تفسير ابن عرفة - ج ٤

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٤

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٣٩٩

نفي العام في باب النفي يشعر بدخول الأخص ، لأنه يستعمل العام في النفي والآخر في الثبوت ، ويرد بأن المحكوم عليه إنما هو في الآية بصفة كونهم من أهل الجنة أو من أهل النار ، والصفة هنا معتبره أو يحتمل أن يعتبروا إذا كان لذلك بطل الأخذ من الآية ، إما باعتبارها أو باحتمال اعتبارها أو لقول المحكوم عليه إذا كان مفيدا بطل الأخذ من الآية بصفة ، فإنما يتناوله الحكم باعتبار تلك الصفة لزوما أو احتمالا فهؤلاء إنما انتفت عنهم التسوية من حيث كونهم أصحاب الجنة ، وكون الآخرين أصحاب النار ، والقصاص راجع للدنيا وهم في الدنيا لم يتعدوا تلك الصفة ، بدليل قول الفقهاء : فمن حلف بالطلاق أنه من أهل الجنة حنث ، لأنه لا يدري بماذا يختم له ، فإن قلت : إن الحكم لا يتناولهم من هذه الحيثية ، قلنا : يحتمل أن يتناولهم باعتبارها أو إذا احتمل ما احتمل سقط الاستدلال ، قيل : أخذ الشافعي رضي الله عنه من الآية أن كان من مجرد عدم المساواة لزم لا يقتل الكافر بالمسلم ، وإن كان بزيادة كون المساواة المنفية ملزومة لفضيلة المسلم ، وعدمها في الكافر فيقتل الأدنى بالأعلى لا العكس فيم من ذكر من الاستدلال ، الفخر : واحتج بها المعتزلة على أن العاصي لا يدخل الجنة ، لأن الآية دلت على أن أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يستويان ، وهو غير جائز وجوابه معلوم ، انتهى ، يريد لو دخل العاصي الجنة لساوى المؤمن الكافر ، وما في الاشتراك في النار فدل على أن العاصي كافر لا مؤمن ، ويرد بأن العاصي حال حلوله في النار غير مساو للمؤمن ، وحال حلوله في الجنة مساو ، وقد ذكر المنطقيون المطلقة والدائمة والحقيقية ، أو تقول المراد أن مجموع أصحاب النار لا يساوي مجموع أصحاب الجنة ، ويقولون : إن العام في الأشخاص مطلق في الأزمنة والأحوال ، فإن قلت : لعل المراد نفي المساواة بين أصحاب النار فيما بينهم بدليل قراءة من قرأ ولا أصحاب الجنة ، فكرر لا ، وقد قال السهيلي : إذا قلت : ما قام إلا زيد ولا عمرو ، فالمراد نفي قيام كل واحد منهما مجتمعين ومفترقين بخلاف قولك : ما قام زيد وعمرو ، فالجواب : أن السياق هنا ينفي هذا ويعين الأول ، وقدم أصحاب النار ، لأن الآية وعظا وتذكير ، فإن قلت : لم قال : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) ولم يقل : أصحاب النار هم الخاسرون ، قلت : التصريح بفوز أصحاب الجنة يتضمن أمرين : جلب الملائم ، وهي الأعمال الصالحة التي هي سبب في الجنة ، ودفع المؤلم ، وهو عمل نقيض ، والتصريح بخسران أهل النار لا يتضمن الأول المؤلم الذي دخلوا به النار ، وما تضمن أمرين أوفى.

قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ).

٢٠١

جعله الزمخشري جبلا على مذهبه ، لأن التمثيل يكون في الأمور المستحيلة الوجود ، كالتشبيه بالصفاء والقول ، والتمثيل يكون في الأمور الجائزة الممكنة الوجود ، والزمخشري يشترط في الجمادات النية ، فيستحيل فيها الخشوع عنده ، ونحن لا نشترط ذلك بل نشترط العلم والحياة فيصح عندنا وقوع الخشوع من الجمادات ، خلق الله فيه العلم والحياة ، ويمكن على مذهبه أن يكون تخيلا بل هو من تعليق المحال على المحال ، مثل (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) [سورة الزخرف : ٨١] ، ويجاب عنه : بأن الآية في سياق الوعظ والتخويف ، ولا يقع ذلك إلا بالممكن لا بالمحال ، وهذا نحو جواب شمس الدين الجزري لما احتج الفخر على جواز الشيخ في قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) [سورة البقرة : ١٠٦] ، ورد عليه السراج الأرموي : بأن لزوم الشيء بالشيء لا يلزم منه وجوب وقوعه ولا إمكان وقوعه ، فأجاب عنه الجزري : بأن الآية خرجت مخرج التمدح ، والتمدح إنما يكون ممكن الوقوع ، السماكي : التمثيل تصوير لحقيقة الشيء حتى يتوهم أنه ذوا صورة تشاهد ، وأنه مما يظهر في العيان كقوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [سورة الزمر : ٦٧] الآية ، وقوله تعالى : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) [سورة يس : ٦٥] ، ولا يكاد يحمد منه بابا في علم الطب منه ، ولا أدق ولا أهون على تعاطي المتشابهات ، وهذا نحو من كلام الزمخشري ، وخلاف ما قال ابن أصبغ فإن قلت : الآية دليل على أن القرآن اسم جنس ، يصدق على الكثير والقليل ، لأن اسم الإشارة يقتضي الحضور ولم ينزل حينئذ إلا بعضه ، فالجواب : أن المراد ما نزل وما ينزل ، لكن يلزم عليه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، فيجاب : بأن الإشارة لجميعه لوجوده حينئذ وإنزاله إلى السماء الدنيا ، فإن قلت : الإشارة إليه إنما هي من حيث إنزاله الإنزال المحصل للخشوع ، وذلك في إنزاله للتكليف به ، قيل : لو أنزلنا على جبل هذا القرآن الموصوف بالإرسال إلى السماء الدنيا ، فإن قلت : في الآية رد على من عرف القرآن من الأصوليين ، بأنه ما بين دفتي المصحف ، لأنه يسمى قرآنا قبل وجود المصحف ، قلت : سمي قرآنا قبل ذلك ثم ثبت له هذه الخاصة بعد ذلك عندنا معرفا بها ، فإن قلت : في الآية حجة لمن ينفي الكفر عنادا لاقتضائها أن نفس نزول القرآن على تقدير كونه ذا فهم يحصل له الخشوع ، ذلك هو نفس الإيمان ففسر نزوله غير مخص به للإيمان ، فليس كل كفر عنادا ، قلت : فرق بين حصول الخشوع في القلب وبين النطق بالشهادتين باللسان ، فحصول العلم في القلب بنفس نزول الآيات ، والإيمان اللفظي بسببه تكليف الرسول وطلبه ذلك وأمره به ، فقد يمنع منه من حصل له العلم في القلب كأبي طالب.

٢٠٢

قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ).

جمع الأمثال مع أنه مثل واحد ، كما قال العبدي في شرح الجزولية : أن الواحد قد يجمع باعتبار تعدد أوصافه [٧٦ / ٣٧٨] كقوله :

فقلت اجعلي ضوء الفراقد كلها

يمينا ومهوى النجم من عن شمالك

قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ، لعل من الله تعالى واجبا مع أنهم لن يتذكروا وكلهم ، فيكون عاما مخصوصا.

