تفسير ابن عرفة - ج ٤

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٤

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٣٩٩

سورة الصف

ابن عطية : مكية ، وقيل : بعضها مكي وبعضها مدني ، الزمخشري : مكية ولم يحكي خلافا ثم لما ذكر سبب نزول قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) ، قال : إن المؤمنين قالوا : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لفعلنا ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا ، فدلهم الله على الجهاد ، وكذلك لما أخبر الله تعالى بثواب شهداء بدر ، تولوا يوم أحد ولم يفروا ، بقولهم ، فنزلت الآية فظاهر هذا أن بعضها مدني ، لأن غزوة بدر وأحد إنما كانت بعد الهجرة ، فإن قلت : لا يبعد أن تكون الآية نزلت عتابا لهم فيما سيقع منهم لا ما وقع ، قلت : قد قال الزمخشري : سبب نزولها عدم وفائهم بقولهم فهذا هو التناقض.

قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ).

السبب القوي أدل على وجود السبب من السبب الذي لا يساويه في تلك القوة ، فإذا كان الناظر إلى السماوات والأرض يسبح الله ، فأحرى الناظر لنفس السماوات والأرض ، ويستفاد هذا أيضا من دلالة تركيب النصوص لقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [سورة الإسراء : ٤٤].

قوله تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

يجري مجرى العلة ، ابن عطية : (الْعَزِيزُ) في سلطانه وقدرته الحكيم في أفعاله وتدبيره ، المقترح في الأسرار العقلية ، الحكمة راجعة للعلم بمعنى وضعه الأشياء في محلها ، وإن قلت : المراد بها الانتقال يشتمل صفة العلم والإرادة ، الآمدي في إبكار الأفكار : قيل : معناه الحاكم ، وقيل : العليم فهو صفة علمية ، وقيل : المتقن للأشياء فهي صفة فعلية ، والحاكم الفاصل بالقول والأخبار أو بالقضاء والقدرة ، وقيل : الحاكم المانع فالأول : صفة كلامية ، والثاني : راجع للقدرة والإرادة.

قوله تعالى : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ).

وحضهم على أمر مركب من القول وعدم الفعل ، والمركب [...] بأحد جزئيه ، فهل المراد نفي القول أو نفي الفعل؟ فتوبيخهم على قولهم ما لا يفعلونه ، هل معناه قولوا لنا لا تفعلونه أو أن الصواب أن لا يقولوا آمنا لا يفعلونه ، والظاهر الأول ، لأن الثاني ينتفي فيه مصلحة القول ، وكان بعضهم يورد في الآية سؤالا ، تقريره أن ما لا يلزم فعل شيء فلم يفعله ، إنما يعاقب على عدم الفعل لا على التزام ما لا يوف به ،

٢٢١

وكان الجاري على هذا المعنى أن يقول : لم لم تفعلوا ما تقولوا لأنهم قالوا نفعل ونفعل ، والجواب من وجهين :

أحدهما : أن العتب على القول يستلزم العتب على الفعل ، لأن القول سبب في الفعل ، فإذا عتب على السبب استلزم المعتب على السبب ، ومن هذا المعنى مسألة العريش في أكرية الرواحل من المدونة وهي من اكترى دابة ليحمل عليها ، من مصر إلى فلسطين [٧٧ / ٣٨٣] [...] منها فعثرت بالعريش [.....] بالعريش ، وقال غيره : يغرم قيمته بمصر ، لأنه منها تعدى.

الجواب الثاني : أن الخطاب فيه رفق بالمؤمنين ، وذلك أن الفعل أخص من القول ولازم الأخص غير لازم الأعم ، فلا يلزم من العتب على النقل العتب على القول.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ).

ابن عطية : المحبة هنا صفة فعل ولا ترجع للإرادة إذ لا يصح أن يقع ما يخالفها ونحن نجد المقاتلين على غير هذه الصفة كثيرا انتهى ، العكس كان أولى ، لأن صفة الفعل ظاهرة فلو كان المراد به أنه ينصر الذين يقاتلون في سبيله ، للزم الخلف في الخبر ، لأنا وجدنا بعض الناس يقاتل ولا ينصر بخلاف الإرادة ، فإنها لا نطلع عليها ولا نعلمها فيمكن أن يكون المقاتل مرادا أولا ، فإن قلت : إنما مراد ابن عطية أن الإرادة يلزم وقوع متعلقها ، فلو كان المعنى أنه إفراد القتال في سبيله للزم عليه الخلف في الجنة ، لأن بعض الناس لم يقاتل في سبيله بل أكثرهم ، قلت : فرق بين القتال وبين إرادته وبين الذين يقاتلون ، فجاء معنى الآية إنما أراد من قاتل في سبيل الله فهو مراد الله ومحبوب له كقوله تعالى : (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [سورة آل عمران : ٣١] ، أي أراد ثوابه وفي كلام ابن عطية نظر من وجه آخر أيضا ، لأنه قال : أكثر الناس يقاتل ولا ينتصر ثم قال : المراد يقاتلون القتال بالجد والعزيمة ، فكل الناس أو أكثرهم إذا قاتل بجد وعزيمة ينتصر وأما قتال المنافقين فليس في سبيل الله.

قوله تعالى : (بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ).

التشبيه بالثبات وعدم الفرار كثبوت البناء وحمله المفسرين على أن معناه أن يكونوا متراصين كتراص البنيان ، وهذا لا يتصور في الحرمات.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ).

فإن قلت : لم قال موسى : (يا قَوْمِ) [سورة يونس : ٨٤] ، وقال عيسى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) فالجواب من وجهين :

٢٢٢

الأول : أن موسى عبر بالقوم تنبيها على قبح ما فعلوه ، لأن قوم الإنسان من حزبه وأشياعه فحقهم أن ينصروه ويوالوه ، ففعلوا ضد ذلك فآذوه بخلاف قوم عيسى ، فإنهم لم يفعلوا به ذلك.

الثاني : أجاب الزمخشري : وهو أن عيسى لا ولاء له في بني إسرائيل بخلاف موسى ، فإن قلت : قد تقرر أن الولاء يرجع لموالي الأم في أربع مسائل هذه منها ، قلت : لم يجب هنا إلى الموالي بل إلى قومه ، وقد يقال : أن عيسى إنما ينسب إلى أمه ، كما في كثير من الآيات ، وكانت أمه منهم أي من قومه.

قوله تعالى : (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ).

الأقرب أنه خبر لا إنشاء ، بدليل التصديق والتكذيب والتأكيد بأن مصدقا مؤكدة ، فإن قلت : لعلها مبينة ، لأن كونه رسولا أعم من أن يثبت التوراة أو ينسخ حكمها ، قلت : هذا لا يقدح في التصديق ، لأن النسخ ليس بتكذيب للمنسوخ ، بل هو مصدق له ، لكنه واقع لدوام حكمه لأن من لوازم النسخ تصديق المنسوخ.

