تفسير ابن عرفة - ج ٤

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٤

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٣٩٩

المعنى لم تنظر ، فلذلك عدى بإلى ، والنظر سبب في الرؤية ، وقد ينظر فيرى وقد لا يرى ، والآية دليل على أن النهي للتكرار ، وهو المشهور ، ولذلك ذموا على عدم الانتهاء.

قوله تعالى : (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ).

قال شيخنا : الذي يظهر أن الإثم هو تناجيهم في حالة نصرة المؤمنين وأمنهم ، والعدوان هو تناجيهم حالة خوف المؤمنين وقتالهم لكن في غيبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعصيته تناجيهم بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حالة خوف المؤمنين وقتالهم.

قوله (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) ، دليل على أن ما في النفس يسمى قولا ، إما بطريق الحقيقة ، أو بطريق الاعتزال.

قوله (لَوْ لا) ، تخصيص على معنى التهكم والاستهزاء.

قوله (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) إذا علق الذم على الوصف الأعم ، فأحرى الأخص ، لأن المصير أعم من قوله : مصيرهم.

قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، يحتمل أن يريد المؤمنين حقيقة ، أو المنافقين ، فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا في الظاهر ؛ لأن وصف الإيمان صادق عليهم مقيدا ، وإذا صدق مقيدا صدق مطلقا ، فإن قلت : لو أريد المنافقون للزم عليه التكرار ، لتقدم نهيهم في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) ، قلت : ذلك نهي عن النجوى المستلزمة للوقوع في الإثم والقبح ، وهذا أمر بالنجوى المستلزمة للبر والتقوى.

قوله تعالى : (إِذا تَناجَيْتُمْ).

أي إذا أردتم التناجي.

قوله تعالى : (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى).

إن قلت : يدل على أن النهي عن الشيء ليس بضده ، والإيمان تأكيد ، والأصل التأسيس ، قلت : إنما ذلك حيث يكون له ضد واحد ، وهنا له أضداد منها الإباحة فأفاد الأمر تعيين المراد من تلك الأضداد ، ووقع النهي عن ثلاثة أشياء والأمر بشيئين ، والواو في والمقدران بمعنى أو إذ لو كانت للجمع على حقيقتها للزم عليه أن يكونوا نهوا عن الجمع في التناجي بين الأمر ، فيبقي التناجي الملزوم لأحدهما فقط ، غير منهي عنه ، لأنها قبل النهي كانت للجمع بينهما ، فدخل النهي عليها فأفاد النذير منهما

١٨١

عن أحدهما ، فإن قلت : وقع في الحديث النهي عن التناجي مطلقا ، بقوله : " لا يتناجى اثنان دون واحد" (١) ، وظاهر الآية خصوص النهي بك ، جيء الإثم والعدوان ويجواز التناجي بغير ذلك ، قلت : معنى الحديث النهي عن التناجي الملزوم للإثم ، فإن قلت : كيف يفهم هذا الترتيب بين المعطوفات على ما فسرته في الآية لأنك جعلت معصية الرسول أخصها ، ثم العدوان ثم الإثم ، والقاعدة في النهي والنفي البداية لأخص ، والجواب : أن قصد المبالغة في الآية بذكر العدوان والمعصية مدلولا عليها بأمرين : بالمطابقة واللزوم ، والشرط ما قلناه راجع للإثم ، والتقوى راجعة للعدوان ، لأنه إذا اتقى الله لم يعتد.

قوله تعالى : (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

قال الإمام : إلا بخلقه وقدرته ، (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ، راجع لمعصية الرسول ؛ لأن اعتقاد الحشر والنشر لا يستفاد إلا من جهة الرسول ، وليس للعقل مدخل فمن صدق الرسول ، فقد اتقى ومن كذبه فقد عصى الله ورسوله.

قوله تعالى : (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

قال الإمام : إلا بخلقه وقدرته ، الزمخشري : إلا بمشيئته وإرادته ، السكوني :

اعتزل هنا ، لأنه ينفي الكلام فالمراد بالإذن ، قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٢) [سورة النحل : ٤٠] ، قال شيخنا : عندنا أن الحوادث إنما هي متوقفة على العلم والقدرة والإرادة لا على الكلام ، هذا من جهة العقل ، وأما

__________________

(١) أخرجه مسلم بن الحجاج في صحيحه حديث رقم : ٤٠٥٦ ، وأحمد بن حنبل في مسنده حديث رقم : ٥٢٦٦ ، ٥٣٤٢ ، ٦٠٨٩ ، وابن أبي شيبة في مسنده حديث رقم : ٢٣٢ ، ١٨٣ ، والحسين بن مسعود البغوي في شرح السنة حديث رقم : ٣٤١٤ ، ٣٤١٥ ، وعبد الله بن المبارك في مسنده حديث رقم : ٢٦٤ ، والترمذي في جامعه حديث رقم : ٢٧٧١ ، ومالك بن أنس في موطأ مالك برواية محمد بن الحسن الشيباني حديث رقم : ٨٥٠ ، وابن حبان في صحيحه حديث رقم : ٥٨٥ ، ٥٨٦ ، والبيهقي في شعب الإيمان حديث رقم : ١٠٦٧٢.

(٢) وردت في المخطوط قوله تعالى (إنما أمرنا لشيء إذا أردنا أن نقول له كن فيكون) ووردت في المصحف : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وقد أثبتنا ما في المصحف.

١٨٢

من جهة الشرع فيتوقف على الكلام لقوله تعالى : (نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة النحل : ٤٠] ، فإنما اعتزل الزمخشري من جهة ناحية أنه يقول إن العبد يخلق أفعاله فلذلك قال : إلا بإرادته ، ولم يقل : إلا بقدرته.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا).

الخطاب للمؤمنين أو للمنافقين ، فإن قلت : قوله تعالى : (يَفْسَحِ) ، يدل على أن الخطاب للمؤمنين ، قلت : فهو وعد على تقدير امتثالهم ذلك ، ومن المنافقين من أسلم وحسن إسلامه ، وامتثل ذلك وفعله حقيقة ، فإن قلت : يبقى من يفسح في المجلس ظاهرا ، وهو في الباطن منافق ، قلت : لا يفعله إلا المؤمن حقيقة.

قوله تعالى : (فِي الْمَجالِسِ).

صرح بالمجرور في هذا ولم يصرح به في قوله (انْشُزُوا) ، والقول يتناول لسان الحال ، فيجب على من أمكنه التفسح من الجالسين ، أن يفسح للداخل عليه ، ولم يصرح بطلب ذلك ، لكل حال يقتضي طلبه.

قوله تعالى : (فَافْسَحُوا).

يؤخذ منه أن الأمر للفور ، لأن الفاء للتعقيب ، فإن قلت : جواب الشرط في الآية يقتضي أنه غير مطابق لفعل الشرط ، لكن يفعل يقتضي تكليف الفعل ، وفعل يقتضي الإتيان به من غير كلفة ، فالجواب من وجهين :

الأول : أن تعليق الثواب على الأعم أبلغ من تعليقه على الأخص ، لأنه إذا رتب الثوب على الفعل الذي لا كلفة فيه ، أفاد ترتيب الثواب على ما فيه كلفة من باب أحرى.

