تفسير ابن عرفة - ج ٤

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٤

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٣٩٩

وغائب ، غلب ضمير المخاطب على الغائب ، لأنه أبلغ حسبما نصوا عليه ، وأورد الزمخشري سؤالين : لأي شيء فردت أذن ولأي شيء نكرت ، وأجاب من [٨٠ / ٣٩٨] الأول : بأن فائدة إفرادها الإيذان بأن الرعاة فيهم قلة ، فأفردت لتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم وعلل الثاني : بأنها نكرت للدلالة على أن الإذن الواحدة إذا ، وعقلته عن الله فهي السواد الأعظم فنكرت للتعظيم.

قوله تعالى : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها).

قال الزمخشري : الملك أعم من الملائكة ، واستدل بالنفي كقولك : ما من ملك إلا وهو شاهد ، هو أعم من قولك : من مليكة ، أبو حيان : لا نسلم أهميته ، بل هما متساويان كما أشار إليه ابن الحاجب في باب العموم في الجمع المنكر انتهى ، وهم الزمخشري ، لأنه لا يلزم من أهمية النفي نقيضه ، وهو الثبوت والملك في الآية في ظرف الثبوت ، لأن نقيض الأعم أخص من نقيض الأخص ، ونقيض الأخص من نقيض الأعم.

قوله تعالى : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ).

ابن عطية : الظن بمعنى اليقين ، الزمخشري : بمعنى العلم ، القرطبي : على بابه أي ظننت أن الله تعالى سيحاسبني ويعذبني ولم أتحقق أنه يغفر لي انتهى ، ويحتمل أن على بابه ، كما تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى : (يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [سورة البقرة : ٤٦] ، عقبه كما حكى عياض في المدارك عن أبي عبد الله التستري : أنه كان يقول : من أصبح وهو لا يظن أنه يمسي ، أو أمسى وهو يظن لا يصبح ، فليس بمؤمن أو فليس بمتقي ، وقرأ حمزة بإسقاط الهاء من (كِتابِيَهْ ، مالِيَهْ) وأثبتها في الباقي ، وقرأ الباقي من القراء بإثباتها في الجميع وصلا ووقفا ، اقتداء بخط المصحف ، ابن عطية : قال الزهراوي : إثبات أنها في الوصل لحن لا يجوز انتهى ، كيف يقال فيما ثبت في المصحف أنه لحن هذا لا يصح.

قوله تعالى : (دانِيَةٌ).

لما وصفها بالعلو وشأن المكان العالي أن تكون أشجاره كذلك ، فأزال ذلك بأنها مع علوها ثمارها قريبة التناول سهلة المأخذ.

قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ).

الواو لازمة هنا لأنها في التسمية من باب المفاعلة ، ولا يصح هنا الفاء ولا غيرها ، وإلا ظهر أن من موصولة ، لأن الشرط لا يقتضي وجود الموضوع.

٢٨١

قوله تعالى : (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ).

إن قلت : لأي شيء عطفه بالواو ولم يعطفه بالفاء المقتضية للتسبب ، لأن إنما الكتاب سبب في داريته حسابيه ، وعدمه سبب في عدم درايته حسابه ، فالجواب : أنه لو عطف بالتاء مثبتا كان المتمني سواء الأول فعطفه بالواو على أنه تمنى كل واحد من الأمرين على حدته.

قوله تعالى : (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ).

إما أن المراد يا ليت الموتة الأولى كانت قاضية علي ، فيحتاج إلى تعذر وصفه ، أي القاضية الأبدية التي لا رجوع منها للحياة ، وإما أن المراد يا ليت هذه الحالة التي أنا فيها من العذاب كانت تقضي عليه [...] ولا يحتاج في هذا إلى تقرير صفة الأبدية ، لأن المعنى يهتدي لذلك ، فإن قلت : هذه الآية ترد قول المتكلمين : وجود خير كلمة والعدم شر كلمة ، فإن هذا قد تمنى العدم ، وهو عنده خير من الوجود ، فالجواب : أنه إنما تمنى العدم لما نابه من شدة العذاب في وجوده ، وقولهم : العدم شر كلمة بالنظر لنفسه فقط لا لعارض يعرض.

قوله تعالى : (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ).

أجاب بعض الشيوخ : الوقف هنا ويهتدي سلطانيه ، (خُذُوهُ) أي يقول الله : سلطانيه خذوه ويخاطب الملائكة فقط ، سلطان المراد به الجنس ، ويكون أمرهم بأحده وهذه صحيح في المعنى ، لكن فيه تكلف (خُذُوهُ) إن قلت : لأي شيء روعي في آية أهل اليمين لفظ ، ومعناها تقيد (كُلُوا وَاشْرَبُوا) ، وهنا رد على لفظها فقط ، فالجواب : أن أهل اليمين المطلوب تكثيرهم فناسب الجمع ، وأهل الشمال المطلوب تقليلهم فناسب الإفراد ، وإن كانوا باعتبار الوجود أكثر عذرا ، أو انظر هل الحض على إطعام المسكين أعم من إطعامه ، أو بينهما عموم وخصوص من وجه دون وجه ، لاجتماعهما فيما إذا حض الإنسان نفسه على الإطعام وأطعم ، أو هما ضدان ، وهو الأظهر كما أن الصواب أن صفة العلم ليست أعم من صفة القدرة ، بل هما صفتان متباينتان.

قوله تعالى : (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها).

جعله ابن عطية من باب القلب ، أي اسلكوا السلسلة فيه وحده ، الزمخشري :

على ظاهره ، وقال : إن السلسلة تحيط به ويلف فيها وإطعام الطعام أشق على النفوس من مجرد الحض على إطعامه ، فألزم على تركه أشد وأولى من الزم على ترك الأشق

٢٨٢

الذي هو الإطعام وإطعام الطعام [٨٠ / ٣٩٨] مقصد والحض عليه وسيلة ، والذم على ترك المقصد آكد فإذا أمروا على ترك الوسيلة ، فأحرى أن يذموا على ترك المقصد والوصف بالعظيم ، وانظر هل واحد من الأمرين علمه مستقلة فيستفاد منه أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أو العلة ، إنما قد عدم إيمانه ، والآية نزلت في أبي جهل ، وليست خاصة به ، لأن خصوص السبب لا يمنع من عموم اللفظ.

قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ).

الفاء للتسبيب وتقرير السببية ، أنه لما تقدم ذكر من أوتي كتابه بيمينه وفرحه وثوابه ، ومن أوتي كتابه بشماله وحسرته وعقابه ، وكان ذلك أمرا مغيبا لا يصدق به إلا من آمن ، أتى هنا بفاء السببية إشارة إلى أنه بسبب ذلك وقع القسم على أن القرآن المتضمن لما تقدم قول صادق ، ومنهم من جعل النفي لما تقدم ووجهه أن المنكر للحشر والنشر والحساب ، لا بد أن يأتي بشبهة على مذهبه ، وهؤلاء ليست لهم شبهة على تكذيبهم ، وينبغي على هذا أن يوقف على قوله : فلا ، وإن جعلت النفي متعلقا بالقسم ، فيكون غير مراد حقيقة ، أي هذا الأمر ظاهر بحيث لا يحتاج إلى القسم عليه ، وقرئ فلا أقسم على أنها لام الابتداء دخلت على فعل القسم.

قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ).

إن قلت : هلا قيل : لكلام رسول ، لأن الكلام أخص من القول ، لانطلاق القول على المقيد وغيره في الاصطلاح ، فالجواب : أنه إذا قيل هذا في القول المطلق على المقيد وغيره ، فأحرى الكلام ، فإن قلت : هلا قيل : إنه لقول رسول أمين من رسول صادق ، فالجواب : أنه ليس المراد حقيقة الكلام ، بل المعنى لقول رسول موصوف بالخير أو موصوف بالحسن والكمال.

قوله تعالى : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ).

فيه سؤال يورد في حسن الائتلاف ، وهو ما الحكمة في تخصيص بتؤمنون ، والثاني : يتذكرون ، وجوابه : أن الشعر لما كان أمرا ظاهرا يدركه كل أحد بفطنته ، ويعرف أنه شعر عبر عنه بالإيمان الذي هو محمود التصديق ، ولما كانت الكهانة أمرا خفيا لا يدرك إلا بفكر وتأمل قرأنا بالتذكير.

قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ).

تقرر أن لو عند النحاة منع فيها الثاني لامتناع الأول ، لأن الأول سبب في الثاني ، وعند الأصوليين يمتنع فيها الأول لامتناع الثاني ، لأن الثاني لا بد أن يكون متساويا

٢٨٣

للأول أو أعم منه ، ويلزم من نفي الأعم نفي الأخص ولا ينعكس ، وكذلك يلزم من على المسبب على مسببه إذا كان أخص ، فإن قلت : هلا أفرد القول ، فيقال : لو تقول علينا قولا ، لأن العقوبة على الكذب في القول الواحد ، تستلزم العقوبة على الكذب في الأقوال المتعددة من باب أحرى ، فالجواب : أن القول تارة يكون مشتملا على جملة واحدة مدلولها ، وتارة يشتمل على جمل بعضها صدق وبعضها كذب ، فتضمنت هذه الآية أنه لو تكلم بأقاويل تقول علينا في بعضها وصدق في البعض ، لما جعلناه بالعقوبة الشديدة ، فيستلزم من باب أحرى مخاطبته بالعقوبة ، أن لو تكلم بقول واحد كله كذب.

قوله تعالى : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ).

استدل بعضهم بهذه على أن الفاء في جواب الشرط لتأكيد التعقيب ، فضلا عن أن تكون للتعقيب ، حسبما ذكر الأصوليون والفقهاء الخلاف في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [سورة المائدة : ٦] ، وتقرير الدليل من هذه الآية ، أن جواب الشرط فيها لو لم يفهم على أن عقيب الشرط لما صح الاحتجاج على الكفار ، لأنهم يقولون : تقول وعقوبته مؤخرة ، وليست عاجلة في الدنيا ، فلا يستقيم الاستدلال عليهم بهذا ، فلو لا أن جواب الشرط بذاته يقتضي التعقيب من غير احتياج إلى إدخال العافية لما استقام هذا دليلا على الكافرين ، فدخول الفاء مؤكدة للتعقيب ، ويستحيل أن يكون الفاء غير مفيدة للتعقيب ، لأنه يناقض معنى ملزومية الشرط لجوابه ... (١) بأن ذلك الاختلاف إنما موجب يكون جواب الشرط أو نهيا ، وأما إذا كان جوابه خبرا ، فلا خلاف فيه ، أو يقال أن التعقيب هنا مستفاد من القرينة لا من نفس اللفظ ، لكن يقال : الأصل عدم القرينة ، قال القرطبي : يحتمل أن يرد باليمين القوة ، ومن زائدة ، أي لأخذنا بالقوة وحكى هذا في غاية الضعف ، لأن من لا تزاد في الواجب.

قوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ).

إن قلت : هلا عطفه بالفاء كالأول ، فالجواب : أن النصرة مهما تصورت ، فلا تكون إلا من الجماعة عقب نزول البلاء ، وإن تراخت منه وأبطأت فلا فائدة فيها والقيام [٨٠ / ٣٩٩] صح.

قوله تعالى : (حاجِزِينَ).

__________________

(١) طمس في المخطوطة.

٢٨٤

مراعاة لمعنى من أحد إشارة إلى أن الواحد لا تعد منه النصرة ، وإذ أتيت النصرة عن من هو في مظنة أن يقدر عليها ، فأحرى أن يتقي على من لا يقدر عليها ، فإن قلت : لم قال : (مِنْكُمْ) ، والخطاب للكفار وليسوا بصدد أن ينصروه ، فالجواب : أن فيهم أقاربه كأبي طالب ونظائر له كانوا يناضلون مع كفرهم به ، واحتج بهذا ابن عصفور في شرح الجمل الكبير على جواز تقديم خبر إن على اسمها ، إذا كان ظرفا أو مجرورا ، لأنه قدم هنا معمول الخبر على الاسم ، مع أنه ليس باسم لما ولا خبر لها ، وقد منعوا كان طعامك زيدا [...] كان ما ليس باسم لها ، ولا خبر فإذا أجاد ذلك فأحرى في أن.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ).

أي أن الناس نظروا فيه ، فالمتقون تذكروا واعتبروا ، والآخرون نظروا فلم يتذكروا أو لم يعتبروا بوجه.

قوله تعالى : (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ).

أن الخطاب للكفار ، فمن لبيان الجنس ، وليس هو إخبار بالمعلوم ، لأنه على جهة التهديد والوعيد ، وإن كان الخطاب لعموم الناس ، فالمراد من سيكذب منهم في المستقبل.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ).

القرطبي : يحتمل أن يعود الضمير على حسرة باعتبار معناها ، وهو التخيير المفهوم منها ، لأنه مذكر.

قوله تعالى : (فَسَبِّحْ).

الفاء للتسبيب ، وقول النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم : لما نزلت" اجعلوها في ركوعكم" ، أي اجعلوا مدلولها.

٢٨٥

سورة المعارج

قوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ).

لم يذكر ابن عطية القراءة بتحقيق الهمزة ، وهي قراءة نافع وابن عامر ، (سَأَلَ) ، ساكنة الألف ، قال بعضهم : هي سأل بالهمزة إلا أنها سهلة ، وهي لغة مشهورة حكاها سيبويه ، فالألف منقلبة عن واو ، وأما قول الشاعر :

سألت هذيل رسول الله فاحشة

ضلت هذيل بما سألت ولم تصب

فقال سيبويه : هو على تسهيل الهمزة ، وقال غيره : وعلى لغة من قال : سألت ، ونقل ابن هشام في شرح الإيضاح في باب زيادة الهمزة عن سيبويه عكس هذا سواء وجعله مثل أولج يولج ، فإنه من ولج ، وقرئ (سَأَلَ سائِلٌ) بغير همز وحملوه على وجهين : إما أنه من السؤال أو من السيلان ، وعلى هذا يكون من مجاز المجاوزة ، واستدل بعضهم بالآية على صحة تنكير الفاعل.

