يقبله المحل ؛ لأنا إن قلنا :

٣١٩

الإيمان محله العقل ، فنقول : الإيمان الأول قد تلا العقل وعيه ، وعبر جميعه فلا يجد الإيمان الثاني في العقل محلا يكون فيه إلا لو كان الإيمان الأول قام نصفه [٨٢ / ٤٠٨] العقل فيقوم الثاني بنصفه الآخر الذي هو فارغ منه ، ومثاله الشيء الأحمر لا يقبل أن يقوم به حمرة أخرى إلا إذا أتى فيه جزء لم تقيم به الحمرة ، فإن قلت : إنه يريد باعتبار المتعلقات فمن ظهرت له ازداد تسبيحا وترنما تنزيها وتعظيما لله عزوجل كهذه الآية ؛ لأن من آمن من أهل الكتاب وجدوا هذه الآية موافقة لما في كتبهم فازدادوا إيمانا إلى إيمانهم ، قلت : الذي يطلب من المؤمن حين الإيمان وممن يعلمه زيادة ، وإنما الجواب أن يقال : إن تلك الزيادة تكميل مجازي راجع إلى قوة الإيمان وضعفه باعتبار الظهور والجلاء.

قوله تعالى : (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ).

فيها من أنواع البديع أبلغ من التفريق ؛ لأنه ذكر أولا كل صنف [...] الخاصة به ، قلت : فنسب لأهل الكتاب الاستيقان وللمؤمنين ازدياد الإيمان ، وجمع الفريقين هنا في عدم الارتياب ، وأورد الزمخشري هنا سؤالا ، قال : ما الفائدة في نفي الريبة عنهما مع أن اليقين وازدياد الإيمان يستلزم ذلك؟ وأجاب ما حاصله أنه مبالغة للتأكيد ، ويجاب أيضا بأن اليقين وزيادة الإيمان مثبت للفريقين ، والفعل من سياق الثبوت مطلق فلا يقتضي الدوام بوجه ، والارتياب منفي والفعل في سياق النفي عام ، فأفاد الأول حصول زيادة الإيمان للمؤمنين ، وأفاد الثاني دوام ذلك لهم إذ لعلة تحصل في زمن ثم يفرض فيه الشك في الزمن الثاني ، وقول القرطبي المراد بذلك. ومن تأتي في المستقبل وكل كتاب يرد بأن مالكا قال : إذا قال : كل مملوك لي حسن حدث ، إنه إنما يتناول ما في ملكه حينئذ لا ما حدث له بعد ذلك ، والمؤمنون يحتمل أن يكون من عطف العام على الخاص فيكون المراد بأهل الكتاب المؤمنين ، وبالمؤمنين من آمن من أهل الكتاب ومن غيرهم ، وأورد الزمخشري هنا سؤالا وأجاب عنه ، ونقل الطيبي عن صاحب الانتصاف : أن السؤال المذكور دائما يرد على قواعد المعتزلة ، وبدأ بالمنافقين ؛ لأن منه [.....] هذه المقالة منهم أغرب.

قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ).

تقديم المفعول واجب إن كان الفاعل مقرونا بإلا اتفاقا ، وتقديم الفاعل واجب إن كان المفعول مقرونا بإلا على اختلاف ، وسبب ذلك أنك في الأول استثنيت من كلام ناقص وهنا استثنيت من كلام تام ، ومثله : ما ضرب إلا عمرو زيدا فاستثنيت من كلام

٣٢٠