الثاني : أن تفسحوا يقتضي اتساعهم فيما بينهم ، فيكون الداخل طلبوا أن يتسعوا فيما بينهم ، ولم يطلب أن يوسعوا له فيكون الأمر اقتضى أنهم إذا طلب منهم الاتساع في ما بينهم فليستحضروا في توسعهم اتساعهم لغيرهم ، لأن [...] غير متعدد فصح وجه مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أن التناجي مظنة لاجتماع في المجلس ، والازدحام فيناسب الأمر بالإفساح في المجلس.

قوله تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا).

ابن العربي : الإيمان في الدنيا نظري ، لأن الدلائل الدالة عليه نظرية ، أن لو أظهرها الله تعالى الظهور البين لصارت ضرورية ، فكأن يكون الإيمان إيجابيا ضروريا ،

١٨٣

انتهى ، هذا هو مذهب المعتزلة ، بل أظهر الدلائل كلها لجاز أن لا يؤمنوا ويدوموا على كفرهم ، وإنما الأشياء ضدها لا بها.

قوله تعالى : (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً).

الإضافة للتشريف ، أي نجواكم الشرعية اللائقة بكم ، وأخر الصدقة عن النجوى ، وإن كانت هي المقصود ، لأن المعلول متأخر عن علته ، والصدقة معللة بالنجوى ، وتنكير الصدقة تيسير رحمة ، ولذا قال عليه‌السلام لعلي ما قال ، والأمر بتقديم الصدقة دليل على المراد تقليل المناجاة ، لأن فعل ما ليس متوقفا على سبب للبشر من فعل ما هو متوقف على سبب ، كما أن البسيط أجلى من المركب وأقرب ، المناجاة دون صدقة أهون على النفوس منها مع الصدقة ، وعبر القاضي هنا : بأن عدم الصدقة للشيخ ، وهذا لا يليق بالصحابة ، بل عدم صدقتهم ، إنما هو لكونهم رأوا أن إبقاء المال ليستعينوا به في الجهاد أولى من الصدقة ، فيتركون المناجاة لأجل ذلك ، وإن قلت : إذا كان الأمر بالصدقة إشارة إلى أن المطلوب تقليل المناجاة كما تقدم ، فهلا عبر بأن دون إذا لدلالتها على أن ما دخلت عليه مطلوب عدمه ، فالجواب من وجهين :

الأول : أن المناجاة محققة لأن الصحابة [٧٥ / ٣٧٣] لمحبتهم في النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا بد لهم من مناجاته.

الثاني : الجزاء مطلوب وجوده ، وهو الصدقة ، فإذا كان الجزاء مطلوبا كان الشرط كذلك.

قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا).

والمراد وجدان المطلق كما قال علي فيمن وجد حبة من شعير : أنه واجد بخلاف من يستحق الزكاة ، لأن المطلوب فيها

وصف التفرقة ، فإذا وجد من يبلغه فهو واجد.

قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

فهل معناه : إن تركتم المناجاة لفقركم؟ أو معناه إن ناجيتم بغير صدقة لفقركم ، وهو الظاهر.

قوله تعالى : (صَدَقاتٍ).

فإن قلت : لم أفردت الصدقة ، أولا وجمعت ثانيا؟ قلت : الأول تكليف فأفردت فيه الصدقة ، إذ لو جمعت لتوهم أن المراد تقديم صدقات ، لا صدقة واحدة.

قوله تعالى : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ).

١٨٤

دليل على أن هذه الآية ناسخة للأمر بالصدقة ، وليس ينتج إلى بذل ، وهي الصلاة لأنهم كانوا مكلفين بها والمراد دوموا إقامة الصلاة.

قوله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

الآية رد على الجاحظ القائل : بأن الكذب إنما هو في العمد لقوله (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ، فإن أجاب بأنه تأكيد ، قلت : الأصل التأسيس ، وقال الشريف الحسني في شرح الآيات البينات ، لأن الخطيب لما ذكر تعريفه للخبر بأنه ما احتمل الصدق أو الكذب ، وحكى ما أورد عليه من أنه يلزم عليه الدور ، لأن الصدق والكذب لا يعرفان إلا بعد معرفة الخبر ، أجاب : بأنهما معلومان بالضرورة ، فلا دور فيه ، انتهى ، ويرد بأن الصدق والكذب أخص من الخبر ، فإذا كان الأخص معلوما بالضرورة ، كان الأعم معلوما بالضرورة ، فما يحتاج إلى تعريف الخبر بوجه.

قوله تعالى : (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

يحتج بها من يقول : أن الفاء كالواو ولا نقيد ترتيبا لتقدم صدهم على حلفهم ، وهذا إن أريد أنهم صدوا في أنفسهم ، ويجيب الآخرون : بأن المراد صدهم غيرهم ، وهذا أحد التأويلين الذين ذكر ابن عطية : أي حلفهم صدوا المسلمين عن قتالهم ، والانتصاف منهم.

قوله تعالى : (لَنْ تُغْنِيَ).

حجة الزمخشري : في أن لن أبلغ في النفي من لا ؛ لأن القصد سابق الإغناء مطلقا نفيا عاما ، فإن قلت : العموم مستفاد من قلت : الأصل بالدلالة بالوضع لا بالقرينة ، فإن قلت : لو كانت أبلغ احتيج (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ، قلت : الخلود مثبت والإغناء منفي ، فإن قلت : نفي الإغناء يستلزم الخلود ، قلت : دلالة المطابقة أولى من دلالة الالتزام ، فإن قلت : في سورة الكهف (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [سورة الكهف : ٤٦] ، فجاء المال في الإثبات وذا وجاء هنا في النفي مجموعا ، وتقرر أن الجمع أخص من الإفراد فكان المناسب العكس ، وهو استعمال الأعم في النفي والأخص في الثبوت ، فالجواب : أنه نفي لاستلزام الأخص لا نفي للأخص ، أي إذا ما أغنت عنهم أموالهم فأحرى أموالهم.

قوله تعالى : (هُمْ فِيها خالِدُونَ).

١٨٥

الضمير هنا لمطلق الربط ، كقول الزمخشري : في سورة البقرة في (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [سورة البقرة : ١٦٧] ، لأن الخلود في النار ليس خاصا بالمنافقين.

قوله تعالى : (جَمِيعاً).

احتراس ، لأنه تقرر أن الكذب فيما يبعد تواطؤ الجماعة عليه ، وكذا أكد الإخبار عن كذبهم بأن والبناء على المضمر ، وتعريف الخبر واللام في له إما للتعدية ، وإما للتعليل ، وهو أصوب لأن لام التعدية تقتضي مباشرتهم إياه للحلف ، وهو أحقر من ذلك ، فإن قلت : هي في قوله (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) ، والتورية ، وهو مشبه به ، قلت : التشبيه لا يلزم أن يكون من كل الوجوه.

قوله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ).