قوله تعالى : (هُوَ اللهُ).

الضمير العائد على ذكره في قوله تعالى : (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) ، ولا يقال : أنه يلزم عليه الإخبار في الشيء عن نفسه ، لأن الجزء هو موصوف بصفة فيقيد بتلك الصفة أو يعود الضمير على المخشي المفهوم من خشية الله أو على أن المنزل المفهوم من أن لو أنزلنا أو على الذي يضرب المثل.

قوله تعالى : (الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

إن قلت : ما سر دلالة الموصوف ، وهو الذي دون صلته ، وهو جملة لا إله إلا هو لو أتى بها إثر اسم ، فقيل : (هُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [سورة القصص : ٧٠] ، فالجواب : أن الرسول دلالته الإفراد آية جاءت من حيث هي في الاسم من حيث كونها دلالة بالنوع أو بالشخص ، وجملة الصلة أفادت وحدة الشخص ، فكانت تأسيسا ولو كان المفهوم من الموصول والصلة واحد ، كان تأكيدا لكن يلزم على هذا بطلان قول النحاة : الموصول مع صلته كالزاي مع زيد ، فكما أن الزاي وحدها دلالة لها فكذلك الموصول وحده ، وكون الموصول دالا على الوحدة الأعمية ممنوع بل الصلة تابعة للموصول أن نوعا فنوعا ، وإن شخصا فشخصا فأستدل بها الأصوليون على أن الاستثناء من النفي إثبات.

قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ).

نعت ، وهو معرفة ، لأنه مجرد عن الزمان فإضافته محضة ، والغيب ما لم ينصب عليه دليل فمن أجاد خط الرمل ، والنظر في النجوم وعلم التعديل وحساب زيادة الشهود ونقصانها ، فليس ذلك من الغيب لنصب الأدلة على معرفة ذلك.

قوله تعالى : (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ).

٢٠٣

فصل هنا بالضمير ولم يفصل به بين (عالِمُ الْغَيْبِ) ، وما قبله ولا بين (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) ، للتباين بين مجموع الصفتين إذا القرينتين الأولتين معنوية ، وهاتين يرجعان لصفات الأفعال.

قوله تعالى : (هُوَ اللهُ).

تأكيد وفيه ضرب من التأنيث ، لأنه لما وصفه ب (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) ، وهما صفتان يتوهم فيهما الشركة ، قال تعالى (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [سورة الفتح : ٢٩] ، وفي الحديث : الراحمون يرحمهم الرحمن ، فارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ، أتى بهذا ليفيد أن الرحمة بين العباد كلها مخلوقة لله تعالى ، وهو الفاعل المختاو لا شريك له.

قوله تعالى : (الْقُدُّوسُ).

الزمخشري : هو البليغ في النزاهة عما يستقبح و (السَّلامُ) مبالغة في وصف كونه كريما من النقائص ، انتهى.

قوله تعالى : (السَّلامُ).

راجع إلى سلامة ذاته الكريمة من النقائص ، (الْقُدُّوسُ) ، راجع إلى تنزيهه الخارج له عن النقائص أو إلى تنزيهه نفسه كما يقال : حمد نفسه بنفسه ، قال شيخنا : وعندي نظر فيما يتجاوز الناس فيه من التخطيط لبعضهم ، فيقولون : المقدس المرحوم ، فإنه راجع إلى كمال التنزيه الذي لا يليق إلا بالله ، قيل له : قد ورد روح القدس ، وقال تعالى (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) [سورة طه : ١٢] ، وفي الحديث في وفاة موسى عليه‌السلام أنه قال : يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية حجر وما معناه إلا كمال الطهارة.

قوله تعالى : (الْجَبَّارُ).

الزمخشري : القاهر الذي جبر خلقه على ما أزاد ، وهذا ترقيق على مذهبه كأنه يقول : إن العبد مستقل بفعله فتجيء هنا أن أفعاله الاختيارية من خلقه وقدرته ، وأفعاله الجبرية خلق الله تعالى كما يتصور دخول الإنسان بيتا اختياريا ودخوله بيتا مكرها.

قوله تعالى : (الْمُتَكَبِّرُ).

أي البليغ الكبرياء والعظمة ، فهما تصور في حقه صفة علية ، فيعتقد أنه متصف بأكبر منها ، وأعلى فهم إذا تصورت ما هو أعلى منها ، تعتقد أنه متصف بأكبر من ذلك

٢٠٤

أيضا ، ولا تزال تترقى في صفات العلو والكبرياء حتى تنتهي ما يعجز عنك إدراكه فتقف ، فصل في شرح الأسماء ، قال ابن العربي في كتاب [...] الأقصى في شرح الأسماء الحسنى : (عالِمُ الْغَيْبِ) ، العلم هو إطلاع المرئي على ما لم يطلع عليه ، وانكشاف ما غاب عند الله تعالى ، وله أسماء كثيرة ، منها الفضل والفطنة والدراية والخبرة وعلم الله تعالى واحد ، لتعلقه بكل شيء ، قال علماؤنا : ويجوز أن يكون له علوم لا نهائي بعدد المعلومات ، وإنما علمنا إتحاده شرعا لقوله تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [سورة النساء : ١٦٦] ، وحكمته تعالى ليس ضروريا لما في الضرر من النقص الذي يقال هذا لا نظريا لما في النظر من الحاجة إلى المقدمات المحصلة للعلم ، قال علماؤنا : ولا نصف البارئ بأنه عارف لعدم وروده ، والمعرفة والعلم مختلفان فالمعرفة علم واحد ، والعلم معرفتان ، فهو أكمل ولذا سمي به ، ويجوز عقلا أن يقال : فيه عارف لعلمه بالأوائل وعالم لعلمه بالأوائل والأواخر ، انتهى ، قلنا : (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) ، فتقدم على ما في الكلام على البسملة وأما (الْمَلِكُ) ، فقال ابن العربي : الملك والمالك مشتقان من الملك والملك قبل التصرف ، فهو صفة فعلية ، وقال : أكثر علمائنا أنه القدرة على التصرف ، الفخر : فهو صفة ذات ، وتعقيب قبل التصرف فهو صفة فعلية ، الأول : بأن الصبي والمجنون والراهن والمؤاجر ما [...] ولا تصرف لهم ، وعلى الثاني : قال الفخر : والأمر ملك الأشياء قبل وجودها ، لأنه قادر على وجودها ، وبعد وجودها لقدرته على إثباتها ، إما بخلقه البقاء فيها عند من يقول باقية ببقاء أو بخلق الأمر من التي لا يتم بقاء الجواهر إلا بها ، وعبر ابن الخطيب عن هذا بقوله : وإما بأن لا يعد بها عند من يقول أن القدرة لا تتعلق بالعدم ، وقال : قيل : (الْمَلِكُ) من ملك نفوس العارفين فأطلقها ، وملك قلوب العارفين فأحزنها ، وقيل : الملك من لا يمازجه معارض ولا يمنعه مناقض ، فهو تقديره منفرد وتدبيره متوحد ليس لأمره مرد ولا حكمة رد ، وقيل : الملك من دار بحكمه الفلك وسبح بتقديسه الملك ، وقال هو وابن العربي : قيل : المالك أعم من الملك لوجوده منها أنه يفيد حقيقة الملك ، والملك لا يقيده ويضاف إلى الخاص والعام ، كمالك الدار ، ومالك الأرض ، والملك إنما يضاف إلى العام ، وأنه ينطلق إلى تملك القليل والكثير ، والملك خاص بالكثير تقول : مالك الأرض ، ومالك الملوك ، ولا تقول : مالك المليك ، وقيل : الملك أعم وأبلغ ملك الطيور لجوارحها ، كما تقول : ملك الآدميين ، ولا نقول ملك الطيور ، ولأن الملك يشعر بتعدد المملوكات وأيضا مالك الأرض يطيع ملكها وهؤلاء يطيعه انتهى ، وأما (الْقُدُّوسُ) فقال الفخر ابن الخطيب : القدوس الطهارة ، وقيل : للجنة حصيرة القدس لطهارتها ، ولجبريل روح القدس ، وقول

