تفسير ابن عرفة - ج ٤

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٤

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٣٩٩

يقل : والذين كفروا يدخلهم النار تشريفا للمؤمنين وتحقيرا للكافرين وأدبا لهم ، وإن كان الكل من فعله وخلقه.

قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ).

يحتمل أن يعم اللفظ الخير والشر ، وهو خاص بالشر ، وهو الظاهر ، ويتقرر وجه مناسبتها لما قبلها بأحد أمرين : إما بأنها تسلية للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، أي لا [...] على عدم إيمانهم ، فإن ذلك بإرادة الله تعالى وإذنه.

وإما بأنه احتراس لأنه لما تقدم أن من يؤمن بالله ويعمل صالحا ، يجازى بتكفير السيئات ، ومن يكفر بالله يجازى بدخول النار ، أوهم ترتب ذلك الجزاء على ما ذكر أن الإيمان والكفر من فعل المكلف وكسبه واختياره ، فاحترس عن هذا التوهم بأن جميع الحوادث من خير وشر من الله تعالى ، فمن أصابه هم وحزن من موت حبيب أو ذهاب مال ، فلا يهتم لذلك وليعتقد أن الله تعالى قدره وأراده وعلم وقوعه ، لأن الإذن يشمل العلم والإرادة المخصصة له والقدرة المبرزة من العدم إلى الوجود ، والآية دليل على أن الاستثناء من النفي إثبات ، لأنه ليس المقصود نفي المصيبة ، وإنما المقصود حصرها بالإذن.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ).

عقد قلبه ، إن قلت : الهداية متقدمة على الإيمان ، وسبب فيه ، فكيف رتبت عليه ، فالجواب : إما أنه مثل (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [سورة محمد : ١٧] ، وإما بأن المراد بالإيمان مجرد التصديق ، أي ومن يصدق بوجوده الله ، يهده إلى التصديق بوحدانيته ، لأنهما بابان في علم الكلام ، فأما التصديق بالوجود غير التصديق بالوحدانية ، ولا يقال : إنه يلزم عليه الخلف في الخبر من جهة أن المشركين بالله يصدقون بوجوده ؛ لأنا نقول : المراد من يصدق بوجود الله في التصديق وحصول ذلك موجب للتصديق بالوحدانية.

قوله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

إن قلنا : إن المعدوم لا يطلق عليه شيء ، فيكون تأكيدا ؛ لأنه مستفاد من قوله : (بِإِذْنِ اللهِ) ، لما تقدم من الإذن يشمل العلم والقدرة والإرادة ، فكل حادث الله علمه بالحوادث بين الموجودات.

قوله تعالى : (فَاحْذَرُوهُمْ).

٢٤١

الضمير المفعول ، إما عائد على عدو فيكون الأمر بالحذر فيمن ثبت عداوته ، أو عائد على الأزواج والأولاد ، فالأمر بالمحاذرة عام في جميعهم ، خشية أن يكون الذي وقع الركون إليه عدوا ، والآية خطاب بالذات للرجال بالتحذير من زوجاتهم وأولادهم ، ويحتمل أن يعم الخطاب الرجال والنساء ، فيكن محرما من ذات بالتحذير من أزواجهن وأولادهن.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَعْفُوا).

العفو ترك الحق بعد ثبوته عند الحاكم ، والصفح تركه بعد المطالبة به قبل ثبوته عند الحاكم ، والمغفرة ترك المطالبة به [٧٨ / ٣٨٨] من أصل فالعطف ترق ولذلك خصص الأخير بقوله تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) وفي آية أخرى (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [سورة الكهف : ٤٦] ، فينعقد من الآيتين الشكل الثالث ، وذكر الأولاد في العداوة وفي الفتنة دليل على شكيمتهم أشد من الزوجات ، وذكر ابن عطية هنا والزمخشري من بعده ؛ لأنه متأخر عنه حديث الله أعلم بصحته عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " أنه كان يخطب إذ دخل الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما الحمرة ، فهبط ورفعهما" إلى آخره.

قوله تعالى : (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

دليل على عظم الشغل بهما ، وخرج البخاري في كتاب الأنبياء عن أبي وائل عن حذيفة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : أيكم يحفظ قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الفتنة ، قال حذيفة : أنا أحفظ كما قال ، قال : هات إنك لجريء قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم : فتنة الرجل في أهله وماله وجاره يكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال : ليست هذه ولكن التي تموج كموج البحر ، قال : يا أمير المؤمنين لا بأس عليك فيها أن بينك وبينها بابا مغلقا ، قال : يفتح الباب أم يكسر قال : لا بل يكسر ، قال : ذلك أحرى أن لا يغلق ، قلنا : أعلم بالباب ، قال : نعم كما أن دون غد الليلة إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط فهبنا أن تسأله من الباب وأمرنا مسروقا فسأله فقال : عمر.

قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).

٢٤٢

عارضها ابن عطية بقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [سورة آل عمران : ١٠٢] ، وظاهرها عموم التقوى في المستطيع وغيره ، فمنهم من قال : هذه ناسخة لتلك ، ومنهم من يجعلها ناسخة ؛ لأن النسخ إنما هو حيث التعارض ولا تعارض إلا لو كانت تلك أمرا وهذه نهيا عن شيء واحد ، أو تلك إثباتا وهذه نفيا لشيء واحد ، وأما هنا فلا تعارض بين اللفظين ، وإنما التعارض بين مفهوم هذه الآية ونص تلك ؛ لأن مفهوم هذه أن غير المستطاع من التقوى غير مأمور به ، فيرجع إلى نسخ النص المتواتر بالمفهوم ، وفيه خلاف بين الأصوليين.

٢٤٣

سورة الطلاق

أكثر ما وقع في القرآن أن مخاطبته صلّى الله عليه وعلى آله وسلم بصفاته ، فقال (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ، وكذلك (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَ) [سورة الأعراف : ١٥٧] ، (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) [سورة الأحزاب : ٥٦] ، وغير ذلك من الآيات ، وما وقع التعبير عنه باسم العلم ، إلا في نحو خمس آيات ، وهي قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) [سورة آل عمران : ١٤٤] ، وقوله تعالى : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) [سورة الأحزاب : ٤٠] ، وقوله تعالى : (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) [سورة محمد : ٢] ، وقوله تعالى : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [سورة الصف : ٦] ، وسبب ذلك أن هذه الصفات ذكرت على سبيل المدح والتشريف ، فلذلك كرر هنا ذكرها ، والتصريح باسمه العلم إنما هو لتميزه عن غيره فقط ، وعبر هنا بالنبي الذي هو أعم من الرسول ليعم الخطاب بحكم الطلاق له ولأمته ، وعبر بإذا دون إن مع أن الطلاق مبغوض شرعا ، لكن روعي فيه كثرة وقوعه في الوجود الخارجي ، والمراد أردتم الطلاق ، وليس في الآية ما يدل على إباحة الطلاق ولا عدم إباحيته.

قوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ).

أي لاستقبال عدتهن ، والمطلقة في الحيض لا تستقبل العدة ؛ لأنها تمكث حتى تطهر ، فحينئذ تبدأ بحسب العدة بخلاف المطلقة في الطهر ، فإنها تحسب بذلك الطهر فهي مطلقة في الزمن التي تستقبل فيه عدتها إثر الطلاق ، وفيه دليل على منع الطلاق في الحيض ، وهو مذهب مالك في جميع مسائل الفقه إلا في مسألة واحدة ، وهي طلاق المولي إذا انقضى أمد الإيلاء وهي حائض ، فاختلف قوله ، فقال مرة : يطلق عليه الحاكم حينئذ ، وقال مرة : يتربص حتى تطهر ، فحينئذ يطلقها عليه ، وهو مذهب ابن القاسم ، وأما طلاق الحامل فعلى الاختلاف في دمها هل دم حيض أم لا ، قال مكي : ومعنى قوله تعالى : (لِعِدَّتِهِنَّ) ، واعتيادهن ، أي للأقراء التي اعتدتها ويرد باختلاف المادة ، وإنما المعنى العدة أي للأقراء التي بدونها ويحسبونها ، فإن قلت : يلزمك أن يكون عطف (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) ، تكرار ، قلت : المراد بالأول : العدة ، وبالثاني : إحصاؤها ، ويكون تأكيدا أو أسند الطلاق إلى الرجال ، والعدة إلى النساء ؛ لأن طلاق العبد طلقتان ، ولو كانت زوجته حرة ، وعدة الأمة حيضتان ولو كان زوجها حرا.

٢٤٤

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ).

اختلفوا هل الحد جزء من المحدود أو غيره؟ ذكر ابن سهل في أحكامه : أن ابن عتاب أفتى فيمن اشترى موقعها حده القبلي أو الشرقي الشجرة الفلانية ، بأن الشجرة داخلة في المبيع انتهى ، وهذه الآية معضدة لقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَعَدَّ) ، فلو كان الحد غير المحدود لكان الذي يصل إلى حدود الله ولا يتجاوزها إلى غيرها متعديا ؛ لأنه تعد الشيء الذي هي حد له فلما قال (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) ، دل على أنها جزء من المحدود.

قوله تعالى : (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).

لحديث : " من اغتصب شبرا من أرض طوقه الله من سبع أرضين يوم القيامة" ، وهو صحيح ، إلى غير ذلك من الأحاديث.

قوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً).

فسره بالمراجعة أو الندم وانقلاب البغض محبة ، والآية خرجت على سبب ، وهو إرادة الرجعة ، وهي قضية في عين والصحيح أن العام الخارج لا يقصر على سبب بل يعم.

قوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ).

أي قاربن انقضاء عدتهن ، فراجعوهن إن شئتم أو دوموا على فرقتكم لهن ، وجعله هنا فراقا مع أن الفراق واقع فيما سبق ، إشارة إلى أنه الزمن الذي ينتهي إليه بما بيد الأزواج من الرجعة الجبرية ، فإذا مر ذلك الزمن فلم يرتجعوهن فقد خرجن من عصمتهم.

قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ).

فيها دليل على منع أخذ الأجرة على الشهادة ، إلا أن يقال : معنى إقامة الشهادة لله ، أي في الإتيان بها على وجهها من غير اتباع هؤلاء غرض دنيوي ، وذكره لا ينافى أخذ الأجرة عليها.

قوله تعالى : (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

إن قلنا : إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، فيكون المراد : يوعظون الوعظ النافع ، فإن قلنا : إنهم ليسوا مخاطبين بالفروع ، فيكون المراد مطلق الوعظ في المدونة مسائل تدل على أنهم مخاطبون ، منها قوله في كتاب السلم الثالث : وإذا ابتاع ذمي

٢٤٥

طعاما من ذمي ، فأراد بيعه قبل قبضه لم أحب لمسلم أن يبتاعه ، وفي التجارة بأن من الحرب ، إذا فرق أهل الكتاب بين الأم وولدها وباعوا لنا الأم ، قال : يكره لنا شراؤها ، والكراهة للتحريم بخلاف التي في المسلم ، وفي كتاب القيام منها ما يدل على أنهم غير مخاطبين بالفروع ، وتكلم الباجي على ذلك في الصيام في المسافر : يقدم في رمضان فيريد أن يطأ زوجته الكافرة في النهار.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً).

في صدق بعض ما يلزم هذه الشرطية من المنفصلتين المانعتين الجمع والخلو نظر.

قوله تعالى : (مِنْ نِسائِكُمْ).

إن قلت : ما أفاد مع أنه معلوم ، لأنه لا حيض إلا لهن ، فالجواب : أنه يتضمن كون الخطاب للموجودين ؛ لأن الإضافة في (مِنْ نِسائِكُمْ) للمخاطب والمخاطب لا يكون إلا موجود فقائدته إخراج المتوفى عنها ؛ لأن عدتها أربعة أشهر وعشرا ، إذ هي زوجة الميت والميت غير موجود.

قوله تعالى : (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ).

وفي سورة البقرة (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [سورة البقرة : ٢٢٨] ، والجواب : أنه لو كان هناك يتربصن ثلاثة أشهر أو هم أنها تجلس ثلاثة أشهر فقط ، مع أنها إذا ارتابت تجلس سنة ، لكن الثلاثة أشهر هنا عدة ، ولذلك قال مالك : العدة في الطلاق قبل الريبة ، وفي الوفاة بعد الريبة.

قوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ).

ابن عطية : المتوفى عنها إذا كانت حاملا فالمذهب أن عدتها وضع لها ، وقال علي وابن عباس : عدتها أقصى الأجلين ، وحكاه بعضهم عن سحنون ، قال : وسبب الخلاف تعارض الآيتين (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) [سورة البقرة : ٢٣٤] ، في البقرة مع هذه الآية عموم [٧٨ / ٣٨٩] وخصوص من وجه دون وجه ، واختلف الأصوليون في النصين إذا كان كل واحد أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه ، وقيل : بالوقف ، وقيل : بالآخر ينسخ الأول : فآية البقرة أعم في الزمان حاملا كانت أو غير حامل ، وآية الطلاق أعم في الحوامل مطلقات أو متوفى عنهن ، وأخص في الزمان فمن يجمع بينهما ولا ينسخ أحدهما بالأخرى فظاهر ، ومن ينسخ أحدهما بالآخر يجعل هذه ناسخة لتلك ، ومن لا يقول بالنسخ يجعلها مخصصة لتلك فيتعارض النسخ

٢٤٦

والتخصيص ، فالتخصيص أولى والمشهور أنها إذا وضعت ولدا وبقي في بطنها آخر أن عدتها لا تنقضي إلا بواضع الولد الثاني انتهى ، وعبر في الحوامل بالأجل دون العدة ، فلم يقل : وأولات الأحمال عدتهن أن يضعن حملهن ، وعبر في غير الحوامل بالعدة مع أن الجميع عدة.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً).

