تفسير ابن عرفة - ج ٤

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٤

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٣٩٩

قوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا).

تأكيد هذه الجملة باعتبار المعطوف ، لأن المعطوف عليه معلوم بالضرورة.

قوله تعالى : (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا).

اقتضت هذه الآية سماعهم ذلك بعد الإلقاء في الفرقان ، إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا ، وهذا يقتضي سماعهم ذلك قبل الإلقاء ، فيجعل سماعهم ذلك قبل وبعد.

قوله تعالى : [٧٩ / ٣٩٣] ........... (١) ، وعلقه على سمع دون سمعنا ، لأن سمع أبلغ لإفادته التجرد ، والماضي إنما يفيد مطلق الوقوع منه ، ويؤخذ من الآية أن السمع أفضل من البصر ، لأنهم حصروا ما يكونون به كما عبر [.....] في السمع والعقل ، فلو كان البصر أفضل أو مساويا لذكروه ، وما قيل : أيها أبلغ ، هل قولك : زيد في أصحاب العلم ، أو من أصحاب العلم.

قوله تعالى : (بِذَنْبِهِمْ).

لم يقل : بكفرهم هم بالوصف الأعم ، لأنهم إذا [...] على الأعم ، فأحرى الأخص وأفرده تنبيها على أن المراد من ذلك الأعم أخصه ، وهو شيء واحد ، وهو الكفر ويكون ذلك الذنب تنبيها على دخول العصاة.

قوله تعالى : (قَوْلَكُمْ).

خلقة القول الذي هو أعم لإطلاقه على المفردات والمركبات ، فيتناول ما دونه من باب أحرى ، باعتبار الصدق والعطف وصيغة أفعل للتسوية.

قوله تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ).

الزمخشري : من لا يصح أن تكون من فاعله ، والمفعول محذوف لأنه يكون المراد ألا يعلم الخالق ، أي لا يتصف الخالق بالعلم ، فلا يكون لقوله (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، فائدة فرده صاحب التقريب : بأنه من باب تقييد المطلق ، أي لا يتصف بمطلق العلم من هو موصوف بعلم كل شيء ، وأجاب الطيبي : بأن العلم هنا ليس مطلقا ، بل المراد به أخصه ، وهو علم السر الامتنان بكون الأرض ذلولا لا يتبادر منه للفهم الأمر بالشيء فيها ، ووقع الامتنان بنعمة الجلب والنفع.

__________________

(١) طمس في المخطوطة.

٢٦١

قوله تعالى : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) ، ثم بنعمة النفع بالتأمين من الخسف ، ثم من إرسال الحاصب فهو ترقي ، لأن دفع المؤلم أكد من جلب الملائم.

قوله تعالى : (مَنْ فِي السَّماءِ).

فيه وجهين :

إما أنه من مجاز الأسماء ، والتقدير من السماء أمره ، لكن يلزم عليه حذف بعض الصلة.

وإما من مجاز التمثيل ، فيكون لفظ السماء كناية عن العلو ، أي آمنتم من أتصف بالعلو والرفعة ، أن يخسف بكم الأرض وتأوله الزمخشري بوجهين :

أحدهما : هذا ، والثاني : أنه خطاب للكفار على دعواهم واعتقادهم أنه في السماء ، ورد بأنه تفريع على دعوى باطلة ، ولا يصح التفريع على الدعوى الباطلة ، إلا بعد بيان الدليل على بطلانها ، والمذهب الحق عند الأصوليين : أن الله منزه عن الجهة والمكان ، إذ لو كان متصفا بالمكان للزم عليه إما عدم حدوث العالم أو حدوث الذات الكريمة ، لأن المكان من جملة مخلوقاته ، فلو كان مكان للزم قدمه أو حدوث من حل فيه ، وغلط عياض في الإكمال في حديث سودة لما قال لها : أين الله ، قالت : في السماء ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اعتقها فإنها مؤمنة ، فذكر عياض فيه كلاما حاصله عدم تكفير من أثبت الجمعة ، وهو باطل ، وذكر مسلم حديث سودة في كتاب الصلاة ، ولابن عبد البر فيه كلام باطل ، وحكى القرطبي هنا قولا : أن المراد في الآية ملك العذاب ، وهو جبريل ، قال : قيل : أنه على حذف مضاف أي آمنتم خالق من في السماوات ، وإفراد إما لأن المشاهد لنا سماء واحدة ، ولأنه إذا حصل التخويف بمن في السماء فأحرى أن يحصل بمن في الجميع ، فيكون من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى ، والمراد بالخسف إما مكانهم أو جميع الأرض ، والمراد بالحاصب إنزال الحجر عليهم [٧٩ / ٣٩٣] للاهتمام الجهة فوق ، لأنها المقصود بالنظر ، فإن قلت : في سورة ص (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) [سورة ص : ١٩] ، بالإفراد ، وقال : هنا (صافَّاتٍ) ، بالجمع ، قلت : لأن انعطاف الطير لازم لها دائما ، بخلاف الحشر فإنه خاص بزمن داود عليه‌السلام لبعض الطير ، وهو طير وطنه الذي كان فيه ، فناسب الإفراد في سورة النحل (مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ) [سورة النحل : ٧٩] ، والفرق أعم الجو.

قوله تعالى : (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ).

٢٦٢

وفي سورة النحل (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) [سورة النحل : ٧٩] ، والجواب : أن هذه الآية سيقت للتذكير بالنعمة ، فناسب وصف الرحمة ، وآية النحل سيقت لبيان الألوهية وكمال القدرة والاختراع ، فناسب لفظ الله الدال على الذات المعظمة ، لأنه تقدمها (أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) [سورة النحل : ٧٨] ، وتعقبها بقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [سورة النحل : ٧٩] ، وهذه الآية تدل على وحدانية الصانع من جهة حصر الإمساك فيه ، وجمع الثلاثة المراد به الكثرة فيقال (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) [سورة النحل : ٧٩] ، لكنه إشارة فكان الأصل أن يعاد عليه ضمير الكثرة فيقال (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) [سورة النحل : ٧٩] ، لكنه إشارة إلى أن أقل شيء منه يرشد الناظر إليه إلى الاهتداء أو أن الناظر لا ينظر إلا إلى بعضه ، لا إلى كله ، واستدلال الفخر لأهل السنة في أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى ضعيف ، لأن الإمساك ليس من قدرة الطير ، كلا من فعله فلا يخالف فيه أحد ، وإنما من فعله قبض جناحيه وبسطها ، فلو قيل : ما يبسطهن ويقبضهن إلا الرحمن لصح له الاستدلال بها.