قوله تعالى : (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ).

وفي سورة السجدة (أَلْفَ سَنَةٍ) [سورة السجدة : ٥] ، وفي الحج (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ) [سورة الحج : ٤٧] ، والجواب : أنها مواطن فهو لا قوام في غاية الشدة والآخرين دون ذلك ، وأجاب القرطبي : أن العروج هنا من قعر الأرض السابقة وسطح الأرض ، فيلزم على هذا أن يكون بين سطح الأرض والعرش مسيرة ألف سنة ، وبين قعر الأرض السابعة وسطحها تسعة وأربعون ألف سنة ، وهذا باطل بالبديهية ، ولا يفرق باعتبار المنتهي ، لأن منتهي المسافة غير معين في الجميع ، فلا تناقش وكون العروج من قعر الأرض السابعة ، كما قال مجاهد : يعهد لأنها غير معمودة ، وهم إنما يعرجون بأعمال العباد أو بأزواجهم ، ابن عطية : قيل : المراد في يوم من أيامكم هذه ، ومقدار المسافة أن لو عرفها إذ هي خمسون ألف سنة من أيامكم ، وقيل : المراد في يوم من أيامكم كان مقداره في نفسه ألف سنة من أيامكم انتهى ، التأويل ظاهر وأما الثاني فيستحيل فيه حمل اليوم على خمسين ألف سنة حقيقته ، ولا بد أن يراد به مطلق الزمان لاستحالة مساواة الجزء للكل في القدر ، ابن عطية : وقال عكرمة : أراد هذه الدنيا مقدارها خمسون ألف سنة ، لا يدري أحد ما مضى منها ولا ما بقي انتهى ، كذا ذكر المسعودي والمؤرخون ، وذكر المنجمون وغيرهم ، أن مقدارها سبعة آلاف خمسون ألف سنة ، وهو ظاهر قوله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم أجمعين : " ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل ماله له عقارب من

٢٨٦

نار يكوى بها جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة انتهى ، إن أراد أن هذا هو ظاهر لفظ اليوم ، فلا حاجة إلى استدلاله بالحديث على الآية ، وإن أراد أن هذا هو الذي يتأول عليه ، وفيهم مدلوله ومعناه عليه ، فكما تأويله في الآية فكذلك يتأوله في الحديث ، وعبر بالسنة دون العام لخروج الآية مخرج التخويف ، فإن قلت : ما فائدة كان ، وهلا قيل : في يوم [٨٠ / ٣٩٩] مقداره خمسين ألف سنة ، فالجواب من وجهين :

الأول : المعنى جعله الله في الأزل قدر خمسين ألف سنة ، الثاني : الماضي محقق الوقوع ، فالمراد أن هذا اليوم ثبت تقديره بذلك ، واستقر بحيث لا يتوهم فيه تغيير ولا نقص ولا تبديل ، كما أن قول الصادق منا : قام زيد محقق الوقوع ، بخلاف قوله : يقوم زيد فإنه قد يبدأ له أو يمنعه منه مانع.

قوله تعالى : (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي).

من التمني في المستحيل الوقوع والممكن الوقوع ، والترجي لا يكون إلا في الممكن ، والمحبة إلى الترجي أقرب ، فهل الود راجع إلى معنى التمني أو المحبة ، والظاهر الثاني أن لا يقال فيما يستحيل وقوعه ود فلان كذا ، فإن قلت : قد قاله هؤلاء ، قلت : هذا مستحيل في نفس الأمر ، وهو في اعتقاد هو جائز ممكن غير مستحيل ، ولو إن كانت بمعنى إن ، فالمعنى يود المجرم الافتداء من العذاب ببنيه ، وإن كان شرطية فالود متعلق بملازمته الشرط للجواب ، أعني أنه متعلق بتقدير الافتداء ، أي يود والمجرد تقدير أنه يفتدي ويقبل منه الفداء ، أعني يود أن يكون ذلك جائزا ممكنا ، فهو أدق من الأول ، لأنه على الأول يكون الافتداء غير واقع ، وهذا الترتيب يمكن أن يكون متدليا وأن يكون توقيا ، فتقدير التدلي أن البنين أحظى وأحظ للنفس ، والزوجة أحب من الأخ ، بدليل جواز شهادة الأخ لأخيه إذا كان عدلا بخلاف زوجته ، ويتفرد أيضا بأن الابن أقرب من غيره ، بدليل منع الأب من التصرف في ماله ، وإذا سرق الأب من مال ولده لا يقطع ، فحكم الأب على ابنه أقوى من زوجته ، والزوجة تليه بدليل منه كامل التصرف فيما زاد على الثلث من مالها إلا بإذن زوجها ، والأخ بعد ذلك لأنه ليس لأخيه عليه حكم ، لكن هذا تقرير فقهي ، وهذه الأمور إنما تجري على الأحكام اللغوية أو العرفية ، وتقريره أنه ترقى من وجهين :

الأول : أنه اعتبر المعطوف والمعطوف عليه جملة ، فجعل أنه يود أن يفتدي من عذاب يوم ببنيه فقط أو يفتدي عوضا عن ذلك مجموع صاحبته وأخيه وفصيلته ، وهو أشرف من الأبناء باعتبار الكثرة والتعدد ، أو يود أنه يفتدي من العذاب ببنيه والزوجة ،

٢٨٧

ثم يود أن يفتدي من ذلك بالأخ والفصيلة ، وهو الأكثر من الأولين فهو أقوى في الحظوة.

الوجه الثاني : أنه ترق باعتبار المحبة وتعلق النفس لقولهم : من أحب شيئا استكثر منه ، فالإنسان ما يستحضر في ذهنه إلا من يحب قصد نزول البلاء ، إنما يود الفداء بمن دونهم في المحبة ، ثم بمن دونهم ، فإن قلت : إنما جرت عادة العرب ، أن يفتدوا آبائهم وأمهاتهم يقولون ، كما في الحديث : بأبي أنت وأمي ، قلت : هذاك بالعرف ، وهذا باعتبار الحقيقة.

قوله تعالى : (كَلَّا).

قال الغزالي : لم تقع في القرآن إلا في النصف الثاني ، والحكمة في ذلك أن الأول أكثر مدني ، والزجر في المدينة إنما كان بالسيف ، قال تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ) [سورة لتحريم : ٩] ، (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [سورة التوبة : ٢٩] ، (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [سورة التوبة : ٣٦] ، والنصف الثاني : أكثره مكي ، والزجر في الحكمة إنما كان بالقول.

قوله تعالى : (إِنَّها لَظى).

قال بعضهم : هذا يدل على جواز عود الضمير على ما بعده لموافقة الاسم في الخبر للتأنيث.

قوله تعالى : (مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى).