الزمخشري : استولى عليهم ، وهو من حاذ الحمار العانة ، إذا جمعها وثناها غالبا لها ، وهو حمار الوحش ، والعانة جماعة الأتن ، أبو حيان : قياسه استحاذ مثل استقام ، وهي قراءة أبي عمرو ، واستحوذ شأن في القياس فصح الاستعمال ، انتهى ، هذا مما روعي فيه أصله وفرعه ، لأن حرف العلة إذا تحرك وانفتح ما قبلها تقلب ألفا ، وهذا أصله استحوذ ، فنقلت حركة حرف العلة إلى الحاء ، وروعي في الحاء حركتها الآن المنقولة إليها ، وفي الواو حركتها المنقولة عنها ، الطيبي : روعي فيه ما روعي استفعل بمعنى فعل ، وجرد حرف العلة فيها متحرك ، الفخر : احتج بها القاضي عبد الجبار من المعتزلة ، على أن أعمال الخلق مخلوقة ، من وجهين :

أحدهما : أن ذلك النيسان لو حصل بخلق الله لكانت إضافته إلى الشيطان كذبا.

والثاني : أنه لو حصل بخلق لكان هؤلاء المذكورون كالمؤمنين في أنهم حزب الله ، انتهى ، وجه الاحتجاج أن المعتزلة اتفقوا على أن العبد يخلق أفعاله الراجعة إلى نفسه ، واختلفوا فيما يتعلق منها بغيره ، فمنهم من قال : بالتولد وأنه من فعل الفاعل الأول فيما يتم له الاستدلال بها إلا على القول بالتولد ، وفي الآية دليل على الترك فعل ، لأن النسيان ترك ، وقد قال قبلها (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة التوبة : ٩] ، فسمى الصادر منهم عملا إلا أن يجاب بأنهم ذموا بأمرين سواء فعلهم وبتركهم ذكر الله ، والمصدر في ذكر الله تعالى مضاف للمفعول ، ويحتمل أن يكون مضافا للفاعل والمعنى فإنساءهم استعار أن الله يذكرهم ، وأنه ليس بغافل عنهم ، ويعلم سرائرهم وخفيات أمورهم.

١٨٦

قوله تعالى : (فِي الْأَذَلِّينَ).

أخص من قولك أولئك أذلاء ، ووصف الذلة مقابل لوصف محادتهم ، فإن قلت : ظاهرها يوهم كون الشيء ظرفا لنفسه ، لأن الأذلين هم المحادون لله ، قلت : المعنى على التجوز في جملة الأذلين في العذاب.

قوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَ).

ابن عطية : أي قدر ذلك وإراده في الأزل ، الزمخشري : كتبه في اللوح المحفوظ ، انتهى ، هذا جار على مذهبه ، لأنه ينفي الإرادة في الأزل لكنه أقرب إلى ظاهر اللفظ وعلى تفسير ابن عطية يكون الكتب مجازا ، ودخلت اللام في (لَأَغْلِبَنَ) لتضمن الفعل معنى الإرادة ، وهي لا تقع جوابا إلا بعد أفعال القلوب ، فإن قلت : لم أتى هذا الفعل بهمزة المتكلم وحدة؟ وهلا كان بالنون لأنها للمتكلم ، ومعه وغيره ، أو للمعظم نفسه ، ولا أعظم من الله عزوجل ، فالجواب : أنه عدل عنها خشية إيهام الاشتراك في الغلبة لقصد التنبيه عليه باستقلال الله تعالى واختصاصه بالغلبة دون وزير ولا معين.

قوله تعالى : (قَوِيٌّ عَزِيزٌ).

القوة راجعة للقدرة ، العزة بمعنى أنه مستغن بإرادته وعلمه وممتنع عن الاحتجاج إلى غيره.

قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً).

قيل : إنها نزلت في المنافقين ، وقيل : في حاطب بن أبي بلتعة من المؤمنين ومخاطبته أهل مكة ، وحديثه في مسلم ، في كتاب فضائل الصحابة وذكره الزمخشري في أول سورة الممتحنة ، وجعله هنا من التخيل ، وقال ابن عطية : المراد يؤمنون الإيمان الكامل ، انتهى ، وتحقيقه إما إن قلنا : أنها نزلت في المنافقين فينفي وجدان الموادة حقيقة ، معناه لا تجد مؤمنا يواد من حاد الله ورسوله من حيث كونه يحادد إليها مكافأة عن يد سلفت ، أو نحو ذلك ، فحينئذ لا يكون المراد نفي الوجدان حقيقة ؛ لأن ذلك قد وجد في المؤمنين ، كحاطب ونحوه ، فيحتاج إلى أحد أمرين : إما أن يجعله تخيلا ، فالمراد نفي المراد الإيمان الكامل ، ويؤخذ من الآية عدم تزويج الكتابية ، لأن التزويج ملزوم للمودة ، لقوله تعالى : (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [سورة الروم : ٢١] ، وتقديره أن الكتابية محادة لله ورسوله ، وكل من حاد الله ورسوله لا يواد فالكتابية لا تواد ، ثم تقول الزوجة تواد ، وكل من يواد لا يكون كافرا لزوجة لا تكون

١٨٧

كافرة ، وقال مالك في التنبيه في كتاب النكاح الثاني : سماع أشهب ، وابن نافع رسم الطلاق ، وسئل عن النصراني يصنع صنيعا ، فيختن ابنا له فيدعوا في دعوته مسلمين أو مسلما ، أترى له أن يجيبه ، فقال : إن ما جاء ليس عليه في ذلك ضيق ، إن جاء فلا بأس به ، قال ابن رشد : معناه لا إثم عليه في ذلك ولا حرج إن فعله ، وذلك إن كان له وجه من جوار أو قرابة ، أو ما أشبه ذلك ، والأحسن أن لا يفعل لا سيما إذا كان ممن يقتدي به لما في ذلك من التودد إلى الكفار ، وقد قال تعالى (لا تَجِدُ قَوْماً) ، الآية وفي العتبية أيضا في النكاح الأول ، قال ابن القاسم : كره مالك الوصية إلى اليهودي والنصراني ، وكان قد أجازها قبل ذلك ، قال ابن القاسم : إذا كان على صلة رحم يكون أبوه وأخوه ، أو أخواله نصارى فيصل بذلك رحمهم وهو أحسن ، وأما لغير هذا فلا قاله عنه عيسى : وأما الأباعد ، فلا يعجبني ، نقله ابن يونس في الوصايا ، وفي النكاح الثالث من العتبية في رسم باع شاة من سماع عيسى ابن دينار ، قال ابن القاسم : لا أرى أن تجوز وصية المسلم إلى النصراني ، إلا أن يرى السلطان لذلك وجها ، فإن أجازها استخلف النصراني مسلما يزوج بنات الموصي بالمسلمات ، ابن رشد ، قوله : يرى لذلك وجها ، مثل أن يكون قريبه أو مولاه ، أو زوجته ، [٧٦ / ٣٧٤] فيزوجوا حسن نظرهم لما في الحيلة من المودة والإشفاق على ذوي الرحم ، وهو خلاف ظاهر المدونة إنه لا يجوز الوصية إلى المسخوط ، ولا إلى الذمي ، وقال أصبغ : إذا كان قريبا فلا ينزل ، ويجعل معه من عدول المسلمين من ينظر معه ، ويكون المال بيده وهو أحسن الأقوال وأولاها بالإتباع ، وإليه ذهب ابن حبيب وحكاه عن مطرف وابن الماجشون وابن شاس ، وتصح الوصية بالمال للذمي ، قال القاضي أبو الحسن القصار : ويكون للحربي عندي انتهى ، وجوز وصية المسلم للكافر بالمال عللوه بأنه مكافأة عن يد سلف ، فإن قلت : يعارضه قوله (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ) [سورة الممتحنة : ٨] الآية ، قلت : إنما المراد بذلك المسالمة وترك القتال لا المواصلة والمودة وفي جامع العتبية في رسم القضاء من سماع أشهب وابن نافع ، قيل لمالك : أترى بأسا أن يهدي المسلم لجاره النصراني مكافأة؟ فقال : ما يعجبني ذلك ، قال : قال تعالى (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) [سورة الممتحنة : ١] الآية ، ابن رشد : أي مكافأة على ما يجب عليه أن يكافئه لا مكافأة على هدية أهداها إليه ، أو لا ينبغي قبول هديته ، لأن المقصود الهدايا التودد بها لحديث : تهادوا تحابوا فإن أخطأ ، وقبل هديته ، وكانت عنده فالأحسن أن يتنبه عليها ، ولما عرف القاضي في مداركه بأبي عبد الله محمد بن عبد العزيز بن علي المعروف بابن الحصار القرطبي ، وكان من حفاظ الفقه ورواة الحديث ، قال : كان له جار من النصارى يقتضي حوائجه ، ومتى مر بدار