قوله تعالى : (لِما بَيْنَ يَدَيَ).

المراد الماضي أو الحال بخلاف قوله تعالى : (ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا) [سورة مريم : ٦٤] ، فإنه هنا للاستقبال.

قوله تعالى : (وَمُبَشِّراً).

البشارة هي الإخبار بالأمر الملائم ، وهذا ملائم لقوله تعالى : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) [سورة الأعراف : ١٥٧].

قوله تعالى : (اسْمُهُ أَحْمَدُ).

السهيلي في كتاب الإخبار والإعلام : لما قال اسمه أحمد؟ لأن الأشهر في أسمائه محمد ، والقاعدة في التعبير مدح الشيء أو البشارة به أن يعبر عنه بأشهر أسمائه لا بالخفي منها ، فأجاب بوجهين :

أحدهما : أن هذا الاسم خاص لم يسم به أحد قبله بخلاف محمد ، غيره.

الثاني : أن أحمد مأخوذ من الفاعل من حمد يحمد فهو حامد ، ومحمد مأخوذ من اسم المفعول ، لأنه من حمد محمد فهو محمود ، فحمد متأخر عن الحمد ، لأنه إنما يحمد جزاء عن حمده انتهى ، ويجاب أيضا : بأن محمدا هو اسمه في ثاني أزمنته وجوده حين سمي ، وأحمد اسمه الشرعي ، وهو المتقدم في الوجود ، لأن الله تعالى

٢٢٣

سماه به ، وأما محمد فأخبر الله تعالى عنه أنه سيولد ولد يسميه أبواه محمد فهو مؤخر وذكر عياض في الشفاء قوله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم : " أنا محمد وأحمد وأنا الماحي وأنا الحاشر" ، قال المازري : في التعليق الذي له على الجوزق وإن اسمه في التوراة بحرف القاف والكاف ، وتفسيره بالعبرانية محمد معلوم في التوراة ، ابن عطية : والاسم هنا غير المسمى ، وليس على قولك جاءني أحمد ، لأنك هنا أوقعت الاسم على حدهما وفي هذه الآية إنما أراد أن اسمه هذه الكلمة كما يفرق بين جاءني زيد وبين هذا اسمه زيد.

قوله تعالى : (هذا سِحْرٌ).

الإشارة لما جاءهم به صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذاته ، أي هذا ساحر كقولك رجل عدل ، ويؤيده من قرأها ذا ساحر مبين ، أي لا يحتاج إلى إقامة الدليل على كونه ساحر ، وقال عياض في الشفاء في الباب الثالث من القسم الأول من فضل أسمائه ، وما تضمنه في فضيلته صلّى الله عليه وعلى آله وسلم : ومن أسمائه في الكتب المتوكل والمختار ومقيم السنة ، والمقدس ، وروح الحق ، وهو معنى الفار قليط في الإنجيل ، وقال ثعلب : الفار قليط يفرق بين الحق والباطل.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى).

مذهب الأكثرية القائلين بعموم إطلاق الكذب على العمد والسهو ، فظاهر لأن الكذب المفترى هو العمد وغير المفترى هو السهو ، وأما على مذهب الجاحظ القائل بأن لفظ الكذب الخاص بالعمد فيكون افترى الكذب هو المشاهدة في وجه المكذوب عليه أو الكذب في الأمر الواضح الجلي المعلوم بطلانه بالضرورة ، ومعنى الآية ليس في الناس أظلم ممن كذب على الله ، لأن الكاذب على الله هو أظلم الناس لأن يعارض قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها) [سورة البقرة : ١١٤] ، فالجمع بين الآيتين ينتج تساويهما في الظلم ، فالنفي بإرادة الاستفهام راجع لكونه لا أظلم منه لا أنه أظلم الناس بخلاف قوله تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) [سورة النساء : ٨٧] ، لأنه ليس المراد هنا أنه لا أصدق منه ، لئلا يلزم عليه احتمال كون غيره مساويا له في الصدق ، بل المراد أنه أصدق من غيره حديثا فليس في الوجود من يساويه في الصدق ، بل الكل دونه ، ويمكن الجمع أيضا بأن تلك يختص التفاوت فيها والشدة باعتبار نوعها ، مثاله في هذه الكذب في نوعه ظلم ، وأشده الكذب على الله والرسول ، وكذلك غيرها من الآيات التفاوت فيها نوع كل ما تضمنه.

٢٢٤

قوله تعالى : (وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ).

قال ابن التلمساني في شرح المعالم اللدنية : اجمعوا على تكفير من كذب الله تعالى ، واختلفوا في تكفير من كذب على الله انتهى ، إما أن كذب على الله مستحل للكذب فهو كافر إجماعا ، وإن كذب عليه غير مستحل ، فإن خالف الإجماع القطعي فكافر وإلا فقولان ، وحكى ابن الحاجب الأصل فيه ثلاثة أقوال : ثالثها : إن خالف الإجماع القطعي ، كفر وإلا فهو فاسق.

قوله تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

أي في حين ظلمهم ، والهداية هي البيان والإرشاد ، قال المقترح في شرح الإرشاد والهداية يكون بمعنى الداعي ، فيرجع إلى قول الله ويكون معنى خالق الهدى وانظر كلامه في الأسرار العقلية ، وفسرها الشيخ أبو علي ناصر الدين في شرح الرسالة بكلام يدل على ضعفه في أصول الدين أن الهداية الإرشاد ، وقيل : الدلالة الموصلة إلى البقية ، وقيل : خلق القدرة على الطاعة ، وهذا مردود لأنه قيل : خلق القدرة لا تكليف فلا هداية ولا ضلال ، وإذا خلق القدرة على الطاعة لم يلزم وجود الطاعة ، إذ يلزم من وجود القدرة وجود المقدور ، فالهداية والضلال مرتبان على خلق القدرة ، فإذا وجدت القدرة والطاعة وبين له طريق الخير والشر ، فمن سبقت له العناية اهتدى ومن لا فلا انتهى قوله ، وقيل : خلق القدرة على الطاعة هذا مذهب أهل السنة ، وقوله في رده لأنه قبل خلق القدرة لا تكليف باطل ، لأنه إن كانت القدرة الصلاحية فسلم لا يتناول فحل النزاع ، لأن الهداية إنما هي القدرة التخيرية وهذا كالعاجز عن القيام ، لا يكلف الصلاة قائما ، فإن قدر على القيام كلف بذلك فالقدرة سابقة ، وإن أراد القدرة التخييرية فالتكليف يعطيها من أهل الطاعة عملوا بها والعصاة [.....] قوله (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) ، الإرادة ليست على بابها من التخصيص ، بل بمعنى التمني والشهوة ، لأن الإرادة من شرطها التخصيص مقارنتها للفعل المريد ، وهم لم يفعلوا الإطفاء ، وإدخال اللام تهكم بهم وتأكيد للسببية ، ولو اقتصر على الإرادة لاحتمل أن ذلك لم يخطر بعقولهم عند افتراء الكذب ، فأدخلت اللام بيانا لأنهم [٧٧ / ٣٨٤] أرادوا الكذب لأجل أن يطفئوا نور الله ، تحقيقا لسخافة عقولهم ونص النحويون على جواز دخول اللام على المفعول المؤخر على الفعل ، إذا كان فعله مقدرا بأن المصدرية ، كقوله : أريد لأنسى ذكرها وأغفله أبو حيان هنا.