٢٠٥

الملائكة : (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [سورة البقرة : ٣٠] ، أي نطهر أنفسنا لك ، والقدس : السطل الكبير ، لأنه يتطهر به ، ابن العربي : فظنه أولا وهو بمعنى المطهر لا الطاهر ، لأنه بمعنى من فعل متعد والطاهر من فعل غير متعد ، فهو مقدس نفسه أزلا الأمد ، قيل : معناه البريء من المعائب ، فيكون صفة نفي ، وهو الذي له الكمال في وصف أختص به ، وقيل : هو الذي لا تحدده الأوهام ولا تصوره الأبصار ، الغزالي : هو المنزه عن كل وصف يدركه حس أو يصوره خيال أو يظنه الخلق كمالا ، لأنهم نظروا إلى علمهم وقدرتهم وسمعهم وصفات كمالهم ، فوصفوه بها وقدموه عن ضدها ، مع أنه منزه عن صفات كمالهم ، إذ هو أعلى من ذلك وأكمل ، قال قلت : أقول أنه منزه عن العيوب والنقائص ، إذ لا يحسن أن يقال : ملك البلد ليس بحائك ولا حجام ، فإن نفي الوجود يكاد يوهم الوجود ، ابن العربي : مرتبة هذا القائل عظيمة ووهمه أعظم ، بل نقدس الله عن كل عيب ونقص نسبه الكفار إليه ، وقد نفى الله عن نفسه الشريك والولد والصاحبه ، وكان ذلك غاية في التوحيد ، وإنما ذاته دقيقة إنا لا ندري نحن بنفي وصفه عنه من الباطل ، لم يقل به قائل ولا نسبه إليه مبطل انتهى ، قلت : وفي البخاري في حديث الدجال وإن الله ليس بأعور ، وأما كلام فقال ابن العربي : اتفقوا على أن معناه بالنسبة إلى ذو السّلام ، كامرأة فاسق وامرأة ضامر ، واختلفوا في توجيهها ، فقيل : السّلام من العيب في ذاته ، والنقص في صفاته ، والظلم في أفعاله فهو بمعنى القدوس ، وفرق ابن الخطيب بينهما باحتمال كون القدوس إشارة إلى تنزيهه من العيوب في المستقبل ، وإلى تنزيهه عن صفات النفس ، والسّلام لتنزيهه عن أفعال النقص ، وقيل : ذو السّلام ، أي المسلم على عباده ، قال تعالى (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [سورة يس : ٥٨] ، فهو صفة معنى كالعلم والقدرة ، وهي صفات كمال ، وقيل : سلم الخلق من ظلمه ، الآمدي : أي أن السلامة به ومنه لهو صفة فعل ، وأما المؤمن قال الآمدي في إبكار الأفكار : قيل : الصدق لنفسه ورسله إما بالقول فهو صفة كلامية أو بخلق المعجزة فهو صفة فعلية ، وقيل : معناه أنه يؤمن عباده من الفزع الأكبر ، إما بأن يخلق لهم الطمأنينة من ذلك ، فيرجع إلى صفة الفعل ، وإما أن يخبرهم بالأمن من ذلك ، ويرجع إلى صفة الكلام ، وقيل : بمعناه أن الحقائق [٧٦ / ٣٧٩] منكشفة له فيرجع إلى صفة العلم ، وقيل : معناه أن القول قوله لا خلاف عليه ، فيرجع إلى صفة كلامية وسلبية ، وقيل : معناه استحالة الزوال عليه فهو صفة سلبية ، قال الغزالي : وإزالة الخوف لا تعقل إلا إذا حصل الخوف ، ولا خوف إلا عند إمكان العدم ولا مزيل العدم إلا الله تعالى ، بيانه إنما يخاف [...] الهلاك من حيث أنه لم ير بعينيه ما يؤمنه من ذلك ، وإلا قطع يخاف ألا يمتنع إلا باليد فخالف الأعضاء

٢٠٦

كلها ، فهو الذي أزال الخوف عن الإنسان بواسطة أعضائه ، وأزال عنه ألم الجوع والعطش بخلقه الأغذية اللذيذة والأدوية النافعة والأعضاء والآلات الدافعة عن آلام الدنيوية ، كالفرق والخوف ، ونصب له الدلائل ، وقوى الفعل وهدى الخاطر إلى توحيده ، وجعل ذلك حصنا من عذاب الآخرة ، قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم مخبرا عن الله تعالى : " لا إله إلا الله حصني من دخل حصني أمن عذابي" ، فثبت أنه لا أمن في العالم إلا من الله تعالى ، قال ابن الخطيب : وهذا حسن جيد ، فإن قيل : ولا خوف إلا من الله ، قلنا : لا منافاة بينهما كما أنه معز مذل انتهى ، وأما (الْمُهَيْمِنُ) ، قال ابن الخطيب : قال أبو زيد البلخي : هذه لفظة غريبة لم تكن في ألفاظ العرب قبل نزول القرآن ، وهي في اللغة السريانية مع مده في آخرها على عادتهم في الأسماء ، يقال : لم يعمنا ، ويفسرونه بأنه المؤمن الصادق الإيمان ، وقيل : أنها غريبة واختلفوا ، معناها الشاهد على خلقه بما يصدر منهم من قول وفعل ، قال : وما تكون في إشارة الآية فالمهيمن العالم بكل شيء ، وقيل : هو المؤيمن ، قلبت : الهمزة ياء لأنها أخف من الهمزة ، كقولهم : هيهات وأيهات ، فالمهيمن والمؤيمن ، وقال الخليل : هو الترتيب الحافظ ، وقال المبرد : الحذر المشفق تقول العرب للطائر إذا بسط جناحه يدب عن فرحة هيمن ، وقال الحسن البصري : المهيمن المصدق ، فالله تعالى مصدق لأنبيائه بكلامه أو بإظهار المعجزات على أيديهم ، القول السادس ، قال الغزالي : المهيمن اسم لموصوف بثلاثة أمور : العلم ، والقدرة الثابتة على تحصيل مصالح الشيء ، والمواطئة على تحصيل تلك المصالح ، فالجامع هذه الصفات اسم المهيمن ، وأما اسم (الْعَزِيزُ) ، ففي اشتقاقه وجوه :

الأول : أنه الذي لا مثل له ، الفخر : فيرجع من التنزيه.

الثاني : الغالب الذي لا يغلب ومنه وعزني في الخطاب.