قوله تعالى : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ).

تفسير الفخر بعليم خطأ ، لأن أهل السنة يفرقون بين صفة العلم وصفة البصر ، فإن قلت : المناسب هنا العلم والقدرة لا البصر ، قلت : وجه المناسبة أن الإنسان لا يبصر كل الطير ، وإنما بعضها ، فأشار إلى أن الله تعالى بصير بجميعها ، والمراد بلفظة شيء هنا الموجود ، لأن المعدوم لا يتغير.

قوله تعالى : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ).

المشار إليه هنا مقدار الوجود ، والمعنى أن تكذيبهم بالآيات وعدم الالتفات إليها إما لضلالهم واغترارهم ، وإما لاعتقادهم أن لهم ناصرا ينصرهم ويحميهم من عذاب الله ، فلا انتفى الناصر تعين أن ذلك مجرد مثلا لهم واغترارهم.

قوله تعالى : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ).

لم يقل : هو يرزقكم بالبناء على المضمر ، كما في التي قبلها ، لأن هذا لم يدعه أحد ولا يخالف فيه خلاف الأول ونحوه ، قال ابن هشام في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [سورة النجم : ٤٥] ، فإن قلت : لم قرن هذا بأداة الشرط فقال (إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) ، ولم يقرن الأول بها ، فلم يقل : أم من هذا الذي ينصركم أن لم ينصركم الرحمن ، أولا يذكر الشرط فيهما معا ، فالجواب : أن الرزق لازم لهم لابد لهم منه ، إذ لا قوام لهم دونه ، فإمساكه عنهم مستبعد أو ممتنع ، إذ لا حياة لهم

٢٦٣

إلا معه ، فأتى فيه بأن الداخلة على المحال أو القريب منه ، وأما النصرة على الأعداء فليست لازمة ، بل قد يكون وقد لا يكون ، فلذلك لم يقرن إمساكها بأن للدلالة على الحال ، فإن قلت : ما مناسبة تعقب الأول بقوله تعالى : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) ، وتعقب هذا بقوله (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ [٧٩ / ٣٩٤] وَنُفُورٍ) ، هلا كان الأمر بالعكس ، فالجواب : أن النصرة دالة على العتو والقوة ، وهم ادعوا أو لبسوها لأنفسهم وزعموا أنهم ينصرون فلو عقب بقوله (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) ، لتوهم أن لهم قوة واستنفارا لأنفسهم ، فتحرز من ذلك بقوله تعالى : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) ، إشارة إلى أنهم اغتروا فتوهموا أن لهم قوة وتجلد أو أنهم لا يغلبون ، بل ينصرون ، ولما كان الرزق محققا نسبة إلى الله تعالى وهم مقرون بذلك وما ادعوا نسبته إليهم أصلا ، عقبوا ببيان أنهم تعنتوا أو كذبوا ونفروا ، ويقال في البهائم : نفرت نفورا وفي بني آدم : نفرت نفيرا ونفارا وقوله تعالى : (وَنُفُوراً) ، إشارة إلى شدة جهلهم وغباوتهم أنهم فعلوا فعل البهائم في القول.

قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ).

إن قلت : هل هذا التركيب مضاد وتعكسه ، وهو أفمن على سواء أهدى ، أم من يمشي مكبا على وجهه ، فالجواب : أنه غير متناوله ، لأنه يقرب التهكم بهم في كون حالتهم مساوية بحالة غيرهم ، ولا يحصل ذلك إلا بالتصدير لهم ، الزمخشري : يكب من أكب ، وليس هو مطاوع كب انتهى ، ولم يبين وجه كونه غير مطاوع ، وبيانه أن فعل المطاوع هو الذي يقع سببه من غير فاعله ، كقولك : كسرته فانكسر ، وغير المطاوع منه مقصور على فعل فاعله ، مثل قام وقعد ، وأكب هذا ، يقول : أكب لمن اتصف لمن بلا كتباب ابتداء من غير أن يكبه أحد.

قوله تعالى : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ).

إنما أعاد لفظة (قُلْ) ، هذه خاصة ، لأن عرف القرآن أن لا يعاد لفظ (قُلْ) إلا حيث يراد التشريف والتعظيم والتشديد في الحكم ، ولما كان جميع الآيات المتقدمة الاتعاظ فيها بأي خارج عن ذات الإنسان والوعظ في هذه في أمر راجع لذاته ففهم ، وأبلغ في الاتعاظ والحصر بالضمير ، والموصول يقتضي ألا مصور إلا الله تعالى ، فمن نظر وتأمل وتحقق أن ذلك لا بد له من فاعل ، والفاعل لا يصح أن يكون له فاعل آخر ، لأن لا يلزم عليه التسلسل ، ودلالة التمانع تحقق أن لا موجد له إلا الله عزوجل.

قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ).

٢٦٤

أفرد السمع وجمع الأبصار ، إما لأن السمع مصدر يقع على القليل والكثير من جنسه فلا يثنى ولا يجمع ، وإما لعمومه في جميع الجهات من غير حاجة إلى زيادة معه ، لأن الإنسان يسمع كلام من خلفه وفوقه وتحته ويمينه وشماله من غير أن يقبل إلى تلك الجهة ، بخلاف البصر لا يبصر إلا من هو أمامه ، ويحتاج في إبصاره من خلفه إلى حالة أخرى ، وهي تكلف الانتقال إلى تلك الجهة ، أو لأن الغالب تساوي في السمع وعدم تساويهم في الإبصار ، وتكرر ذكر السمع والبصر في القرآن في مواضع في سورة الأنعام ، وفي النحل ، وفي الإسراء ، وفي السجدة في موضعين ، وفي الجاثية في غير موضع ، فإن قلت : تقديم الأبصار على الأفئدة دليل على أنه سلك في الآية مسلك الترقي ، قلت : إنما قدم السمع والبصر عليهما لأنهما مقدمان في الوجود ، لأن الأفئدة إنما ذكرت من حيث التعقل بها والتفكر والتصغير ، فيسمع ويبصر ولا يعقل شيئا ، فإن قلت : قد ذكر الفخر ، والأصوليون أن المحسوسات فرع المعقولات ، فلا يبصر الإنسان الشيء أو يسمعه حتى يتعقله ، والأصل مقدم فلم أخره عنه ، فالجواب : إذا المعقولات على قسمين : فالأمر الضروري منها البديهي متقدم على المحسوسات ، والنظري منها المحتاج إلى الفكر والتأمل متأخر عن المحسوسات.

