تفسير ابن عرفة - ج ٤

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٤

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٣٩٩

سورة الرحمن

قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ).

قال ابن عطية : هي مكية فيما قال الجمهور ، وقال نافع ، وعطاء ، وعكرمة ، وقتادة ، وعطاء الخراساني عن ابن عباس : هي مدنية نزلت عند [...] سهيل بن عمرو ، أو غيره أن يكتب في الصلح بسم الله الرحمن الرحيم ، قال ابن عطية : الأول أصح ، وإنما نزلت حين قالت قريش بمكة (وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) [سورة الفرقان : ٦٠] ، قلت : وأظن ابن عرفة ، قال عن بعضهم : أن سؤال سهيل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، [...] : أنه أعجمي وليس عربي ، قال ابن عرفة : وهذا تردد ويقابل بضرره ، لأن سهيلا إنما ذكر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، الذي هو أفصح أكان فكلمه به هود علي بن أبي طالب دليل على أنه عربي ، فإنكار سهل له إما محض تعنت ، وإما لأنه فهم عنهما أنهما ذكراه ، وتقدمه [...] عليه ، فلذلك أنكر ما قالا ، قال ابن عرفة : وذكروا أن الرحمن من المجاز الذي ليست له حقيقة ، حسبما ذكره ابن الحاجب ، أو قال : وفي استلزام المجاز حقيقة خلاف العكس المستلزم لو لم يستلزم العربي الوضع عن الفائدة ، الثاني : لو استلزم لكان نحو قامت الحرب على ساق وشابت له الليل حقيقة ، وهو شريك الإلزام للزوم الوضع ، والحق أن المجاز للمفرد ، ولا مجاز في التركيب ، ولو قيل : لو استلزم لكان نحو الرحمن حقيقة ، ونحو عيسى كان قريبا ، ونص إمام الحرمين والأصوليون : على أنه مختص بالله تعالى لا يوصف به غيره ، ونص أبو [...] في أجوبته ، والفارسي في شرح الشاطيبة أن المختص بالله تعالى إنما هو مجموع (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [سورة الفاتحة : ١] ، قال ابن عرفة : وما شبه ذكر هذه الأشياء بغير صفة الرحمن ، وما يقولونه : من أن الوجود خير كله ، والعدم شر كله ، على أنه قد يرد عليه أن النار شر صورة ، وهي شر لا خير فيجاب عنه : بأنه إنما تضر لانعدام ضررها المعادل لها ، وهو الماء والبرد ، فالشر في انعدام ضدها لا في نفس وجودها ، فمن رحمة الله تعالى بالإنسان وإرادة الخير له أنه أوجده وعلمه القرآن ، وأتت هذه مفصولة بغير حرف عطف ، لأن كل جملة منها مستقلة بالدلالة على كمال قدرة الله تعالى وعظمته وجلاله بخلاف ما بعدها.

قوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ).

١٢١

قدمت الشمس على القمر لأنها أعظم جرما ، وضوء القمر مستمد من ضوء الشمس باعتبار العادة ، والأمر التجريبي من الكسوفات ، وغيرها لا بالطبيعة كما يقول أولئك ، وعلم الكسوفات ليس من الغيب في شيء ، قال ابن عطية : قال ابن زيد : لو لا الليل والنهار لم يدرك أحد كيف يحسب شيئا ، قال ابن عطية : يريد من مقادير الزمان ، قال ابن عرفة : فإن قلت : أهل الجنة لا ليل عندهم ولا نهار ، فكيف صحة المندبة علينا في الدنيا ، فقال : الليل عندنا نحن لأنا مكلفون بالأعمال ، وأهل الجنة ليسوا مكلفين بشيء ، ونجد الناس في الدنيا إذا كان منهمكا في شهواته ولذاته ، يذهل عن الأوقات ولا يعرف ليلا ولا نهارا ، فأهل الجنة مشغولون بلذاتهم وتنعماتهم ، لأن الدار ليست دار تكليف بوجه ، قيل لابن عرفة : هلا كانت الشمس إذا وصلت حد المغيب ترجع حين ترجع إلى حد المغيب ، فيعلم بذلك الأوقات ، فقال : هذا ممكن ومعرفة ذلك بالليل والنهار ، أمكن وأجل ، وقال الغزالي : ما في الإمكان أبدع مما كان ، يعني أن خلق هذا العالم لا يمكن أن يكون أحسن من هذه الصفة التي هي مخلوق عليها ، وسبقه لذلك عبد العزيز بن مكي في الحياة وألزموه الناس على هذا الكفر ، وأنكره ابن العربي عليه وغلطه في ذلك ، ذكره في سراج المريدين ، وأنكره عليه أيضا أهل الأندلس ، وكان ابن حمد نص حرف الإحياء لأجل ذلك.

قوله تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ).

إن قال : إن قلت : الآية المتقدمة العام على الإنسان لما يرجع لذاته ، ولما هو خارج عنه ، وهذه ليس في إنعام ولا امتنان ، وإنما هي إخبار عن كمال افتقار كل الحوادث إليه ، فأجاب ابن عرفة : بأن قيمة إيماء وتذكيرا بدلالة أخرى ، لأن من جملة النعم التي أنعم بها على الإنسان العمل ، وهو مسلوب عن النبات والجمادات ، فإذا كانت تسجد وتضع له فأحرى الإنسان.

قوله تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها).

قال ابن عرفة : قلت : ما الحكمة في رفعها مع أنه معلوم إذ لا فائدة في قول القائل : السماء فوقنا والأرض تحتنا ، فالجواب : [٧٢ / ٣٥٧] من وجهين :

الأول : أن في الآية وعظا وتكليفا ، والوعظ رفعه السماء إذ هو دليل على اتصافه بالقدرة وشدة البطش والتكليف ، فوضع الميزان وهو العدل في الأرض.

الثاني : أنه دليل على رفعها بغير عمد ، كما قال تعالى (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [سورة الرعد : ٢] ، بخلاف ما قيل ، والسماء يحتمل أن يكون الرفع لها

١٢٢

أعمدتها كما هي الكرة لذلك وكان بعضهم يقول : تضمنت الآية أمرين : اعتقادي عقلي ، وشرعي تكليفي ، قوله تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها) ، إيماء وإشارة إلى التذكير بالآيات السماوية الدالة على الوحدانية ، والإيمان بها.

قوله تعالى : (وَوَضَعَ).

راجع إلى التذكير إلى الأمور الشرعية التكليفية ، قال ابن عطية : قيل : هو الميزان حقيقة ، وقيل : المراد الأخص منه ، وهو الكيل إما بالميزان ، أو بالكيل ، وقيل : المراد الأعم ، وهو مطلق عدل.

قوله تعالى : (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ).

تاكيد المقام الوعظ والتكليف ، وتخسروا من خسر ، قال أبو حيان : وقرأ بجمهور بضم التاء من أخسر ، أي نقص ، وقرأ زيد بن علي بفتح التاء من خسر يعني أخسر كخبر واخبر ، وحكى ابن جني عن بلا فتح التاء والسين مضارع خسر بكسر السين ، وخرجها الزمخشري : على أن التقدير في الميزان محذوف الجار ونصب ، ورد بأنه قدح متعد بنفسه ، كقوله تعالى : (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) ، فلا حاجة إلى تقدير حذف الجر.

قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ).

وقال ابن عطية : الفخار الطين الطيب إذا مسه ، فجرى أي زاد وعظم ، وقال الزمخشري : في الفخار الطين المطبوخ بالنار ، وهو الحرف ، قال ابن عرفة : تفسير الزمخشري أحسن وأما تفسير ابن عطية ، فيجيء فيه كتشبيه الشيء بنفسه ، أو يلزم عليه أن تكون الطينة التي خلق منها آدم عليه‌السلام ليست طيبة الرائحة بل منتنة ، قال الفخر ابن الخطيب : إن كل إنسان مخلوق من التراب ، لأن أصله من النطفة ، والنطفة متكونة عن الغذاء ، والغذاء من النبات ، والنبات من التراب ، ورده ابن عرفة : بأن المراد أصل الخلق ، وهذه فروع عنه ، قال ابن عرفة : وسيقت الآية لبيان والاستدلال على وجود الصانع وقدرته ، وأن الإنسان يستحضر أول مرة ، وتكونه وانتقاله من عدم إلى وجود ، ومن جود إلى وجود.

قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

قال ابن عرفة : جمع الآلاء مع أنها نعمة واحدة ، وهي نعمة الإيجاد والإبراز من العدم ، قال : وأجيب بوجهين :

١٢٣

الأول : السؤال ما يرد إلا على قول من يقول : إن الموجود مشترك بين الجميع ، وليس هو غير الموجود ، وأما على القول بأن الوجود عين الموجود ، فيكون لكل واحد وجود مفرد يخصه ، فتعددت الوجودات فهي حينئذ [...] متعددة ، وهو الصحيح.

الجواب الثاني : أنه من عليه بنعمة الإيجاد ، ونعمة كيفية الإيجاد ، قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [سورة التين : ٤] ، إذا كان قائلا على أن يخلق على صورة حمار ، قال ابن عرفة : وكرر هذا اللفظ في هذه السورة لأمرين : إما لأن كل واحدة نعمة راجعة لما قبلها ، فهي تأسيس لا تأكيد ، وإما بأنها تأكيد كذا قال ابن عطية ، وقال القرافي في شرح المحصول في اللغات ، قال الشيخ عز الدين بن عبد السّلام : أجمع الأدباء على أن التأكيد ، لا يكون أكثر من ثلاث مرات ، وقال في شرح [...] اتفقوا على كذا ، ولم يقيده بالأدباء.

وقال ابن عرفة : إنما ذلك في المتواليات ، وأما حيث يقع الفصل فيحسن تكرار التأكيد خشية نسيان المخاطب ، وذهوله بالفاصل عن استحضار مدلوله التأكيد ، قال : فما ورد في سورة الرحمن ، إنما هو تأسيس لا تأكيد ، قلت : وقال ابن السيد : في سؤالته ، وأما قوله في آخر كل آية من هذه السورة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ، فاعترضه الملحدون بأن الآلاء النعم ، فكان يجب أن لا يذكر إلا بعد ما فيه نعمة مع أنها ذكرت بعد قوله تعالى : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ) ، قال : والجواب عنه : أن من أنذرك وخوفك من عاقبة ما تصير إليه فقد أنعم عليك ألا تراه ، قال تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [سورة الأنبياء : ١٠٧] ، وقد علمنا أنه [...] لمن آمن ، وقدم لمن كفر فحصل الإنذار رحمة كما جعل البشير ، وكذلك قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [سورة الرحمن : ٢٦].

وقوله تعالى : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) ، فيه إنعام على الخلق ، حين علمهم ما كانوا يجهلونه ، وحذرهم ما يمرون إليه ، وقد جعل الله التحذير مرادفة ، بقوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [سورة آل عمران : ٣٠] ، انتهى.

قوله تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ).

قال ابن عطية : قال مجاهد : ما له شراع فهو من المنشآت ، وما ليس له شراع فليس من المنشآت ، قال ابن عرفة : الشراع القلع ، وما يشبه الأعلام ، إلا إذا كانت بالقلاع ، فيظهر من بعيد كالجبل ، وحينئذ فيكون فيها كمال الاتعاظ ، وأفاد أن هذا

١٢٤

الخلق ملك الله تعالى ففيها رد على المعتزلة القائلين بأن العبد يخلق أفعاله وبالتولد ، وأن صنعة النجارة متولدة عن فعل العبد ، وفعل العبد مخلوق للعبد.

قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ).

الضمير عائد على الأرض ، واستثنى بعضهم من هذه الأرواح بأنها باقية بقاء الله عزوجل ، وعجب الذنب لما ورد في الحديث : " إنه يفنى من ابن آدم كل جسده إلا عجب ذنبه" ، والذنب وهو قدر مغرس الإبرة ، ولهذا يقف بعض الفراعنة ، قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) ، ومنها ما يبقى ، فإن قلت : لم عبر بمن وهلا عبر بما فإنها أعم لوقوعها على ما لا يعقل ، فالجواب : أنهم ما خالفوا إلا في بقاء من يعقل ، لأن الفلاسفة يقولون : إن علم الإنسان لا يفنى ، وأنه لا يزال باقيا ، فإن قلت : لم عبر بالاسم في قوله تعالى : (فانٍ) ، وبالفعل في قوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) ، والعكس أولى ، فإن البقاء وصف ثابت ، والفناء متجدد ، فالجواب : أنهم لما خالفوا في الفناء أتى بلفظ الاسم المقتضي للثبوت ، والبقاء الثابت لا يحتاج إلى التغيير فيه بالاسم ، وفيه إشارة إلى تصحيح مذهب من يقول إن العرض ما يبقى زمنين ، وأنه في كل وقت ينعدم ، ويأتي غيره ، قال ابن عرفة : المراد البقاء العقلي الذاتي ، وهو من خواص القديم ، وأما البقاء الشرعي السمعي فيكون من الحوادث كنعيم الجنة ، وعذاب أهل النار ، فإنه دائم غير منقطع ، واعتزال الزمخشري في قوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) ، فقال : ومعناه الذي محله الموجودون عن التشبيه بخلقه ، وعن أفعالهم ، والذي يقال له : ما أجلك وما أكرمك ، أو من عنده الجلال والإكرام المخلصين من عباده ، قال ابن عرفة : ونحن نقول مسنده إلى الله تعالى قبحها وحسنها ، والجميع حسن عقلا ، ولذلك قوله في الصفات.

قوله تعالى : (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).

فسره الزمخشري : بثلاثة أوجه :

الأولان : لأن فيه شبه الإضافة إلى الفاعل ، والأخير فيه شبه الإضافة إلى المفعول ، وعقبه بقوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ، لأن التشبيه على استحضار بقاء الله تعالى واتصافه بالجلال والإكرام نعمة وتفضيلا ، قيل له : وكذلك الفناء لحديث : " الدنيا سجن المؤمن ، وراحة الكافر" ، فقال : لا يحتاج إلى هذا ومناسبتها مع آخر الآية يكفي ويكون في أول الآية وعظ وتخويف ، وفي آخرها نعمة وامتنان.

قوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ).

١٢٥

وقال أبو حيان : هو استئناف ، وقيل : حال من الوجه والعامل فيه يبقي وهو بعيد ، قال ابن عرفة : لأن السؤال في الدنيا ، وحينئذ لم يكن ثم مخلوق ، بل يكونوا فنوا وماتوا كلهم ، قلت : وأجاب الفخر : بأن السؤال من الملائكة بعد فناء أهل الأرض يقولون : ماذا نفعل فيأمرهم بما يشاء ، ثم يموتون بعد ذلك ، فإن قلت : إن السؤال في الدار الآخرة ، قلنا : الآية أنما جاءت لبيان كمال الخضوع والافتقار ، والسؤال النافع إنما هو في الدنيا لا في الآخرة ، قال ابن عرفة : وجاهدا على الاصطلاح الذي قال الحوفي في الجمل : إن الطلب إن كان من الأدنى إلى الأعلى فهو سؤال ويسميه الآخرون دعاء.

قوله تعالى : (مَنْ فِي السَّماواتِ).

إن كان المراد بالسؤال بلسان الحال ، وهو الخضوع والافتقار ، فتكون من عامة في العاقل [٧٣ / ٣٥٨] وغيره ، والجمادات وغلب من يعقل ولا سيما على القول ، بأن الأعراض لا تبقي زمنين ، وكل جوهر في كل زمن مفتقر الإمداد بالعرض ، وإن كان المراد السؤال بلسان المقال ، فيكون المراد العاقل حقيقة وتبادل غير العاقل بالزوم ، لأن السؤال يستلزم الافتقار والحاجة ، وإذا كان العاقل مفتقرا محتاجا مع إمكان توهم قدرته على الضر والنفع ، فأجرى غير العاقل.

قوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ).

قال الزمخشري : يسأله أهل السماوات ما يتعلق بدينهم ، وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم ، قال ابن عرفة : هذا اعتزال ، لأن الملائكة معصومون فهم محتاجون إلى السؤال في الأمر الدنيوي ، قال ابن عرفة : ولم يزل الشيوخ يخطئون من يقول : إن إبليس كان من الملائكة ، قال قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) [سورة البقرة : ١٠٢] كانا عاملين بالسحر ، ولم يعملا به لأن الملائكة معصومون.

قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ).

قال ابن عرفة : هذا تقرر في أصول الدين أن الزمان تارة يضاف إلى خاصة ، لأن الله تعالى يستحيل عليه الزمان ، قال ابن عطية : قال النقاش : إن سبب النزول هذه الآية قول اليهود إن الله استراح يوم السبت ، فلا ينفذ فيه شيئا ، قال ابن عرفة : اليهود هم [...] ، لأن الرحمة من عوارض الأجسام ، وهذه الآية ترد على اليهود ، فإن المراد باليوم الوقت ، وإذا كان في كل وقت ، وأن دق في شأن فأحرى أن يكون في يوم السبت في

١٢٦

شأن ، قيل لابن عرفة : فقيل : أن يخلق الزمان ، فقال : الشؤون هي الحوادث ، فقيل : خلق الزمان ثم شؤون ، قال : وهذه المسألة غلط فيها الإمام فخر الدين في المحصل ، لأنه قال في الركن الثاني في تقسيم الموجودات ما نصه [...] قال المتكلمون : معنى كون الله قد [...] قدرنا أزمنة لا نهاية لها لكان الله موجودا معها بأسرها ، وما يعزر ذلك أنه لو اعتبر الزمان في ماهية الحديث وانعدم لكان ذلك الزمان إما قديما ، أو حادثا ، فإن كان قديما مع أنه ليس في زمان ، فقد صار القدم معقولا من غير اعتبار الزمان ، وإذا عقل تلك في موضع فلم يعقل في كل موضع ، فإن كان حادثا لم يعتبر في حدوثه زمان آخر لاستحالة أن يكون للزمان زمان آخر ، وإذا عقل الحدوث في نفس الزمان من غير اعتبار زمان قليل معه في سائر المواضع ، انتهى ، قال ابن عرفة : قوله لكان الله موجودا معها غلط فاحش ، ولم يقل أحد من المتكلمين ، بل قالوا : إن الله موجود قبلها ، ولو قدر قبلها زمان فالله تعالى موجود قبله ، وتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية له ، ونعوذ بالله من زلة العالم ، وقوله : إذا عقل إذ [...] في كل موضع لا نسأله ، ومن أين نأخذه ، قال ابن عرفة : والصواب أنه لا يقارن الزمان لا في الوجود ، ولا في التقدير بوجه ، وما أحسن قول الإمام المهدي في عقيدته حيث قال : لا يقال : متى كان ، ولا أين كان ، ولا كيف كان ، ولا مكان دبر الزمان ، ولا يتقيد بالزمان ، ولا يتخصص بالمكان ، قال : ولذلك غلطه الفخر في المعالم في المسألة الخامسة من الباب الأول التي أولها حكم صرح العقل ، بأن كل موجود ، إما واجب لذاته ، أو ممكن لذاته [.....] ، ابن التلمساني : هنالك في شرحه ، فقال : على أثناء كلامه ، ولما اعتقد الفخر صحة الجملة التي ذكرها ، أو استعمل نظرة المتقدمات في الاستدلال على إمكان كل ما سوى الله تعالى استشعر النقص بصفات الله تعالى ، فقال : مرة هذا مما نستخير الله فيه ، وحرم أخرى ، وصرح بكلمة لم يسبق إليها ، فقال : هي ممكنة باعتبار ذاتها واجبة بوجوب ذاته ، وهو ظاهر قول الفلاسفة : فالسر أن العالم ممكن باعتبار ذاته واجبة بوجوب مقتضية ، ونعوذ بالله من زلة العالم ، انتهى. قال ابن عرفة : وقرر في علم المنطق أن الأسرار ثلاثة كل قولك كل أعضاء الإنسان بدون ، وكلي كذلك إنسان نوع من أنواع الحيوان ، وكلية كقولك : كل إنسان شخص موجود في زمان ما ، وهذا في الآية كلية ، ولما حكى الشاشي قضية امرأة عثمان ، وأن عبد الرحمن استوثق من علي ، ومن عثمان ثم بايع عثمان ، فمد علي يده ، وهو يقول (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ).

قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ).