التقوى الأولى : في الأمر الدنيوي ، والثانية : في الأخروي ، أو هو إشارة إلى حالتي المعتادة من الحوامل ، فمنهن من اتقت الله تعالى فليس عليها مشقة في الولادة فلها الأجر العظيم ، أي يتق الله فجزاؤه أحد أمرين : إما دنيوي بتسهيل الولادة وتيسيرها ، وإما أخروي بتكفير السيئات وكثرة الأجر إذا عسرت عليها الولادة.

قوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ).

إن قلت : ما أفاد هذا مع قوله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) [سورة الطلاق : ١] ، قلت : فائدته إدخال صورة ، وهي من يسكن بزوجته في دار بالكراء ، ثم يطلقها في آخر مدة الكراء ، فهذه الصورة غير داخلة في الآية الأولى ، لأن ذلك المسكن ليس من بيوتهن ، وهذه الآية تتناول الصورة المذكورة.

قوله تعالى : (مِنْ وُجْدِكُمْ).

أعربه الزمخشري : عطف بيان ، واعترضه أبو حيان بتكرار العامل ، ونص عليه ابن السيد في إصلاح الخلل ، ويعترض أيضا بأنه يجب في عطف البيان عطف توافقهما في المعرفة والتنكير ، فعلى هذا جرى قوله (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) [سورة أل عمران : ٩٧] ، عطف بيان ، ورده ابن مالك بأنه خلاف إجماع الفريقين ، وهنا الجملة التي أضيفت إليها حيث نكرة بدليل وصف النكرة بها ، تقول : جاء رجل يضحك انتهى ، ولا يحتاج إلى هذا بل يتعلق ب (سَكَنْتُمْ) ، فيكون إشارة إلى أنه لا يجب استواء المعتدة والزوج في السكنى في كل حالة من حالات السكنى ، بل في حال الوجد ، فإن كان مثلا يسكن في بيت بالكراء بدينار ، فانقضت المدة قبل تمام العدة ، ولم يجد إلا بأقل من دينار ، فإنه لا يكلف أزيد منه.

قوله (لا تُضارُّوهُنَّ) ، هذا ومفاعلة ينهي فيها عن مضارة من مضرة ، فأحرى مضارة من لم يضره ، وهل المضارة سبب في التضييق في المضارة ، فيه نظر.

قوله تعالى : (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى).

٢٤٧

إن قلت : لم أفرد الضمير ، وقد وقع الخطاب أولا بالجمع في قوله تعالى : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) ، فالجواب : أنه لما كانت حالة العسر أقل من حالة اليسر ، أفرد الضمير إشعارا بالوحدة الدالة على القلة.

قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ).

كان بعضهم يقول : الظاهر أن الجواب : أعد الله لهم وقرره بأن الآية تسلية للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، والمناسب في التسلية تكرير الأشياء والمتسلي بها وإعداد العقاب أخص من العتو عن أمر الله ، فتعليق التسلية على الأخص أبلغ ، لان كل ما لزم الأخص لزم الأعم ، دون رده عليه بأن التسلية إنما تكون بأمر نزل جنسه لغير المخاطب ، وإما ذكر ما يحل من العذاب بقومه في الدن فيزيده غما وتأسفا وحزنا عليهم ، وإنما يتسلى بعتو مثالهم على كثير من الأنبياء ، فإن قلت : لم قرن الشدة بالجنان ، والنكرة بالعذاب ، فهلا قال : (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً) ، قلت : الحساب ليس فيه ما ينكر والعذاب غير المعهود منكر.

قوله تعالى : (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها).

لأن الإنسان قد يذوق العذاب ثم يعقبه الخير والسلامة.

قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ).

ابن عطية : لا خلاف بين العلماء أن السماوات سبع ، لقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) [سورة نوح : ١٥] ، فسر رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، أمرهن في حديث الإسراء حتى قال : " ثم صعدنا إلى السماء السابعة" ، وقال لسعد : " حكمت بحكم الملك من فوق سبع أرقعة" انتهى ، هذا ما يتم إلا على أصول الحكماء الفاسدة التي تخالف نحن فيها ، لأن كونها كذلك شدة ، إما للعقل أو للسمع ، فالعقل لا مدخل له في عددها ، وإن ادعوا إسناد ذلك إلى العادة ، فهي دعوى باطلة إذ لا يعلم ذلك بالعادة بوجه فلم يبق إلا السمع ، وهو مخالف لهم ومبني على أنها لا تقبل الخرق ، وأما عندنا فيصح قبولها للخرق ، كما نشاهده في جرم السمع وجرم الميناء تحرقه السفينة ، ويرجع كما كان ففي الممكن إن تلك الكواكب والشمس والقمر تحرقها كلها ، وتنتقل من سماء إلى سماء ، وإذا كان كذلك فيبطل استدلالهم على الطول ، وغير ذلك بالرصد ، ومذهب الحكماء أن السماوات كربطة البصلة ، واحدة فوق أخرى متلاصقة ، ومذهب أهل السنة أن بينها فضاء حاجزا ورده أن غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، وبين كل سماءين خمسمائة عام ، لكنه لم يصح ، وأشار له الزمخشري في سورة النازعات ، وذكر الحكماء : أن الأفلاك تسعة منها

٢٤٨

السبعة المشهورة ، والفلك الأطلس ، وفلك البروج وفلك الوهم بفلك البروج هو الثامن ، والأطلس فوقه ليس فيه كواكب بوجه ، وفلك الوهم محيط بالجميع حركته أسرع من طرفة العين ، فإن قلت : هلا كانت الملائكة مخلوقين قبل السماوات أولا ، فالجواب إن قلنا : بإثبات الجوهر الفارق ، وهو موجود لا يتحيز ولا قائم بالمتحيز ، وهو مذهب الحكماء ، فنقول : يصح أن يكونوا مخلوقين قبل ذلك ، وإن منعنا ذلك فيمنع صحة خلقهم ، قيل : لأن الموجود إما متحيز أو قائم بالمتحيز ، فهو إما في مكان أو في حيز أو نقول : كانوا في الفضاء وهو حيزهم كما هي السماوات الآن في الحيز لا في المكان.

قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ).