قوله تعالى : (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ).

٢٢٥

قرأ نافع وأبو عمرو ، وابن عامر. وأبو بكر عن عاصم (مُتِمُّ نُورِهِ) ، بالنصب ، وقرأ الباقون بالإضافة ، وهي في معنى الانفصال ، ابن عطية : في هذا نظر انتهى ، وجه النظر أن اسم الفاعل هنا يجر عن الزمان ، لأنه مسند إلى الله تعالى ، فليس بمعنى الحال والاستقبال ولا المعنى ، وهذا نظر إلى أنه صفة معنوية ، والنصب نظر إلى ظاهر لفظ الصفة وهي في اللفظ بمعنى الماضي ، لأنه مسند إلى الله تعالى.

قوله تعالى : (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).

دليل على أن الظلم بمعنى الكفر ، ولو هنا بمعنى أن لاستحالة كون نفيها إيجابا ، وإيجابها نفيا كما هو في قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) [سورة يوسف : ١٧] ، وهذا تفكر بهم ، لأن لو إنما تدخل على ما يتوهم كونه مانعا ، فلا تقل اكرم السائل ولو كان عدوك ، وكراهة الكافرين لإتمام النور ليست مانعة من إتمام النور ، فلو دخلت تهكما بهم ، فجعلها في صورة مانعة من إتمام النور ، وقوله (وَدِينِ الْحَقِّ) ، إن قلت : هذا يدل على تقدم الحق الذي إليه هذا الدين ، فيدل على أن التحسين والتقبيح مشتقان من العقل ، والحق نقيض الباطل أي ذلك المتقرر في عقولكم الذي هذا الشرعي بمقتضاه مقدرا له ومصححا ، فالجواب : أن التحسين والتقبيح قسمان فمنه ما اجمعوا على إسناده للعقل ، ومنهم اختلفوا فيه فما يرجع إلى وجود الصانع ووحدانيته ، وما يجب له وما يستحيل في حقه ، اجمعوا على إسناد الحسن فيه والقبيح إلى العقل ، لأن العقل اقتضى أن وجود الصانع ووحدانيته حسن ، وعدم قبح وما يرجع إلى غير ذلك من أمور الديانات ، فليس هذا للعقل مجال ، خلاف المعتزلة والآية من القسم الأول.

قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

ابن هشام : معطوف على تؤمنون لأنه في معنى آمنوا ولا يقدح في ذلك أن المخاطبة بتؤمنون ، المؤمنين ويبشر النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولا أن يقال في تؤمنون : أنه تفسير للنجاة لا طلب ، وأن يغفر لكم جواب الاستفهام تنزيلا لسبب منزلة السبب ، لأن تخالف الفاعل لا يقدح ، يقولون : قوموا واقعدوا يا زيد ، ولأن يؤمنون لا يتعين للتفسير علمناه ولكن يحتمل أنه تفسير مع كونه أمرا ، وذلك بأن يكون معنى الكلام السابق ترجّوا (تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) كما قال (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [سورة المائدة : ٩١] ، في معنى انتهوا ، وأن يكون تفسيرا في المعنى دون الصناعة ، لأن الأمر قد يساق لإرادة المعنى الذي يحصل من المفسرة ، نقول هل أدلك على سبب نجاتك؟ آمن بالله ، كما تقول تؤمن بالله ، وحينئذ فيمتنع العطف ، لعدم

٢٢٦

دخول التبشير في معنى التفسير ، وقد يكون معطوفا على أمر مقدر يدل عليه المعنى فافعل كذا أو كذا كما قيل (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [سورة مريم : ٤٦] ، قال السكاكي : الأمر معطوف على قل مقدر ، قيل : (يا أَيُّهَا) وحذف القول كثير ، وقيل : معطوف على أمر محذوف تقديره نبشر ، كما قال الزمخشري : في (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [سورة مريم : ٤٦] لدلالة لا رحمتك على التهديد.

قوله تعالى : (كُونُوا أَنْصارَ اللهِ).

تقدم في قوله تعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ) [سورة الصف : ١٠] ، طلب الإيمان والجهاد بالأنفس والأموال ، وهذا هنا أكد لأن ذلك أمر بمطلق الجهاد والمجاهد قسمان : تارة يجاهد ليرفع العدو عنه ، وتارة يجاهد ليطلب النصرة عليه ، فهذا يكون قتاله وامتحانه في الحرب أشد من الأول ، فأمروا في هذه الآية بالجهاد لطلب النصرة ، وعبر بالفعل ليتناول الأمر كل من حصل مطلق الإيمان ، وكونوا المراد به الدوام ويستفاد ذلك من صيغة الأمر ، ومن لفظ كان ، فإن الباجي والمنطقيين نصوا على أنها [...] لما ذكروها في الروابط ، فجاءت الآية على الوجه الأبلغ لاقتضائها الثبوت والدوام على النصرة ، حتى كأنه وصف وأتى بخلاف قولنا : انصروا فإنه لا يقتضي إلا مطلق إدخال الفعل في الوجود ، ولا دلالة على اللزوم والدوام بوجه ، وقرئ أنصار الله بالإضافة ، وهو أبلغ من عدم الإضافة لأن نصرة الله أقوى من نصرة غيره ، وهذا مجاز واعتناء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالمؤمنين ، فجعلت نصرتهم له كأنها لله ، مع أن الله تعالى هو فاعلها أو .... (١) عليها ، قال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [سورة محمد : ٧] ، فإن قلت : كيف عليه نصرتهم بقول عيسى ، قلت : هو تشبيه معنوي على حذف القول ، والتقدير : قلنا لكم ذلك كما قال عيسى ابن مريم للحواريين ، وأشار إليه أبو حيان ، وقرر الزمخشري التشبيه ، لأن معناه كونوا أنصار الله كما قال الحواريون : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) ، حين قال لهم عيسى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) ، في التشبيه ، ولم يقل : انصروني فبادر الحواريون إلى امتثال ذلك ، والمؤمنون طلب منهم النصرة بلفظ الأمر المقتضي للوجوب ، فحقهم أن يبادروا إلى امتثال بل هم أجدر للمبادرة ، وقول الحواريون : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) ، بالإضافة أبلغ من طلب عيسى منهم ، ومعناه نحن أنصار الله لك أو مع خلانك ، ولم قالوا : نحن أنصارك إلى الله لكان مفهومه أنهم لا ينصرون غيره إلى الله.