يحتمل أن يكون العطف تأسيسا ، ويكون المراد بأدبر من لم يزل كافرا ويتولى المرتد ، أو المراد بمن أدبر الكافر ، وبمن تولى المنافق ، لأن أقبل على الإيمان بظاهره ، وتولى عنه بباطنه ، وكان القاضي أبو علي عمر بن الربيع يقول : إن كلا هنا ليست للزجر ، لأن الزجر إنما يصلح ، حيث يمكن الانزجار إلا أن لا يكون الزجر على حقيقته ، بل على سبيل التبكيت عليهم ، قال شيخنا : بل هي للزجر ، وتظهر فائدته في الدنيا ، لأنهم إذا سمعوا هذه الآية قد ينزجر بعضهم عن كفره ومخالفته فينجوا من العذاب.

قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) [٨٠ / ٤٠٠] ، الزمخشري : المعنى لإشارة الجزع والمنع وتمكنهما منه ، صار كأنه مجبول عليهما ، وكأنه أمر خلقي غير اختياري ، لأن من كان في البطن لم يكن له هلع ، ولأنه ذم والله لا يذم فعله انتهى ، هذا من الكلام الموجه فالمعتزلي يعني به أن الله لا يخلق القبيح الموصوف بالذم ،

٢٨٨

فيقول : لا يذم فعله ونحن نحمله على أنه يخلق الخير والشر لكن بها يوصف فعله بالذم عقلا ، بل الكل في حقه حسن ، والعقل لا يحسن ولا يقبح ، وإنما الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه ، فإن قلت : يؤخذ من الآية أن الملائكة أفضل من البشر ، لأن من خلق غير هلوع أفضل ، قلت : إنما يصح هذا لو كان التفضيل عقليا ، لكن عندنا شرعي فلامتناع في خلقه هلوعا وضعيفا ، ومن عجل مع تشريفه ، لأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

قوله تعالى : (الَّذِينَ).

الأظهر أن هذا من عطف الصفات لا من عطف الموصوفات لسعة رحمة الله تعالى.

قوله تعالى : (يُصَدِّقُونَ).

عبر بالفعل المضارع لتجرد تصديقهم مهما ورد عليهم خبر من أخبار يوم الدين والإيمان أعم عندنا من التصديق لأنه أخص ، لأن المعاد مستفاد من السمع لا من العقل ، فإن قلت : كلام ابن الحاجب في احتجاجه لأهل السنة على المعتزلة يقتضي أن التصديق عندهم هو الإيمان ، قلت : نص ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية على أن التصديق من عوارض الخبر ، وذكر المتكلمون في الإيمان بوجود الصانع ووحدانيته ، هل يدركه السمع أو الدليل البرهاني العقلي ، وهو الصحيح فمن وحد الله مؤمن مع أنه لم يسمع من أحد دليلا على ذلك فصدقه بل علمه بدليل عقلي ظهر له ، فإن قلت : صدق الدليل البرهاني ، وقلت : لا يسمى ذلك تصديقا ، فإن قلت : قد قسم المنطقيون العلم إلى تصور وإلى تصديق ، فترى التصديق على نفس العلم بالشيء من غير سماع خبر ، قلت : هذا كاصطلاح هؤلاء وما كلامنا إلا في اصطلاح أهل علم الكلام ، وقول الزمخشري : يصدقون بيوم الدين تصديقا بأعمالهم واستعدادهم له إشارة إلى مذهبه ولا ينافى مذهبنا نحن.

قوله تعالى : (مُشْفِقُونَ).

عبر هنا بالاسم إشارة إلى أنهم مهما سمعوا وعظا وزجرا ثبت لهم الخوف دائما من غير زوال ولا انتقال ، وذكر أبو طالب في القوت هنا كلاما خلفا لا ينبغي ، وحاصله أن صنفا من الملائكة حصل لهم كمال الخشية ، بحيث لا يعتقدون أنهم ينجوا من العذاب ، والذي يجب اعتقاده أن الملائكة معصومون.

قوله تعالى : (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ).

٢٨٩

نزوله بمن اتصف بنقيض تلك ، وهو جار مجرى التعليل للإشفاق والعطف في هذين ترق ، لأنه باعتبار الكسب العلمي وما قبله باعتبار الكسب العملي.

قوله تعالى : (لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ).

[.....].

قوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ).

الظاهر أن أو للتخيير لا للتفضيل ، فلا يكون حجة لوجوب نكاح الحرة مع الأمة ، ولو كانت للتفضيل لما جاز نكاح الأمة إلا لمن يجده ولا للحرة ، فإن قلت : أو التي للتخيير لا يجوز الجمع فيما بين الشيئين المتأخر فيهما ، وهنا يجوز الجمع بين الحرة والأمة ، قلت : لا يجوز الجمع هنا بين النكاح وبين اليمين والذات الواحدة ، فلا تكون الأمة والحرة [...] واحدة في حالة واحدة ، والتخيير والمتضمن لعدم جواز الجمع في أو مطلق ، والمطلق يصدق بصورة فيكفي فيه صدقه في هذه ، وإن كان لا يصدق في الجميع ، وذكر الشهناجي في شرح الجلاب كلاما استنبطه من هذه الآية ، يتضمن جواز وطء الذكور بملك اليمين لا يحل نقله.

قوله تعالى : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ).

يدل على أن الاستثناء من الإثبات نفي ، وهما مسألتان ، إما الاستثناء من النفي قولان : قيل : نفي ، وقيل : إثبات ، وإما الاستثناء من الإثبات فالأكثرون يحكون فيه الاتفاق وكذا ابن الحاجب ، لأنه قال : الاستثناء من الإثبات نفي ، وبالعكس خلاف للحنفية فحمله الشراح على أن خلاف الحنفية في الأخير فقط ، وقال القرافي : سألت عنها علماء الحنفية في زماننا ، فقالوا : [٨٠ / ٤٠٠] إن الخلاف فيه عندهم ثابت ، وحكى أيضا الآمدي في شرح الجزولية فيه الخلاف ، فإن قلت : فعلى مذهب الأكثرين أنه نفي ما فائدة قوله (غَيْرُ مَلُومِينَ) ، قلت : فائدة إما التأكيد وإما التنبيه على أن الاستثناء المتقدمة ليست واجبة ، بل جائزة.

قوله تعالى : (فَمَنِ ابْتَغى).

ظاهره أن الإنسان يأثم بمجرد قصده ، لكن يكون هذا قصدا صمم عليه.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ).

الأمانات : الودائع ، يحفظونها ويحوطون عليها ، والعهد : هو الميثاق أي تارة يأتمنون ولا يستحلفون قيد دون الأمانة ، وتارة يؤتمنون ويستحلفون فيحلفون على

٢٩٠

الوفاء بها والتحوط عليها فيفون بذلك ، فإن قلت : وعلى هذا يكون عطف وعهدهم ترقيا ، لأن العهد في الأشياء المشفقة والأمانة المجردة في الأشياء الخفيفة ، قلت : بل هو بدل لأنهم إذ أوفوا مع عدم الاستحلاف ، فأحرى مع الاستحلاف.