ابن عطية : روي عن قوم من العلماء أنهم قالوا : الأرض واحدة ، وهي مماثلة لكل سماء بانفرادها في ارتفاع جرمها ، وفي أن فيها عالما يعبد ، كما إن في الأرض عالما يعبد ، انتهى ، لا يصح أن تكون المماثلة في الذات والصفات ، لأنهم قرروا في علم الهيئة ، أن الشمس أكبر من الأرض ، وهي أصغر من السماء ، فكيف يكون جرم الأرض قدر جرم الشمائل المماثلة ، ليست من جميع الوجود ، وهذا كقوله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم : إذا سمعتم النداء ، فقولوا مثل ما يقول المؤذن ، مع أنه لا يحاكيه في الحيعلة والحوقلة ، وذكر ذلك ابن رشد في البيان والتحصيل في كتاب الصرف في مسألة سعيد بن المسيب ، وحكى ابن سينا الخلاف في الأرضين إنها سبع أو لا واختار أنها سبع ، وقال المازري في المعلم : سألني عن ذلك شيخنا عبد الحميد الصائغ ، وكتب لي بعد فراقي له ، هل وقع في الشرع ما يدل على أن الأرضين سبع ، فأجبته بقول الله تعالى (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) ، وبحديث من اغتصب شبرا من الأرض ظلما طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين خرجه مسلم ، قال قائم إذ كتابه إلي ، وقال : إن الآية محتملة هل مثلهن في الشكل والهيئة لو في العدد والحديث أخبار أجادوا القرآن إذا أحتمل ، والحديث إذا لم يتواتر لم يصح القطع بذلك ، والمسألة علمية ليست من العمليات ، فلا يتمسك فيها بالظواهر وبأخبار الآحاد ، قال : فأعدت إليه المجاوبة يحتج ببعد الاحتمال من القرآن ، وبسط القول في ذلك ، وترددت له في آخر كتابي في احتمال ما قال : فقطع المجاوبة ، قال في شرح الجوزقي : لأنه كان انقطع في آخر عمره للعبادة ذكره لما تكلم في الأذان ، انتهى ، ظاهر كلامهما أن المسائل العلمية لا تثبت إلا بالدلائل القطعية ، ولذلك منعت فرقة التفضيل بين الصحابة ، لأن ذلك أمر علمي عندهم صرفا ، ودلائل التفضيل لا تنهض للقطع ، وإلا ظهر أن المسائل العلمية على قسمين فما يرجع منهما لأحكام العقائد كالأحكام المتعلقة بالذات العلمية ، كالحكم بجواز [...] هويته عزوجل مع تنزيهه وتقديسه عن الجهة والمكان ، والحكم بكونه سميعا بصيرا مع تنزيهه عن الجارحة وأعضاء السمع

٢٤٩

والبصر وأحكام الثبوت وحتمها ، وانقطاعها بهذا لا يصح إلا بما يفيد القطع اتفاقا ، وأما ما يرجع إلى ما ليس من أحكام العقائد تكون الأرضين سبعا ، وكأفضلية بعض الصحابة على بعض ، والحكم بأن الكفار مخاطبون بالفروع [٧٨ / ٣٩٠] على رأي القاضي أبي بكر الباقلاني ، وأكثر الأصوليين من أن ثمرة ذلك إنما هي حاصلة في الدار الآخرة ، وكالحكم بجواز كرامات الأولياء ، وهو مذهب جمهور أهل السنة ، وكون الذبيح إسماعيل أو إسحاق فهذا يصح إثباته بالدلائل الظنية أو لا يلزم من تحصيله بها إخلال بواجب ، ومعنى كونها علمية أنها اعتقادية فقط لا عمل فيها بوجه الأمر بينهن ، قرره الغزالي في المضنون به بكلام جار على قواعد الحكماء.

قوله تعالى : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ابن عطية : عام مخصوص بالواجب والمستحيل ، ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية : أجمعوا على أن المعدوم المستحيل في نفيه كقلب الأجناس واللون في محلين في زمن واحد ، لا يتعلق به قدرة لا قديمة ولا حادثة ، وقال السراج في الموجز : قولك : (اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، دال بالمطابقة على عموم العلم ولا حادثة ، قولك الله قادر على كل شيء ، دال بالتضمن ، لأنه إنما يدل على بعض مسماه ، لأن القدرة لا تتعلق بالواجب ولا بالمستحيل ، وقال القرافي : دلالة العالم على بعض أفراد ، لا يصح أن يكون مطابقة ولا التزاما ، لأنه داخل في المسمى ولا تضمنا ، لأنه كلية لا كل انتهى ، ويرد بأنه إن أريد دلالته عليه من حيث كونه جزءا من كل فهي تضمن ، وإن أريد دلالته عليه من حيث كونه [...] فهي مطابقة فهل هو من قسم الجزئي والكلي ، أو من قسم الجزء أو الكل ، ابن التلمساني في فروع المسألة الرابعة من الباب الثالث : المخاطب يندرج في العموم على الأصح ، قال تعالى (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، وهو عليم بذاته وصفاته ، واحتج المانع بقوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، ويقول القائل : من دخل داري فأعطه درهما ، فإنه يتناوله واجب بأن الأول : مخصوص بدليل العقل ، والثاني : العرف ، والحكم في ذلك كله للقرائن ، انتهى ، والقدرة مختصة بالله عزوجل ، والعلم يشاركه فيه الغير ، فكذلك عبر فيه بالإحاطة الخاصة بالله ، والصفات على ثلاثة أقسام : صفة قاصرة على ذات الله تعالى ، كالحياة والبقاء ، وصفة متعلقة مؤثرة ، كالقدرة ، وصفة متعلقة غير مؤثرة ، كالعلم ، وأما الإرادة فاختلفوا هل هي من الصفات المؤثرة أو لا ، وسبب الخلاف النظر في التأخير أعم من ذلك ، ومن التخصيص فالإرادة مؤثرة.

٢٥٠

سورة التحريم

السؤال بلم عن صلة الحكم والعادة في خطاب الأشراف تقديم لفظ [.....] المخاطب أو زوال ما يتوفاه ويخافه ، كقوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) [سورة التوبة : ٤٣] ، وكذلك تصدير الخطاب هنا ب (أَيُّهَا النَّبِيُّ) ، دال على الاعتناء بشأنه عظيم [...] وعبر هنا عن ما وقع العتب عليه بالمضارع ، وفي قوله تعالى : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [سورة التوبة : ٤٣] ، بالماضي لدوام متعلق التحريم ، وانقطاع لتعلق الإذن والتحريم قسمان حكمي والتزامي ، لقولك حرم أبو حنيفة هندا ، أي أفتى أو حكم بتحريمها لا على بعلها ، وحرم زيد هندا ، أي التزم تحريمها ، وهذه الآية من القسم الثاني ، فإن قلت : الاستمتاع بها جائز له فعله وتركه ، فإذا حرمه فقد أخذ الجائزين فلم عوتب ، قلنا : لا تسلم أنه يجوز تركه بالتحريم ، بل الفعل والترك من غير إضافة تحريم إليه هو المباح.