__________________

(١) طمس في المخطوطة.

٢٢٧

قوله (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ) بعد أن نصره الحواريون افترق غيرهم ، وهم بني إسرائيل على فرقتين ، فطائفة آمنت بعيسى ، وطائفة كفرت له ، قال شيخنا : كنت يوما جالسا عند الشيخ ابن سلامة ، فجاءه رجلان قال له أحدهما : يا سيدي هذا قال لي [...] طائفتك؟ فقال له : ارفعة للقاضي ، وكان ابن عبد السّلام حاضرا فلما جلس بين يديه ، قال له ما قاله ، فأعرض عنه وأخذ يبحث مع جلسائه [...] من الطائفة ، وكان لم ير [...] موجبا ، وتقدم الكلام على هذا في سورة براءة في قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) [سورة التوبة : ١٢٢].

قوله (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، إن قلت : كيف يفهم هذا التأييد مع ما قاساه عيسى عليه‌السلام منهم حق رفع ، واتهموا بأنهم قتلوه فيلزم فيه الخلف في الخبر ، فالجواب من وجهين :

إما بأن التأييد معنوي باعتبار قوة الكلمة ، والدليل عليه الحجة.

وإما أنه ظهور عيسى في زمنه وأنتم [...] أو ظهور عيسى دائم بعد مدة عيسى زمن الفترة ، وإن قلت : فالحواريون الذين قالوا هذا لعيسى هل نصروه أو كيف يفهم ، قلت : لعل المراد الحواريون بالنوع لا بالشخص بأولادهم أو من ينتمي لهم نصروا فانتصروا.

قوله (عَلى عَدُوِّهِمْ) ، لم يقل : على الكافرين إشارة إلى أن التأييد محبوب لهم دنيوي وأخروي ، لأن [...] الإنسان لعدوه ، ويحصل له [...] دنيوية أو فوزا أخروية ، لأنه عدو الدين.

٢٢٨

سورة الجمعة

قوله (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) العطف بثم تنبيه على أنهم كفروا بعد تأمل ونظر ، وهو أشد من كفر بالكتاب قبل أن يتأمله.

قوله (كَمَثَلِ) ، هو تشبيه أمرين حسي ومعنوي بأمرين حسيين.

قوله (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، أي حين ظلمهم.

قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ).

يحتمل أن يكون هذا أو قوله (إِنْ زَعَمْتُمْ) شرطين ، وقوله (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) ، أو يكون الشرط الثاني شرطا في جواب الشرط الأول قوله (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) ، ابن البناء : الجملة خبر أن ، ودخلت الفاء لما الذي من معنى الشرط ، وضعفه آخرون بوجهين :

الأول : أن الفاء إنما تدخل إذا كان الذي مبتدأ واسم إن ، وهو هنا صفة لاسم إن ، وأجيب : بأن الصفة والموصوف كالشيء الواحد.

الثاني : إن الفرار من الموت ليس سببا في الموت ، وإنما هو سبب في النجاة منه ، فلا يصح أن يكون جوابا له انتهى ، قال شيخنا الفقيه عبد الله محمد بن محمد الخباب المعافري يقول : إن الفرار من الموت سبب في ملاقاة الموت ، أي الموت الذي تفرون منه ويأتيكم من قدامكم وجهة وجوهكم ، فإذا فررتم منه فإليه تفرون ، ولذلك فإنه لم يقل فإنه مدرككم ، لأن الذي يدرك الهارب يأتي فيه من خلفه.

قوله (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) ، ابن رشد في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم ، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا زالت الشمس أتى المنبر ، فإذا رآه المؤذنون قالوا : فأذنوا في المئذنة واحد بعد واحد ، وكانوا ثلاثة ، فإذا فرغوا خطب ثم تلاه على ذلك أبو بكر وعمر ثم زاد عثمان لما كثر الناس [...] لزومها عند الزوال ، يؤذنوا الناس إن الصلاة قد حضرت ، وترك الآذان في المئذنة بعد جلوسه على المنبر على ما كان عليه ، فاستمر الأمر على ذلك إلى زمان ابن هشام بن عبد الملك ، فنقل الآذان الذي كان بالزور إلى المئذنة ، ويقل الآذان الذي كان في المئذنة بين يديه وأمرهم أن يؤذنوا وتلاه على ذلك من بعده من الخلفاء إلى زماننا ، وهو بدعة انتهى ، وقال ابن العربي في الأحكام كان في عهد رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله سلم بأن يؤذن مؤذن واحد إذا جلس على المنبر ، ولذلك كان عمر وعلي بالكوفة ثم زاد عثمان أذانا ثانيا على الزوراء إذا سمعه [٧٨ / ٣٨٥] الناس أقبلوا حتى إذا جلس عثمان على المنبر ، أذن مؤذن

٢٢٩

النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، وفي الحديث : كان الآذان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم واحد ، ثم زاد عثمان النداء الثالث وسماه ثالثا ؛ لأنه أضافه إلى الإقامة فجعله ثالث الإقامة فتوهم الناس أنه أذان أصلي ، فجعلوا المؤذنين ثلاثة فكان وهما ، ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهما على وهم ، ابن عطية : وقال أصحاب الرأي : يلزم أهل المدينة كلها السعي ، ومن سمع النداء ومن لم يسمع ، وإن كان أقطارها فوق ثلاثة أميال ، انتهى ، هذا هو مذهبنا وما [...] أنه يعبر بأصحاب الرأي إلا عن الحنفية.

قوله تعالى : (فَانْتَشِرُوا).

الفاء بيان لكون المنهي في (وَذَرُوا الْبَيْعَ) ، غير دائم معنا بانقضاء الصلاة ، وأنه الانقضاء إلى الصلاة دون [...] ، لأنه لو أسنده إليهم لكان معنا في كلهم لاحتمال كونه كلية ، وإن من قضى صلاته دون الآخر يباح له الانتشار ، فلما أسنده إلى الصلاة لزمه أن المراد إكماله للجميع حتى دعاؤها وثوابها ، المازري في الجوزقي ، قال ابن شعبان : ذهب بعض العلماء إلى وجوب الانتشار.

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً).

الصواب أن المراد به الثلث من باقي النهار ، [...] بالذكر لحديث الثلث كثيرا أو كبيرا.