قوله تعالى : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ).

إن أريد العموم في المسلمين والكافرين ، فالتقليل على حقيقته ، وإن أريد الخصوص بالكفار فالتقليل بمعنى العدم ، مثل مررت بأرض قل ما تنبت البقلاء.

قوله تعالى : (ذَرَأَكُمْ).

الذرأ ثاني رتبة عن الخلق.

قوله تعالى : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

سماه وعد مع أنه وعيد ، إما لأنهم يسألون المؤمنين عن الثواب الذي يناله المؤمنون متى يكون ، وإما وعد للمؤمنين وتبشير لهم بنصرهم عليهم ، أي هذا الذي بشرتم به من نصركم علينا متى هو.

قوله تعالى : (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا).

المراد بالوجوه إما الحقيقة ، والمراد أنهم نالهم [٧٩ / ٣٩٤] عذاب حقيقي تغيرت منه وجوههم فقط لمعاينته دون الحلول فيه ، وإما مجاز عن زوالهم كلها فيكون العذاب حسيا في جميع أبدانهم ، أي لما عاينوه نالهم دخانه وسراره ، وغالب

٢٦٥

الاستعمال أن الوجه إنما يعبر عن الذات عند إرادة التشريف ، فيعبر عنها بأشرف الأشياء ، قال تعالى (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [سورة الرحمن : ٢٧] ، وفي حديث مسلم وجهت وجهي للذي خلقه وأوقع الظاهر موقع المضمر ، فلم يقل وجوههم إنما تعظيما لهول ما اتصفوا به ، وتنبيها على السبب الذي استحقوا به ذلك العذاب.

قوله تعالى : (آمَنَّا بِهِ).

هذا ماض متصل بالحال ، فهو بمعنى اسم الفاعل ، وفيه دليل على جواز أن يقال : أنا مؤمن دون زيادة إن شاء الله تعالى ، وتقدم الكلام على ذلك في سورة الأنفال ، وأورد الزمخشري سؤالان : وهو لو قال (آمَنَّا بِهِ) ، فأخر المجرور ، ثم قال (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) ، فقدمه ، وأجاب : بأنه تعريض لهم لاتصافهم بعدم الإيمان انتهى ، ويرد بأنه لو أريد التعريض بهم ، لقيل به آمنا فيفيد الحصر والاختصاص ، وإنما الجواب : أنه لما عهد في الشرع خصوصية التوكل بالله تعالى أتى به محصورا وأتى به في الشرع عدم اختصاص الإيمان بالله تعالى ، قال تعالى (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) [سورة آل عمران : ٨٤] ، وقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) [سورة النساء : ١٣٦] الآية ، وفي حديث القدر أخبرني عن الإيمان ، قال : هو أن تؤمن بالله وملائكته الحديث فلذلك لم يأتي به محصورا.

قوله تعالى : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

استغنى بهذا عن ذكر لما ذمه أي ومن هو مهتد.

قوله تعالى : أو يصبح (ماؤُها غَوْراً).

إن قلت : هلا قيل : أن أصبح ماؤكم عدما ، فهو أعجب وأغرب ، ولأن الزمخشري حكى عن بعض الشطار أنه قال : يخبئ به القوس والمعاول ، فلو قيل : إن أعدم ماؤكم لما أغتر هذا الضال ، وقال ما قال ، لأن العدم لا تخرجه قوس ، بخلاف الغائر فإنه يتوهم أن القوس تكشف عنه ، فالجواب : أن هذا أبلغ في باب التخويف ، لأنهم إذا عجزوا وخوفوا بعدم إدراكهم الماء إذا غار في الأرض ، فأحرى أن لا يقدروا عليه إذا عدم من أصل.

قوله تعالى : (مَعِينٍ).

ابن عطية : فعيل من معن الماء ، إذا أكثر أو مفعول من العين أي جار على العين أصله معيون انتهى ، اشتقاقه من العين الجارية صحيح ، لكن كونه بمعنى مفعول باطل ،

٢٦٦

لأن فعل العين غير متعد ، فيقول عان يعين ، أي جرى يجري ، والفعل القاصر لا ينبني منه مفعول ، لأن فعل العين ، فإن قلت : إنه متعد بحرف الجر ، قلت : كان يجب ذكره معه ، فيقال : معين فيه كما يقول : فمرور به ولا يجوز فمرور ، وكان الشيخ عبد السّلام القاضي يحكى عن سيدي أبي محمد المرجاني نفع الله به أنه كان يقول جواب هذا الاستفهام ، وهو (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

٢٦٧

سورة ن والقلم

[.....] النون والقلم إن فسرناه بالمعهودين ، ليس منحصرا صدوره من القلم ، بل بإيجاد الله تعالى أو بواسطة أداة غير القلم لم يقدم القلم على النون.

قوله تعالى : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ).

انظر الزمخشري : ما اعترضه به أبو حيان وما أجاب به المختصر السفاقسي ، وحاصله أن أبا حيان منع تسلط النفي على الشيء دون ما قيد به ، والسفاقسي أجازه ، والصواب أن يقال : إما أن يقدر ذلك القيد داخلا قبل النفي وبعده ، فإن كان قبله لزم من نفي ما هو قيد فيه نفيه هو ، وإن كان بعده فالقيد مثبت والجنون ينفي أي ما أنت بسبب وجود نعمة ربك مجنون فيكون قيدا في النفي لا في الجنون المنفي.

قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

الإتيان بلفظ على إشارة إلى حصول ذلك له دون تكف ، وهذا إشارة إلى شدة جهلهم وغباوتهم لأن الحق العظيم في غاية الجلاء والوضوح فمن يكذب به في غاية الجهل والغباوة ، قال عياض في الشفاء الخلق العظيم قيل : هو القرآن ، وقيل : الإسلام ، وقيل : الطبع الكريم ، وقيل : ليس لك همة إلا الله ، قال الواسطي : أثنى عليه بحسن قبوله لما ابتدأه إليه من نعمه وفضله وبذلك على غيره ، لأنه جعله على تلك الخلق ثم أثنى على فاعله وجازاه عليه ثم تلاه على قولهم بما وعده من عقباه [٧٩ / ٣٩٥] وعقابهم بقوله تعالى : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) ، ثم عطف بذم عدوه فقال تعالى (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) ، إلى قوله تعالى : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، فذكر بضع عشرة خصلة من الذم خرجتهم بتمام شقائه فقال تعالى (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) ، فكانت نصرة الله أتم من نصرته لنفسه.