١٨٨

الشيخ وقف به فيهش إليه الشيخ ويدعوا له ، بأن يقول له : أبقاك الله وتولاك ، أقر الله عينك ، سرني ما يسرك ، جعل الله يومي قبل يومك ، والنصراني يفرح لذلك ، فعوتب الشيخ في ذلك ، فقال : إنما هي مقاريض علم الله نبئني فيها ، فأما قولي أبقاك الله وتولاك ، فأريد بقاؤه لعدم الجزية ، وأن يتولاه بعذابه ، وقولي أقر الله عينك ، فإني أريد قراء حركتها بشيء يقرض لها ، فلا تتحرك جفونها ، وقولي يسرني ما يسرك فالقافية تسرني وتسره ، وأتى لي الله يومي قبل يومك ، فيوم دخول الجنة قبل يوم دخوله النار ، وقول الزمخشري : نزلت فيمن يصحب السلطان غير صحيح لأن مالكا يستحب الملوك ويجلس معهم ، وذكروا في سبب نزولها أمرين :

أحدهما : يقتضي أنه ذم من واصل الكفار ، وأظهر توددهم وعليه يدل أول الآية.

والآخر : يقتضي أنها في مدح من عاداهم وعليه يدل آخر الآية ، ونزلت الآية على منع المودة بلفظ المفاعلة فتتمتع مودة المسلم لمن لم يقدر له شبه.

قوله تعالى : (وَلَوْ) كان (آباءَهُمْ)(١) أو أبناءهم هذا من باب نفي ما يتوهم ثبوته أو من باب نفي المانع ، كقولك : اكرم السائل ولو جاءك على فرس ، والعطف بدلي لا ترقي باعتبار رقة القلب على الأب أقوى منها على الابن ، أو هو ترق باعتبار أن التعاضد بالآباء أقوى منه بالأبناء ، لكثرة الأبناء وتعددهم بخلاف الأب فإنه واحد ، وكان القاضي أبو علي عمر بن عبد الربيع رحمه‌الله تعالى يقول : في الآية سؤال ، كان الفقيه أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى ابن الفؤاد اللخمي يرده ، وهو أن من حكم بحكم نفي أو إثبات ثم أخذ يذكر الموانع التي يستعيد معها وجود ذلك الحكم ، فإنه يبتدئ بالأضعف منها ثم يترقى إلى ما هو أعلى منه وأبعد ، أن يوجد معه الحكم ثم إلى ما هو أقوى في المنع من وجود ذلك الحكم ، كقولك : اكرم السائل وإن أتاك على حمار ، وإن أتاك على فرس ، وإن علمت أن له دارا ، ولا شك أن رتبة الآباء أعلى من رتبة الأخوة وأشرف ، بدليل الميراث ولأن ميل النفس إلى الابن أكثر ، بدليل جواز شهادة الأخ لأخيه ، ولا يجوز شهادة الأب لابنه ، وجاءت هذه الآية على عكس هذا لأنه سلك فيها مسلك التدلي ، وقال : كنت أنا أجبته عن هذا السؤال ، بأن الأب مفرد لا يكن فيه التعداد ، والإنسان يركن إليه فبدئ به والبنون يمكن أن يتعددوا ويكثروا

__________________

(١) وردت في المخطوط : ولو كان أبناءهم ووردت في المصحف : وَلَوْ كان آباءَهُمْ ، وقد أثبتنا ما في المصحف.

١٨٩

فيحصل هم لأبيهم كحال التفاوت والنصرة على هذا فيكون النفس إليهم أشد بهذا المعنى ، وأما الآخرة فيتناولون آخرة النسب وآخرة الإسلام ، أعني الأصحاب لأن البنين يتفرعون منه وحده والآخرة يتفرعون من أبيه وابنه ومن أبيه خاصة ومن أمه خاصة وما يتفرع من أصل [...] أقل مما يتفرع من ذلك ، والعشيرة أكثر من ذلك كله فسلك في الآية على هذا مسلك الترقي ، وانظر ما يأتي بعد هذا في سورة الممتحنة ويقرر كون العطف ترقيا من وجه آخر أيضا ، وهو أنه إذا كان الإيمان مانعا من موادة الأب الذي لا يمكن خلقه عقلا ، فليرى أن يمنع من موادة من يمكن خلقه وهو الابن ، وفي سورة عبس (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) [سورة عبس : ٣٤ ـ ٣٦] ، فقدم الأخ على الأب.

قوله (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ).

قول النقاش : كتبه في الكرسي المحفوظ ، اعتزال مع كونه سببا ، وكذلك قول الطبري : قضى لقولهم الإيمان وكله بمعنى اللام ، وكتب مشرب معنى قضى اعتزال أيضا ، بل المراد خلق في قلوبهم الإيمان ، وعبر عنه بالكتب يفيد تحقيق ذلك وثبوته ، وكلام الزمخشري هنا أوله يوهم الصواب وآخره اعتزال في قوله في تفسير (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) ، أي بلطف من عنده ، والمراد بالروح الهداية وسماها روحا لأنها بها تحصل حياة النفوس حقيقة.

قوله تعالى : (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ).

عطف المضارع على الماضي ، إما لأن هذه جملة أخرى ابتدائية ، فالمراد وهو يدخلهم ، أي والله يدخلهم أو أن يدخلهم في معنى أدخلهم بإدخالهم لا أنه أدخلهم بالفعل ، لأن بعضهم [.....] حكى شيخنا أبو الحسن محمد ابن الشيخ أبي العباس أحمد البوني عن الشيخ الصالح أبي الحسن علي بن منتصر الصدفي : أنه حكى عن الشيخ الواعظ أبا الحسن علي البوني كان ساكنا بحارة اليهود من تونس ، وكان يقضي حوائجهم ويملأ لهم الماء من عنده ويسعفهم بمرادهم ولا يكلفهم إذا ما ينوبهم في رمي الزبل الذي هنالك ، فلما مات تركوا ذلك كله ، فطلبهم أهله بالرجوع إلى عادتهم ، وقالوا لهم : إنه أوصانا عليكم فسألوهم عن موجب ذلك ، فقالوا : موجبه من نبينا صلّى الله عليه وعلى آله وسلم أوصى على الجار ، وأكد حقه فأسلموا كلهم ببركة الشيخ رحمة الله عليه.