قوله تعالى : (بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ).

المراد تحملها على وجهها من غير تحريف فيها ولا نقصان ولا زيادة ، فلا يشهد إلا بما يستشهد عليه ، واحتج بها بعضهم على وجوب الإيذاء والظاهر الأول.

قوله تعالى : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا).

الفاء للتسبيب ، وتقريره أنه لما تضمن الكلام السابق أن الجنات والنعيم لمن اتصف بالصفات المذكورة ، هي أخص من الإيمان وأبلغ ، ودل ذلك بمفهومه على أن من حصل مجرد الإيمان ولم يتصف بتلك الصفات لا ينال ذلك النعيم ولا تلك الجنات ، وكان الكفار طامعين بالجنة ، أتى بفاء السبب ، أي كيف يطمعون فيها والمؤمنون لم يحصلوا تلك الصفات ليسوا على وثوق من دخولها.

قوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ).

أي عن يمينك وشمالك ، أو عن يمين كل واحد منهم وشماله.

قوله تعالى : (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ).

لم يقل : أيطمعوا لئلا يتوهم أن الطمع إنما هو لرد ما بهم ، ومن له قرابة بالنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، فإن قلت : إنما تعلق طمعهم بالجنة المقدرة الوجود لا بالجنة من حيث كونهم أثبتوها ، لأنهم لم يقروا بوجودها ، فهلا قيل : أيدخل جنة نعيم ، إن كان ثم جنة ، فالجواب : أنه رد عليهم ، وإثبات للجنة وتحقيق لوجودها.

قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ).

النفي هنا كما تقدم إلا في قوله (أَفَلا تُبْصِرُونَ) ، وما تبصرون أنه لما راجع لما قبله أو نفي القسم ، وهو الظاهر ويتأكد هنا لأن المقسم عليه أوضح من الأول ، بحيث لا يتصور فيه مخالف ، لأن قدرة الله تعالى على هلاكهم وإيجاد غيرهم أمر شاهد مألوف غير مستغرب ، في ما نجد الملوك والجبابرة الظالمين يهلكون ، ويأتي خير منهم بخلاف كون ذلك القول قول رسول كريم ، فإنه لا يعلمه ويقر به إلا المؤمنون ، وأما الكافرون فإنهم يخالفون فيه.

قوله تعالى : (رَبُّ الْمَشارِقِ).

٢٩١

جمع المشارق ، لأن مشارق الشمس والقمر متعددة لهما في كل يوم مشرق ، وكذا سائر الكواكب لكل منها في يوم مشرق لا يطلع منه إلا في مثله من عام آخر وفي سورة المزمل (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [سورة المزمل : ٩] ، وفي الرحمن (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) [سورة الرحمن : ١٧] والتثنية باعتبار مبتدأ المشرق في الصيف ومنتهاه في الشتاء ، والإفراد إما على إرادة المبدأ أو المنتهى ، وهو أصوب ، لأن منتهاه غايته ، وغايته تدل على أن له مبتدأ ، فإن قلت : هلا قال : فلا أقسم بمقدر المشارق أو خالقها ، فالجواب : أنه عبر بلفظ الرب ليفيد نعمة الامتنان والرحمة في إحياء النبات والحيوان بانتقال الشمس في المشارق كل يوم ، ليعم النفع بها كل قطر وإقليم.

قوله تعالى : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ).

أي لا يسبقنا أحد لذلك ، فإن قلت : تنفي المساواة ، قلت : هي منفية بالدليل العقلي ، لئلا يلزم عليه وجود مؤثر واحد بين مؤثرين ، أعني مقدورين قادرين ، فإن قلت : يكون الثاني معينا للأول ، قلت : قد تقرر إبطال هذا في قول من فسر الكتب بأنه فعل فاعل بمعين.

قوله (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ) ، غاية للخوض لا للترك.

قوله (يَوْمَ يَخْرُجُونَ) ، يحتمل أن يكون على حذف حرف العطف ، مثل كيف أصبحت؟ كيف أمسيت؟ [...] [٨١ / ٤٠١] إلى نصب الأولى تفسيره الخير ؛ لأنه لا يشرع أحد إلى الشر.

٢٩٢

سورة نوح عليه‌السلام

رسالة نوح مقصودة على قومه ، ومن قال بعمومها فهي للإنس فقط ، وأما الرسالة فخاصة بنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والفرق بينهما أيضا أن رسالة نوح أتت لجميع أهل زمانه دون من بعدهم ، ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تزال شريعته ورسالته إلى يوم قيام الساعة ولابن المعين في أول شرح البخاري عن هذا الجزية آخر ، وكذا لابن أبي بجرة في أول ترجمة البخاري ، وأما آدم على نبينا وعليه‌السلام فأرسل لذريته خاصة بعد نزوله من الجنة ، وإن تأكيد الإرسال وتنبيه على أنه أمر معهود وعادة مستمرة ، والإنذار أخص من الموعظة وأوقع الظاهر موقع المظهر ، والأصل أن أنذرهم ؛ لأنه حكاية للكلام الذي خوطبوا به وليس فيه مضمر ، وأدخل من لابتداء الغاية إشارة إلى تأكيد الوعظ والإنذار والمبادرة به في أول أزمنة القبلية ، وقال (يَأْتِيَهُمْ) ولم يقل : ينزل بهم إما إشارة إلى أنه يقصدهم وينزل بسببهم أو أنه يأتيهم من كل الجهات ، ويؤخذ من الآية ثبوت التعذيب قبل البعثة إذ المعنى : من قبل أن يأتيهم عذاب ، قيل : الإنذار العبارة هي النطق ، فكلمة التوحيد الإيمان بالرسول والطاعة اتباعه في الفرائض وأحكام الشريعة ، وقيل : إن العطف تأكيد.

قوله تعالى : (مِنْ ذُنُوبِكُمْ).

من يحتمل أن يكون للغاية أي للابتداء أو الانتهاء ، وقول ابن عطية : هي للتبعيض ، والمراد يغفر لكم من ذنوبكم وهو المهم الموبق الكبير ؛ لأنهم أبهم عليهم بأنه لو غفرت الكبائر لغفرت الصغائر ، فيلزم إما أن يغفر الكبائر فيغفر الصغائر من أجل ذلك ، أو يغفر الجميع من أصل فلا تكون للتبعيض ، وقيل : يغفر لهم ما مضى ؛ لأن التوبة تجب ما قبلها ويبقى ما يأتي فصدق التبعيض ، والمراد يغفر لكم.

قوله تعالى : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ).