قوله تعالى : (فَسَتُبْصِرُ).

عبر بالمستقبل مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عالم بذلك في الحال ، لأن الخطاب بذلك عام في جميع الناس ، وكل واحد لا يدري بماذا يختم له من ضلال أو هداية.

قوله تعالى : (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَ).

عبر بالماضي لما كان الضلال راسخا فيهم ذاتيا لهم ، وكذلك أبقى الجملة مؤكدة بأن والباء.

قوله تعالى : (بِالْمُهْتَدِينَ).

٢٦٨

عبر بالاسم هنا ، وقال في سورة النجم (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) [سورة النجم : ٣٠] ، فعبر بالفعل ، والجواب : أن المراد بتلك الآية عموم تعلق علمه بمن اتصف بمطلق الضلال ، ومن اتصف بمطلق الهداية ، والمراد بهذا المدح والثناء على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعبر فيها بالاسم الدال على ثبوته على الهداية واتصافه بأكمل صفاتها وأبلغها.

قوله تعالى : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ).

الموافقة والمساعدة والطاعة مترادفة ، فخصص الطاعة منها لاستلزامها سلب المشاركة في فعلهم ومعبودهم ، فالنهي عنها أبلغ وهذا الخطاب أن كان للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم فهو لشدة تمالكه على عدم إيمانهم ، فهي من ذلك كما قيل له في الآية الأخرى (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [سورة التحريم : ٩] ، وإن كان الخطاب لغيره فنهى عن الطاعة مطلقا ، والطاعة عند الأصوليين موافقة الأمر ، فيكون فيه دليل لقول ابن عرفة : لم يشترط في الأمر العلو بل الاستعلاء فقط ، لأن هؤلاء ليس فيهم علو شرعا ، وإنما فيهم الاستعلاء.

قوله تعالى : (الْمُكَذِّبِينَ).

دليل لصحة قول من قال : إن الحكم إذا علق بمشتق من صفة ، فإنه غير معلل بتلك الصفة للإجماع لابن التلمساني ، فإن قلت : هنا قرينة أفادت أن النهي عام ، قلت : الأصل عدم القرينة.

قوله تعالى : (فَيُدْهِنُونَ).

إن قلت : لا يصح أن يكون معطوفا على تدهن ، لأن التمني لا يكون إلا فيما يمكن وقوعه ، فيلزم أن يتمنى الإنسان فعل غيره ، ولا التمني لا يتعلق بفعل غيره ، قلت : هو مسبب ناشىء عن دهنه ، فليس هو بفعل الغير صرفا ، وفيه نظر لأنهم خلطوا بين التمني والترجي بأن التمني يكون في الممكن وفي المستحيل بخلاف الترجي ، واحتجوا بقول الشاعر :

يا ليت أيام الصبا رواجعا

وليت للتمني.

قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ).

٢٦٩

قيل : هو نهي عن الأخص ، فلا يستلزم النهي عن الأعم ، وفيه رد على من قال : إن كل إن كانت بعد نهي أو نفت عمت ، لأنها نزلت في شخص ، وذكر ابن الصفار في شرح سيبويه أن الشلوبين نقل عن ابن أبي العافية : أن كلا إذا كانت منصوبة لا تفيد العموم ، وإذا كانت مرفوعة تفيده في قوله :

قد أصبحت أم الخيار تدعي

عليّ ذنبا كله لم أصنع

وفيه [...] وتعقبه عليه الشلوبين ، وقال : لم هذا سيبويه بوجه ، قال ابن الصفار :

بل حكاه سيبويه في باب المنصوب انتهى ، والذي حكى الأصوليون أنها تفيد العموم مطلقا ، وهي هنا كلية فمن اتصف بإحدى هذه الصفات يكون منهيا عن طاعته ، فإن قلت : فما وقع منه صلّى الله عليه وعلى آله وسلم في صلح الحديبية من طاعتهم ، قلت : إنما ذلك موافقة ، الموافقة لا أنه طاعة كما هو موافق لهم في الإعراض بوجود الله تعالى أو يكون ذلك بوحي ، وقد وافقهم على أن [.....] بينهم ، فرده عليهم وعلى ذلك وقع صلح الحديبية.

قوله تعالى : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ).

إن قلت : يؤخذ منه ترجيح الفقر على الغناء ، لأن الغناء سبب طغيان هذا ، فالجواب : إن هذا إنما طغى بمجموع المال والبنين ، وقدم هنا وفي سورة الكهف المال على البنين بخلاف ما في آل عمران ، والجواب : أن مناط الشهوة في الأعم النساء ، ومناط الزينة في الغالب المال ، وأما البنون فمحبتهم أشد من محبة المال [٧٩ / ٣٩٥] ، لأن الإنسان يفدي ولده بماله كله ، وقدم هنا المال لأنه أقوى الأسباب في الطغيان ، قال السهيلي : [...] الاتصاف إلا إلى ما فهو أشرف منه وعكسه صاحب ، فتقول أبو هريرة صاحب رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولا تقول محمد صلّى الله عليه وعلى آله وسلم صاحب أبو هريرة ، قال تعالى (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) [سورة الأنبياء : ٨٧] ، وقال تعالى (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) [سورة القلم : ٤٨] ، انتهى ، وانظر ما قال عياض في الشفاء : فإن صاحبكم وانظر قوله تعالى : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) [سورة التكوير : ٢٢].

قوله تعالى : (عَلَى الْخُرْطُومِ).

إن قلت : لم عدل الإضافة فلم يقل على خرطومه قلت : لأن الإضافة فيها نوع استحقاق واختصاص ، فعدل عنها لسلب هذا المعنى حتى كأنه لا يستحق أن يحتمل له خرطوم ، لعدم المبالاة به ، فيصير الأنف منه أجنبيا عنه.

٢٧٠

قوله تعالى : (كَما بَلَوْنا).