الثالث : الشديد يقال : [.....] فيرجعان إلى صفات الذات ، وهي القدرة.

الرابع : أنه بمعنى المعز كالأليم بمعنى المؤلم ، فهو صفة فعل ابن العربي.

الخامس : أنه عزيز عند أو أوفيائه ، أي لا يؤثرون على طاعته شيئا ، فهو فعيل بمعنى مفعول كف خضيب ، ورجل فضل.

السادس : أنه بمعنى الإضافة أي عزيز عليه أولياءه ، كما قال تعالى (أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) [سورة التوبة : ١٢٨].

٢٠٧

السابع : العزيز الممتنع الذي لا يدرك ولا ينال الأمدين ، وقيل : هو الذي لا يخوف بالتهديد ، وقيل : الذي لا يحمد بحمد ، الغزالي : العزيز الذي يقل وجوده وتشتد الحاجة ويضعف الوصول إليه ، فكم من شيء يقل وجوده ولا يحتاج إليه فليس بعزيز ، فمجموعها خاص بالله تعالى فلذلك سمي عزيزا وتعقب عليه ابن العربي في كتاب الآمدي الأقصى تفسيره بشدة الحاجة ، وقال : أنما يدل عليه لفظه باللزوم لا بالمطابقة في بعض الوجوه ، وليس معنى الشيء كلما كان من لوازمه كلفظ البيت يفيد السقف والجدار ، والسقف مطابقة ، والبناء والنجار لزوما ، وليس كل ممتنع يشتد إليه إنما يشتد للمعدوم نظره ، ابن العربي : فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [سورة الصافات : ١٨٠] ، فجعل العزة مربوبة ، وهي من صفات الله تعالى ، قال : أجاب عنه ابن فورك ، فقال : ليس معناه تلك العزة التي هي صفته ، وإنما معناه أنه عز عما يصفونه إنكارا على من وصفه من المشركين بالولد ، أي سبحان ربك الذي عز عما يصفونه ، ابن العربي : هذا لا يتجه من السؤال ، وإنما الجواب أن سائر الصفات قديمها ومحدثها كلها تضاف إلى الله تعالى والقديمة تضاف إليه تحقيقا ووصفا ، والمحدثة تضاف تقديرا وخلقا وملكا ، فالعلم له صفة وله خلق ، والعزة كذلك أعطى منها العبد المحدث ، فأما المتصف بالعزة القديمة الخالق المالك للمحدثة ، قال تعالى (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) [سورة فاطر : ١٠] ، أي القديمة والمخلوقة المملوكة وأما الجبار ، فقيل : العالي الذي لا ينال ، وقيل : المصلح للأمور ، وقيل : من جبره على كذا ، أي أكرم عليه زاد ابن العربي : وقيل : إنه بمعنى المتكبر ، قال : فإن قيل : فإذا فسرتموه بأنه يجبر الخلق على مراده فأنتم تجبروه وأنتم قد نفيتم ذلك عن أنفسكم ، فأجاب بوجهين :

الأول : أنه يخلق في العباد ما يكرهون ، وهم لا يقدرون على دفعه كالحركات الضرورية ولا خلاف.

الثاني : أنه إذا أراد شيئا كان وإذا أراد العبد شيئا لا يرده هو تعالى لم يكن يجبرهم على مراده ، كما نهى آدم عليه‌السلام عن أكل الشجرة ، وأراده فوافقه ، قال ابن الخطيب : وسمعت أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني كان حاضرا في دار الصاحب إسماعيل بن عباد ، فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني ، وكان رئيس المعتزلة ، فقال : سبحان من تنزه عن الفحشاء ، فقال الأستاذ : سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يريد ، فقال ابن الخطيب : فإن قيل : الجبروت في الخلق مذموم فلم يمدح الله به ، فأجاب : بأن الخلق ناقصون مقهورون محجوبون تؤذيهم البقة ، وتشوشهم

٢٠٨

البعوضة ، فلذلك كان مذموما في حقهم ، وأما المتكبر ، فقال ابن الخطيب : أحسن الناس فيه كلاما الشيخ الغزالي رحمه‌الله ، قال : المتكبر هو الذي يرى الكل حقيرا ، بالإضافة إلى ذاته ، ولا يرى العظمة ولا الكبرياء إلا إلى نفسه ، وينظر إلى غيره نظر المملوك إلى العبيد ، فإن كانت صادقة كان المتكبر حقا ، وإن كان صاحبها محقا في ذلك التكبر ، فلا يتصور ذلك مطلقا إلا في حق الله تعالى ، وإن كانت الرؤيا باطلة ، ولم يكن ما يراه من التفرد بالعظمة كما يراه كان المتكبر باطلا مذموما لحديث" الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ومن نازعني في واحد منها قذفته في النار" ، فظهر أن المتكبر في حقه مدح وكمال ، وفي حق غيره نقص ، وقال مجاهد : التكبر من الكبرياء ، بمعنى الملك ، قال تعالى (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) [سورة يونس : ٧٨] ، وقيل : هو بمعنى الكبير ، قال تعالى (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) [سورة يوسف : ٣١] ، أي عظمنه ، قال الزجاج : هو الذي يكبر عن ظلم عباده ، قال الفخر : فإن قيل : المتكبر منفصل ، وهو يفيد تكلف الفعل ، يقال : فلان يتعظم وليس بعظيم يسخى وليس بسخي ، فأجاب : بأن الأزهري ، قال : التفعل قد يجيء لغير التكليف يقال : فلان يتظلم أي يظلم ، ويتظلم أي يشكوا من الظلم ، وهذه الكلمة من الأضداد ، فقد يعني الظالم ، وقد يعني الشديد من الظلم ، وعبر عنه ابن العربي : بأن الفعل عبارة عن كونه على تلك الصفة ، وهي في المخلوق حادث فكتب في الخالق النافية الاختصاص ، فتكبر أي انفرد بالصفات العلى ، وتكبر إذا اكتسب الكبرياء وتعاطاه ، زاد الفخر جوابا آخر وهو أن المتفعل هو الذي يحاول إظهار الشيء ويبالغ فيه ، فإن صدق كان ذلك الإظهار مدحا ، وإن كذب فهو صفة ذم ، وأما الخالق ، فقال الفخر : هو على معنيين : إما المقدر وإما الموجب ، زاد ابن العربي : المعنى قال : وله معنى يستحيل هنا ، وهو الكذب ، الفخر : والتقدير تقدير الشيء على مقدار المعين ، ولا بد فيه من صورة مؤثرة على نتوقف على آلة مخصصة لذلك المقدار ، وعلم بذلك القدر فإن توقفت على آلة كتصوير أحدنا للخصم ، فإنه لا يمكن بتحريك الأصابع ، فتسمى تلك الحركة تقديرا أو تصويرا ، قال : والعلم في حق القديم لا يحتاج إلى فكرة ولا إلى نظر ، قال : فإن فسرنا الخالق بالمقدر حسن الترتيب في الآية ، لأن التقدير يرجع إلى العلم ، فتقول : من قدر ما الفلاسفة من ظن أنه تعالى لا يعلم الأشياء ، وقصدوا علمه على ماهية معينة فلفظة الخالق يدل على علمه بحقائق الأشياء ، ومنهم من سلم علوم علمه ، لكنه يقول : الخيول قديمة والبارئ متصرف فيها ، فقال البادي : زاد عليهم ليدل على إيجاده لها من عدم لمحض لا عن المادة ، ومنهم من علمه وإيجاده لهذه الذوات ، إلا أنه يقول صورة النبات والحيوان عن الطبيعة ، والطبيعة هي التي تصور كل شيء على صورته الخاصة ،