١٩٠

سورة الحشر

الزمخشري : صالح بنو النضير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما ظهر يوم ، قالوا : أهو النبي الذي نعته في التوراة لا ترد له راية؟ فلما هزموا المسلمين يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم محمد بن سلمة الأنصاري ، فقتل كعبا غيلة ، انتهى ، أي قتله على غرة ولا يريد الغيلة الاصطلاحية ، لأنها القتل خفية لأخذ المال.

قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ).

ابن عطية : التسبيح إما بلسان الحال بمعنى أن الناظر لهذه الجمادات يسبح الله تعالى أو بمعنى أنها مفتقرة إلى الاستمدادات بالأغراض ، وهو حقيقة بلسان المقال انتهى ، فعلى هذا لا يدخل فيه المشركون ولا الدهرية ، لأنهم لا يسبحون الله ، وعلى الأول يدخلون ، وإن كانوا متصفين بضد التسبيح ، لأن حالهم يقتضي الافتقار إلى موجد أوجدهم ، وقوله حقيقة نحوه ، قال اللخمي للمازري : وهو مشكل ، لأن الموجودات إما جسم أو حيوان أو إنسان ، فالجماد مؤلف من الجسم والعرض فقط ، والحيوان يزيد عليه بالحياة ، والإنسان يزيد عليهما بالعلم ، فإذا جعل التسبيح من الجماد حقيقة يلزمه إما قيام الحياة بالجماد أو صدور الكلام من غير الحي باطل ، لأن الكلام شرطه الحياة ، وما ورد في الحديث من تسبيح الحصا وكلام الجذع ، وغير ذلك فمعجزة خارقة للعادة ، وسبح متعد بنفسه وتعديه هنا بحرف الجر شاذ ، كقوله :

فلما أن تواقفنا قليلا

أنخنا الكلاكل فارتمينا

ويحتمل أن يكون تقديره المفعول محذوفا سبح الله لله أي سبحوه لأجله ولذاته لا لشيء ، وهذا هو غاية التوحيد وانظر أبا حيان في أول سورة الحديد.

قوله تعالى : (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ).

الزمخشري : هذا أول حشرهم إلى الشام ، السهيلي في كتاب التعريف والإعلام بما وقع في القرآن مبهما من إسلام هو إنما الإعلام سبب دخول بني إسرائيل لأرض الحجاز أنهم كانوا بالشام ، وكانت العمالقة تغير عليهم المرة بعد المرة ، فبعث إليهم موسى عليه‌السلام جيشا من بني إسرائيل ، وأمرهم أن يقتلوهم ويستأصلوهم ولا يتركوا منهم صغيرا ولا كبيرا فخرجوا إليهم ، وقاتلوهم وقتلوا [٧٦ / ٣٧٥] جميعهم إلا طفلا صغيرا أن ملكهم حسن الصورة ، فإنهم استحبوا ورجعوا إلى الشام فوجدوا

١٩١

موسى عليه‌السلام قد مات ، فمنعهم أهل الشام من المقام معهم مخافة أن تلحقهم عقوبتهم بعصيانهم أمر موسى عليه‌السلام ، لأنهم على يقين من نزول العذاب بهم ، فأخرجوهم من أرضهم فرجعوا إلى أرض الحجاز فاستوطنوها انتهى ، وذكر ابن عطية هذا في سبب إجلاء اليهود من أرض الحجاز ، في قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ).

قوله تعالى : (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا).

المناسب أن يكون هذا خطابا خاصا بالمؤمنين ، ولا يدخل فيه النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، لأن ظنه صادق وإن كان لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله تعالى ، فظنه وفراسته صادقة.

قوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ).

الزمخشري : هلا قيل : وظنوا أن حصونهم مانعتهم ، فهو أخص من قوله (أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ) ، وأجاب : بأن في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط توهم بحصانتها ومنعتها إياهم انتهى ، أراد أن التقديم للاهتمام بوصف المنع ، وهذا نص في أن حصونهم مبتدأ ومانعتهم خبره ، واختار أبو حيان أن مانعتهم خبر أن وحصونهم فاعل به ، فإن قلت : هلا كان مانعتهم مبتدأ وحصونهم خبر ، فيجاب عنه بوجهين :

الأول : أن المبتدأ يكون أخص من الخبر ، ومانعتهم هنا أعم من الحصون لأنهم لم يحصروا المنع في الحصون ، بل ظنوا أنهم يتمتعون بها وبكثرة عددهم وعددهم وقوتهم ، كما أشار إليه الزمخشري.

الثاني : أن مانعتهم اسم فاعل بمعنى الحال أو الاستقبال ، فإضافته من مخصته على سبيل النزل ، والمراد من رسول الله.

قوله تعالى : (فَأَتاهُمُ اللهُ).

الزمخشري : وقرأ فأتاهم أي إعطائهم الهلاك انتهى ، وهذا تهكم منهم لا يوافق مذهب الزمخشري.

قوله تعالى : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ).

عبر بلفظ القذف لحكمة متعلقة ، ولأنه يدل على شدة الرمي والإلقاء ، وهو في مقابلة قوله تعالى : في سورة الفتح (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الفتح : ٤] ، فإن قلت : قد قال تعالى (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي

١٩٢

الْيَمِ) [سورة طه : ٣٩] ، قلت : القذف في التابوت من حيث هو مستقبح تكرهه النفوس البشرية ، وكذا قال : (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) [سورة القصص : ٧] ، بالساحل لما كان الإلقاء في الساحل من اليم محبوبا بنفوس ، وكذلك القذف في اصطلاح الفقهاء ورمي الإنسان بما يكرهه على وجه خاص ، فقوله : [.....].