ابن عطية : احتج بها المعتزلة في قولهم في المقتول : أن له أجلين وأنه مات قبل أجله ، انتهى تقرير حجتهم لو لم يكن أجل المقتول متعددا لما استقام نفي التأخير عنه ، واللازم باطل فالملزوم مثله ، بيان الملازمة أن التقدم والتأخر أمر نسبي ، والأمور النسبية لا تعقل إلا بين ... (١) ، والجواب إما منع الملازمة وهو أن نقول الأصل متحد في علم الله ومتعدد في علمنا نحن ما سمعنا دعاء يصبح له أجل واحد عند الله تعالى لا

__________________

(١) كلمة غير واضحة في المخطوطة.

٢٩٣

يتقدم عنه ولا يتأخر ، وأجلان في فهمنا نحن واعتقادنا يصح تقدمه على أحدهما وتأخره عنه ، فإن قلت : كيف يتقرر معنى الآية وهو من تحصيل الحاصل كأنه قيل إذا جاء ، فالجواب أن الضمير عائد على الشخص المؤخر إلى الأجل المسمى ، أي أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر صاحبه ، أو يكون المراد بمجيء الأجل مقاربة مجيئه ؛ لأن الأجل هنا المراد به إهلاكهم بالعذاب ؛ أي إذا صار إهلاكهم بالعذاب لا يؤخرون عنه كما جرى لقوم يونس لما رأوا العذاب آمنوا فكشف عنهم.

قوله تعالى : (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

جوابها مقدر أي لعبدتم الله وآمنتم واتقيتموه.

قوله تعالى : (لَيْلاً وَنَهاراً).

والمراد الدوام المادي لا العقلي ، قال ابن رشد : فيمن عطف أن لا يفارق دار الحاكم مع عزيمة ليلا ولا نهارا ، إنه إلا يلزمه المقام إلا وقت الحكم فقط ، والعقلي كقولك : الإنسان حيوان ليلا ونهارا ، فإن قلت : لم نكرهما مع أن التنكير أقل تقليل ، والتعريف أعم فائدة؟ ، فالجواب أن الألف واللام للعهد فقد يتوهم معهود هناك ، وأيضا فإن المعرف بالألف واللام لا تدخل عليه أداة العموم بخلاف المنكر ، فلا نقول : كل الإنسان حيوان وكل الرجل إنسان.

قوله تعالى : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ).

عطفه بالفاء التي للتسبيب أي بسبب الدعاء ازدادوا فرارا ، فإن قلت : لما أبلغ في النهي إذ هي تنفي الماضي المتصل بالحال فلم يدل بها إلى لم ، فالجواب أن لم لنفي قد فعل ، وقل فيها معنى التوقع وهؤلاء لم يحصل لهم التوقع للخبر فقط ، فإن قلت : لم أكد هذه الجملة بأن مع موجب التأكيد شب في من الله تعالى ، والقائل : من أعلم الناس بالله ، فالجواب أنه جرى على عادة البشر في مخاطبات منكم لهم فإنهم يحترزون من أن يكون يحصر لهم من يتعرض لهم بشيء فيؤكدون كلامهم ، فإن قلت : يجاب بأنه لشدة خوفه من عدم الخروج من عهدة التبليغ ترك نفسه منزلة الشاك في حصول التبليغ ، قلت : هذا ينتج العكس ؛ لأن التأكيد ينافي الشك ويدل على التحقق.

قوله تعالى : (لِتَغْفِرَ لَهُمْ).

أوقع السبب موقع المسبب ؛ لأن الدعاء إنما هو للإيمان لا للمغفرة ، لكن الإيمان سبب في المغفرة.

٢٩٤

قوله تعالى : ... (١).

عموم قوله (كُلَّما) ليس على حقيقته وهو مخصوص بأول يقسم لهم فإنهم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حينئذ إذا لم يكن لهم علم بدعواه لرسالة إليهم ، قلت : بل هو على عمومه لوروده بعد قوله (إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) أي دعوتهم دائما فلم يؤمنوا بكم بعد ذلك دعوتهم فسدوا آذانهم وغطوا رؤوسهم ؛ ولأنهم قد سمعوه أحيانا وأصغوا له وأجابوه ، فقالوا (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [سورة الشعراء : ١١١] ، وأيضا الأول مطلق يصدق بصورة ، وهو منطلق الدعوة في مطلق زمان فلا يفيد التكرار ، فقال هنا (كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) ليفيد التكرار ، وأيضا يكون المراد بالأول الإنسان الأباء ، والثاني آبائهم أبنائهم.

قوله تعالى : (وَاسْتَكْبَرُوا).

استكبروا تأكيد الاستكبار بالعند دون الإصرار إما مراعاة لرؤوس الآي ، وإما لأن الاستكبار مدركة بالبديهة ، والإصرار من أفعال القلوب والاستكبار أشنع ، فكذلك أكده ، ووجه الترتيب في هذه المعطوفات في جعل الأصابع في الآذان قدر مشترك بين جميعهم فقدم ، وربما لم يكن عند بعضهم ثياب فلا يتوجه طلب الاشتغال بالثياب فكان تابعا لأنه أخص ، وقوله (وَأَصَرُّوا) لما كان دالا على وصفهم بالجفاء والبلادة ، وتشبيههم بالحمر الوحشية كان تابعا لما قبله ؛ لأنه ترق في الذم ، وقوله (وَاسْتَكْبَرُوا) لما كان تجافيا للجهل والبلادة وإنما يجب في حق الجاهل البليد أن يذل [...] كان هذا دالا أن جهلهم مركب ؛ فكان تابعا لأنه أبلغ في الذم وفيه تهكم بهم.

قوله تعالى : (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ).

خبر في الأقوال بالأمة إذ وفي الجنات بالجعل ، وفي سورة الشعراء (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ) [سورة الشعراء : ١٣٣ : ١٣٤] فإن قلت : لم قدم الجنات على الأنهار مع أن الأنهار سبب في حصول الجنات؟ فالجواب من وجهين :

الأول : أن الجنات مقصد والأنهار وسيلة ، والمقصد أحق بالتقديم.

__________________

(١) لم يثبت المصنف نص الآية ولكن أثبت شرحها.

٢٩٥

الثاني : أن الجنات ذكرت بعد إرسال السماء عليهم مدرارا ؛ فكأن السامع يتوهم أن المطر لا يدوم بل ينقطع أحيانا فتبقى الجنات بلا سقي ؛ فاحترس من ذلك بقوله (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً).

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ).

فيه سؤال وهو أن المعلوم للخلق بالضرورة إنما هو مجرد السموات لا كونها سببا ، وأتى نوح عليه‌السلام بهذا الدليل تقريرا على قوله فكأنه يقول لهم : ألم تعلموا أن الله خلق سبع سموات طباقا فكيف تكفرون به؟ وهذا غير معلوم إلا من جهة السمع أو من جهة النظر والرصد ، وليس بأمر ضروري ، والجواب أن علماء أهل الهيئة نصوا على أن ذلك يدرك بالرصد وأن القمر في السماء الدنيا ، وعطارد في السماء الثانية ، والزهرة في الثالثة ، والشمس في الرابعة ، والمريخ في الخامسة ، والمشترى في السادسة ، وزحل في السابعة ، وأنها كلها تكسف فتحجب بعضها ولا يدرك ذلك إلا بطول الأعمار ، فالمتقدمون لطول أعمارهم رصدوا ذلك فعلموا منه عدد السموات ، وهذه الآية من كلام نوح عليه‌السلام لقومه ، وقد كانت أعمارهم طويلة فهم ممن حصل لهم العلم الضروري بكون السموات سبعا من الرصد والكسوفات.