٢٠٩

فقر له المصور رد على هؤلاء ، فإن فسره الخالق بالموجود المبدع ، فيرجع إلى البارئ ، فقيل : هو الموجد فيكونان مترادفين ، وقال الأخفش : أصله القطع من بريت القلم إذا خلقته [٧٧ / ٣٨٠] فيرى الخلق أي فصل بعضهم من بعض ، وصور كل واحدة على صورة خاصة ، وقيل : مشتق من البرأ وهو التراب أي مبدعنا وموجدنا من تراب ومصورنا على صورة مخصوصة ، قال الخطابي : واللفظ البرأ اختصاص بالحيوان ، أن تقول برأ الله القسمة ولا تقول برأ الله السماء والأرض انتهى ، قلت : ولبعضهم في عرض التجنيس إذا الترغيب ، الزمخشري : الخالق المقدر لما يوجده ، والبارئ ليميز بعضهم من بعض بالأشكال المختلفة والمصور الممثل ، انتهى ، أي عليها مماثلة الصور ، بحيث إن الناظر إليها يظن أنها متماثلة وهي مختلفة.

قوله تعالى : فله (الْأَسْماءُ الْحُسْنى).

تقدم الكلام على الجملة ، ذكر الخلاف في لفظة ذكر هل هي عبارة عن المسمى أو عن التسمية ، ونقل الطيبي هنا حديثا عن مسند أحمد بن حنبل ، والترمذي ، قال : " من قال حين يصبح أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثلاث مرات ، ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر ، وكل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له ، وإن مات يومه ، مات شهيد" انتهى ، الظاهر أن أولها هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة إلى آخر السورة.

٢١٠

سورة الممتحنة

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا).

ابن عطية : نزلت في غزوة الحديبية ، وقال الزمخشري : يروى أن امرأة أتت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم بالفتح ، وهو [...] بالفتح ، وهذا هو الصواب ، لأن غزوة الحديبية لم ينقل أنها كانت فيها الكثرة من الناس ، بحيث يحذر منهم حاطب بن أبي بلتعة بخلاف الفتح ، وهنا ثلاثة أسئلة :

الأول : أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم قال لعمر : " وما يدريك لعل الله أطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" ، فقبل عذره ، ولم يقبل عذر الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة تبوك ، مع أن فيهم من حضر بدرا ، وجوابه : أن خاطبهم بالمفسدة وعافاه الله منها بإعلامه نبيه وإظهاره الكتاب قبل رسوله إلى الكفار ، والثلاثة المتخلفون وقع منهم التخلف بالنقل ، فالمراد بقوله : اعملوا ما شئتم ، [...] بالمفسدة ، لإبقائها بالنقل ، لأن قضية حاطب قضية في عين ، وليس فيها إلا الهم بالمفسدة ، والمشهور عند الأصوليين في العام إذا ورد على سبب أنه يقتص على سببه.

السؤال الثاني : كيف طلب عمر رضي الله عنه ، أن يضرب عنقه بعد تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله ، لسارة : أمسلمة جئت؟ قالت : لا. والخطاب ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، تصديق له أيضا في أنه مؤمن ، وجوابه : أنه توهم أن قتله حد وأدب لا أنه مرتد.

الثالث : ذكر الزمخشري ، قول رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم لسارة : أمسلمة جئت ، قالت : لا ، قال : أمهاجرة جئت قالت : لا فيرد في هذا السؤال تقريره أنه يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط ، والإسلام شرط في المعجزة ، وقد سألها عنه أولا فنفته ، فلم سألها ثانيا عن الهجرة؟ مع علمه بأنها غير مسلمة ، فإن أجيب : بأنه ليس المراد الهجرة الشرعية ، بل لتحصيل حاجة ، فأنها إنما خرجت لإلحاقها الفاقة ، رد بأنه لو كان كذلك لما كانت بقولها : لا ، وهنا أيضا.

سؤال رابع : وهو أن لفظ الآية مناف لسبب نزولها ، وتقريره أن السبب يقتضي العتب ، والخطاب في الآية بوصف الإيمان وعدم إفراد المنادى بنافيه.

قوله تعالى : (تُلْقُونَ).

٢١١

الإلقاء أعم من الإيصال والحصول ، فلا يلزم منه حصول المودة ، كما وقع في هذه القصة.

قوله تعالى : (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ).

ابن عطية : بدل من تلقون ، ويجوز أن يكون في موضع خبر ابتداء ، كأنه قال : أنتم تسرون ، ويصح أن يكون فعلا مرسلا ابتدأ به القول ، والإلقاء بالمودة معهما والإسرار بها معنى زائد على الإلقاء ، فيترجح بهذا أن تسرون فعل ابتدأ به القول ، أي تفعلون ذلك وأنا أعلم ، انتهى ، أراد أنه أخص من الأول ، لأن الإسرار إلقاء وزيادة ، وجعله أبو حيان بدل اشتمال ، وتقديره أن الإلقاء متناوله ومشتمل عليه باعتبار الصادقية ، والثاني يشتمل على الأول باعتبار اللزوم ولا ضعف فيه ، لأن بدل الأحسن من الأعم ، وإنما يزادهم بدل بعض من كل. الزمخشري : النافي بالمودة إما زائدة مؤكدة للمتعدي ، وإما ثابتة على أن مفعول تلقون محذوف ، أي تلقون إليهم أخبار رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم بسبب المودة ، ابن عطية : ألقيت يتعدى بحرف الجر ، فدخول الباء وزوالها سواء ونظيره ، قوله تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [سورة طه : ٣٩] ، انتهى ، هذا كله إنما جاء من جعل المودة راجعة لموادتهم الكفار ، ولنا أن نفهمه على أن المراد تسرون إليهم الحديث بسبب المودة بينكم وبين قرابتكم الذين معهم ، لأن إسرارهم بسبب موتهم لم تقع لأن حاطبا لم تحصل منه مودة.

قوله تعالى : (سَواءَ السَّبِيلِ).

أبو حيان : مفعول به أو ظرف انتهى ، يرد كونه ظرفا بأن لا يحسن أن يقال : هل في سواء السبيل ، لأنه ظرف للرشاد لا للضلال فيه تناقض ، فإن قلت : سواء السبيل مشتمل على ظرف ضل في بعضها ، واهتدى في البعض ، لأنه مؤمن ، قلت : طريق الحق واحدة والضلال في بعضها مرتد إذا تعمد ذلك بعد هذه الآية ، أو يقال : سواء السبيل هو وسط السبيل ، فقد يضل عن الوسط ، ويبقى في ظرفها فهو بهذا المعنى ظرف.

قوله تعالى : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ).