التشبيه إما معنى بمعنى أو محسوس بمحسوس ، لأن ما إما مصدرية أو موصولة بمعنى الذي ، ويقع بمن فعلق سببه وبمن لم يفعل ، قال تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) [سورة الأنبياء : ٣٥] ، وقال تعالى (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) [سورة الأنفال : ١٧] ، والعقوبة لا تقع إلا بمن فعل شبها ، وهم لا ولم يفعلوا لكن عزموا على الفعل ، قال القرطبي : يؤخذ من أن العزم على الفعل يؤاخذ به.

قوله تعالى : (وَلا يَسْتَثْنُونَ).

يحتمل أن يكون مقسما عليه وإن لا ، الزمخشري : فإن قلت : لم سمي استثناء ، وإنما هو شرط ، قلت : لأنه يؤدي معنى الاستثناء من حيث إن المعنى قوله لأخرجن إن شاء الله ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد انتهى ، موجب هذا السؤال أن الاستثناء بالمشبه إن كان حقيقة لغوية فما وجهه ، لأنه شرط الاستثناء وإن كان في الشرع مجاز فأين العلاقة.

قوله تعالى : (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ).

إن قلت : هلا قيل : من الله من العزيز الجبار ، فإن لفظ الرب يشعر بالرحمة والرأفة ، والمحل محل العزة والانتقام ، فالجواب : من وجوه :

الأول : أنه تخويف لقريش ، أي إذا نالهم هذا مع استشعار الرحمة ، فأحرى مع استشعار العزة والانتقام.

الثاني : أن السؤال إنما يريد لو قال : طائف من ربهم ، وإنما قيل : من ربك.

الثالث : أن ما قال ما عاقبته الرأفة والرحمة لا العقوبة ، لأنهم تابوا أو حسنت توبتهم.

قوله تعالى : (وَهُمْ نائِمُونَ).

إن قلت : ما أفاد مع أنه مفهوم ، فالجواب : من وجوه :

الأول : أنه إشارة إلى أنهم أخذوا حالة أمنهم وطمأنينتهم.

الثاني : ما قصدوا صرامها في خفية عن المساكين ، فعوقبوا بخسفها في خفية عنهم.

الثالث : هو إشارة إلى أن السبب في عقوبتهم بذلك مجرد عزمهم على صرامها خفية عن المساكين ، أي عوقبوا به وهم في حالة لم يشتغلوا فيها بمعصية ولا مخالفة ،

٢٧١

بل كانوا نائمين فما الموجب لعقوبتهم إلا مجرد عزمهم وقسمهم ، وعادة الله في إهلاك أكثر الأمم كونه على غرة وغفلة.

قوله تعالى : (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ).

عداه بعلى ، لأن الذي يقطع ثمر النخل يستعلي عليها.

قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ).

صرام النخل بالفعل متأخر عن الغدو عليها ، فلا يكون عليها شرطا في الغدو ، ولأن الشرط متقدم على المشروط ، فيتعين إن المراد إن كنتم عازمين على صرامها.

قوله تعالى : (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ).

وقال تعالى بعده (وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) لأن الظلم معصية قاصرة على نفس الإنسان ، والطغيان معصية متعدية لغيره ، [.....] ظلموا أنفسهم بقسمهم وعدم استثنائهم ، وطغوا على المساكين بعزمهم على منعهم من عادتهم.

قوله تعالى : (عَسى رَبُّنا).

قال ابن عصفور : كلما وقع في القرآن من عسى فهو واجبة إلا قوله تعالى :

(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ) [سورة التحريم : ٥] ، وتقدم الرد عليه واستثناء هذه لكان صوابا ، لأن التبديل هنا لم يقع إلا أن يجيب : بأن ذلك في عسى ، إذا كانت من الله تعالى ، وهذه من كلام أصحاب الجنة.

قوله تعالى : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ).

وقف بعضهم على أكبر ، وجواب لو محذوف أي لاهتدوا وهو حسن.

قوله تعالى : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

تقديم المجرور هنا واجب ، لأن الضمير في ربهم يعود عليه ، فلو أخر عليه لأدى إلى عود الضمير على ما بعده لفظا ورتبة.

قوله تعالى : (أَفَنَجْعَلُ) [٨٠ / ٣٩٦] (الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ).

ابن عطية : لما نزلت أن للمتقين عند ربهم جنات النعيم ، قالت قريش : أن كانت جنات ، قلنا : فيها أكثر حظ ، فنزلت (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) انتهى ، لو كان كما قال : لقيل : أفنجعل المجرمين كالمسلمين ، لأنهم أثبتوا للمسلمين فيها حظا وادعوا أن لهم مثله وآخر منه ، فلو روعي في الآية مقتضى السبب لقيل : أفنجعل

٢٧٢

المجرمين كالمسلمين ، وإنما روعي فيها مناسبتها لما قبلها ، لأنه لما قال في آية المجرمين (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) [سورة الزمر : ٢٦] ، فأتى فيه مطلقا غير محصور فيهم وعقبه بقوله تعالى : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ، أتى بهذا التشبيه نفيا لما قد يتوهمه أحد من أن ذلك العذاب قد ينال المتقين بعضه وإن قل أي فنجعل المسلمين في العذاب كالمجرمين ، أي ليسوا مثلهم في لحوق العذاب فلا يلحقه منه شيء البتة ، قيل : أفتجعل المتقين ، وقال الزمخشري : معناه الحد في الحكم عليكم ، فنجعل المسلمين كالمجرمين ، فإن قلت : هلا قيل : أفنجعل المتقين كالمجرمين ، قلت : كلما ناقض الأعم شيئا ناقضه الآخر.

قوله تعالى : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).

أم لكم كتاب هذا الترتيب على ما يقوله الأصوليون من أن المنقولات السمعيات فرع للمعقولات ، أي هل لكم على دعواكم دليل عقلي نظري أم لكم دليل سمعي نقلي وجدتموه في كتبكم الذي تدرسونها.

قوله تعالى : (فِيهِ تَدْرُسُونَ).