قوله تعالى : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً).

الزمخشري : القمر في السماء الدنيا ، وإنما قال (فِيهِنَ) لأن بين السموات ملابسة من حيث إنها طباق فجاز أن يقال : فيهن كذا ، وإن لم يكن في جميعهن ، كما يقال في المدينة كذا وهو في بعض جوابها ، انتهى. هذا دليل على أن السماء عنده بسيطة ، لقوله : إن لم يكن في جميعهن ، ولا أنا إذا قلنا : أنها كروية والقمر في السماء الدنيا ، فهو في قلب السموات السبع كلها ، ولذلك قال ابن عطية : لأن القمر من حيث هو في آخرها فهو في الجميع عند ابن عطية كروية ، وعن ابن عمران : الشمس لها وجه وظهر ، فوجهها ما يلي السماء ، انتهى. يريد أن ضوءها مختلف [٨١ / ٤٠٢] فهو من جهة قوي ساطع فسماها وجها ، ومن جهة ذلك فسماها ظهرا ، وقيل : أنها من الجهتين على حد سواء ، ابن عرفة ؛ وقيل : إن الشمس في السماء الخامسة ، وقيل : في الرابعة ، وقال عبد الله بن عمر هي في الشتاء في السماء الرابعة ، وفي الصيف في السماء السابعة ، انتهى.

وهذا عندنا جائز أعني انتقالها من سماء إلى سماء ، وأما الطبائعون فيستحيل ذلك عندهم ؛ ومراده بالسماء السابعة سماء الدنيا الموالية لنا فحينئذ يكون عندنا الصيف ، ولو كانت في أعلا الفلك كما هو المتبادر للذهن لبعدت عنا ، فإن قلت : كيف يفهم

٢٩٦

هذا مع أن زمن الشتاء والصيف أمر نسبي يختلف باختلاف الأقطار ، فإذا كانت الشمس في رأس السرطان كان عندنا أول الصيف ، وعند أهل الجنوب أول الشتاء ، وإذا كانت في رأس الجدي فعلى العكس؟ ، وكيف يفهم انتقالها وما تقول في زمن الربيع والخريف هل تنتقل فيه أو لا؟ فإن قلتم الجنوب غير معمور وإنما كلامنا في معمور الأرض ، قلت : السؤال واجب رد من حيث الجملة لا بالنظر إلى معمور وغيره وأيضا فنص بطليموس على أن بعض الجنوب معمور ، وأيضا كيف انتقالها مع كونها قدر الدنيا مائة وستين مرة ونيف؟ فكيف تنتقل للسماء الدنيا؟ فالجواب : أن ذلك يفهم على أحد وجهين :

إما بأن المنتقل شعاعها لا ذاتها ، وإما بأن مراده بالسماء السابعة [...] وهو أعلى فلكها وأقصى ارتفاعها ؛ لأن السماء يراد بها العلو فقط ، وقيل في الصيف : تبلغ إلى أعلى الفلك فيكون في آخر الجواز وأول السرطان وهو أوجها.

قوله تعالى : (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً).

أبو حيان : فيه الحذف من الثاني لدلالة الأول ؛ أي وجعل الشمس فيهن سراجا ، هذا لا يصح ؛ لأن الشمس ليست في جميعهن ؛ لأنها في الفلك الرابع وما فوقه محتو عليه ؛ بخلاف ما تحته وهو الفلك الأول والثاني والثالث فإنها خارجة عنهن وليست فيهن ؛ فليس فيه الحذف من الثاني لدلالة الأول وإنما تقدير المحذوف وجعل الشمس في بعضهن سراجا ، فإن قلت : إن كانت جعل بمعنى خلق فما قلته ظاهر ، وإن كانت بمعنى صير ، فتقول : إن الشمس مصيرة في الجميع باعتبار كونها سراجا ؛ لأن ضوءها يعم الجميع ، قلت : إنها في ذاتها وصفتها ، كما تقول : زيد في المدينة كريم فكرمه وذاته في المدينة ، وعبر بالسراج في الشمس إشارة إلى أن ما فيها من الحرارة كما في ضوء السراج ، وأما القمر فلا حرارة فيه فلذلك لم يسميه سراجا.

قوله تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً).

الزمخشري : نباتا مصدر من لفظ نبت أو من معناه ، فتعقب أو حيان قوله من معناه بأنه غير معقول ، ويجاب بأنه أراد أن المصدر من المعنى هو الذي يستلزمه الفعل الأول ، فلا يكون إلا أخص من الفعل ، مثل : جلست القرفصاء ، ولا يجوز أن يكون أعم منه ، فلا تقول : قام زيد حركة ؛ لأنه لا يفسر الجلي إلا أجلى منه ، وأنبت أخص من نبت ، وقيل : نباتا بدل ، ورد بأنه بدل الأعم من الأخص وهو باطل حسبما نص عليه ابن عصفور في باب الاستثناء من مقربه وغيره.

قوله تعالى : (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ).

٢٩٧

إن قلت : لم عطف الأول بثم والثاني بالواو؟ ، فالجواب من وجهين :

الأول : أنه لما كان الإخراج دفعة واحدة ، والإنبات شيئا بعد شيء ، والإعادة في الأرض كذلك أتى بثم إشارة إلى المهلة بين أول الإنبات وأول الإعادة في الأرض لما كانت أمرا ضروريا مشاهدا لا يخالف فيه أحد أتى به على حكم الوجود الخارجي بثم التي للمهلة ، ولما كان الإخراج من الأرض قد أنكروه أتى به معطوفا بالواو تحقيقا لوجوده إشارة إلى أنه لا مهلة فيه حتى كأنه أقرب شيء ، فإن أجيب بأن المهلة الفاصلة بين الإنبات والموت هي في زمن الحياة ؛ فهي مشاهدة ظاهرة يدركها كل أحد ، والفصل بين الإعادة في الأرض والإخراج منها يوم القيامة ليس بظاهر فلذلك لم يأت فيه بالمهلة بأن هذا إنما يتم في الشخص الواحد بذاته فإنه يدرك الفصل بين نشأته وموته ، وأما الفصل بين موته وإخراجه من الأرض فلا يدركه ، ونحن نجعله في أبناء جنس الإنسان المهلة الفاصلة بين نشأة جده وموته وسيشاهد المهلة عند موته.

قوله تعالى : (سُبُلاً فِجاجاً).

وفي سورة (فِجاجاً سُبُلاً) [سورة الأنبياء : ٣١] فكل منهما صفة وموصوف.

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ عَصَوْنِي).