فيه سؤال ، وهو المرتب جوابا للشرط متأخر عنه وكونهم أخذلهم ثابت سواء قاتلوهم وثقفوهم أم لا ، فكيف يصح ترتيبه عليه؟ والجواب من وجهين : متأخر عنه الأول أن المتقدم على الشرط كونهم أعداء فقط ، والمتأخر عنه لمجموع عداوتهم

٢١٢

وبسطهم ألسنتهم بالسوء ، والشيء في نفسه ليس كموقع غيره ، فإن قلت : قد تقرر في علم المنطق أن الشرطية المتصلة تتحد بعد تاليها بالسؤال ، بأن قلت : ذلك باعتبار الأمثل ، وأما هنا فالمعتبر المجموع الثاني أن المتأخر استصحاب عداوتهم أو شدتها وبسط الأيدي في بعض الناس أشد من بسط الألسن ، وفي بعضهم على العكس.

قوله تعالى : (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ).

إن كان استئنافا فظاهره ، وإن كان معطوفا فكيف جاء ماضيا والأول مستقبل ، والجواب : أنه ماض لفظا ومعنى ، وقد ذكره لكن إنما يصح حيث يكون فعل الشرط لفظا ومعنى ، وأجاب الزمخشري : بأن تلك المودة ثابتة قبل.

قوله تعالى : (أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ).

إن قلت : لم قدم الأرحام وهي أعم ، وقد تقرر أن نفي الأعم أحسن من نفي الأخص ، فهلا اكتفى بذكر الأرحام عن ذكر الأولاد؟ لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص ، فالجواب : أنه ذكر الأولاد خشية احتمال صورة التخصيص ، لأنه قد يخصص ذلك العام بالأولاد ، فإن قلت : هلا ذكرت الأولاد قبل الأرحام؟ فيكون العطف تأسيسا ، وأما هنا فنفي الأعم أحسن من نفي الأخص ، قلت : قد تقرر في المنطق في [...] أنه من باب استلزام الأعم أمر لعدم استلزام الأخص له ، ورد الحديث : " يموت ابن آدم وينقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية ، أو ولد صالح يدعوا له ، أو علم ينتفع به بعده" ، فإن كان لن ينفعكم جواب لو ، فظاهر لأنهم إذا كفروا لا ينفعهم شيء من ذلك ، وإن كان استئنافا فيكون المراد نفي المنفعة عن الرحم ، بما هو رحم وعن الولد بما هو ولد ، ومنفعة الولد الصالح لا لمجرد كونه ولدا ، بل بوصف الإيمان الخاص.

قوله تعالى : (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ).

قال أبو حيان : لا يصح أن يكون الظرف مقاما لأنه منصوب ، ونقل في سورة الأنعام في قوله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [سورة الأنعام : ٩٤] ، عن الأخفش : أنه أجاز إقامته ، وعلى أنه مقام هنا يرفع لإضافته إلى المبنى ، ونقل السهيلي صحة إقامته ، وإن كان غيره منصرف.

قوله تعالى : (فِي إِبْراهِيمَ).

خصه بالذكر إما لأنه أول ما ابتدأ هذه المقالة ، وأما لأن جميع الملل آمنوا ووافقوا عليه ، ابن عطية : اختلفوا في الذين معه ، فقيل : أراد من آمن به من الناس ، وقال

٢١٣

الطبري وغيره : أراد الأنبياء الذين كانوا في عصره وقريبا من عصره ، وهذا القول أرجح التأويل ، لأنه لم يروا أن إبراهيم كان له أتباع مؤمنون في مكافحتهم نمرود ، وفي البخاري أنه قال لسارة حين رحل بها إلى الشام مهاجرا إلى بلاد النمرود : ما على الأرض من يتعبد الله غيري وغيرك ، قيل : لعل المراد من آمن به بعد ذلك ، قيل : الأصل استصحاب الحال ، وأنه لم يكن معه أحد قبل الأنبياء كانوا في زمانه مثل نوح ولوط ، فصدق أنهم معه على دينه لأنهم قوم [٧٧ / ٣٨١] ويحتمل أن المراد بالمعينة المقارنة في الإيمان لا في الزمان ، قيل : من اتبعه وأتى بعده من الأنبياء وفوقهم معه.

قوله تعالى : (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ).

كالتأكيد لما قبله ، لأنهم إنما تبرءوا منهم لأجل عبادتهم غير الله ، فإذا تبرءوا منهم لأجل شركتهم فأحرى أن يتبرءوا من معبودهم الذي أشركوه مع الله تعالى.

قوله تعالى : (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ).

العداوة هي الانقطاع ، وتكون بين المتحابين وبين المتباغضين ، فقد تنقطع الوصلة بين المتحابين بالسفر ونحوه ، وقد تنقطع وينشأ عنها التقابل وقد لا ينشأ ، والبغضاء هي الكراهية القلبية سواء إن كانت مع المواصلة أو مع الانقطاع ، فقد تكره الشخص وأنت تواصله في الظاهر ، فإن قلت : إذا كانت البغضاء من الأمر القلبي ، فكيف وصفها بالظهور؟ فقال : وبدا بيننا وبينكم ، فالجواب : بما قال ابن التلمساني في الأمور القلبية : أنها قد تعرف بأمارات تظهر دليلا عليها كحمرة الخجل وصفوه.

قوله تعالى : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ).

مستثنى العداوة والبغضاء.

قوله تعالى : (عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا).

تقديم المجرور للتشريف ، والاعتناء للاختصاص ، لأنه مستفاد من مادة التوكل ، وقال صاحب لحن العوام من لحنهم : قولهم : توكلت عليك وعلى الله ، وإنما يقال : توكلت على الله ثم عليك ، قال شيخنا : الصواب أنه لا يطلق التوكل على المخلوق بوجه ، والإنابة هي اعتقاد التوحيد والإيمان بالقلب والتوكل متأخر عن ذلك ، لأنه إنما يكون بعد النظر في الحوادث ، وفي الأمور الدنيوية بخلاف الإنابة ، لأنها متقدمة والمعبر المرجع متأخر عن الجميع ، فهلا قدمت النيابة ووسط التوكل؟ والجواب : أن المراد بالإعانة الانتقال من مقام إلى مقام ، إن قلت : إنه من كلام إبراهيم عليه‌السلام ، وإن قلنا : أنه من كلامنا بمعنى قول (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) ، فإن قلت : المراد بالإنابة

٢١٤

التوبة من الفروع ، قلت : التوبة مذكورة في علم أصول الدين ، وليس لها في كتب الفقهاء ذكر ، وإن تكلموا في متعلقها بأن التوبة أمر اعتقادي قلبي.

قوله تعالى : (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً).

فسره ابن عطية : بمتعلقين إما بأن يغلبهم علينا ، فيكون له فتنة وسبب ضلاله ، لأنهم يتمسكون بكفرهم ، ويقولون : إنما غلبناهم لأنا على الحق وهم على الباطل أو لتسلطهم علينا فيفتنوننا فكأنه قال : لا تجعلنا مفتونين ، انتهى ، على الأول : يكون الدعاء راجع للكفار بالذات ولنا باللزوم ، وعلى الثاني : هو دعاء لنا بالذات ، ويتناول الكفار باللزوم.

قوله تعالى : (وَاغْفِرْ لَنا).

الأول : دعاء بأمر راجع للدارين ، والثاني : خاص بالآخرة ، وعقبه ب (الْعَزِيزُ) ، لأنه مناسب لذكر الفتنة.