لم يقل : فيه تدرسون ، فأجاب بعضهم : بأن الغزالي في المستصفي في باب الاجتهاد ، وإمام الحرمين في البرهان : أن المجتهد لا يجب عليه حفظ القرآن ، وإنما يطلب بحفظ آيات الأحكام فقط ، قال الغزالي : وهي خمس مائة آية ولا يلزمه حفظ آيات القصص والأخبار ، وعبر بالدرس دون الحفظ أو القراءة إشارة إلى يقولون : من أن العلم لا يحصل إلا بالتكرار والممارسة والدراسة ، وكذا حكى ابن سهل في أحكامه : أن اللؤلؤي سئل عن من يوصي بعبده لبعض ورثته ، إن أجاز باقيهم ، فإن لم يجيزوه له فقد أوصى بعتقه من ثلثه ، فأفتى بأن الوصية ماضية وخطّأه فيها ابن زرب وغيره ، والمسألة منصوصة في المدونة في آواخر العتق ، الثاني : قال ابن سهل وما سبب ذلك إلا أنه كان في آخر عمره ، ترك دراسة العلم ومطالعة الكتب لكبر سنه فنفى كثيرا من مسائله ، وحكى المازري في العلم في حديث : " من اغتصب شبرا من أرض طوقه الله من سبع أرضين" (١) ، أن شيخه عبد الحميد الصائغ انقطع في آخر عمره للعبادة ، حتى كان إذا سئل عن بعض المسائل ، يتوقف فيها ويحيلنا على غيره.

__________________

(١) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان حديث رقم : ٥٢٢٦ ، وفي السنن الكبرى حديث رقم : ١٠٧١٦ ، وأبو داود الطيالسي في مسنده حديث رقم : ٢٣٣ ، وأبو نعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة حديث رقم : ٢٩٨٤.

٢٧٣

قوله تعالى : (فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ).

ظاهره حجة لمن يقول : بأن له نازلة للمجتهد أن يحكم بما شاء على القول بأن ليس لله في كل نازلة حكما معينا ، وأما على القول بأن له في نازلة حكما معينا ، فلا يحكم إلا بما أداه إليه اجتهاده.

قوله تعالى : (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ).

أي عهود ومواثيق ، والمراد بالكتاب الذي فيه يدرسون ما اشتمل عليه الكتاب من الألفاظ الظاهرة الدلالة ، والمراد بالأيمان المبالغة الألفاظ الدالة قضاء ، أو المراد بالأول النص ، وبالثاني تركيب الخصوص ، أو المراد بالأول : الدليل السمعي المعجزي ، وبالثاني : الدليل السمعي غير المعجزي ، فإن الوحي قسمان ، فالقرآن معجز والسنة غير معجزة.

قوله تعالى : (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ).

يحتمل أن يكون ابتداء كلام ، أي لكم لحكما إذا كان ذلك ، والغرض أنه لم يكن فلا حكم لكم ، وجعل الزمخشري الأول قسما وهذا جوابه ، أي [...] لكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة في التوكيد (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ).

قوله تعالى : (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ).

لو قيل : أفيهم أو هل فيهم زعيم بذلك ، لكان المعنى السؤال عن وجوه الزعيم فيهم بالأصالة ، وإنما قيل : سلهم أيهم بذلك زعيم ، فإما أن يكون المعنى أنهم ادعوا أن فيهم زعيما بذلك ، أي ضامنا متكفلا بتصحيح ما قالوه ، فيسألوا عن تعيين ذلك الشخص الزعيم فالسؤال حقيقة ، وإما أن لا يكونوا ادعوا أن فيهم زعيما بذلك ، فيكون السؤال مجازا من باب نفي الشيء [٨٠ / ٣٩٦] بإيجابه ، كقوله : على لاحب لا يهتدى بمناره ، أي ليس له منار فيهتدي به ، والمعنى ليس لهم زعيم فيسألون عن تعيينه ، فالسؤال تعجيز لهم أو من باب انتفاء الشيء لانتفاء ملزومه ، لأنه أمره عليه الصلاة والسّلام أن يسألهم عن تعيين ، وكذلك الكلام في أم لهم شركاء ، وتفسير القرطبي الزعيم الرسول ضعيف ، لأنهم ما أدعوا قط أن فيهم رسولا ، وليس القرطبي من أهل التفسير ، لأنه يجلب الغث والسمين ، وما زال الشيوخ لا يعتبرون كلامه في التفسير.

قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ).

٢٧٤

حمله ابن عطية على أصنامهم وآلهتهم التي ادعوا أن لها نصيبا في العبادة ، كما قال تعالى (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [سورة يونس : ١٨] ، وحمله الزمخشري على الشركاء الموافقين لهم في العبادة والظاهر الأول ، إذ ليس ثم كفارا لأولهم نظائر في شركهم ، وأيضا فيعكسون هم ويقبلون النكتة ، فيقولون : هل لكم أنتم من يوافقكم في توحيدكم وعبادتكم ، والسؤال هنا على حقيقته اللغوية ، فالمراد به مطلق الطلب في اصطلاح الأصوليين ، لأن السائل هنا أعلى من المسئول.

قوله تعالى : (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ).

الاستطاعة في اصطلاح المتكلمين هي القدرة على الفعل ، ومن شرط القدرة عندهم مقارنتها لمقدورها ، لأن الغرض عندهم لا يبقى زمنين فلا يقال في الجالس المتمكن من القيام ولا مستطيع القيام حتى يقوم بالفعل ، وأما في اللغة فهو التمكن من الفعل ، فإذا فسرناه بالمعنى اللغوي فيصدق عليهم كانوا قبل ذلك مستطيعين ، كما قال الزمخشري ، ثم يعود ظهرهم طبقا ، كما في البخاري في آخر كتاب منه.

قوله تعالى : (وَهُمْ سالِمُونَ).

كان بعضهم عند قراءة هذا المحل يخشع ويقول : والله ما سلموا ، وهذه فلتة لكن مراده صحيح ، لأن معنى سالمون متمكنون من الإتيان بالتكليف حتى لا عذر لهم ، ومعنى قول القائل : ما سلموا ، أي أن الله علم أنهم لا يؤمنون ولا يهتدون ، فهو من باب التكليف بما علم الله أنه لا يقع ، ولو لم يكن هذا مراده ، لكن كفرا لمخالفته صريح الآية فحاصله عدم إيجاد المثبت في سالمون والمنفي في سالمون.

قوله تعالى : (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ).

قيل : يؤخذ منه جواز إطلاق مثل هذا من غير توقف على مقابله ككفروا ، ومكر الله ، أجيب : بأن القرينة السياقية كاللفظية.

قوله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ).

الحكم هنا القضاء الذي هو صفة ، فعلى الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين.

قوله تعالى : (وَهُوَ مَكْظُومٌ).

كون الحال جملة ، وهو أبلغ من كونها مفردا ، لأن في الجملة إسنادين :

٢٧٥

أحدهما : المحمول ، والثاني : ضميره العائد على الموضوع ، والموضوع مسند أيضا إلى صاحب الحال ، ففيه التقوية وزيادة الاعتناء ثلاث مرات ، وذلك مفقود فيما إذا كانت مفردة.