قوله (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ) ، هذا من باب الاستدلال بالمسبب على السبب ، لأن حصول الرعب في قلوبهم سبب في تخريبهم بيوتهم ، وينبغي أن يكون التقدير ويخربونها بأيدي المؤمنين ، وإلا لزم استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، لأن تخريبهم بيوتهم بأيديهم حقيقة وأيدي المؤمنين مجازا على ما قلناه يلزم الإضمار ، وقد قالوا : إذا تعارض المجاز والإضمار ، فالإضمار أولى وأحرى ، أو كان المجاز مختلفا فيه ، فإن استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه مختلف فيه ، وذكر ابن عطية هنا سبب الجلاء قال : أخبر الله تعالى في الآية أنه كتب على بني إسرائيل الجلاء ، وكانت بني النضير ممن حل بالحجاز بعد موت موسى عليه‌السلام بيسير ، لأنهم كانوا من الجيش الذي رجع في أن لم يقتلوا الغلام ابن ملك العماليق لحاله وعقله ، وقد كان موسى عليه‌السلام قال : لا تسيحيوا أحدا منهم فلما رجع ذلك الجيش إلى بني إسرائيل ، وجدوا موسى نبيا ، وقال لهم بنو إسرائيل : أنتم عصاة الله لا دخلتم علينا بلادنا ، فقال أهل ذلك الجيش : ليس لنا أحسن من البلاد التي غلبنا أهلنا ، فانصرفوا إلى الحجاز فكانوا فيه فليجر عليهم الجلاء الذي أجراه ، بحيث نصر على أهل الشام ، وقد كان الله كتبه في الأزل على نبي إسرائيل جلائنا لهم ، هذا الجلاء على يد نبينا محمد صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولو لا ذلك لعذبهم في الدنيا بالسيف والقتل [...] غيرهم انتهى ، هذا الخبر في نفسه يتفق ولكنه لا ينزل على لفظ الآية لاقتضاء الآية أن بني قريظة والنضير لم يعذبوا بالسيف بل أخرجوا من بلادهم ، والخبر يقتضي أنهم قوتلوا واستؤصلوا ولم يبق منهم أحد ، فإن قلت : هؤلاء ذريتهم ، قلت : اقتضى الخبر استئصال جميعهم ، ويجاب بما ذكر ابن عطية بعد هذا من أن [.....] أهل قريظة ونفاهم إلى الشام ، ثم رجع بعضهم فيحتمل أن يكون هؤلاء هم الذين أخرجوا ولم يعذبوا بالسيف من بني النضير ، وبقايا بني النضير قريظة ، والصواب الوقف على قوله (فِي الدُّنْيا) ، خشية أن يتوهم دخول ما بعده في جواب لو لا ، فيكونوا في الآخرة غير معذبين ، واستدل الأصوليون بقوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) ، على صحة العمل بالقياس اعتبارا وكل اعتبار مأمور به ، فالقياس مأمور به إما أنه اعتبار فلان ، فالحكم الذي في الأصل معتبر في الفرع ومنقول إليه ، ولكن ينازع الخصم في الكبرى ، وهو كل اعتبار مأمور به فيمنع كليتها.

١٩٣

قوله تعالى : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ).

الزمخشري : إن بعض الصحابة قطع [...] ، وقال : تركت اللون لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وبعضهم قطع اللون غيظا للكفار ، قال : واستدلوا بها على جواز الاجتهاد بحضرة النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، وعلى أن كل مجتهد مصيب انتهى ، لا حجة فيها لأن ذلك إنما هو حيث الاجتهاد أن في شيء واحد على طرفي النقيض ، وهنا تعدد متعلق الاجتهاد واحد هما قطع الجيد ، والآخر قطع الرديء ، فمتعلق الاجتهادين مختلف ، ويحتمل أن يكون قطع الجميع جائز في نفس الأمر ، وإنما يقال : كل مجتهد مصيب أولا ، كما قال ابن التلمساني في الاجتهاد في القبلة : أنه يجوز لأحدهما الاقتداء بالآخر ، لأنها واحدة فأحدهما مخطىء وأبطله ابن العربي : بأن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، كان معهم والاجتهاد مع حضوره ، وأنه يدل على أنه صلّى الله عليه وعلى آله وسلم مجتهد فيما ينزل عليه فيه وحي ، أخذا بعموم الإذائة للكفار ودخولا في الإذن الكلي بما يقضي عليهم ويهلكهم لقوله تعالى : (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) ، فإن قلت : ما أفاد قوله على معقولها مع أن قائمة تغني عنه ، قلت : أفاد أنها باقية على حالها لم ينقص منها شيء أو قد تكون قائمة ناقصة.

قوله تعالى : (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ).

الزمخشري : أي يقطعها بإذن الله وأمره ، انتهى ، المراد بالإذن الإباحة ، وليس المراد به الوجوب ولا الندب ولا الإرادة ، أما الوجوب والندب فلأن الإذن هنا دائر بين أمرين متناقضين ، أما القطع أو الترك فترجيح فعل أحدهما يبطل فعل الآخر من أصل فرعه عن أرجحيته ، وأما الإرادة فلأن الآية نزلت ردا على اليهود ، واليهود موافقون على المعاصي موادة لله تعالى ، فيقولون هم : نعم أراد الله تعالى عصيانكم بذلك ، فعصيتموه بإذنه وإرادته فيتعين أن يراد بالإذن الإباحة ، وفي الكلام حذف أي لينصركم ويجزي الفاسقين.

قوله تعالى : (مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ).

قدم الخيل لأنها أخص إذ لا خلاف أنها نسبتهم لها ، والخلاف في الإبل هل ثبتهم لها أولا على الأخص لا يستلزم نفي الأعم ، فمعناه لم توجفوا عليه بالخيل ، ثم قال : ولم توجفوا عليه بالركاب ، وهو من باب نفي الشيء لنفي موجبه ، أي لا حظ لكم في الفيء لأنكم لم توجفوا عليه بخيل ولا ركاب.

١٩٤

قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ).

هو استدراك بين الشيء ونقيض ، أي يسلط رسله وينصرهم من غير حاجة إلى معونتكم ، فإن قلت : لم قال يسلط بلفظ المضارع ، وجمع الرسل مع أنهم قد [...] والباء في إنما هو رسول واحد ، قلت : هي حكاية حال ماضية ، فإن قلت : فلا يدخل في ذلك نبينا محمد صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، مع أن المراد الحالة ، قلت : المراد ولكن العادة الجارية في رسله ، أنه يسلطهم على من يشاء من عباده ، ويحتمل أن يكون الجمع تعظيما له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بالرسل الملائكة ، قوله (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) ، ذكر اسم الله الفيء وفي الصدقات لم يذكره ، فدل على أن يستحق الفيء أفضل ، لكونه لا يختص بالتبيين بخلاف الصدقة ، وفاء بمعنى رجع ، وأفاء أرجع ، وتقرير معنى الرجوع فيهما أن أموال الكفار مستحقة للمسلمين في الفيء فهي بأيديهم كالمتعدي فيه ، فإذا حصلت بأيدي المؤمنين فقد رجعت.

قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ).

الزمخشري : لا يصح أن يكون بدلا من مجموع قوله (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) انتهى ، لأنه يستحيل صدق صفة الفقر عليه عزوجل ، ولا يوصف بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إعظاما له ، ولأن في آخر الآية (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ، فإن قلت : لم قدم صفة الفقر على الهجرة ، مع أنهم أنما اتصفوا بالفقر بعد الهجرة ، وأما قبلها فكانوا أغنياء فالهجرة سبب في الفقر ، فهلا قدمت؟ فالجواب : أن استحقاقهم الأخذ من الغنيمة إنما هو يوصف الفقر لا بالهجرة أو بمجموع الأمرين ، ووصف الفقر أو أكدهم ، ولا يقال : أن وصف الفقر يشاركهم فيه الأنصار وأنهم إنما اختصوا عن الأنصار بالهجرة ، لأن المفسرين ذكروا أن الأنصار كلهم كانوا أغنياء إلا ما قل منهم ، وقد أعطاهم النبي صلّى الله [٧٦ / ٣٧٦] عليه وعلى آله وسلم من الغنيمة لفقرهم ، وعبر في المهاجرين بالاسم وفي الذين أخرجوا بالفعل ، لدوام الهجرة وانقطاع الإخراج ، ووصفهم بنصرة الله ورسوله احتراسا ، خشية أن يتوهم أن ذلك خاص بالأنصار.