١٢٧

هذا الوعظ والتخويف كما يقول أحدنا لصاحبه سنترك [...] ، ونتفرغ إليك ، فهو داخل في باب الوعظ والتخويف ، والإمام قيل : لا يشغله شأن عن شأن قلبه ، إشارة إلى أنه لا يخفي عنه خافية ولا يعجزه شيء ، قيل لابن عرفة : فهو دليل على القاضي أبي بكر الباقلاني القائل : بأن بلغ مطلقا لا يبعث فقال : المشهور أنه يبعث ، فقال : المشهور أنه يبعث ، أو نقول : بأن [...] مخصوصة به وبمن ليس له ذنب ، قيل له : ما حكمه تعقبه بالآلاء ، أو النعمة فيه ، فقال : هذه غاية النعمة ، لأنك إذا زجرت مخاطبك عن فعل ، وخوفته بالعقاب عليه ، ثم قلت له : سنفرغ إليك بنفس الانتقام منك ، يكون أقمع وادعى إلى الانزجار عما هو بصدده.

قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا).

قال ابن عرفة : جعله ابن عطية نفوذا معنويا ذهنيا ، باستعمال الكفر في السماوات والأرض ليتوصل بذلك إن تحصيل المعلوم ، فتكون الآية إلى الأمر الدنيوي ، وجعله الزمخشري نفوذا حسيا باعتبار الهروب والسير والشيء فيها ، فيكون أمرا آخر ، وبإحالة إنذار من عذاب الآخرة ، قال ابن عرفة : ويكون جملة على الأمرين إن كان النفوذ للقدر المشترك بينهما ، فهو الذهاب الحسي والمعنوي ، ويصح هنا لأنه في سياق النفي ، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص ، لأن الآية في معنى نفي الاستطاعة عنهم ، وإن كان المراد بالنفوذ الأمر الأخص بكل وأجد من دينك تحسين ، فيكون لفظا مشتركا فيجيء فيه تعميم اللفظ المشترك ، لكنه في سياق النفي فهو أخف من الإثبات ، قال ابن عرفة : قيده بالاستطاعة ، ولم يقل إن قدرتم ، مع أن القدرة أعم لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ففاعل الشيء بمشقة قادر غير مستطيع ، فأما أن نفي الأخص أعم من نفي الأعم ، قيل له : يبقي القدرة مع مشقة ، فقال : يقول : أنهما متساويان ، والقدرة أخص.

قوله تعالى : (مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

قال : من لابتداء الغاية وانتهائها ، قيل : إن كان النفوذ الحسي فظاهر ، وإن أريد النفوذ المعنوي فلا مبدأ له ولا منتهى له ، لأن مبدأه من النظر في السماوات والأرض الحسية ، ومنتهاه الأمور المعنوية ، وهي من غير كرة ، فقال ابن عرفة : هي منفية من باب أحرى ، لأنهم إذا عجزوا بعدم القدرة عن النظر في الأمر الحسي فقط ، فهو شيء واحد ، فأحرى أن يعجزوا عن النظر الحسي والمعنوي (الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [سورة الإسراء : ٨٨] ، فقدم الأنس على الجن ،

١٢٨

فأجاب ابن عرفة : بتعجيز الفصاحة في الكلام والبلاغة ، وأكثر ما عهدت من الأنس وهذه تعجيز فالقدرة والقوة وأكثر ما عهد ذلك من الجن.

قوله تعالى : (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ).

أن أريد الأمر المعنوي فالسلطان حجة ، والدليل المعنوي ، وأن أريد الحسي والسلطان الملك ، والدليل الحسي.

قوله تعالى : (لا تَنْفُذُونَ).

في موضع الحال ، قيل لابن عرفة : يلزم عليه المفهوم ، فيكون مفهومه أنهم لا يعجزون عنه حالة نفوذهم ، فقال : السالبة الجزئية عندهم دائمة بالإطلاق ، يقول : لا شيء من الإنسان حمار ، قال : ووجه تعقيبها بالآلاء ، لأن العاجز عن القيام إذا بطل لنفسه ، وكونه قادرا على القعود يستحضر أنه لو كانت قدرته على القعود مستندة لنفسه أقدر على القيام ، فدل على أنه لا حكم ، وأن الله تعالى هو الذي أقدره على القعود فحمد الله تعالى على تلك النعمة ، وكذلك استحضارهم العجز والقصور عن ذلك سبب في حصول الاتعاظ لهم ، والانزجار ، وهذه فائدة عظيمة ، قيل لابن عرفة : فعلم المنجمين هل هو من هذا؟ فقال : إنما مستندهم فيه لأمور عادية تجر بعينه ، أو يقول أنه عيب فهو منفي بالآية.

قوله تعالى : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما).

قيل لابن عرفة : الضمير جمعه أولا ، فقال : أن استطعتم أن تنفذوا فأنفذوا وثناه ثانيا ، فقال : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما) ، فأجاب : بأنه أراد أولا الأشخاص ، وهي كثيرة ، وثانيا نوعي الجن والأنس ، ووجهه أن التعجيز لأشخاصهم ، وكل واحد لا يستطيع النفوذ وإرسال النار على مجموعهم لا على فرد ، لأن فيهم الصالحون والأنبياء فيكون الأول كلية ، والثاني كل ، قيل لابن عرفة : يلزمك على هذا المفهوم في الأول ، إذ لا يلزم من عجز كل فرد عن النفوذ ، فقال ابن عرفة : الكلية تستلزم الكل ، قيل له : الكلية لا تستلزم الكل ، فقال : هذا يستلزم أليس عندنا أن السالبة الكلية ناقضها الموجبة الجزئية. [٧٣ / ٣٥٩] فإذا قلت : لأي شيء من الإنسان عجز لزم أن لا يكون مجموع الإنسان حجرا ، قيل له : هذا في ذلك لقال ، وقد يقول لا شيء من بني تميم يرفع الصخرة العظيمة ، فلا يلزم الكلية الكلي ، لأن مجموعهم رفعها ، قال ابن عرفة : كون الآية من المقال الأول الذي يستلزم فيه الكلية الكل ، وأجاب بعض الطلبة : بأن القضية هذا لك في الآية كانت كلا فدخل السلب عليها فنفاها باعتبار الكلية ، والكل بخلاف قولك : الإنسان يرفع الصخرة العظيمة ، فإنه كل يدخل السلب عليه فنفى

١٢٩

الكلية ، قيل لابن عرفة : إن كان المرسل إليه لزم الإرسال المقصود به الجميع ، فكيف يكون المقصود به الجمع ، ويقع البعض قرب البعض ، فقال : إما كون من الله تعالى ومن يقصد منه إلا البعض ، أو يكون أمر الله ملكا بإرسال العذاب عليهم وقصد الملك بإرسال الجميع ، ووقع العذاب بالبعض دون البعض.

قوله تعالى : (شُواظٌ مِنْ نارٍ).

قيل : لونه أخضر ، قال ابن عرفة : ولذلك نجده في لو قيل : إذا عمله في النار يظهر تارة لوقته ، وتارة لخضره.

قوله تعالى : (وَنُحاسٌ).

قيل : هو الدخان ، قال ابن عرفة : كانوا في العهود القديمة في تونس يسمون سوق الغلالين الذي بخارج باب قرطبة سوق النحاس ، لكثرة الدخان فيه.

قوله تعالى : (فَلا تَنْتَصِرانِ).