قوله تعالى : (تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ).

مفهومه منع التحريم لغير مرضاتهن من باب أحرى.

قوله تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ).

الأصل استحالة اللفظ في مفهومه الحقيقي وتقرر أن الكلام لا يتركب مع أجزاء متنافية ، ومفهوم فرض الحقيقة [...] مفهوم الحلية إما للإباحة أو ما هو أخص منها ، فلو كان المراد بالغرض والحلية مفهوميهما الحقيقتين ، للزم منه تنافي الكلام لتنافي أجزائه ، فيكون واجبا مباحا ، هذا خلف فلأجل دليلته ما أريد بهما مفهوما هما الحقيقتان ، بل أريد بالغرض البيان ، وبالحلية حلية العقد ، أي قد بين الله لكم حل عقد أيمانكم ، ويصح أن يقال للمباح واجب ، لأنه قد يلحقه الوجوب لعارض ، وإنما يمتنع ذلك في الواجب لذاته لا لعارض ، كما تقول أكل الجراد مباح ، والمباح واجب على أنه محصل للواجب ، وهو مدخلة الجوع ، وفي الآية التفات لقوله تعالى : (لَكُمْ) ، ولم يقل ذلك.

قوله تعالى : (إِنْ تَتُوبا).

الأكثر في الخطاب التكليفي ، أن يؤتى فيه بصيغة الأمر ، كقوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً) [سورة النور : ٣١] ، فأجيب : بأن الخطاب إن كان لمن يتأثر له أتى به في سياقي الشرط تشريفا له وتلطفا في الخطاب ، وإن كان بحيث لا يتأثر ، أتى أمرا صريحا نقص عليه بقوله تعالى في براءة (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [سورة التوبة :

٢٥١

٣] ، وفي التنبيه في سماع ابن القاسم من كتاب الغائب ، قال مالك : فيميزه ، قال : إن فعلت كذا زوجتك ابنتي أو بعتك سلعتي ، هذه فإنه لا يلزمه شيء ، وكأنه قال : إن فعلت كذا ، زوجتك ، فهو وعد بالتزويج لا التزام ، وهذا عند النحويين أعني قوله : (قُلُوبُكُما) ما ورد في التشبيه بلفظ الجمع ، قاله سيبوبه وغيره ، وجعله الفخر جمعا حقيقة باختلاف حالات القلب وتبدلها وتقلبها فكأنها قلوب.

قوله تعالى : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ).

قيل : المراد به علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهذا عكس ما يقولون في الخبر والشهادة من أن متعلق الشهادة قاصر على المشهود ، فلا يقبل فيه شهادة الرجل لنفسه ، ومتعلق الخبر عام وجاء هذا الخبر بجر النفع للمخبر فقط ، وقيل : المراد بصالحهم الأنبياء المتقدمون ونصرتهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بدعائهم له كما دعا له إبراهيم.

قوله تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ).

ابن عصفور : كل ما في القرآن من عسى فنفي واجبة ، لأن وعد الله تعالى حق لا بد من وقوعه ، إلا هذه فإنها على بابها من الترجي ، انتهى ، يرد بأنها هنا واجبة ، وجوبا متوقفا على حصول ذلك الأمر المقدر وقوعه بإرادة الشرط ، فلم يقع الطلاق فلم يقع التبديل ، وانظر ما تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى : (عَسى) [سورة البقرة : ٢١٦] ، أن تكرهوا وهو خير لكم ، وقوله تعالى : (إِنْ طَلَّقَكُنَّ) ، ولم يقل : حرمكن فيه ترجية لأزواجه ، والمراد أنه مستغنى عنكن ، فلا تعودن لمثل ما فعلتن من افشاء سره فهو عتب لأزواجه.

قوله تعالى : (مُسْلِماتٍ).

قدم الإسلام على الإيمان ، لأن القصد الترقي ، والإيمان أعم لأنه من أفعال القلوب ، والإسلام من أفعال الجوارح ، فقد يظهر من الشخص أنه مسلم وهو منافق ، والعبادة أخص مما قبلها أو هي بمادتها تدل على الكثرة والملازمة ، وجواب الزمخشري عن إدخال الواو في (وَأَبْكاراً) ، دون ما قبلها منقوص بقوله تعالى : (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [سورة التوبة : ١١٢] ، الأمر والنهي صفتان لا يستحيل احتمالهما في موصوف واحد.

قوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ).

٢٥٢

يحتمل أن يراد بالأول : طاعتهم له في اجتناب ما نهاهم عنه ، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، وبالثاني : طاعتهم في فعل يأمرهم به ، وقال الفخر في المحصول : إن قال قائل : إن قوله (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ، تكرار فالجواب : أن الأول : ماض ، والثاني : مستقبل أي لا يعصونه فيما أمرهم في الماضي ، وهو في الحال (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ، ورده عليه القرافي : بأن لا إنما تنفي المستقبل ، فالأول مستقبل ، والثاني كذلك ، ويجاب : بأن الأول إخبار عن عدم عصيانهم فيما سيؤمرون به في المستقبل ، ولم يقع منهم عصيان لما أمروا به ، وهم من شأنهم أن لا يعصون فيما سيأمرهم به.

قوله تعالى : (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

إن قلت : ما وجه المناسبة بين هاتين الجملتين مع أن المبادر للفهم أن يقال : لا يظلمون اليوم ، فالجواب : أن العفو هو ترك المؤاخذة بالذين [.....] موجبا ، والمعذرة هي إلقاء كلمة تمهيدا لرجاء عدم المؤاخذة بالذنب لعدم مزجها ، فالمراد أنا لم نخركم إلا بما كسبتم وجنيتم ، وجواب أخير : وهو أن المعذرة تارة تكون لإسقاط المؤاخذة ، وإما تارة تكون لتخفيف العقوبة ، فالآية كأنها أتت على قسم ثالث ، وهو ليس بتخفيف ، حتى ما جاز على بعض الذنب ولا الإسقاط بل على العمل فقط ، ويصح أن الوقف على لا تعتذروا ويتعلق اليوم بما بعده.

قوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ).

جعله المفسرون يوم متعلقا بيدخلكم ، والأولى أن يكون العامل فيه أذكر مقدر ، فإن قلت : الإضمار على خلاف الأصل ، قلت : فيه سلامة الآية من التكرار المعنوي ، لأن قوله (عَسى رَبُّكُمْ) ، إلى آخره ملزوم لنفي الخزي ، وقد شرح به ثانية فيؤول إلى قولنا (عَسى رَبُّكُمْ) ، أن لا يجزيكم واحتج بها المعتزلة على أن القاضي مخلد في نار جهنم بعد الجمع بينهما وبين قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [سورة آل عمران : ١٩٢] ، حسبما قرره ابن الحاجب ووجه الدليل أن يقال : كل من دخل النار مخزي بآية آل عمران ولا شيء من [٧٩ / ٣٩١] المؤمنين مخزي عملا بهذه الآية فلا شيء ممن يدخل النار بمؤمن ، ثم تنعكس [...] فتقول لا شيء من المؤمن بداخل النار ، وأجاب الشيرازي وغيره بوجهين :

أحدهما : أن المراد بالذين آمنوا معه الصحابة فقط.