قوله تعالى : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ).

بدل اشتمال من لكم ، وإلا لزم أن يكون يدل كل من بعض ، لأن الذين يرجون الله واليوم الآخر أعم من ضمير لكم.

قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).

وفي سورة الحديد (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) [سورة الحديد : ٢٤] ، وقرئ بإسقاط هو ، فإن قلت : الصيغ متواترة ، وقد ورد النهي عن الاختلاف في القرآن بالزيادة والنقص ، قلت : إنما ذلك حيث لم يرد ذلك اللفظ في مثل ذلك في غير الحديد سقطا وفي مثله من غيرها زائد ، فليس من ذلك المعنى وانظر ما تقدم في سورة الحديد.

قوله تعالى : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ).

الحكم على موصوف لصفة على ثلاثة أقسام : فتارة يجب في ذلك الحكم مراعاة تلك الصفة ، وتارة يستحب ، وتارة يحرم ، والآية من القسم الآخر ، لأن جعل المودة بين المؤمنين والكافرين لأجل عداوتهم حرام ، إنما المودة لأجل القرابة وكونها لأجل العداوة لا تصدر إلا من منافق.

قوله تعالى : (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي).

قال عياض في المدارك لما عرف بإسماعيل القاضي ، قال : حكى الدارقطني عنه أنه دخل عنده عبدون بن صاعد الوزير ، وكان نصرانيا ، فقام له ورحب به فرأى إنكار

٢١٥

الشهود لذلك ، قال : قد علمت إنكاركم ، وقال تعالى (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) الآية ، وهذا يقضي حوائج المسلمين ، وهو سفير بيننا وبين المعتضد ، وهذا من البر ، فسكت المعتضد عن ذلك.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

إن قلت : هلا قال : إن الله يحب البارين ، فيكون راجعا للمعطوف عليه وهو الأصل ، فالجواب : أن تعليق الحكم على الأعم أبلغ ، لأن المقسط أعم من البار ، فإن ثبت أنه محبوب فأحرى البار.

قوله تعالى : (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ).

يدل على نفي مفهوم المخالفة ، لأن هذا مفهوم ما قبله.

قوله تعالى : (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ).

عطف الصفات والواو بمعنى أو ، لأنه إذا جعل من عطف الموضوعات ، والواو على بابها يلزم عليه حذف الموصول والفاصلة ، وهو غير جائز واختلف الأصوليون في لا يفعل ، هل هي للتحريم أو للكراهة ، وكذلك ذكر الفقهاء في لفظها ، والآية حجة لمن يقول أن ذلك لا يدل على التحريم ، ولو لا ذلك لما كان لقوله (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فائدة والمراد بالظلم هنا الشرك ، لأن موالاتهم للكفار من حيث اتفاقهم بقتالهم إياهم في الدين ، دليل على ردتهم وشركهم ، ويحتمل أن تكون المولاة لا من هذه الحقيقة ، ويكون المراد بالظلم المعاصي والمخالفة في الفروع لا في الاعتقاد ، لاقتضاء الآية الحصر لاسم الإشارة والمضمر وتعريف الخبر ، فالمراد أن ليس بظالم ، فإذا جعلناه على المعاصي بالإطلاق صدق اختصاصهم بالظلم ، وإذا جعلناه على الشرك لم يصح الحصر والعطف ترق ، لأن المقاتلة أشد من الإخراج من الدار ، وعطف الأشد على الأخف في باب النهي والنفي ترق ، لأن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم.

قوله تعالى : (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ).

أي النساء المدعيات الإيمان فهن مؤمنات باعتبار الدعوى ، فاختبروا صحة دعواهم بإحلافهم على ذلك.

قوله (مُهاجِراتٍ) ، حال ، فإن قلت : الإيمان شرط في الهجرة ، فيلزم مقارنة الشرط للمشروط ، لأن الحال مقارنة لصاحبها ، قلت : هي حال مقدرة.

٢١٦

قوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ).

احتراس وإشارة إلى أن التحليف في الإمتحان ، وإنه ليس المطلوب منكم غاية الامتحان لتعلموا إلى العلم بذلك ، بل المراد مطلق الامتحان ليحصل لكم الظن القوي.

قوله تعالى : (بِإِيمانِهِنَ).

وأما العلم فخاص بالله عزوجل ، وهو منا بمعنى الظن.

قوله (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) ، إن قلت : يلزم من عدم حليتهن لهم عكسه فما سن التصريح بالعكس ، فالجواب : أنه لو لم يصرح بالعكس لفهم صدر الآية ، أنه يجري مجرى الضرورة المثالية ، أنها لا تعكس كيفها كما دلتها فتنعكس مثلا إلى الدائمة ، فتبين أنها تنعكس في الجهة ضرورية ، وكان الشيخ أبو العباس ابن إدريس يقول : يؤخذ من قوله (وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) ، أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، وإلا لم يكن لذكره بعد قوله (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ) ، فائدة لأنه يغني عنه.

قوله تعالى : (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ).

أي إذا ارتدت منكم امرأة ، وهربت إلى الكفار ، فاطلبوا من الكفار أن يدفعوا لزوجها مهرها.

قوله (وَلْيَسْئَلُوا ما) أنفقتم إذا ارتدت من الكفار امرأة إليكم ، فادفعوا أنتم لزوجها مهرها ، والأمر بسؤال الكفار من المؤمنين نفقة إذ راجعهم ظاهر ، لأنه جزاء لسببه ، وتقدم ذكره في الآية لقوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ) ، وأما أمرنا نحن بأن تطلب الكفار صفة من هربت منا إليهم ، فلم يجر له سبب ، لكنه ذكر باللزوم فحقه أن كان مؤخرا ، فيقال (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) أو (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) لكن إنما قدم لأنه أهم ، إذ هو راجع للمؤمنين في أخذهم مهر وجاءتهم ، والأخذ راجع لانتفاء الكفار لا سيما ، إن قلنا : إنهم مخاطبون بفروع الشريعة ، وهذا الأمر ليس للوجوب لأنه بلفظ السؤال ، فدل على ضعفه ، وهو للإباحة أو الندب ، فإن قلت : يؤخذ من الإباحة عدم المتابعة في الذنوب ، لأن غاية السؤالين قبض المسئول ، قلت : لا يلزم من السؤال حصول القبض هنا ، الذي هو مناف للمقاصد ، ولما عرف عياض في المدارك بأبي محمد عبد الله بن السماك قال : قال الداوودي : كان ابن السماك إذا سئل عن غيره ، هل يقول هو مؤمن عند الله أو يسكت ، فقال : يقول : هو مؤمن عند الله ، ووافقه جماعة من القرويين ، وخالفه ابن أبي زيد ، وأكثر علماء القيروان ، وقالوا : إنما يقال :

٢١٧

إن كانت سريرتك مثل علانيتك فأنت مؤمن عند الله ، ووقع بينهم بهذا مهاجر وتقاطع ، فقلنا لابن التبان : كيف تقطع على غيبه فقال : فإن كانت سريرته مثل علانيته كان كذلك يقال هو مؤمن من في حكم الله في مثل قوله (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) ، فقال لي أبو محمد : ليس هذا أراد نقلت كذلك ، يقول : وكما عرف بأبي الحسن علي بن محمد الدباغ ، قال : سئل عنها ، فقال : إذا وقفنا بين يدي [٧٧ / ٣٨٢] الله تعالى لم نسأل اهل نحن مؤمنون عنده ولا عندكم فأعيد عليه اللام ، هل تقطع كغيرك بالإيمان عند الله ، فقال : لا إلا أني أقول له : إن كان ظاهرك وباطنك واحد ، وكان ينهي عن الكلام فيها ويقول : ما لنا ولشيء إذا أصبنا فيه لم نؤجر ، وإن أخطأنا أثمنا ، ويقول لأبي حسن الزيات : ذهبنا إلى العراق وأتينا بهذه البدعة ، وهو الذي جاء بها وألقاها بالقيروان ، قوله (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) ، أتى به مستقبلا مع أن الحكم ماض ، باعتبار ظهور متعلقين.