قيل لابن عرفة : انتصر مطاوع انتصره ، فانتصر فيستلزم الطلب بنفي استلزام الطلب من الجانبين ، وهو حصول النصرة عن طلب من الجانبين فتبقى النصرة على غير طلب غير منفية ، فقال ابن عرفة : تنفى من باب أحرى.

قوله تعالى : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ).

الفاء للتعقيب ، فإن قلت : لم أفرد السماء ، وعرف القرآن جمعها ، فأجاب ابن عرفة : بأن السماوات مختلف فيها ، فمذهب أهل السنة أنها مفترقة بعضها من بعض ، وبينها نصا ، وخللا كثيرا ، ومذهب المعتزلة أنها متلاصقة مختلطة ، فلو قال : إذ شقت السماوات لتوهم انشقاقها بانفصال بعضها من بعض ، وأجاب بعض الطلبة : بأن المراد السماء المعهودة التي نحن نشاهدها ، وهي سماء الدنيا ، ورده ابن عرفة : بأن هذا إخبار عن حال الآخرة لا عن حال الدنيا ، وأجاب غيره : بأن إفرادها إشارة إلى أنه إذا كان انشقاق الواحدة منها أمرا فهو لا مفرعا ، فأحرى المجموع وشبهها بالوردة في الإنسان ، لأنه مناسب للون النار التي يقع بها العذاب حينئذ ، قال ابن عرفة : وانظر هل التشبيه راجع أولى بالوردة ، فهل المراد أنها مشبهة بالوردة ولونها ، وأنها مشبهة بالوردة المشابهة للدهان ، يحتمل الأمرين ، فإن قلت : هذا قياس على الفروع ، وهو ممنوع عندهم ، قلت : إنما ممنوع في القصة ، وأما في الأصول فهو جائز ، ويكون القياس على الفرع حتى نشر الفرع ، قيل له : هلا شبهه بالدهان من غير قياس ، ولا فائدة ،

١٣٠

إذن في تشبهها بالوردة ، فقال : شبهه بالوردة المشابهة للدهان ، ولو اقتصر على تشبهها بالوردة ، لأفاد الاحمرار فقط ، وذكر الدهان يفيد الاحمرار والرطوبة.

قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ).

التنوين عوض لها من انشقت ، أو من كونها وردة ، قيل لابن عرفة : هما متلازمان فقال : بل بينهما مختلف ، بدليل عطفهما بالفاء ، قال : ويحتمل أن يريد المجموع ، أي فيومئذ يرجع ذلك كله ، قال : وهذا نظير مسألة وردت من بجاية في مفقود ، أخذ القاضي فيه بمذهب ابن القاسم ، أنه معمر سبعين سنة ، وأثبتوا أن عمره يزيد على السبعين ، وحكم القاضي بموته فورثه ابن عم له موجود حينئذ ، ثم وجد له ابن عم آخر أقرب من الأول ، وادعى أن أباه حيا عند بلوغ المفقود سبعين ، وأنه يحجب هذا ابن العم الموجود الآن ، وأثبت ذلك بالبينة ، وطلب الاختصاص بميراث ابن عم أبيه ، فهل يرث المفقود ابن عم الموجود حين بلوغه السبعين؟ أو ابن عم الموجود حين الحكم بموتته ، والمسألة وقعت نظيرتها في كتاب العتق الأول من المدونة فيما إذا أعتق نصف عبده ، ثم فقد السيد لم يعتق باقية في ماله وأوقفت ما رق منه كأنها في ماله إلى أمد لا يجيء بمثله ، فإذا بلغ تلك المدة جعلنا ماله لورثته حينئذ ، فتكون لوارثه يومئذ إلا أن ثبت وفاته قبل ذلك ، فيكون لوارثه يوم صحة ثبوته ، وظاهرها أن ماله لابن عمه الأول ، لكن أجاب ابن عرفة : بأن ثبوته حينئذ يحتمل أن يكون عوضا من جملة جعلنا ، ويوم الحكم لا من جملة بلغ تلك المدة.

قوله تعالى : (إِنْسٌ).

قال الزمخشري : أي بعض الإنس ، أو بعض الجن ، قال : وهذا يحتمل أن يكون البعض الآخر ، يسأل ولا يسأل ، لأنه قد تفرد في علم المنطق ، أن ليس بعض قد تكون مبالغة كلية ، فيقتضي السلب الكلي ، قيل : لو أراد هذا لأخرج الآية عن ظاهرها ، ولم يقل : معناه بعض الناس ، فقال : فسره بذلك ليفيد الجواب : عن سبب نسبه الضمير في قوله تعالى : (رَبِّكُما) ، قيل له : يفيد هنا أن يقول المراد لا نسأل أحد من الإنس عن ذنبه ، فقال : كلامه محتمل للتعبيرين ، قال : وما لا ذنب له تتناول الآية ، ويكون قوله : " على لا حب لا يهتدى بمناره" قال الزمخشري في قوله (كَالدِّهانِ) ، فقال :

هو من الكلام الذي يسمى التجريد كقوله :

فلئن بقيت لأرحلنّ بغزوة

تحوي الغنائم أو يموت كريم

قال ابن عرفة : أراد أنه جزء من الوردة يعني الدهان فقط ، ومثله ابن مالك بقوله :

١٣١

[.....]

ومثلوه أيضا بقوله تعالى : (جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) [سورة الفصلت : ٢٨].

قوله تعالى : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ).

قال الفخر في مقاربة المعقول : المعرفة من باب التصورات ، والعلم من باب التصديقات ، وكذلك قال ابن الأنباري في شرح البرهان ، والقرافي في شرح المحصول ، ورد ابن عرفة : بأن القائل : عرفت زيدا حسن ، أن يقال له : صدقت أو كذبت وقد فرق المنطقيون بين التصور والتصديق فجعلوا الصدق والكذب من عوارض التصديق لا من عوارض التصور ، قيل لابن عرفة : إن ابن العربي جعل العلم والمعرفة شيئا واحدا ، ذكر ذلك في شرح الأسماء الحسنى فأنكر ابن عرفة ، وقال : خالفت فيه الناس النحويون والأصوليون ، فإنهم قالوا : لا يصح خلق المعرفة على الله تعالى لأنها توهم تقدم الجهل ، وأنه كان العلم أولا ثم عرض عنه سهوا ونسيان ، ثم في المعرفة بعد ذلك ، وعليه قال صاحب الجمل في قوله تعالى : (لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) [سورة الأنفال : ٦٠] ، لا تعرفونهم الله يعلمهم ، وهذا من حيث الإطلاق فقط ، قال ابن عرفة : ففي الآية مأخذان فرعي وأصولي ، أما الفرعي فالاكتفاء في أداء الشهادة بالصفة ، وهو أن الشاهد إذا رأى شهادته وخطه وعاين صفات المشهود عليه ، وقابلها مع ما في الوثيقة ، فعلم أنه هو الذي شهد عليه ، وأنه يؤدي شهادته ، ويقوم بها ووجه الدليل من الآية أنها اقتضت كون المعرفة بالسيماء سببا في الأخذ بالنواصي والأقدام ، قيل لابن عرفة : السيماء هنالك لا تنتابه على الملائكة ، وفي الدنيا تجد الصفات متشابهة ، وكثير من الناس تتفق صفاتهم ، فقال : بين إدراك المشابهة صفة المشهود عليه ، وبين حصول العلم له بعد إدراكها أنه هو الذي كان شهد عليه فما كلامه فيه إلا بعد حصول العلم بذلك ، وأما قبله فلا خلاف ، أنه لا يحل له ، أو لشهادته ، قال : وإنما الجواب : أن الدار ليست دار تكليف دار الدنيا ، وأما الأصولي فهو التعريف بالخاصة ، وقد ذكروا ذلك في المعرفات ، والصحيح عندهم جوازه ، ونقل ابن الحاجب وغيره عن تفسير السمرقندي منع التعريف بالمفرد ، إما الجنس وحده أو خاصة وحدها ، قال : والمتقدمون لم يكونوا يعرفون بذلك ، وإنما يعرفون بالمركب من الجنس والخاصة ، واختاره ابن الشيرازي شارح ابن الحاجب ، والكل على خلافه ، لأنهم ذكروا في المعرفات الرسم الناقص.