قوله تعالى : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً).

وذكرهما تعظيما لهما ، والعطف ترق لأن الرضوان صفة معنى ، والفضل صفة فعل.

قوله تعالى : (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ).

١٩٥

المقصود بالإسناد هنا المعطوف ، فهو من باب [...] الجارية حسنها ، لأن الله تعالى غني عن نصرتهم ، وصرح باسم الجلالة تشريفا للطاعة ، وصرح باسم الجلالة تهييجا عليها.

قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).

ابن عطية : في أقوالهم وأفعالهم ، انتهى ، هذا موافق لقول ابن التلمساني : أن الصدق هو مطلق المطابقة ، لأنه مطابقة الخبر للمخبر عنه ووقع التأكيد في هذه الجملة بأمور الحصر ، وكون الموضوع اسم إشارة والفصل بالضمير ، وكون الخبر اسما وإلا على الثبوت.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ).

فسره الزمخشري بثلاثة أوجه :

إما أن المراد تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان ، وجعلوا الإيمان مستقرا ومتوطنا لهم لتمكنهم منه واستقامته عليهم ، كما جعلوا المدينة كذلك ، فيكون التبوء على هذا مجازا فهو في الدار على أصله في الإيمان معنوي فيضعف هذا من وجهين :

أحدهما : أن فيه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، أعني لفظ التبوء.

الثاني : أنه حصل ملازمتهم للإيمان كملازمة المكان لهم ، فلو أراد المكان المطلق لحسن التشبيه هنا ، إنما وقع التشبيه على مكان معين ، فلا يحسن التشبيه ، لأنه لا يلازمهم عقلا ، إذ لو أريد التبوء في مطلق مكان ، لقلنا : أنه يلزمه الإيمان عقلا ، وقيل : هو من عطف الصفات أي تبوء الدار ، ودار الإيمان لأنها دار واحدة ، وصفته أولا بكونها الدار المعهودة ، وثانيا : بأنها دار الإيمان.

قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِهِمْ).

قال الزمخشري : من قبل المهاجرين واستشعر أن يورد عليه أن إيمان المهاجرين سابق ، فأجاب : بأن المجموع ، وهو التبوء ، والإيمان سابق على إيمان المهاجرين وتبوؤهم ، فالمجموع سابق على المجموع ، وهو نحو ما أجاب به ابن التلمساني عن قول القاضي عبد الوهاب في تعريفه للقياس : هو حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما ، فأورد عليه لزوم كون حكم الأصل مثبتا بالقياس ، فيدور بأن المراد ثبوت المجموع ، ويرد على هذا الجواب هنا أن المجموع المركب إنما يتم بآخر جزء منه ، فما حصل لهم وصفا لتسليته بأول التبوء بل بآخره ، وهو بعد إيمان من آمن ، وذلك متأخر عن إيمان المهاجرين ، وجوابه : أن على كل تقدير متقدم على

١٩٦

هجرة المهاجرين وإيمانهم ، وأجاب الزمخشري والفخر بجواب آخر : وهو أن الضمير عائد على المهاجرين باعتبار وصفهم أي من هجرتهم.

قوله تعالى : (الَّذِينَ سَبَقُونا).

فيه دليل من آية السبقية ، كما قال الفقهاء في الإمامة : أنه يقدم الأقدم سنا في الإسلام ، فإن كان الأكبر أحدث إسلاما قدم الأصغر.

قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا).

لما كان من طبع الإنسان الغل والحسد ، وكان أولئك حازوا مزية السبقية والمهاجرين مظنة أن يحسدوهم في ذلك ، فتحرزوا من ذلك بعد الدعاء ، والغل : هو تألم النفس على عدم المشاركة فيما اختص به ذو رئاسة وسوية والغبطة : تألم النفس على ذلك مع عدم تمني زوال عن المختص به ، والحسد : تألمها على ذلك مع تمني زوال ذلك من المختص ، والحقد : هو طلب الفرصة في المكروهات للمحقود ، فإن قلت : لم خبر هنا بالقلب دون القدر ، وقال تعالى قبل هذا (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً) ، فعبر بالصدر ، فالجواب : أن الآية المتقدمة الثناء فيها عليهم من الله تعالى ، فناسب المبالغة فيها لمحو اقتضاء الحاجة عن القلب وعن وعائها ، وهذا دعاء منهم فاقتصروا فيه على القلوب ، لأنها هي بمحل الغل ، فإذا انتفى منها انتفى عما سواها.

قوله تعالى : (رَؤُفٌ رَحِيمٌ).

هاتان الصفتان منهما ترتبا في الذكر ، كانت الرأفة راجعة لصفة الإرادة ، والرحمة لصفة الفعل ، فالرأفة سبب في الرحمة ، وأن ذكرت الرحمة وحدها صح تأويلها ، إما برجوعها للإرادة أو للفعل.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا).

الاستفهام هنا للتقرير ، دليل على وقوع ذلك ، فلا يصح كون الرؤية علمية ، لأنه لم يكن عالما بأعيان المنافقين إلا أن يقال : أنه علم بهم من حيث الجملة ، وإلا ظهر أن الرؤية بصرية لتعديها بإلى ، أي ألم تنظر إلى الذين نافقوا وعبر عن نفاقهم بالفعل الماضي لبعد تحقيق ذلك ، فإن قلت : هل عبر بالاسم المقتضي بالثبوت والدوام ، وأما الماضي فمنقطع ، فالجواب : أن الماضي أفاد التحقيق وقوله تعالى : (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ) ، أفادوا الدوام على ذلك في الحال والاستقبال ، فأغنى عن التعبير بالاسم.

قوله تعالى : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ).

١٩٧

حذف الفاعل لبعضهم له استعمالا لذكره ولا يناسب هنا التحقيق ، لأنهم أحقر من ينسب إليهم ذلك.

قوله تعالى : (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً).

أي في عدم نصرتكم ، وإذا لم يطيعون في هدم نصرتهم ، فأحرى أن لا يطيعوا في قتالهم أبدا.

قوله تعالى : (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ).

النصرة أخص من مقاتلتهم معهم ، فأفاد المقاتلة من باب أحرى.

قوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ).