قوله تعالى : (تِجارَةً أَوْ لَهْواً).

إن قلت : قدم التجارة على اللهو أولا ، ثم أخرها ثانيا ، فالجواب : أن التجارة أبلغ من اللهو ، لأن تعلق الأغراض بها أشد من تعلقها باللهو ، فالعطف في الوجهين تأسيس ، لأنه لا يلزم من الانفضاض من التجارة أن ينفضوا اللهو ، ولا يلزم من كون ما عند الله خيرا من اللهو أن يكون خيرا من التجارة ، مع أنه خير منهما معا في نفس الأمر.

٢٣٠

سورة المنافقون

[........] التحقيق وقوع مدلولها.

قوله تعالى : (ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

أطلق على الاعتقاد عملا.

قوله تعالى : (آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا).

الزمخشري : يحتمل أن يريد أنهم آمنوا في الظاهر ثم كفروا ظاهرا وباطنا ، ثم كفروا كذلك ، انتهى ، الصواب الأول ؛ لأن الأصوليين ذكروا في القياس أن العلة إذا كانت مركبة من أمرين ، فلا بد أن يكون كل واحد منهما صالحا ، لأن يعلل به الحكم استقلالا أو يكون التعليل بالمجموع ، ويكون كل واحد ينافي الحكم ولا يضاهيه ، وهذا لا يصح أن يكون الأعمال ظاهرا أو باطنا علة مستغفلة في ذمهم ، والطبع على قلوبهم ولآخر علة ، لأنه مناقض للزم والطبع ، فإن قلت : الزم إنما هو على الانتقال منه إلى الكفر ، قلت : الإغفال أمر نسبي فصدق أنه تعليل مركب.

قوله تعالى : (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ).

إما أن يراد مطلق الفهم ، وهو مطلق الشعور بالشيء أو يراد فهم الأشياء الدقيقة ، وهذا دليل على أن العقل في القلب ، قال ابن رشد : وهو مذهب أكثر الفقهاء ، وأقل الحكماء والفلاسفة.

قوله تعالى : (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ).

عبر بالقول إشارة إلى كلامهم غير مفيد ، فهو بمنزلة سماع الأجراس وغيرها وكذلك قال (تَسْمَعْ) ، ولم يقل : تستمتع ؛ لأنه إنما سمعه مجرد من غير قصد ودخلت اللام للتعليل ، أي سماعك إنما هو مجرد قولهم اللفظي الذي لا معنى له كسماع احتكاك الأجرام ، وكان بعضهم يفرقه بين تعدي سمع بنفسه أو بالإنابة في الأول يقتضي الاعتناء بالمسموع بخلاف الثاني ، وعبر في الأول : بماذا والفعل الماضي ، وفي الثاني : بأن والفعل المستقبل ؛ لأن إذا لتحقق الوقوع ، والماضي محقق الوقوع بخلاف المستقبل ، وخصص الأول بإذا والثاني بإذا ؛ لأن أجسامهم لقيت من فعلهم ولا صنع لهم فيها ولا كتب فهي أمر خبري ، فرؤيتها محققة لدوام وجودها مدة حياتها ، وقولهم راجع إلى كسبهم واختيارهم ، إن شاءوا نطقوا أو سكتوا ، فليس بدوام لانقطاعه بسكوتهم فتوجد أجسامهم وهم سكوت ، فلذلك عبر بلأن سماع قولهم غير

٢٣١

محقق ، فإن قلت : وكذلك رؤية أجسامهم غير محققة ؛ لأنهم قد تغيبوا من العيون ، قلت : الغيبة قدر مشترك بين الرؤية وسماع الكلام ، فإذا غابوا لم يسمع كلامهم ويمتازوا الأجسام بتحقق الرؤية حال الحضور ، سواء تكلموا أو سكتوا.

قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ).

كان الفقيه القاضي أبو العباس ابن حيدرة رحمه‌الله يقول : أفاد ذكر مسنده ، أنها غير منتفع بها في شيء ، لأنها إذا كانت غير مسندة تكون سقفا أو عمدا أو غير ذلك مما فيه منفعة.

قوله تعالى : (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).

الصواب أن فيه تقديما وتأخيرا ، أي أنى يؤفكون قاتلهم الله ، لأن بعد الدعاء طلبهم بالمقاتلة لا يحسن التعجب من صرفهم ، لأن من صرفه الله فهو مصروف ، وأما قبل الدعاء فيحسن ذلك.

قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ).

الظاهر أنه حكاية معنى قوله لا لفظه ؛ لأنهم إنما قالوه في الخلاء ، ولم يقولوه في الملأ ، وهم في الخلاء لا يقولون إنه رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ولا يقرون بذلك ، وفي الآية رد على من يقول المفهوم الغاية ، لأن قصدهم بالنهي عن الاتفاق ، التأييد لا إلى غاية إلا أن يقال من شرط مفهوم المخالفة ، أن لا يمكن حمل الكلام وتأويله إلا عليه ، وهنا يحتمل مفهوم الموافقة أو نقول بموجبه ، ولا تناول محل النزاع وهم ينفقون عليهم بعد الانفضاض ، لأنهم إذا علموا أنهم لا ينفقون عليهم حتى ينفضوا عنه ، فإنهم ينفضوا عنه إن كانوا على طرف من الإيمان.

قوله تعالى : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا).

أتى به غير معطوف ، لأنه جواب عن سؤال مقدر ، وكأن قائلا قال : لم كانوا لا يفقهون ، فقال : لأنهم يقولون (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) فإن قلت : لم أتت مقالتهم أولا بأداة الحصر وهي [...] ، أو البناء على المضمر ، وأتت هنا بغير حصر مع أن الجميع خاص بهم لم يقله غيرهم ، فالجواب : أن هذا خبر مبتدأ مضمر ، أي هم يقولون لئن رجعنا ، وصح حذفه هنا لأن الخبر لا يصلح إلا له وكون الموصول يقتضي الحصر بين وقد ، قال مالك في الوصايا : إذا أوصى بعبده مرزوق لفلان ، ثم أوصى به لفلان ، فإنه يكون بينهما معا ، فإن قال : عبدي الذي أوصيت به لفلان ، أعطوه لفلان فهو للثاني ، ويعد رجوعا عن الأول وما ذلك إلا لاقتضاء الموصول في الحصر.

٢٣٢

قوله تعالى : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ).

قرئ بالنون ونصب الأعز على الاختصاص مثل" نحن معاشر الأنبياء لا نورث" ، ونصب الأذل على أنه حال ، ومعنى هذه القراءة إن رجعنا إلى المدينة تحت طاعة النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، وتركنا [...] ومعاندته [...] بعد كوننا أعزاء.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ).