قوله تعالى : (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ).

إن قلت : القصد بذكر المشبه به الذي حال صاحب الحوت للمشبه ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التنفير عن الاتصاف بحالته التي هو فيها ممتلئ غضبا ، وهذه الأوصاف لا مدخل لها في التنفير ، بل ربما يفهم منه نقيضه فما وجه إردافها لحالة التنفير ، فالجواب : أنه نفي لما يتوهم من يجعل قدر مناسب الأنبياء من أن هذه الحالة من الغضب توجب نقصا فيهم.

٢٧٦

سورة الحاقة

فسر الزمخشري الحاقة بثلاثة تفاسير : الأولان : حقيقة ، والثالث : مجاز.

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ).

القارعة من أسماء القيامة ، ويرد في الآية يذكره البيانيون في حسن الائتلاف ، وهو أن الذي يقتضيه حسن الائتلاف ، كذبت ثمود وعاد بالحاقة ، والجواب من وجهين :

الأول : أتى أولا بلفظ الحاقة دليلا على ثبوتها ، وتصدير حقيقتها في النفوس ثم عقب ذلك بلفظ القارعة الدالة على ما اشتملت عليه من الأهوال والقوارع والزواجر.

الثاني : وصفها أولا فيما يرجع إلى حالها في نفسها وهو [٨٠ / ٣٩٧] كونها حقا ثابتا ، وذكر ثالثا : حالها باعتبار صفتها ، ولا شك أن حكم الذات متقدم في حكم صفتها ، فذكر أولا حكمها في ذاتها ثم حكمها في صفتها.

قوله تعالى : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ).

لم يقل : سلطها عليهم لما يقتضي لفظ التسخير من سيرها على حكم الله تعالى.

قوله تعالى : (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ).

اختلفوا في مسمى ، هل هو النهار أو مجموع الدورة ، ووقع في كتاب العتق الثاني من المدونة ما يدل على أنه النهار ، فيمن قال لعبده : إن أديت اليوم مائة دينار فأنت حر ، فمعنى اليوم ، ولم يرد إليه شيئا فلا بد من التلوم له ، وهذه الآية تدل على أنه النهار لذكره في مقابلة الليل ، فلو كان في اللغة كمجموع الدورة للزم هنا في إطلاقه على النهار ، إما الاشتراك أو المجاز وكلاهما مرجوح ، لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة ، وروى ابن عطية عن ابن عباس : لم ينزل من السماء قط إلا بمكيال ولا هبت ريح إلا كذلك ، إلا ما كان من طوفان نوح وريح عاد ، فإن الله أذن لهما في الخروج من غير إذن الخزان ، وقال الزمخشري : روي عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، وذكر مثل ما تقدم ، قال : فإن الريح غنت على الخزان ، فلم يكن لهم عليها سبيل ، وكذلك الماء يوم نوح انتهى ، فإن قلت : ابن رشد ذكر في جامع البيان أن الله تعالى ما أرسل على قوم عاد من الريح إلا مقدار الخاتم ، فتراه أرسل عليهم بمقدار ، فكيف يفهم ذلك مع قال المفسرون هنا ، فالجواب : أنه فتح لها مقدار الخاتم ولا يدري مقدار ما يخرج ، إلا الله عزوجل فهي تخرج بلا كيل ، وفي العتبية سئل : هل

٢٧٧

تكره الحجامة والاطلاء يوم الأربعاء ويوم السبت ، لأن الجسوم على هؤلاء دخلت بالأربعاء ، فقال : لا أرى بذلك بأسا.

قوله تعالى : (حُسُوماً).

أعربوه حالا مع أنه من المضاف إليه ، لما تنزل المضاف منزلته صح وقوعه منه نحو (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [سورة الجمعة : ٥] ، إذ مثل الحمار حمارا.

قوله تعالى : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ).

استفهام في معنى النفي ، أي أهلك جميعهم ، فلم يبق لهم شيء ، فإن قلت : قد قيل : إن هذه [...] العادية التي عند قرطاجنة من بنائهم ، وقد أخبر بذلك سيدي محمد نفع الله به في كتاب كراماته ، أنه التقى عند المعلقة بالخضر عليه‌السلام ، فأخبره بذلك وبأشياء من أمورها غير واحدة ، قلت : المعنى أنهم لم تهلك منهم إلا الكفار ، فاستوصلوا ولم يبق منهم ، قال تعالى (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [سورة هود : ٥٨].

قوله تعالى : (وَمَنْ قَبْلَهُ).

هذا العطف يدل على أن الواو ليست للترتيب ، لأن مجيء فرعون متأخر عن مجيء من قبله ، إلا أن يقال : أنه ترتيب في اللفظ وقرأ الفخر : بأن أبا عمرو ، والكسائي ، ومن قبله والباقون ومن قبله ، ولم يحك أبو عمر المدائني هذه القراءة عن عاصم ، وسئل شيخنا ابن عرفة : هل السبع متواتر أو لا ، فقال : أما مصحف عثمان فلا خلاف أنه متواتر ، وعثمان لم يضع غير الأحرف فقط ، وأما الشكل والنقط فلم يضعه ، وكان النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم أقرأ الناس بقراءات كثيرة ، أنزل بها القرآن ، فبعضهم نقل عنه قراءة ، وبعضهم نقل عنه أخرى كما في حديث حكيم بن حزام ، أنه قرأ سورة الفرقان على غير ما كان عمر يقرأها ، فاختلفا حتى قال لهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرءوا ما تيسر منه" ، فنسخ منه عثمان رضي الله عنه سبع نسخ ، وقيل : ست ، وقيل : أربع ، وبعث لكل قطر نسخة ، وحرق ما خالفها لا لكونه باطلا ، بل لكونه غير مجمع عليه ، ففي الشواذ ما هو صحيح لكنه غير مجمع عليه ، كما أن في الأحاديث الصحاح ما ليس في كتاب مسلم والبخاري ، فلما مر كل مصحف لقطر قرأها أهل ذلك القطر بتلك الأحرف ، وقرءوا فيما يرجع إلى إلا ذا والضبط كالمد والشد والإمالة والترقيق والتفخيم بما رواه بعضهم عن بعضها بالسند الصحيح إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما ما وقع في السبع من