قوله تعالى : (هذِهِ جَهَنَّمُ).

١٣٢

أي يقال لهم : هذه جهنم فالمشار إليه حسي حاضر في الوجود ، ويحتمل أن يكون حاضرا في الذهن ، ولا يحتاج تقدير القول.

قوله تعالى : (يَطُوفُونَ بَيْنَها).

أي بين بارئها وبين حميم.

قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ).

يحتمل أن يكون كلية ، أو كل أي لكل الخائفين جنتان ، أو لكل واحد جنتان ، وهذا الجهر ووجه الأول أن يكون كليا ، وتبين اعتبار [٧٣ / ٣٦٠] النوع وإلا فالجنات أكثر من ذلك ، وعلى الثاني تكون جنتان بالشخص ، فيكون لكل واحد جنتان لا يشاركه فيهما غيره ، قال ابن عطية : فإضافة القرب فيهما معنوية ، أي تهويل ومهابة ، كقولك : عبد الخليفة وعبد الحجاج ، فالإضافة تكسب المضاف إليه ، مهابة أو تحقير ، قال ابن عرفة : واسم الرب دليل على أنه إذا خاف مع استحضاره وصف الحال ، فأحرى مع استحضاره غيره ، قال ابن عرفة : وعندي في الآية حذف تقديره ، ولمن خاف هول مقام ربه ، قال : فإن قلت : لما عبر بالفعل؟ فهلا قال : وللخائف مقام ربه ، قال قلت : هذا إدخال في باب الرجاء والطمع ، إشارة إلى حصول ذلك ، لمن اتصف بمطلق الخوف لا مبالغة.

قوله تعالى : (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ).

مع أن سمى العين لا تصدق لا على الجارية ، والماء الراكد ليس بعين ، إشارة إلى أن المراد تجريان حيث يريدون ، فذكر الفعل دليل على هذا القدر.

قوله تعالى : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ).

قال ابن عرفة : يحتمل أن يراد أن طعام أهل الجنة كله فاكهة ، ويحتمل أن يكون اكتفى يذكر الفاكهة عن ذكر الطعام والشراب المحصل للقوت ، قيل له : إن أهل الجنة ليس فيها ألم حيث يحتاج فيها إلى الطعام المحصل للقوت ، فقال : يحتمل أن يكون نفي الألم لملازمة الطعام والشراب ، كما نجد بعض الناس في الدنيا لا يذوق في عمره ألم الجوع.

قوله تعالى : (زَوْجانِ).

قال الزمخشري : ثناهما باعتبار القرابة والكثرة ، فأحدهما أكثر معهود في الدنيا ، والآخر غريب لم يكن بمعهود في الدنيا ، وإلا فقد نجد في الدنيا من كل فاكهة

١٣٣

أزواجا ، قال ابن عرفة : ويكون التنبيه للكثرة مثل (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [سورة الملك : ٣ ـ ٤] ، قيل لابن عرفة : هذه الآية تدل على أن الأفنان في قوله تعالى : (ذَواتا أَفْنانٍ) ، جمع فن ، فتكون تلك أخبرت عن الأغصان ، وهذه عن الفاكهة التي في الأغصان ، ولو كانت جمع فن للزم عليه التكرار من هذه.

قوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ).

قال ابن عرفة : الاتكاء في الفراش على المرفقة لا على الفراش ، لكن لما كانت المرفقة موضوعة على الفراش استلزمتها ، وهذه من لذات الآخرة ، وهي في الشرع في الدنيا مكروه حالة الأكل ، وقال الغزالي في الإحياء : يجوز الاتكاء في حالة التفكه ، ولا يجوز في حالة أكل كل الطعام القوت ، واحتج برواية نقلها عن علي وغيره ، وإن كانت أدلة الإحياء ورواياته فيها الصحيح ، وغيره.

قوله تعالى : (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ).

قال أبو حيان : قرئ وجنى بالإمالة ، قال ابن عرفة : وهذا الذي ذكروا أنها إمالة ، ابن عرفة : تسمع الإمالة إلا في الراء والنون.

قوله تعالى : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ).

قاصرات أطرافهن على أزوجهن ، أو قاصرات أطراف أزواجهن عليهم.

قوله تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ).

قيل لابن عرفة : ما أفاد قبلهم ، فقال : لاحتمال أن يكون صاحب المنزلة العليا اقتضها ، أعني الحور العين ، وعرض الأعلى منها ، ودفعت هي لمن دونه في المنزلة ، فأفاد هذا الاحتمال لكونه.

قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ).

قال ابن عرفة : انظر قول الله عزوجل ، (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [سورة النازعات : ٤٠ ـ ٤١] ، فإن المحكوم له هناك أخص وهي كونه من المأوى ، وأجاب بعضهم : بأن في تلك الآية تكرمة فحاصله أنه هناك يرجع إلى الكمية ، وهنا إلى الكيفية ، لكنه يرد هنا سؤال ، وهو لم حكم له هناك بالكمية ، وهو هنا بالكيفية؟

قوله تعالى : (قاصِراتُ الطَّرْفِ).

١٣٤

الظاهر عندي أنهن يقصرن أطراف أزواجهن عليهن بكمال حسنهن ، لا ما ذكره المفسرون من كونهن مقصورات على الأزواج ، ولا يلزم من قصرهن عليهم كمال حسنهن ، فإن المرأة الشوهاء قاصرة على زوجها مع انتفاء الحسن عنها ، بل المعنى أنهن يقصرن طرف أزواجهن عليهن بحسنهن ، بحيث لا يبقى للزوج تشوق إلى غيرهن.

قوله تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ).

قيل لابن عرفة : النفي الماضي تحقيقا أو تقديرا ، فما فائدة قولهم قلنا : فائدته تشريف الأزواج والاعتناء بهم أولا فوقع الإطناب بتشريفهم ثانيا.

قوله تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ).