هذا التشريف من الله تعالى لرسوله وللمؤمنين ، حيث ذكرهم مع اسمه وشركهم معه في العزة ، وهي هنا إما صفة نقل ، أو صفة معنى ، إما مشتركة أو للقدر المشترك وهذا بالنسبة إلى عزة الله وعزة النبوة والمؤمنين ، وأما كونها نقلية أو معنوية فهو مشتركة لا للقدر المشترك ، وجعل البيانيون هذا من القول الموجب ، وهو تسليم الدليل مع بقاء الخلاف بعده ، كما كان قبله وهو من القسم الثالث فيه ، والصواب أنه من قلب النكتة ، وهو تعليق دعوى المعترض على عين دليل المستدل ، لأنه لم يبق خلاف هنا ، بل دعواهم أن الأعز يخرج الأذل صحيح ، وهم الأذلاء ونحن الأعزة.

قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ).

خص هذا بيعلمون ، والأول بيفقهون ، لأن الفقه في اللغة فهم الأشياء الدقيقة ، والعلم أعم منه لأن كون العزة لله ولرسوله معلوم بالضرورة فالمنازع فيه لا علم له ، فضلا عن أن يكون له فقه ، فهو مسلوب عنهم العلم فكأنهم مجانين لا عقول لهم ، وإن كانوا يعلمون بعض العلم ، كقولك : أكلت شاة كل شاة ، مع أنها ليست هي الكل ويجاب أيضا بأن قولهم (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) ، لا يصدر إلا بعد تأويل وتدبر ، فناسب الفقه ؛ لأنه يعم الأشياء الدقيقة ، وقولهم (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) ، حكم على الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ، فناسب نفي العلم.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

ابن عطية : قال رجل لحاتم الأصم : من أين تأكل فقرأ (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقال الحسن : خزائن السماوات الغيوب ، وخزائن الأرض القلوب انتهى ، فعقب ابن الجوزي هذا في تلبيس إبليس فقال : قيل لعبد الله [...] : الذين يدخلون البادية بلا زاد ولا عدة ، ويزعمون أنهم متوكلون فيموتون ، قال : هذا فعل رجال الجن فأنكره ابن الجوزي [٧٨ / ٣٨٦] [...] ، وليس التوكل ترك الأسباب ، وقد تزود رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، لما خرج إلى الغار ، وتزود موسى

٢٣٣

عليه الصلاة والسّلام الحوت لما خرج يطلب الخضر ، وأطال الكلام في ذلك وترك حكايات وأنكرها على أن هذا الكتاب قالوا : أضعف تواليف الجوزي رحمه‌الله.

قوله تعالى : (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ).

من باب لا يشك هاهنا أي لا تلهوا بأموالكم عن ذكر الله ، فتلهكم عنه ، قوله : لا تلتهوا ، فهي عن الإلهاء حقيقة ، وهذا نفي عنه باللزوم ، فهو مجاز ولا تبدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا لنكتة تتوخى وتقريرها هنا أن ترك الاكتساب شيئا هو من نقله وكسبه هو أهون عليه من تركه شيئا هو من نقل غيره ، فناسب أن يكون النهي عن الثاني أبلغ وأقوى لما في البعد منه وممانعته ودفعه من المشقة والتكلف ، فهذا نهي أبلغ وأخص ، لأنه نهي عن الأبلغ وعن الأخص ، فيستلزم النهي عما هو من كسب الأنساب وفعله من باب أحرى ، ابن عطية : قال الحسن وجماعة من المفسرين : ذكر الله عام في الصلوات والتوحيد والدعاء وغير ذلك من فرض ومندوب ، وقال الضحاك وعطاء : المراد به الصلوات المفروضة ، ابن عطية : والأول أظهر انتهى ، بل الثاني أظهر لقوله تعالى : (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) فالذم على الشيء من خصائص الوجوب ، لأن تارك المندوب غير مذموم ، فإن قلت : الذم على ترك مجموع الواجب والمندوب ، قلت : يلزم عليه أنه إذا ترك الواجب وحده أن يكون غير مذموم والإجماع على ذمه ، إلا أن يجاب بأنه يكون خاسرا خسرانا أخص ، فإن قلت : في الآية حجة لمن يقول أن متعلق النهي نقل وفيه خلاف ، والمشهور أن الترك غير فعل ، قلت : الإشارة إلى الإلهاء وهو فعل ، وليست الإشارة إلى الترك.

قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ).

ذكر ابن عطية في غير هذا أن الإنفاق عام في المال والبدن [...] ، فينفق الإنسان جوارحه في الطاعة ، وماله في الطاعة.

قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ).

يدل على أن الموت أمر وجودي وهو مذهب أكثر أهل السنة ، إلا أن يجاب : بأنه على حذف مضاف أي أسباب الموت.

قوله تعالى : (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ).

وصفه بقريب ، إما لأنه أيسر في الطلب وأرجى لأن تقف بنيل مطلوبه ، وإما لسرعة المبادرة فيه إلى الطاعة بخلاف المتطاول ، فإن النفس تميل فيه إلى الراحة والتأخير ، وإن قلنا : إنما بعد إلى داخل فيما قبلها ، فيكون مطلوبهم أمرين : التأخير

٢٣٤

وكونه إلى أجل قريب ، وإن لم نجعله داخلا فلا يكون القرب مطلوبا بل المطلوب التأخير إليه.

قوله تعالى : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً).

إشارة إلى عدم الإشفاق بالمطلوب حينئذ.

قوله تعالى : (خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

تنبيه على الإخلاص في الأعمال ، وإن جميع ما يظهر عليه فالله تعالى مطلع على خفاياه.

٢٣٥

سورة التغابن

قوله تعالى : (يُسَبِّحُ).

