ويستحقها الأجير بالعقد ،
______________________________________________________
أما انصراف الأجرة مع عدم التعيين إلى أجرة المثل فواضح ، لأن الواجب العمل بالوصية مع الاحتياط للوارث ، فيكون ما جرت به العادة كالمنطوق به ، وهو المراد من أجرة المثل.
ولو وجد من يأخذ أقل من أجرة المثل اتفاقا وجب الاقتصار عليه ، احتياطا للوارث.
وأما خروج الواجب وهو حج الإسلام من الأصل والمندوب من الثلث فيدل عليه صريحا ما رواه الشيخ في الصحيح ، عن معاوية بن عمار ، عن أبي عبد الله عليهالسلام إنه سئل عن رجل مات فأوصى أن يحجّ عنه ، قال : « إن كان صرورة فمن جميع المال ، وإن كان تطوعا فمن ثلثه » (١).
وقد بيّنّا فيما سبق (٢) أن الواجب الحج من الميقات ، إلاّ مع إرادة خلافه ، ويعلم باللفظ الدال عليه أو القرائن المفيدة له. وفي خروج الحج المنذور من الأصل أو الثلث قولان سيأتي الكلام فيهما.
قوله : ( ويستحقها الأجير بالعقد ).
أي : يملكها ، ولا ريب في تحقق الملك بالعقد ، لأن ذلك مقتضى صحة المعاوضة ، فلو كانت عينا فزادت بعد العقد أو نمت فهما للأجير ، لكن لا يجب تسليمها إلاّ بعد العمل ، كما في مطلق الإجارة ، وعلى هذا فليس للوصي التسليم قبله ، ولو سلّم كان ضامنا ، إلاّ مع الإذن من الموصى المستفادة من اللفظ ، أو اطراد العادة ، لأن ما جرت به العادة يكون كالمنطوق به.
ولو توقف عمل الأجير على دفع الأجرة إليه ولم يدفعها الوصي فقد استقرب الشهيد في الدروس جواز فسخه ، للضرر اللازم من اشتغال ذمته بما
__________________
(١) التهذيب ٥ : ٤٠٤ ـ ١٤٠٩ ، الوسائل ٨ : ٤٦ أبواب وجوب الحج ب ٢٥ ح ١.
(٢) راجع ص ٨٤.
فإن خالف ما شرط ، قيل : كان له أجرة المثل ، والوجه أن لا أجرة.
الثانية : من أوصى أن يحجّ عنه ولم يعين المرّات ، فإن لم يعلم منه
______________________________________________________
استؤجر عليه مع عدم تمكنه منه (١). ويحتمل عدمه فينتظر وقت الإمكان ، لأن التسلط على فسخ العقد اللازم يتوقف على الدليل ، ومثل هذا الضرر لم يثبت كونه مسوّغا ، نعم لو علم عدم التمكن مطلقا تعين القول بجواز الفسخ.
قوله : ( فإن خالف ما شرط قيل : كان له أجرة المثل ، والوجه أن لا أجرة ).
القول بثبوت أجرة المثل مع المخالفة حكاه في المنتهى (٢) عن الشيخ ـ رحمهالله ـ وهو بعيد جدا ، بل الظاهر أنه ـ رحمهالله ـ لا يقول بثبوتها في جميع الموارد ، فإن من استؤجر على الحج فاعتمر أو على الاعتمار فحجّ لا يعقل استحقاقه بما فعله أجرة ، لأنه متبرع محض ، وإنما يتخيل ثبوتها مع المخالفة في وصف من أوصاف العمل الذي تعلقت به الإجارة ، كما إذا استأجره على الحج ماشيا فركب ، أو على الإحرام من ميقات معين فأحرم من غيره ، مع أن المتجه مع صحة الفعل استحقاقه من الأجرة بنسبة ما عمل إلى المسمّى لا أجرة المثل ، إلاّ أن ما استحق به الأجرة على هذا التقدير لم تتحقق به المخالفة ، وكيف كان فالأجود ما أطلقه المصنف من سقوط الأجرة مع المخالفة.
ثم إن كانت الإجارة فورية وقلنا باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص كان الفعل المأتي به المضادّ للمستأجر عليه فاسدا ، لتوجه النهي إليه ، وإلاّ كان صحيحا ووقع عن المنوب عنه ، ولا تثبت به أجرة.