الشهادة أخص من المعلم ، لأن علم الإنسان شيئا يسمعه ويشهد عليه أقوى من علمه شيئا يسمعه ولا يشهد عليه ، فإن قلت : فيها رد على ابن قتيبة في أن عدم المطابقة في الخبر المستقبل خلف لا كذب لهؤلاء لو عدوهم بالنصرة في المستقبل ، فلم ينصروهم ، فالجواب : أن المراد بكذبهم عدم مطابقة قولهم لما يقع منهم في المستقبل ، فإن قلت : نحن جعلنا الحكم بكذبهم راجعا لمدلول لفظهم ، وأنتم جعلتوه للازم لفظهم ، فما قلناه أولى ، لأن اللفظ دال عليه بالمطابقة ، فالجواب : أنه إذا جعلتم الكذب راجعا للمدلول يلزمكم أن قوله (لَئِنْ أُخْرِجُوا) وما بعده تأكيد لأنه أفاد عين ما أفاد الأول ، وإن جعلتموه راجعا يلازم اللفظ ، كان جملة (لَئِنْ أُخْرِجُوا) تأسيسا والتأسيس أولى أن يقال : أنه لا يضرنا كونه تأكيدا ، وتكون مفسرة لمتعلق التكذيب ، بدليل إتيانها غير معطوفة لو كانت تأسيسية لعطفت بالواو التي تقتضي المغايرة (لَئِنْ أُخْرِجُوا) عبر بأن هذا محقق الوقوع ، لأنه رد على كلامهم بأن (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) الزمخشري : إن قلت : كيف (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) بعد الإخبار؟ لأنهم لا ينصرونهم وخبر الله تعالى حق لا شك فيه ، فصار وقوع النصرة محالا ، قلت : معناه (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) على الفرض والتقدير كقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [سورة الزمر : ٦٥] ، وأورد ابن عطية هنا سؤالا ، وأجاب عنه : بأن المراد ولئن حاولوا نصرتهم وعلى هذا لا يرد سؤال ، الزمخشري : لأن محاولة النصرة أمر ممكن ، وإنما المحال وقوع النصرة ، وفي الآية سؤال آخر ، وهو أن القاعدة أن جواب الشرط لا يصح أن يكون مناقضا للشرط ، فلا يقال : إن قام زيد لم يقم ، فإنه محال للزم اجتماع النقيضين ، وتولي الأدبار نقيض النصرة ، والجواب : أن الشرط يصح تركيب المحال عليه لا فرض المحال جائز ، كما

١٩٨

قال الجزري : ملزومية الشرط للجزاء لا تدل على وقوعه ولا على إمكان وقوعه ، ويجاب أيضا : بأن النصرة تكون في أول الأمر والتولي في آخره.

قوله تعالى : (لا يَفْقَهُونَ).

عبر أولا : بالفقه ، وثانيا : بالعقل ، لأنهم لما أخطأوا أولا في كيفية الاستدلال عجل عليهم بعدم الفهم ، وثانيا : لما ظنوا بقتالهم في المغزى أو من وراء الجدار أنهم لا يغلبون ، وإن ذلك العقل يهدي عجل عليهم بعدم العقل ، فأحرى أن لا يوصف بذلك كل واحد على انفراده.

قوله تعالى : (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ).

عبر بالذوق إشارة إلى أن ما نالوه من العذاب بالنسبة إلى ما بعده ذوق ، فلم ينالوا عذابا في الدنيا ، بل ذاقوا وسينالوه الآخرة لقوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١).

قوله تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ).

إن قلت : لم حذف المسند إليه هذا فلم يقل : مثلهم كمثل الشيطان ، وصرح به في سورة البقرة في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [سورة البقرة : ١٧] ، قلت : تقدم ما يدل عليه في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [سورة البقرة : ١٧] ، من قبلهم قريبا.

قوله تعالى : (قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ).

قال : هو عند يأسه من رجوعه وثبوته ، وذلك عند الاحتضار [٧٦ / ٣٧٧] وأما في الدنيا فلا يقول له ذلك خوف أن يتوب فينتفع بذلك.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ).

دليل على أن التقوى أخص من الإيمان ، وإلا لم يفد قوله (اتَّقُوا) ، لا يقال : المراد داوموا على التقوى لا بد مجاز ، والأصل حقيقة ، فإن قلت : إنما الخلاف بين المؤمن والمتقي ، لأن لفظ الاسم المقتضي بالثبوت إذا نظر بين مطلق الإيمان ، ومطلق التقوى ، لأن الإيمان هنا بلفظ الفعل ، فلا يفيد على مراتبه ، قلنا : المختلفان إذا زيد عليهما مساو فإنهما لا يزالا مختلفين.

__________________

(١) ورد في المخطوطة : ولهم عذاب عظيم ، ووردت في المصحف : وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ، وقد أثبتنا ما في المصحف.

١٩٩

قوله تعالى : (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ).

الزمخشري : تنكيرها لتعليل ، أي تعليل المصنف بذلك ، انتهى ، يرد بأن التعليل إنما يصح أن لو كانت في الخبر ، وهو هنا بسياق الاسم التكليفي ، فالمراد التكثير للعموم التكليف ، وأما الجواز أن النفس هنا أفردت ، والمراد بها العموم كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره".

قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ).

المشبه بالشيء لا يقوى قوة المشبه به ، فهي هنا من التنبيه بمن نسى الله ، فيفيد النهي عن نسيان الله من باب أحرى ، فهو من النهي عن القرب حول الحمى خشية الوقوع فيه ، ومعنى (نَسُوا اللهَ) ، أي غفلوا عن ذكره ، والنسيان الثاني إما أن يراد به العقوبة ، أي على الأول أي فعاقبهم على ذلك ، فيكون من مجاز تسمية المسبب باسم السبب أو يراد به النسيان حقيقة فزادهم نسيان إلى نسيانهم ، فيكون من العقوبة على الذنب بالذنب ، وهو أشد من الأول ، لأنه يستلزم عقوبتين : العقوبة على الذنب بذنب آخر يعاقب عليه عقوبة أخرى ، ابن عطية : قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : اعرف نفسك تعرف ربك ، ومن لم يعرف نفسه لم يعرف ربه انتهى ، يعيدك إلى علم المنطق كان مذكورا في طباعهم ، لأن مقتضى الآية أن من نسى الله نسى نفسه ، فتنعكس جزئية بعض من نسى نفسه نسى الله ، قالوا : وقد تنعكس كنفسها في بعض المراد ، رد هذه الآية ، وعكسها المستوى أي من نسى نفسه نسى الله ، فهو منه كل من عرف نفسه عرف الله والعكس نقيضها كل من لم ينس نفسه لم ينس الله فمن لم يعرف ربه مستفاد من منطوق كل من نسى الله نسى نفسه ، ومن عرف نفسه عرف ربه مستفاد من مفهوم ذلك ، وقال (بِما تَعْمَلُونَ) ، ولم يقل : بما علمه ، لأن العلم الحادث يتعلق بالحال والماضي ولا يتعلق بالمستقبل ، فإذا أفاد أنه عليم بالمستقبل ، فأحرى الحال والماضي.

قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ).

هذا تكميل للوعظ المتقدم أو لف ونشر ، فأصحاب النار راجع للذين نسوا الله ، وأصحاب الجنة للمأمورين بالتقوى ، فإن قلت : نفي التسوية لا يقتضي نفي الشركة ، فلا يلزم عنه نفي اشتراكهم في الثواب والعقاب ، قلت : الشركة في العبودية وفي التكليف لا في الثواب والعقاب ، فإن قلت : إنما المراد الشركة فيما ثبت فيه للمساواة ، قلت : السياق ينفيه واحد الشافعي رضي الله عنه من هذه الآية أن المسلم لا يقتل بالكافر ، الفخر : بأنه عام والأعم لا إشعار له بالأخص ، وأجاب عنه الأرموي : بأن

٢٠٠