عبر هنا وفي الجمعة عن التسبيح بالمستقبل ، وفي الحديد والحشر والصف بلفظ الماضي ، والجواب : أن الماضي حقيقة الانقطاع وعدم التزايد ، وعدم التغير والتجدد ، والمستقبل من شأنه الدوام والتجدد والتغير ، وهو قابل للتزايد والعزة وصف ثابت للموصوف ، لأنها من صفة ذاته لا تتعلق بالغير فالملك معروض الغير ، والزيادة والنقص لتعلقه بالغير ، تقول : ملك فلان أعظم من ملك فلان ، قال تعالى (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) [سورة آل عمران : ٢٦] الآية ، فهو يتزايد بحسب متملكاته ، والتسبيح في آية الماضي يعقب بوصف العزة ، وفي آية المستقبل يعقب وصفه الملك ، فإن قلت : في آخر سورة الحشر (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة الحشر : ٢٤] ، قلت : تقدمها (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [سورة الحشر : ٢٢] ، إلى آخره ، عبر بالمضارع اعتبارا بما قبله ، فإن قلت : ذكر هنا متعلق التسبيح دون رغبة ، وقال في الأنبياء (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) [سورة الأنبياء : ٢٠] ، فذكر وقته دون متعلقه ، فالجواب : أن المسبح هناك الملائكة ، وهم معصومون فمعلوم أنهم إنما يسبحون الله ، وإنما يتوهم ذهول الذهن عن دوام تسبيحهم وانقطاعه ، فذكر ما يتوهم جهله ، والغفلة عنه وعنا ..... (١) في أن العبد يخلق أفعاله وهل السميع إما في الحال ، فيكون عاما في كل شيء ، فهو مجازا أو بلسان المقال ، فيكون خاصا بالعاقل ، فيتعارض التخصيص والمجاز ، فإن قلت : كيف يصح المجاز مع أن الحقيقة موجودة في البعض ، والمسبح بلسان المقال ، قلت : يصح ألا ترى أن الفخر قال : في دلالة المطابقة والتضمن من حيث هو جزاؤه وكذا في الأدلة الالتزام ، فرآه من حيث هو في الدلالات الثلاثة ، فإن قلت : لم أعاد لفظ ما هنا دون الحديد؟ فالجواب : أنه لما ذكر السماوات والأرض هناك في أربعة مواضع لها وبمنزلة الشيء الواحد ، فاستغنى عن إعادة الموصول.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ).

فصل هذه الجملة عما قبلها لجريانها مجرى الدليل عليهما ، كأنه قيل : لما يسبحونه؟ فقال : لأنه خلقهم.

__________________

(١) طمس في المخطوطة.

٢٣٦

قوله تعالى : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ).

وقال في سورة هود (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [سورة هود : ١٠٥] ، فأعاد المجرور هنا ولم يعده هناك ، والجواب : أن المؤمنين هنا مخاطبون لقوله تعالى : (فَمِنْكُمْ) ، فقصد كمال الفصل ، لأنه بينهم وبين الكفار ، لأنه من تمام الاعتناء بهم وتعظيمهم وتشريفهم بإفراد حكمهم ، وهم هناك غائبون غير مقبل عليهم ، فلم يحتج إلى الفصل بل جاء على الأصل لأن حرف العطف ناب مناب تكرار الجار ، وذكر البيانيون : الجمع والتفريق ، ومثلوه بقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) [سورة النور : ٤٥] الآية ، وهذه الآية منه ، وهو تقسيم مستوف إذ لا ثالث ، وقول ابن عطية : إن هذه الجملة في موضع الحال ، وهم لقول ابن مالك في آخر باب الحال : والجملة الحال لا تقترن بها الفاء ، فإن قلت : معلوم أن منهم المؤمن والكافر ، فما فائدة الإخبار بهذا؟ ، قلت : أفاد باعتبار لازمه ، أي كما تفقهون بأن خلقكم إنما هو بفعل الله ، فكذلك خلق صفاتكم من الكفر والإيمان ، ففيه رد على المعتزلة القائلين : بأن العبد يخلق أفعالة ، فإن قلت : كيف يفهم هذا من حديث : كل مولود يولد على الفطرة قلت : ليس المراد الإيمان الأصلي ، بل المراد الإيمان التكليفي ضد الكفر.

قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ).

نجد اللفظ ورد في القرآن كثيرا مقرونا بقوله (بِالْحَقِّ) ، فإن قلت : ما أفاد مع أنه ظاهر في مذهب المعتزلة القائلين : بقاعدة التحسين والتقبيح ومراعاة الأصلح ، ووجه الدليل من الآية أن الحق يستحيل أن يراد به أمر راجع إلى إنكار خلق الله تعالى لهما لاستحالة النقص عليه ، فلم يبق أن يراد به إلا الأمر المصلح والحسن ، وهذا مذهب المعتزلة القائلين : بأن الله لا يفعل إلا الخير ولا يخلق الشر بوجه ، والجواب بأحد وجهين :

إما بأن معناه أنه خلقها مصاحبة لتصديقه لتطابق فعله ، وخلقه لها وإخباره تعالى في الأول بأنه سيخلقها بحكمة متقنة ، وقال الزمخشري : (بِالْحَقِّ) ، أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة ، وهو اعتزال على مذهبه الفاسد في التحسين والتقبيح ، ليسلم من نسبة النقص إلى إضافة النقص إلى الله تعالى ونحن لا نجعل الباء سببا على المصاحبة ، فإن قلت : قال (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) ، فأتى فيه بالفاء على المضمر المفيد للتحقير ، ولم يقل هنا (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) [سورة الأنعام : ٧٣] ، قلت : لمخالفة الحكماء في خلق الأنفس وفي الطبع والطبيعة دون هذا.

٢٣٧

قوله تعالى : (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ).

الزمخشري : جعلهم أحسن الحيوان وأبقاه ، ومن ذلك أنه خلق منتصبا قائما غير منكب ، قال : فإن قلت : كم من ذميم مشوه الصورة سمج الخلقة ، قلت : لا سماجة ثم ولكن الحسن كغيره على مراتب فهم حسن وأحسن منه ، والكل حسن بالنسبة إلى غيرهم من الحيوانات انتهى ، يرد عليه هذا الجواب : بأن الدميم القبيح المنظر إن أطلق عليه أنه قبيح فالسؤال وارد ، وإن قال : أنه حسن فباطل يصدق نقيضه عليه ، وهو قبيح ، وإنما الجواب : أن الحسن يطلق باعتبارين :

أحدهما : ضد القبيح ، تقول : هو في ذاته حسن ، أي ليس بقبيح.

الثاني : باعتبار وروده على وفق المراد ، والخيال المتصور في الذهن ، فتقول : أحسن فلان صورة أحدب أعرج أحسن ، أي أنابها على نحو ما أريد منه فإتيان الصورة هو أن يخيل شيئا في ذهنه فيأتي به على نحو ما تخيل وما بذلك عليه.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ).

فهذا هو المراد في الآية ، أي صوركم على وفق ما أراد منكم ، وهو حسن في نوعه [٧٨ / ٣٨٧] فصور الأعرج مثلا على أحسن صورته في نوعه ، والأقطع والأشل كذلك ، فإن قلت : يفوت معنى التفضيل في مزية الإنسان وتفضيله على غيره ، والآية خرجت مخرج الامتنان ، وهذا المعنى يشترك فيه الإنسان مع غيره ، قلت : إنما اختص الإنسان بالذكر ، لأنه أقرب إلى الفهم ، قال تعالى (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [سورة الذاريات : ٢١].

قوله تعالى : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ).