قوله (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ) ، فإن قلت : هذا تكرار لأنه مستفاد من الأول ، فالجواب : أن هذا أمر للمؤمنين بأن يدفعوا لبعضهم مهر زوجته الذاهبة ، والأول أمر للمؤمنين بأن يدفعوا للكافرين مهر زوجته الذاهبة عنه ، أو أمر للكفار أن يدفعوا للمؤمنين مهر زوجته الذاهبة ، أي وافقوا (الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ).

قوله (الَّذِينَ آمَنُوا) ، أنتم مصدقون بوعدهم ووعيدهم والذي عليه المفسرون الآية ، أنه يدفع من الغنيمة للزوجة الذاهبة ، وزوجته للمشركين مثل ما أنفق ، وهذا التفسير إن كان إجماعا أو تفسيرا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا كلام وإلا فظاهرها أن المراد أن الذي فاتته زوجته إلى الكفار فعاتبتموهم ، أي أخذتم نساءهم فأعطوهم ما انفقوا ، ولا تكونوا [...] (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) فإن ذلك قام للمعاقب وغيره وبالجملة ، فأحكام الآية منسوخة.

قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ) ، اختلف المحدثون إذا ورد في الحديث ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل يصح للراوي أن يبدله ، قال : الشيء أو العكس على ثلاثة أقوال : الجواز ، والمنع ، وجواز تبديل النبي بالرسول دون العكس ، فإن قلت : هلا قيل : يا أيها الرسول فقد أخص ، وكل ما ثبت للأخص لا ينعكس ، قلت : تعليق الحكم على الأعم أعم من تعليقه على الأخص ، لأنه ينتج الحكم للأخص من باب أحرى ، فإذا بايعوه على الإيمان وفروعه مع استحضار كونه نبيا ، فأحرى أن يبايعوه عليه مع استحضارهم كونه رسولا من الله خلاف العكس ،

٢١٨

وقوله (الْمُؤْمِناتُ) ، إن أريد مطلق التصديق ، فيكون حقيقة ، وإن أريد التصديق لكل ما جاء به ، فيكون من تثبيته الشيء بها يؤول إليه لا ينفي أنه لا يعلم إيمانهن بذلك إلا بعد إقرارهم بعدم الاشراك والسرقة والزنا ، وقدم الإشراك لأن لفظ الأديان أكد ، ويبقى النظر بين الأموال والزنا ، فقد يقال اجتناب الزنا أكد ، بأن حفظ الأنساب أكد من حفظ ، لكن يجاب عنه بما أجابوا عن قوله في المدونة في الكتابي إذا سرق أنه يقطع ، وإن زنى لم يحد مع أن العكس كان يكون أولى ، فأجابوا : ثم إن السرقة راجعة إلى التظالم بينهم والفساد ، فيحكم بينهم فيها وفيما هو لحق أذى وحق الله ، والزنا مجرد حق الله فقط فتكلم فيه أن شرعهم ولا حتى في الزنا للآدمي ، لأن غالب الأمر في المزني بها أن تكون طائعة ، وإن كانت مكرهة فلا نسميه زنا ، وهو المراد هنا أعني الزنا طوعا وآخر قتل الأولاد عن الزنا مع أن حفظ النفوس آكد ، لأن قتل الأولاد قيل : فيهم بالنسبة إلى الزنا ، إذ غالب الأمر في الأمهات الرأفة والحنان على أولادهم ، فالعطف في الآية بدلي ، قوله (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ) ، عبر فيه بالإثم ، ولم يقل : ولا يأتين بسرقة ولا بزنا إشارة إلى السبب الذي ذكر المفسرون في ذلك من اختلاف الأولاد وجلبهم.

قوله (فِي مَعْرُوفٍ) ، إن قلت : ما أفاد مع أن أمره النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم معروف لا منكر فيه ، قلت : صدق التعميم الامتثال في أوامره كلها واجبها وندبها ، ولم يقل في معروف لأوهم أنهم لا يعصونه في الأمر الواجب ، لا سيما على ما قال الفخر ، والأكثرون مع أن لفظ العصيان خاص بمخالفة الواجب ، والقصد في الآية مدحض في عدم مخالفته في الواجب والمندوب ، وأجاب الزمخشري : على أنه تنبيه على أن مطلق الأول من منها معروف ومنها منكر ولا تكون أوامر النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم دل الدليل على أنها كلها معروف.

قوله تعالى : (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً).

وقال في أول السورة (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) [سورة الممتحنة : ١] ، والجواب : أن هذا في عموم المؤمنين بالنسبة إلى المشركين ، وتلك في قضية حاطب فيقيد في هذا النهي عن مطلق المولاة وفي تلك النهي عن اختصاصها ، لأنا إن قلنا : إنها نزلت في اليهود من جهة أنهم كانوا يوالونهم بعض موالاة فهو أتم حكما ، فلم يقع فيما أخص الموالاة ، بل أعمها ، وأما أخصها فمعلوم من المخاطب عدم الاتصاف به حيث ما شهد له النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم بحضوره بدرا أو أنه مغفور له ، فإن قلت : كيف ينهى عن مطلق الموالاة ، وقال تعالى (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ

٢١٩

قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) ، أن تبروهم ، قلت : المراد بذلك المسالمة والمشاركة لا الموالاة ، فإن قلت : المراد بالإقساط الإعطاء ، وقيل : المعروف بالنقل وقد ذكر عياض في المدارك أن القاضي إسماعيل قال لنصراني واحتج بالآية ، قلت : لا حجة في ذلك.

قوله تعالى : (غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ).

إما راجع إلى صفة الإرادة ، أي إرادة تعذيبهم أو لصفة النقل ، أي عذبهم في الدنيا بالذل والرعب والقتل بأيديهم ، لأن تعذيبهم بالآخرة لمن يكن واقعا حينئذ.

قوله تعالى : (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ).

إن أريد المشركين فهم يئسوا من جودها حقيقة ، وإن أريد اليهود فلم ييئسوا من نعيمه ، فإن قلت : كيف وهم يزعمون أن نعيمها خاص بهم؟ قلت : كفرهم عناد أو إسناد واليأس إليهم مجاز ، فإذا أريد اليهود فيكون التشبيه بالكفار حقيقة ، وإن أريد العموم فالتشبيه باعتبار اختلاف الصفة والحال ، كقولك : هذا بسرا أطيب منه رطبا ، أي يئسوا من أصحاب القبور أن يرجعوا إلى الدنيا أو ينعموا بالجنة.

٢٢٠