والثاني : أن الذين معه مستأنف ، وليس معطوفا على ما قبله بوجه ، ويجاب أيضا بوجه ثالث : وهو أن الخزي مقيد بذلك اليوم ، فيكون ذلك اليوم هو وقت دخولهم الجنة ، فإنهم غير مجزين حينئذ ، وأما قبل ذلك حين دخولهم النار فهو يوم آخر.

٢٥٣

قوله تعالى : (وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

إن قلت : المناسب إنك غفور رحيم ، قلت : هو مرتب على مخلوق وهو قوله تعالى : (يَسْعى نُورُهُمْ) [سورة الحديد : ١٢] ، إلى آخره في الآية ، معنى القلب أي يسعون بنورهم ، فإن سعي النور فإنما هو انتقال الكفار بالسيف والمنافقين بالاحتجاج انتهى ، فجيء فيه استعمال اللفظ الواحد يتبع انتقالهم إذ هو صفة لهم.

قوله تعالى : جاهدوا.

الكفار والمنافقين ، الزمخشري : جاهدوا الكفار بالسيف ، والمنافقين بالاحتجاج انتهى ، فجيء فيه استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه ، [.....] بأن يكون من باب علفتها تبنا وماء باردا أي جاهد الكفار وعارض المنافقين بالاحتجاج ، وهو من عطف الخاص على العام ، والجهاد أربعة أنواع أحدها : قتال الكفار ، والثاني : حضور معركة القتال للقتال ، وإن لم يقاتل كما فعل كثير من أكابر الصحابة ، والثالث : الدخول لأرض العدو للمقاتلة ، كما قال مالك : فيمن دخل أرض العدو للإغارة عليهم ، وإضافتهم أنه مجاهد فهذا كله جهاد وغائر تلك بينه وبين الرباط بأرض الإسلام لحراسة الإسلام من العدو ، الرابع : الخروج برسم الجهاد ، فقد قال مالك : فيمن خرجوا للجهاد فتغرقوا فحضر بعضهم الغنيمة إن الجميع يشتركون فيها ، وكذلك قال في السفن إذ غرقتهم الريح ، أن الغائبين عن الغنيمة يشاركون من حصر فيها ، فإن قلت : أعيان المنافقين من أين نعلمهم ، فإن كانوا معلومين عنده ، فليسوا بمنافقين ، لأن المنافق هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر ، وإن لم يكونوا معلومين عنده فيلزمه تكليف ما لا يطاق ، فالجواب : إنما ذلك في التكليف التأثيري ، كما لو أمر بقتالهم ، فيقول : لا يقاتلهم خشية أن تقع في المؤمنين منهم وهنا ، إنما أمر بإقامة الحجة فيقيها على الجميع يسمعها المنافق وغيره لعلها تنفع المنافقين من باب ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب.

قوله تعالى : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ).

إن قلت : ما فائدة التغليظ عليهم ، مع عذر الامتثال ، قلت : هو قطع لحجتهم وتعذرهم.

قوله تعالى : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

٢٥٤

إن قلت : ما السر في العدول عن المشاكلة اللفظية إلى المنصوب ، ولم يقل : وبئس المأوى ، فالجواب : أنه علقه على الأعم ، فيلزم ثبوته للأخص على المصير أعم من المأوى.

قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا).

المثل مضروب للجميع ، لكن خص بالأول الكافر ولكونه مثلا لمن هو كافر من جنسهم ، وخصص الآخر بالمؤمنين لكونه مثلا لمن هو من جنسهم.

قوله تعالى : (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ).

أفاد ذكر هذا التصريح بوصلي التحية والصلاح.

قوله تعالى : (فَخانَتاهُما).

ابن عطية : اختلفوا في خيانة هاتين المرأتين ، فقال ابن عباس : ما بغت زوجة نبي قط ، ولا ابتلى الأنبياء في نسائهم لهذا ، وإنما خانتاهما في الكفر ، وكانت زوجة نوح تقول إنه مجنون ، وامرأة لوط كانت تنم إلى قومه متى أتاه ضيف ، وقال الحسن : خانتاهما في الكفر والزنا وغيره انتهى ، وهذا خلاف في حال ، فابن عباس رأى أن الزنا منهن نقصا في أزواجهن ، فمنع من ذلك ، وأما الحسن فلم ير ذلك موجبا للنقص في الأزواج.

وقوله تعالى : (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما) ، يدل على ما قال ابن عباس : لأن تلك الفاحشة ليست مفروضة ، لأن تغني فيها أحد عن أحد.

قوله تعالى : (مَعَ الدَّاخِلِينَ).

إشارة إلى كونهما في منزلتهم وإن قرابتهما لا تخفف عنهما شيئا.

٢٥٥

سورة الملك

منها ابتدأت القراءة على شيخنا يوم السبت الثاني عشر شهر ربيع الآخر عام خمسة وسبعين وسبعمائة ، الزمخشري : مكية ، زاد ابن عطية : بإجماع الزمخشري ، وتسمى الواقية والمنجية ، لأنها تقي قارئها من عذاب القبر ، وذكر ابن عطية في ذلك أربعة أحاديث ، وقد تقرر أحاديث الفضائل كلها لم يصح إلا أحاديث قليلة ليس هذا منها ، ابن عطية : ويروى أن في التوراة سورة الملك من قرأها [٧٩ / ٣٩١] في ليلة فقد أجاد وأطيب انتهى ، الذي في التوراة الإخبار عنها لا أنها كانت موجودة في التوراة ، فهي كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة.

قوله تعالى : (تَبارَكَ).

ابن عطية : من البركة ، وهي التزيد في الخيرات ، الزمخشري : تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين ، قالوا : وهو خاص بأنه لا يسند إلا إليه ، انتهى ، وهو من كلام المناسب لفظه معناه [...] البازي وجرى للندب ، وتبارك غير منصرف ، ولفظه بالله فمعناه ، وهو البركة والنمو ، ولا يعقل فيهما تغير ولا تبدل بوجه مناسب للفظه.

قوله تعالى : (بِيَدِهِ).