كالنتيجة لمن لا يخالف في المقدمتين ، أي كما وافقتم وتحققتم أنه الذي خلقكم فصوركم ، فتحققوا أنه يعيدكم بعد الموت ، لأن بعض الناس أنكروا الإعادة وفسره الزمخشري وابن عطية : بأن المراد : إليه مرجعكم فيجازيكم بالثواب والعقاب ، فعليكم بشكره على نعمه والإيمان به.

قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ).

لما تقدم أنه خلق السماوات فأتقنها ، والإتقان دليل على العلم فناسب تعقيبه به ، وأتى أولا بعلم الذوات ثم بعلم الصفات ، وهي القول سره وعلانيته ، ثم يعلم المعاني وهو ما في الصدور ، وهو الكلام النفسي وعبر عن الأولين بالفعل فظن الثالث بالاسم ،

٢٣٨

لأنه أخفاها مبالغة في الإخبار بعلمه بالإخفاء ، وهو خاص بالله تعالى لا يشاركه غيره ، أو يكون من عطف الخاص على العام.

قوله تعالى : (أَبَشَرٌ).

إن كان استفهاما حقيقة فعطف كفروا عليه تأسيس ، وإن كان بمعنى الإنكار فهو تأكيد لإفادة الأول كفرهم ، وعلى الأول يكون التولي حسيا ، أي تولوا عن إتباعه ونصرته ، وعلى الثاني : يكون معنويا ، أي تولوا عن الإيمان به إلى الكفر.

قوله تعالى : (وَاسْتَغْنَى اللهُ).

ابن عطية : السين في استفعل للطلب ، وهو هنا للتحقيق ، انتهى ، وعلى هذا يكون (وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) ، احتراسا خشية أن يتوهم أن السين هنا للطلب ، وقول الزمخشري : الآية توهم وجود الاستغناء والتولي معا لا وجه له ، لقوله في مفصله مع سيبويه إن الواو لمطلق الجمع دون معية ولا ترتيب ، إلا أن ابن مالك قال : ويترجح تأخير المؤخر بكثرة الاستعمال ، فسؤال الزمخشري إنما هو على الأكثر.

قوله تعالى : (يَسِيرٌ).

إما باعتبار قرب زمنه ، أو أنه هين كما قال ابن عطية.

قوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَ) رسله.

إن قلت : الأصل تقديم [...] ؛ لأنه السبب فيما قبله ، فالجواب : أن المعجزة ما تظهر إلا على الرسول ، فوجدوا الرسول متقدم على وجود المعجزة ، إلا أن يقال : فرق بين دعوى الرسالة وبين الإيمان بها ، فدعوى الرسالة متقدم على المعجزة وما نحن نتكلم إلا في الإيمان بالرسول ، فإنه متأخر عن الإيمان بالمعجزة ، فيجاب عن السؤال : أن الآية خرجت مخرج الرد عليهم في إنكار البعث والمعاد ، فالقرآن إنما ذكر من حيث دلالته على صحة البعث والمعاد والإيمان بالبعث ، والمعاد متأخر عن الإيمان بالرسول.

قوله (يَوْمُ التَّغابُنِ) ، جعله الزمخشري : إفكا لأن الغبن في البيع ، هو البخس في ثمن السلعة ، فكان هؤلاء يبخسوا بمالهم تهكما بهم على أن الحاكم عادل فلا تبخس ، وجعله ابن عطية مجازا في إعادة لفظ التغابن ، لأن التفاعل يقتضي أن الغبن في الجهتين ، ويصح معنى التغابن باعتبار تفاوت درجات المؤمنين ، أو على العجز به بمعنى أن الإنسان مع نفسه تجرد بها نفسا آخر يتغابن معها.

٢٣٩

قوله تعالى : (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ).

هذان معلقان على مجموع الإيمان والعمل ، ولا يصح أن يكون كل واحد من فعلي الشرط يترتب عليه كل من جوزي ، الجواب : لأن الشرطية لا تتعدد بتعدد المقدم ، والتكفير مخصوص بحقوق الغير إذ لا ينفع التوبة إن [...] العمل الصالح ، أبو عبد الله محمد بن محمد : فأما وظاهره أن التكفير متوقف على الأمرين ، فيكون تكفيرا خاصا ، قال شيخنا : وفسره الفقيه الصالح أبو عبد الله محمد بن محمد بن سلامه الأنصاري : العمل الصالح بفضل السين ، وهو غفلة منه ، لأن هذا هو مذهب المعتزلة لأنهم يشترطون في الإيمان فعل المفروضات من الطاعة. فمن لم يفعلها ليس بمؤمن عندهم فيكون عطف ، ويعمل صالحا عليه عندهم تأكيدا ، فيحتاجوا أن يفسروا العمل الصالح بفعل المسنونات ، ونحن نقول : إن الإيمان حاصل بمجرد النطق بالشهادتين والعمل الصالح قدروا عليه والأول ترهيب ، وهذا ترغيب.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا).

التكذيب بالآيات من لوازم الكفر بخلاف العمل الصالح ، فإنه ليس من لوازم الإيمان ، فيرد السؤال لأي شيء رتب دخول الجنة وتكفير السيئات على الإيمان والعمل الصالح ، ودخول النار على مجرد الكفر فقط ، فيجاب : بأن الأول ترغيب في الطاعة فناسب تكثير أسباب دخول الجنة تحريضا على فعلها ، والثاني : ترهيب وتخويف فناسب تقليل السبب على سبيل التحريف والتغير عنه ، والمعنى أن مجرد الكفر موجب لدخول النار ، وإن لم يكن معه فسوق ولا فساد في الأرض ولا ظلم ، فيقال للمؤمن : لا نكتف بإيمانك ، وللكافر لا نعتقد أن مجرد كفرك لا يضرك ، فإن قلت : لم عبر في (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) بالمضارع ، وفي (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالماضي ، فالجواب : أنه إشارة إلى أن ذلك خاص لمن سيحصل منه الإيمان إلى قيام الساعة ، والإيمان وصف طرأ على الكفر ، والكفر هو الأصل فيهم ، لأنه أمر واقع منهم حاصل لهم والإيمان طرأ عليه ، وعبر في الأول : بمن الشرطية ، وفي الثاني : بالموصول ، لأن الموصول أقرب للحصول من الشرطية ، فإن قلت : لم قيد دخول المؤمنين بالأبدية ولم يقيد خلود الكافرين بها ، مع أنه مؤبد ، وكذلك قال في سورة هود (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ) [سورة هود : ١٠٦] ، الآية وزاد في أصل (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ، أي دائما غير منقطع عنهم ، فالجواب : أنه زاد هنا (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) فناب مناب الأبدية ، لأنه لا يقال : بئس المصير ، بالإطلاق إلا فيما هو أسوء المصير وآمنا به ، وأسند تكفير السيئات ، وإدخال الجنات إليه ، ولم يسند إليه إدخال الكافرين النار ، فلم

٢٤٠