٢٧٨

زيادة الأحرف كقراءة من سواء نافع وابن عامر وشاروا بالواو وقراءة ابن كثير من تحتها في براءة ، بزيادة من ، وقراءة نافع وابن عامر في سورة الحديد (وَاللهُ الْغَنِيُ) [سورة الفتح : ٣٨] ، بحذفين ، يرد الباقون بزيادتها ، فهو من اختلاف نسخ عثمان فثبتت من في المصحف المنفي دون ما عداه ، وثبتها هو فيما عدا المصحف الثامن ووجهه المديح أن عثمان أسقطها قصد لكونه صح عنده إثباتها إسقاطها ، واختلف الناس في القراءات السبعة بعد اتفاقهم على ما في مصحف عثمان على أربعة أقوال :

الأول : أن الضبط والأداء بنية النطق من إعراب وإمالة ووقف وما يرجع لإيفاد الكلام في ذاتها كتلك ، ومالك ويحذفون ويخادعون [٨٠ / ٣٩٧] ظاهر نقل الإبياري في شرح البرهان عن الداوودي ، أنها غير متواترة باعتبار الأمرين معا ، وحكاه مكي في الكشف ، وظاهر كلام ابن الحاجب : أنه لا خلاف في تواتر مثل قراءة (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [سورة الفاتحة : ٤] ، وملك الثاني إنها متواترة باعتبار الأمرين مطلقا ، نقله الإبياري عن إمام الحرمين أبي المعالي وأنكره الثالث أنها متواترة عند القراء فقط ، المازري في شرح البرهان الرابع إنما يرجع [.....] متواترة ، وما يرجع لكيف النطق غير متواترة ، قاله ابن العربي في القواصم والعواصم ، والإبياري ومن قرأ في الصلاة بقراءة يعقوب فصلاته صحيحة ، قاله مكي في الكشف ، وكذلك من يقرأ بالشاذ فصلاته صحيحة ، وهذا في الشاذ الذي لم يقرأ بواحد القراء السبعة باعتبار إعراب أو إمالة أو نحو ذلك مما يرجع لكيف النطق بالكلمة مع ثبوتها في مصحف عثمان ، وأما الشاذ الذي هو بلفظ غير ثابت في المصحف كقراءة عمر إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فأمضوا إلى ذكر الله فلا تجوز القراءة له في الصلاة ، قال المازري في شرح البرهان اتفاقا ، وقال في شرح التلقين تخريج اللخمي عدم إعادة المصلي بها خطأ وزلة ، وأما القراءة به في غير الصلاة فالأكثر على منعها ، قاله مكي وعياض ، اتفق فقهاء بغداد على استنابة ابن مبرد أحد المتقريين بها مع ابن مجاهد بشواذ من الحروف مما ليس في المصحف ، وقال ابن عبد البر في التمهيد : روى ابن وهب عن مالك جواز القراءة في غير الصلاة ، وكذا قال الإبياري : المشهور من مذهب مالك أنه لا يقرأ بها ، وحكى ابن العربي في القواصم والعواصم ومكي في الكشف : أن يعقوب كان في السمع وأخرج وأدخل الكتاني ، قيل : برشوة ، وقيل : بالإنصاف.

قوله تعالى : (فَعَصَوْا).

يدل على أن الفاء للجمع بين الشيئين من غير ترتيب ، لأن العصيان واقع مع المجيء لا بعده ، ولا يتوهم في الآية التكرار ، لأن نبئهم بالخاطئة وهو معصيتهم بعدم

٢٧٩

إيمانهم وعصيانهم الرسول هو عدم تصديقهم بالنبوات ، فإن قلت : هلا قيل : رسول الله وسول الجبار فهو أبلغ في التخويف ، لأن معصية الإنسان لمن يعلم أنه جبار منتقم أدل على جزاءه وعدم خوفه ، فالجواب : أنه تقرير الفرق بين قولك عصى فلان فلانا فضربه ، وبين قولك عصا أباه فضربه ، فالثاني أشد لأن ضرب الأب ولده ، إنما يكون على شدة المخالفة ، وهو في الأكثر يسمح له ويتجاوز عنه ، فضربه له دليل على سوء عصيانه ومخالفته إياه.

قوله تعالى : (لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ).

فيه سؤال تقريره أن شروط الماء متى أخر عن شرطها واقع بعقبه ، وطغيان الماء مسبوق بفورانه ، فالحمل في السفينة بعد طغيان الماء المتأخر عن فورانه ، وقال في هود (وَقَدْ أَفْلَحَ) [سورة هود : ٦٤] ، (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها) [سورة هود : ٤٠] ، فاقتضت الآية أن الحمل فيها يعقب الفوران ، فهو قبل الطغيان لا بعده ، وجوابه : أن الحمل فيها حالة كونها سائرة لقوله تعالى : (فِي الْجارِيَةِ) ، والحمل فيها المراد به أوائل الحمل ، وهو حالة كونها ذاكرة ، وهو متقدم على حالة سيرها ، ابن عطية : قال قتادة : علا الماء على كل شيء خمسة عشرة ذراعا ، انتهى ، مراده تحديد أقل العلو لا أكثره ، أي على شيء فعلا جبل في الأرض خمسة عشرة ذراعا ، وأما أخفض بقعة في الأرض فعلا عليها أكثر من ذلك ، وحكى ابن عطية عن منذر أنها سفينة نوح ، وعن المهدوي إن معناه في السفن الجارية انتهى ، والأول أصح لوجوه :

أحدهما : أن الخطاب لأهل مكة وليس ضدهم نحو.

الثاني : قرينة قوله تعالى : (طَغَى الْماءُ) ، فيدل على أنه زمن الطوفان في مدة نوح.

الثالث : أن الجارية لفظ مفرد إلا أن يقال : المراد به الجنس ، وفيه بعد ، فإن قلت : يلزم على الأول المجاز ، أي حملنا إياكم ، وعلى الثاني يكون حقيقة ، قلت : بل هو حقيقة في الجميع لأنا كنا في ظهر نوح عليه‌السلام ومن معه.

قوله تعالى : (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ).

قيل : التذكر متأخر عن سماع الخبر ، فهلا أخر عنه ، أجيب : بأن التذكر لمن أدرك سفينة نوح وشاهدها ، وكان فيها وسماع الخبر لمن بعد ، قيل : لو كان كذلك لقيل : ليجعلها لهم بضمير الغيبة ، أجيب : بأنه لما اشتملت اللفظ على مخاطب

٢٨٠