ابن عطية : عبارة عن تحقيق الملك ، لأن اليد في عرف الآدميين هي آله التملك فهي مستعارة ، وقال الزمخشري : فجاز على الإحاطة بالملك والاستيلاء انتهى ، ويحتمل على مذهب أهل السنة أن يراد باليد القدرة ، ووقع التعبير عن اليد في القرآن تارة بالإفراد وتارة بالتنبيه وتارة بالجمع ، ووجهه أنه إن كثرت متعلقات القدرة جمعت ، وإن قلت : أفردت وإن توسطت ثنيت ، والملك أعم من الملك لأنه مهما وجد الأخص وجد الأعم فمنهما وجد الملك ولا ينعكس ، لأن سائر الناس يملكون العبيد والأرض والثياب ولا يملك لهما ، فإن قلت : هل بينهما عموم خصوص من وجه دون وجه ، لأنا قد نجد بعض السلاطين لا تملك شيئا ، مع أدلة الملك ، قلت : هذا محال وجوده أو قليل ، وفي الآية المذهب الكلامي ، وهو الإتيان بالحكم مقرونا بدليله ، واختلف هل هو موجود في القرآن أو لا ، فمنع الجاحظ وجوده فيه وأثبته غيره ، وتقدم القول فيه في سورة يس ، وهو على قسمين : برهاني نظري ، كقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) [سورة الأنبياء : ٢٢] ، وبرهاني ضروري ،

٢٥٦

كقولك : ساد من اتصف بالصلاح والكرم والشجاعة ، وهذه الآية البرهان فيها ضروري ، وهو اقتران البركة والتنزيه بالملك بالقدرة ، وهما معلولان بالضرورة.

قوله تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

الزمخشري : على كل ما لم يوجد مما يدخل تحت القدرة انتهى ، مذهب أهل السنة : أن المعدوم الممكن يطلق عليه شيء ، ومذهب المعتزلة : أنه لا يطلق عليه شيء ، فإن أراد الزمخشري بقوله : مما لم يدخل تحت القدرة ، فإنه بعث تخصيص فكلامه خطأ للإجماع على أن للمعدوم المستحيل لا يطلق عليه شيء ، وإن كان ذلك الكلام منه تحقيقا لبيان لفظه شيء ، فهو صواب ، ابن عطية : وهو على كل موجود قدير ، انتهى ، إن قلنا : إن الأعراض ما تبقى زمنين فظاهر ، وإن قلنا : ببقائها ، فيكون المراد ، وهو على إعدام كل موجود قدير لكن يرد عليه أن المشهور عندهم أن العدم الإضافي لا تتعلق به القدرة ، فينحصر الأمر إلى لفظة موجودة من باب تسمية الشيء بما يؤول إليه [...] ، وهو على كل ما سيوجد قدير باعتبار إيجاده واختراعه ، والآية حجة لأهل السنة في أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى إلا أن يجيب الآخرون بأنها تنسب إليه ، بأن خالق فاعلها فهو خالقها بواسطة ، فهو قادر على كل شيء إما مباشرة أو بواسطة ، وإذا قلنا : إن المخاطب داخل تحت الخطاب وفيكون دليلا على صحة إطلاق لفظة شيء على التقديم إلا أن يكون مخصوصا ، وكذلك إن قلنا : يمنع إطلاق لفظة شيء على القديم ، فإن الصفات عندنا كلها قديمة فيكون اللفظ مخصوصا بها.

قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ).

الفخر في المحصول : مذهب أهل السنة : أن الموت أمر وجودي ، ومذهب المعتزلة : أنه أمر عدمي ، والآية حجة لأن الخلق هو الإبراز في العدم إلى الوجود ، الآخرون بأن خلق يكون بمعنى قدر ، قال الله تعالى (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون : ١٤] ، انتهى ، لنقول أن العدم الإضافي تعلق به القدرة ، ابن عطية : وما في الحديث من قوله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح على الصراط" ، فقال أهل العلم ذلك تمثال كبش يوقع الله العلم الضروري لأهل الدارين ، أنه الموت الذي ذاقوه في الدنيا ، ويكون ذلك التمثال حاملا للموت انتهى ، وهو صحيح خرجه مسلم ، ووجه ما قال : إن الموت صفة معنوية وظاهر الحديث أنه مخصوص فتناول على أن الكبش حامل له في معناه أنه [٧٩ / ٣٩٢] حامل لجوهر متصف بتلك الصفة المعنوية التي هي عرض من الأعراض وهي الموت ، لأنه لو كان حاملا للموت لكان ميتا ، ابن عطية : والموت والحياة

٢٥٧

نقيضان مهما عدم أحدهما وجد الآخر ، فالحمل قبل نفخ الروح فيه ميت ، لأنه ليس بحي انتهى ، إن قلت : وكذلك الجمادات كلها ، قلت : لا يقال ميت إلا فيما وقائل للحياة إلا أن يكون مثل قول الحائط ، لا يبصر ويكون من السلب والإيجاب لا من باب العدم والملكة بخلاف قولك : زيد لا يبصر ، وقال الفخر : هنا في بعض النسخ ما حاصله ، أن الحياة أمر عدمي وهو إعدام الموت ، والموت أمر وجودي انتهى ، وهو هوس باطل ، لأن الله تعالى موصوف بالحياة لا بالموت بإجماع ... (١) ، أنها وجودية لاستحالة اتصافه بالعدم ، ومن يدع التفاسير ، قول القرطبي : إن الموت هنا فرس ، والحياة رجل راكب عليه ، ولقد أجاد الزمخشري في قوله تعالى : (خَلَقَ) موتكم وحياتكم ، وفي الآية من أنواع البيان المطابقة ، قال ابن ملك في المصباح :

المطابقة أن يجمع في كلام بين متضادين ، وهي على ثلاثة أضرب : الأول : ما لفظاه حقيقيتان ، وهي مطابقة بين محسوسين مثاله في الإيجاب ، قوله تعالى : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) [سورة الكهف : ١٨] ، وقول الشاعر :

أما والذي أبقى وأضحك

والذي أمات وأحيا

وفي السلب قوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [سورة الروم : ٦] ، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا.

الثاني : ما لفظه مجاز كقوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [سورة الأنعام : ١٢٢] ، أي ضالا فهديناه ومثله :

حلو الشمائل وهو مر باسل

يحمي الذمار صبيحة الإرهاق

الثالث : ما أخذ لفظيه حقيقة ، والآخر مجاز كقول أبي تمام :

له منظر في العين أبيض ناصع

ولكنه في القلب أسود أسفع

والطباق في الآية بين معنيين ، وذكر هذين الطرفين لأنهما أصلا كل شيء ، فيدل على اتصافه بخلق ما ود ذلك من الألوان والطعوم والروائح من باب آخر ، أو اللام في ليبلونكم للتعليل ، وهو على مذهب المعتزلة ، واجب ظاهر وأما على مذهبنا أفعال الله غير معللة ، والمتكلم تارة يذكر العقل معللتان بأمر واجب لا بد منه ، وتارة يذكره بأمر جائز فتقول لمن ضغطه الأسد ولا نجاء له منه ألا يسلم يصعد به على السطح أصعد في السلم لينج من الأسد ، وتقول لولدك : افعل لي كذا لأعطيك درهما ، وأنت قادر

__________________

(١) بياض في المخطوطة.