قال ابن عرفة : قدرها بعضهم على أنها تأكيد وزيادة تنصيص في النعم ، لأنه قد تقدم (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) ، موصوفان بأنهما ذواتا أفنان ، فإن فيهما عينان وزيادة تنصيص في النعم ، لأنه قد تقدم بأن ذلك كله إحسان من الله تعالى.

قوله تعالى : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ).

قال بعضهم : لا نسلم أنه من عطف خاص على عام ، بل من باب عطف مخالفان ، فإن الفاكهة ما يتفكه به ، والنخل المعطوف المراد به الشجر لا ثمرها.

١٣٥

سورة الواقعة

[...........] ليس هذا من قولك : إذا كان هذا إنسانا فهو إنسان ، حتى يكون من تحصيل الحاصل ، بل هو من نحو قولك : إن كان هذا إنسانا فلا امتراء في إنسانيته.

قوله تعالى : (أَزْواجاً ثَلاثَةً).

قد يؤخذ منه أن أقل الجمع ثلاثة.

قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ).

أقر هؤلاء مع أنهم من أصحاب اليمين ، إما تشريفا لهم فالمراد أن أصحاب الميمنة منهم قوم جاوزوا السبقية ، فانفردوا بها عن سائرهم ، وإما إشارة إلى السابقين منهم الأولون لا تقسيم فيهم ، ومن عاداهم من الخلق يقسمون إلى أصحاب ميمنة ، وأصحاب مشأمة ، وتقديم أصحاب الميمنة على القسم السابقين باعتبار الكثرة ، إما في نفس الأمر ، أو في الخطاب ، لأن المخاطبين بالآية أصحاب الميمنة منهم أكثر من السابقين ، وتقديمهم على أصحاب المشأمة بالشرف ، وتقديم أصحاب المشأمة على السابقين بالكثرة ، كما قدموا في قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) [سورة فاطر : ٣٢] ، وقال صاحب [...] الأعمال : السابقون الأنبياء أصحاب الميمنة من دونهم من الأولياء والمقربين ، قال شيخنا : بل الظاهر أن السابقين أعم من ذلك وهم متقاربون فيما بينهم ، بدليل قوله (وَكُنْتُمْ) ، فالخطاب للجميع.

وقوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) ، قلة من الآخرين ، قيل : الثلة مطلق الجماعة ، وقيل : يشترط الكثرة ، فإن قلت : ما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ، وقليل ما هم؟ قلت : هم قليلون في أنهم بالنسبة إلى العصاة ، وإما آحادهم في أنفسهم فأولهم كثيرون بالنسبة إلى آخرهم.

قوله تعالى : (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ).

إما آخرها أو آحادها ، فهل أخبر أن واحد منها منظومة ، وكل واحد من السرر منظوم مع السرر الآخر.

قوله تعالى : (مُتَقابِلِينَ).

لكيلا أخر كل واحد منهم من الآخر إلا إلى وجهه الذي هو أحسن ما ينظر إليه.

قوله تعالى : (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ).

١٣٦

إن قلت : ما أفاد مخلدون؟ قلت : لأن صفة ولدان عارضة يسرع زوالها بصيرورتهم رجالا وشيوخا ، فأفاد ذلك وصفهم في الخلود في هذا الوصف.

قوله تعالى : (بِأَكْوابٍ).

هو أحسن الأواني ، وهو في المشرق كثير يسمونه القاضي ، والترتيب في هذه المذكورات تدلي ، لأن الأكواب فسروها الجرار ، فهي أكبر عن الأباريق ، والأباريق أكبر من الكؤوس ، قال الغزالي في آخر كتابه الإحياء : من يشتهي الولادة في الجنة يولد له ، وقال عبد الحق : في العاقبة : يمكن أن تحمل وتلد ويشتد الولد في ساعة واحدة ، ولكنهم لا يشتهون ذلك ، انتهى ، وهذا أمر توقيفي لا يصح الخوض فيه إلا بنقل صحيح.

قوله تعالى : (مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ).

إن قلت : هلا قيل : مما يختارون ، لأن تفعل يقتضي تكلف الفعل ، واختار يقتضي مجرد وقوع الفعل دون تكلف ، قلت : المراد لازم التكلف ، وهو كون الشيء المختار في أعلى درجات الحسن ، فهي دلالة التزام لا دلالة مطابقة ، وعكس الفخر ، وليس بصواب ، فإن قلت : لم خص التخيير بالفاكهة ، والشهوة بلحم الطير ، قلت : لأن ما يتفكه به يكون متنوعا متعددا ، فتناسب التخير بخلاف لحم الطير ، وأيضا فإن الفواكه قربته منهم ، فإنها في الأشجار بين أيديهم ، والطير بعيد عنهم ، والعادة أن الشيء إذا كان قريبا فإن الإنسان يسأم منه ، وعمل فيتخير فيه بخلاف ما هم بعيد ، فإنه لا يخير فيه بل يشتهيه.

قوله تعالى : (وَحُورٌ عِينٌ).

قرئ وحور عين فلعله مراعاة لعين ، وإلا فحور جمع حورا على وزن حمر ، وهو جمع على حمى.

قوله تعالى : (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ).

إن قلت : لم أتى هذا على الوجه الأضعف في التشبيه ، لأن الأبلغ فيه قولك : أسد ، ثم قولك : زيد كالأسد ، فالجواب : أنهن لا يشبهن اللؤلؤ إلا في وجه واحد ، وهو صفاؤه وإشراقه ، لا في جميع صفاته ، لأن منها كونه دقيق الحلقة ، جمادا لا يعقل ، وجمع أمثال لجمع الحور.

قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً).

١٣٧

هذا يعبر عنه البيانيون ، لأنه من باب نفي الشيء بإيجابه ، مثل" على لاحب لا يهتدى بمناره ، وأن شئت قلت في العبارة : أنه من باب نفي الشيء نفي [٧٣ / ٣٦١] لازمة ، والمعنى واحد لأن قوله لا يهتدى بمناره ، يوهم في الظاهر أن له منار ، أو كذلك قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) ، يوهم أن فيها لغوا وتأثيما غير مسموع لهم ، والمقصود أنه ليس هو فيها بالأصالة ، وفي سورة الطور (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) [سورة الطور : ٢٣] ، فلا يقال : لا يلزم من نفي السماع نفي الوقوع ، وذكر عدم السماع ، لأن ما بعده وهو سماع السّلام ، وهذا كقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) [سورة المائدة : ٩٦] ، فيقال : ما أفاد ذكر السيارة مع دخولهم في مدلول لكم؟ فيجاب : بأنه ذكر لأجل ما بعده من ذكر ، ولما كان السيارة بفرضيته الترخص والتخفيف عليهم نص عليها مع دخولهم في قوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) [سورة المائدة : ٩٦] ، واللغو أعم من التأثيم ، لأنه قد لا يكون فيه إثم فقدم عليه كما قدم في قوله تعالى : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [سورة الكهف : ٤٩] ، وقوله تعالى : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) [سورة الأنعام : ٣] ، لأفاد المساواة بين اللغو والتأثيم أو ليدل الكلام مرتين بالمطابقة والالتزام.

قوله تعالى : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ).