إن قلت : إنها تؤكد الجملة إذا كان المخاطب منكرا لها ، أو ظهرت عليه مخائل الإنكار ، والله أعلم بكل شيء ، فلا يتم ذلك بالنسبة إليه ، فالجواب : أن الإنكار قسمان : فهو بالمعنى المذكور مستحيل هنا.

والقسم الثاني : أن يكون ما تعاطاه المكلف منكرا غير الموافق عليه للشريعة ، وهو المراد هنا لقوله (عَصَوْنِي) مع أن طاعة الرسول واجبة ، والآية تسلية للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم من جهة عصيان قوم نوح نوحا ، وتخويف لقريش من جهة عقوبته قوم نوح على عصيانهم ، والآية حجة لمن يقول : إن الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء ؛ لأن نوحا هو مبلغ عن الله تعالى فهم إنما عصوا الله تعالى لمخالفتهم أمره لهم على لسان رسوله ، فلما قال (عَصَوْنِي) دل على أنه هو الآمر لهم ، فلما قال (عَصَوْنِي) بذلك الشيء ؛ لأن نوحا بذلك ؛ إلا أن يجاب بأنه أسند العصيان إلى نفسه على حجة الأدب ؛ لأن في إسناده إلى الله تعالى جفاء وغلظة في العبارة.

قوله تعالى : (مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ).

قال المفسرون : المراد به إسرافهم ، فعلى ما قالوه تكون الآية دالة على عصيان الأشراف المتبوعين باللزوم لا بالمطابقة إن جعلنا ضمير اتبعوا عائدا على ما عاد عليه

٢٩٨

ضمير فاعل عصوني ، وإن جعلناه عائدا على بعضه كما قالوا في قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) [سورة البقرة : ٢٢٨] فيكون دلالة مطابقة ، ويحتمل أن يكون المراد بالمتبوعين الأمم المتقدمة ولم يذكره المفسرون.

قوله تعالى : (وَمَكَرُوا).

إما معطوف على (لَمْ يَزِدْهُ) فيكون من فعل الأشراف ، أو على (اتَّبَعُوا) فيكون من فعل الأتباع ، أو على (عَصَوْنِي) فيكون صفة للجميع.

قوله تعالى : (وَقالُوا).

إما الأشراف ، أو الجميع بعضهم لبعض.

قوله تعالى : (كَثِيراً).

إما مفعول به أو مصدرا.

قوله تعالى : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً).

أورد الزمخشري هنا سؤالا يتقرر على مذهبه وعلى مذهبنا ، وتقدم له نظيره في سورة يونس ، وهو أنه لا يصح على الكافرين بالموت على الكفر ، ولا على العاصي بالموت على العصيان لأنه مأمور في كل وقت بنهيه عن ذلك والتغيير عليه والدعاء بذلك إقرارا ورضا ، وهو من باب طلب الكفر والمعصية ؛ فكيف صح ذلك؟ وأجاب الزمخشري عن ذلك على مذهبه بأنه طلب الترك لا الفعل ، وطلب تخليتهم ومنعهم الألطاف فهو طلب العدم ، وذلك لأنه يقول : إن الله تعالى يستحيل عليه أن يخلق الكفر والضلال ، وجوابنا نحن على مذهبنا إما بأن نوحا عليه‌السلام غلب على ظنه بطول الممارسة لهم أنهم لا يؤمنون فطلب ذلك ، وإما بأنه أوحى الله تعالى إليه أنهم لا يؤمنون كما في سورة [...] ، فإن قلت : يلزم عليه تحصيل الحاصل ، قلت : لم يطلب لازمه وهو تضعيف العذاب عليهم في الدار الآخرة ، وأجاب القرطبي بأن الممتنع إنما هو الدعاء على الشخص المعين وهذا دعاء على جميع الكفار ويقال لهم ولعلهم يسلمون ، وعبر بالوصف الأعم وهو الضلال ؛ لأن كل لزم الأعم لزم الأخص.

قوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ).

أي من أجل خطيئاتهم فهو إشارة إلى أنهم لم يعاقبوا على مجرد الكفر فقط بل عليه وعلى جميع خطاياهم ؛ فيدل على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة.

٢٩٩

قوله تعالى : (فَأُدْخِلُوا ناراً).

عطفه بالفاء إما لأن المراد عذاب القرب ؛ لأن نارا منكرة ولو أريد جهنم لعرفت ، وقال الزمخشري : لاقترابه وتحقق وقوعه حتى كأنه قد كان ، فإن قلت : هذا على مذهبه في أن الآن غير مخلوقة الآن ، قلت : بل وعلى مذهبنا ؛ لأن المراد إدخال الأجسام لا الأرواح ، وقول القرطبي ، قيل : المراد بالنار إغراقهم في البحر ، لقول ابن عمر : متى تعود يا بحر نارا من بدع التفاسير ، ويلزم عليه [٨١ / ٤٠٣] التكرار ، قال : وقيل إن المراد أن كل واحد منهم عذب نصفه بالغرق ونصفه بالنار.

قوله تعالى : (فَلَمْ يَجِدُوا).

فيه إشارة وهو أن العطف بالفاء المقتضية للتعقيب لا تقتضي إلا عدم وجدان الناصر أثر دخولهم النار لا دائما فهلا عطف بالواو المقتضية لعدم وجدان الناصر دائما؟ والجواب بأن هذا في أشخاصهم ، والعام في الأشخاص عندنا عام في الأزمنة والأحوال يرد بأنهم مصرون بلم التي هي لنفي الوجدان لا نفي الوجود ، فظاهر الآية أن هناك أنصارا خفيت عنهم ولم يجدوهم ؛ مع أن الثابت في نفس الأمر عدم الناصر بالإطلاق ، ويحتمل أن لا تهكما ويكون من باب نفي الشيء بإيجابية ، مثل : لأرينك ها هنا.

قوله تعالى : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ).

إن قلت : الأصل تقديم هذه الجملة على الذي قبلها ؛ لأن دعاءه عليهم من جملة أسباب عذابهم ، فالجواب أنه لو قدم على ذكر العقوبة ، لأوهم أن العقوبة مترتبة على المجموع الذي هو دعاء عليهم وحسابهم ، ومع التأخير يزول هذا التوهم وهو أبلغ ، ولهم من يتق.

قوله تعالى : (عَلَى الْأَرْضِ).

يريد في ذلك الزمان ، وإلا فيقال : قد وجد الكافر الآن.

قوله تعالى : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً).

إن قلت : ما الجمع بينه وبين حديث : " كل مولود يولد على الفطرة" (١)؟ فالجواب أنه يولد على الفطرة ثم يصير في ثاني حال فاجرا كفارا ، القرطبي فإن قلت :

__________________

(١) أخرجه مسلم بن الحجاج في صحيحه حديث رقم : ٤٨٠٧ ، ٤٨٠٨ ، ٤٨٠٩ ، وأبو داود الطيالسي في مسنده حديث رقم : ٢٥٤٧ ، ٢٤٧١ ، والطبراني في المعجم الأوسط حديث رقم :

٣٠٠