٢٥٨

على إعطائه وإن لم يفعل ، وكذلك هذا قد يفعل الفضل لسبب ، ولو شاء أن يفعله لغير ذلك السبب لفضله ، وهو من باب ربط الأسباب بمسبباتها لا من باب التعليل الواجب ، وقول ابن عطية : ل يبلوكم ، فينظر أو يعلم أيكم أحسن عملا ، يرد بأن النظر إن أراد به العلم فهو تكرار ، وإن أراد به الإبصار الحقيقي أو القلبي فهذا مستحيلان في جزاء الله تعالى ، الزمخشري : وألا يسمى هذا في النحو تغليقا ، وإنما التغليق عن المفعولين معا بخلاف المفعول الثاني وحده ، ولو كان تغليقا لافترقت الحالتان كما افترقا في قولك : علمت أزيد منطلق ، وقد علمت زيدا منطلقا ووافقه الطيبي وخالفهما أبو حيان ، ويحتمل أن يكون مراد الزمخشري أن التغليق في قولك : علمت زيدا قائم ، لا يقع التفريق فيه بين اللفظين ، لأنه قيل : أداة الاستفهام منصوبا ، وبعد دخولها مرفوع والتغليق في قولك : علمت زيدا وهو قائم ، لا يقع التفريق فيه إلا بالمعنى ، خاصة لأن اللفظ متحد قبل الاستفهام ، وإذا لم يزل مرفوعا أو يفرق بينهما بأن قولك : علمت زيدا قائما إخبار من علمك بمعنى منصوص عليه ، وقولك : علمت أزيد قائم إخبار عن علمك بمعين [...] عن المخاطب.

قوله تعالى : (سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً).

حديث الإسراء دال على أن وجود الخرق بين السماوات.

قوله تعالى : (مِنْ تَفاوُتٍ).

أي من قدم الإتقان والإحكام.

قوله تعالى : (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ).

نجاة بأداة الاستفهام ، تنبيها على سؤال المخاطب ، وأنه يجيب بالموافقة وكفى رؤية الفطور ، لكنه من باب نفي الشيء بنفي الشيء أو نفي الشيء بإثباته مثل" على لاحب لا يهتدى بمناره" ، أي ليس فطور فيرى.

قوله تعالى : [٧٩ / ٣٩٢] (كَرَّتَيْنِ).

الزمخشري : التثنية هنا للتنكير ، أي كرة بعد كرة ، مثل لبيك وسعديك ، يريد إجابات كثيرة بعضها في أثر بعض ، ومن ذلك قولهم في المثل دهدرّين سعد القين أي باطلا بعد باطل انتهى ، القين هو الحذار ، قال الاستاذ أبو محمد عبد الله ابن السيد البطليوسي في جوابه عن المسألة السادسة عشر من أسئلته : اختلف الرواة في حقيقة لفظ هذا المثل ومعناه وإعرابه فرده الأصمعي إلى دهدرّين سعد القين ووجهه أنه كلمة واحدة ، لأن أبا عبيدة صرح بأنه تثنية ، وأهل اللغة ذكروا أنه يقال للباطل : دهدر

٢٥٩

ودهدن بالراء أو النون ، وإعرابه اسم فعل بمنزلة هيهات ، فمعناه بطل سعد القين ، فنرد فاعل بدهدزين ، وهو مضاف إلى القين ، والمراد تبعد السعادة ، ومعناه أن اليقين كان من عادته أن ينزل في الخفي ، فيشيع أنه منحدر غير مقيم ، ليبادر إليه العمل ، فكانت له في كذبه سعادة ، فلما علم بكذبه بطل سعده ، ولم ينتفع بكذبه ولذلك قالوا : إذا سمعت بسعد القين فاعلم أنه مصبح ، وروى عن الأصمعي برفع سعد والقين ، فيكون القين صفة لسعد وسعد اسم رجل قين ، وفي الكلام مضاف مقدر ، أي بطل كذب سعد القين ، وهذا تنوين من تخفيفا لالتقاء الساكنين كقراءة بعضهم ، (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) [سورة الإخلاص : ١ ـ ٢] ، وكتب سيبويه ولا ذاكر الله إلا قليلا ، ويجوز في هذا أن يكون سعد منادى مفرد والقين صفة ودهدر اسما وقع موقع المصدر كما وقعت الحافرة في قوله :

أحافرة على صلع وشيب

معاذ الله من سفه وعار

موقع الرجوع الذي هو مصدر صحيح ، أي ارجع إلى الصبا رجوعا بعد ما شبت وصلعت ، والمعنى أكذب كذبتين يا سعد القين ، وروي برفع مقدر إضافة القين إليه ودهدزين في هذا كله متصل ، ورواه قوم ده منفصلا من دزين ، وكان أبو زيد الكلابي يقول : ده دريه كذا رواه أبو عبيد عنه ورواه ابن الأعرابي دهدرين سعد ، ورواه معمر ابن المسني في كتاب المثال : دهدين وسعد القين ، ورواه بعضهم دهدري مسعد القين ، بحذف النون وخفض سعد ، وترك تنوينه ، وروى يعقوب في الأمثال له دهدرين ساعد القين ، قال : يريد سعد القين ذكر ذلك عن الأصمعي عن خلف الأسمر : أنه سمع أعرابيا يرويه كذلك ، وقال أبو يزيد الأنصاري ، يقال : للرجل يا هذا منه دهدرين وطرطبين ودهدري ودهدري ، فأما من رواه ده منفصلا ، فمعناه بالغ في الدهاء والكذب ، ودرين من در الشيء بدر إذا تتابع فتنوه ومبالغة في [...] كلبيك وسعديك ودواليك عده أمر ودرين مصدره محمول على المعنى ، وسعد اسم رجل منادى مفرد ، والقين صفة أي بالغ مبالغتين في الكذب يا سعد القين ، ومن رواه دهدريه فما لها فائدة على الكذب ، لأن ده دليل عليه كقولهم من كذب : كان شرا له ، ومن رواه دهدري بحذف النون وخفض سعد والقين ، فليس اسم فعل ، لأن أسماء الأفعال لا تضاف كما لا تضاف الأفعال ، بل هو مصدر هنا والعامل فيه فعل مضمر ، أي كذب كذبتي سعد اسم رجل والقين صفته ، وحذف التنوين من سعد لالتقاء الساكنين ، وأما [...] دهدرين سعد القين ، فدهدر اسم رجل معروف بالكذب ، فإذا كذب رجل شبه به أي هو مثله ، وأطال الكلام فيه بما يرجع أكثره إلى هذا.

٢٦٠