كررها في أول السورة وهنا ، فهو إما أجمل أولا وفصل هذا ، وذكره أولا من حيث الإجمال ، وهنا من حيث الجزء المرتب عليه ، والمراد أما من يأخذ كتابه بيمينه ، أو أصحاب اليمين محلهم عن يمين العرش ، والأول أظهر ، وقال عياض في الإكمال في كتاب الإمارة في حديث : " المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن (١) " ، قال المفسرون : أصحاب اليمين أصحاب المنزلة الرفيعة ، وقيل : يسلك بهم يمينا إلى الجنة ، وقيل : لأن الجنة عن يمين الناس ، وقيل : سموا بذلك ، لأنهم ما يبين على أنفسهم ، وبعده أصحاب الشمال ، وقيل : لأن أودعهم أول الخلق جانب آدم ، واليمين ، وبعده أصحاب الشمال ، انتهى ، والمناسب حمله على مطلق الصحة ليتناول الملازم من باب أحرى ، وذكر السدر إما لما قالوه : أن بعض الناس يتمنى أن

__________________

(١) أخرجه عبد الله بن المبارك في الزهد والرقائق حديث رقم : ١٤٦١ ، والحسين بن مسعود البغوي في شرح السنة حديث رقم : ٢٤٧٣ ، وفي معالم التتريل حديث رقم : ٣٩١ ، وابن زنجويه في الأموال حديث رقم : ١١ ، وابن حبان في صحيحه حديث رقم : ٤٥٧٥.

١٣٨

يكون له في الجنة السدر ، وإما لأنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى ، لأنه إذا كان مثل ذلك في الجنة محصلا للنعيم ، ونوعا من أنواعه فأحرى ما هو أعلى منه ومخضود ، قيل : لا شوك فيه ، وقيل : لا ثمر فيه فعلى الأول : يكون الوصف بمخضود [.....] وعلى الثاني : يكون تكميلها ، واختلف الزمخشري وابن عطية في مسمى الطلح ، فقال الزمخشري : شجر أم غيلان ، وقال ابن عطية : شجر السدر ، والصحيح الأول ، وجعل السدر طرفا لهم ، لأنه أشجار متعددة ، وهم بينها وفي حد نفيها وهي محتفة بهم.

قوله تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ).

أي لأنه تقلص فيه إذ لا شمس هنالك فكلها ظل.

قوله تعالى : (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ).

وقال قبلها (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) ، والتخيير على الكثرة ، إذ لا يتخير الإنسان إلا في الكثير ، وتلك للسابقين ، ففاكهتها كلها متخيرة ، وهذه لمن دونهم ففاكهتها كثيرة يتخيرون فيها ، والترتيب في هذه على سبيل الترتيب الوجودي ، لأنه أول ما يدخل الإنسان جنينة في الدنيا ، ينظر إلى أشجارها ثم يجلس في ظلها ، فلينظر إلى الماء الجاري تحتها ، ثم يطلب الفاكهة ليأكل منها ، ثم إذا أكل يستريح ، فيطلب الفرش لينام عليه (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) ، وهذا وأمثال (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) [سورة الحاقة : ١ ـ ٢] ، (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) [سورة القارعة : ١ ـ ٢] ، سؤال وهو أن المعلوم في أحد جزئي الجملة الابتدائية ، يكون مبتدأ والمجهول خبرا ، لأن الخبر هو الجزء المستفاد من الجملة الابتدائية ، وقد أتى أصحاب اليمين في الجملة الأولى مبتدأ ، وفي الثانية خبرا ، فإما أن يكون معلوما أو مجهولا ، وعلى كلا الأمرين فالسؤال وارد ، وأجيب : بأن معلوم من حيث التصور فصح كونه مبتدأ ، ثم أخبر به بضمنه دلالته على التهويل والتعظيم ، فإن قلت : إن ذلك إنما أتى مجموع العلة الدالة عليه وعلى إرادة الاستفهام ، وكلامنا في الإخبار به وحده عن أداة الاستفهام ، فالجواب : أن مجرد الإخبار به تعظيم لقوله : أنا أبو النجم وشعري شعري.

قوله تعالى : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ).

ابن عطية : المخضود هو قطع شوكه ، الزمخشري : هو الذي لا شوك له ، كأنه خضد شوكه أي قطع ، انتهى ، وهذا أحسن لإفادته أنه لم يخلف فيه شوك أصلا ، وبدأ

١٣٩

بالمحل ، فإن لذة الإنسان به أشد من لذته بالمأكل والمشرب ، لملازمته للمحل دون المأكل.

قوله تعالى : (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ).

بدأ بالمقطوعة لأنها أعم من الممنوعة ، لأن الممنوعة قد تكون موجودة ويمنعون منها ، والمقطوعة ليست موجودة البته ، ونفي الأعم عندهم أخص من نفي الأخص ، والقاعدة عند البيانيين في الترتيب البداية بالأخص ، ثم بالأعم ، فمقطوع أعم من ممنوع ، فنقيضه لا مقطوع أخص من نقيض لا ممنوع.

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً).

التأكيد بأن إما لأن على المخاطب تحايل الإنكار ، أو لأنه جواب عن سؤال ، وقد ذكر ابن مالك : في وجوه التأكيد كون الكلام جوابا عن سؤال مقدر ، وأنشد عليه :

بكّرا صاحبيّ قبل الهجير

إن ذاك النجاح في التبكير

وهو من قول بشار.

وعبر بالإنشاء لأنه خلق مبتدأ لم يسبق بشيء كما يقوله الأصوليون ، أن الإنشاء هو اللفظ الذي لا ثبت معناه الآية بخلاف الخبر ، فإن معناه ثابت قبل ذلك ، وكذلك أيضا الإنشاء هنا مخالف للإنشاء المتقدم ، لأنه تركيب غير قابل للعدم ، والجزم بخلق الله تعالى ، لأن العقل اقتضى ذلك كما تقول المعتزلة.

وقوله تعالى : (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) ، إن أريد الحور العين فجعل بمعنى خلق ، وإن أريد الآدميات ، فهي بمعنى ضرر ، لأن البكارة فيهن مسبوقة بالثيوبة ، والآدميات أفضل لامتيازهن عن الحور العين ، بالطاعة في الدنيا ، ونحتمل كون الحور العين أفضل ، كما يجوز أن ينعم الله العاصي ، ويعذب الطائع ، فقد يكون المفعول عندنا أفضل عند الله تعالى ، الزمخشري : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) قصدت حسي ارتفعت ، ومرفوعة على الامرأة ، وقيل : هي إلينا لأن المرأة يكني عنها بالفراش ، وعلى التفسير الأول اضمر لهن ، لأن ذكر الفراش ، وهي المضاجع دل عليهن ، الطيبي : يحتمل أن يريد إضمار لفظة لهن ، أي أنشأنا لهن ، ويحتمل أن يكون الضمير في أنشاناهن عائدا على النشأ لدلالة الفراش عليهن ، لملازمتهن للفراش ، انتهى ، هذا أنسب لما قاله المفسرون.

قوله تعالى : (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ).

١٤٠