قوله : ( الثانية ، من أوصى أن يحجّ عنه ولم يعيّن المرّات ، فإن
__________________
(١) الدروس : ٨٩.
(٢) المنتهى ٢ : ٨٧٤.
إرادة التكرار اقتصر على المرّة. وإن علم إرادة التكرار حجّ عنه حتى يستوفي الثلث من تركته.
الثالثة : إذا أوصى أن يحجّ [ عنه ] كل سنة بقدر معين فقصر جمع نصيب سنتين واستؤجر به لسنة. وكذا لو قصر ذلك أضيف إليه من نصيب الثالثة.
______________________________________________________
لم يعلم منه إرادة التكرار اقتصر على المرّة ، وإن علم إرادة التكرار حج عنه حتى يستوفي الثلث من تركته ).
أما وجوب الاقتصار على المرة إذا لم يعلم منه إرادة التكرار فظاهر ، لتحقق الامتثال بذلك. وأما وجوب الحج عنه إلى أن يستوفي الثلث إذا علم منه إرادة التكرار فلأن الوصية لا تنفذ إلاّ في الثلث إذا لم يجز الوارث ، ويؤيده رواية محمد بن الحسين بن أبي خالد ، قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن رجل أوصى أن يحج عنه مبهما فقال : « يحج عنه ما بقي من ثلثه شيء » (١).
ولا يخفى أن ذلك إنما يتمّ إذا علم منه إرادة التكرار على هذا الوجه ، وإلا اكتفي بالمرتين ، لتحقق التكرار بذلك ، كما تكفي المرّة مع الإطلاق.
ولو كان في الحج الموصى به حجّ الإسلام لم يحتسب من الثلث بل يخرج من الأصل أوّلا ثم يكرر الحج بقدر الثلث.
قوله : ( الثالثة ، إذا أوصى أن يحجّ عنه كل سنة بقدر معيّن فقصر جمع نصيب سنتين واستؤجر به لسنة ، وكذا لو قصر ذلك أضيف إليه من نصيب الثالثة ).
المراد أنه إذا أوصى أن يحج عنه سنين متعددة وعيّن لكل سنة قدرا
__________________
(١) التهذيب ٥ : ٤٠٨ ـ ١٤٢٠ ، الإستبصار ٢ : ٣١٩ ـ ١١٢٩ ، الوسائل ٨ : ١٢٠ أبواب النيابة في الحج ب ٤ ح ٢.
______________________________________________________
معينا إمّا مفصّلا كمائة أو مجملا كغلّة بستان فقصر عن أجرة الحج جمع ممّا زاد على السنة ما يكمل به أجرة المثل لسنة ثم يضمّ الزائد إلى ما بعده وهكذا.
وهذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب ، واستدلوا عليه بأن القدر المعيّن قد انتقل بالوصية عن ملك الورثة ووجب صرفه فيما عيّنه الموصى بقدر الإمكان ، ولا طريق إلى إخراجه إلاّ بجمعه على هذا الوجه فيتعين ، وبما رواه الكليني ـ رحمهالله ـ عن إبراهيم بن مهزيار قال : كتبت إلى أبي محمد عليهالسلام : أن مولاك عليّ بن مهزيار أوصى أن يحج عنه من ضيعة صيّر ربعها لك في كل سنة حجة بعشرين دينارا ، وأنه منذ انقطع طريق البصرة تضاعفت المؤمن على الناس فليس يكتفون بعشرين دينارا ، وكذلك أوصى عدة من مواليك في حجّهم ، فكتب عليهالسلام : « تجعل ثلاث حجج حجتين إن شاء الله » (١).
وعن إبراهيم قال : كتب إليه عليّ بن محمد الحصيني : أن ابن عمّي أوصى أن يحجّ عنه بخمسة عشر دينارا في كل سنة ، فليس يكفي ، فما تأمرني في ذلك؟ فكتب عليهالسلام : « تجعل حجتين حجة ، إن الله تعالى عالم بذلك » (٢).
وفي الروايتين ضعف من حيث السند (٣) ، أما الوجه الأول فلا بأس به وإن أمكن المناقشة فيه بأن انتقال القدر المعين بالوصية إنما يتحقق مع إمكان صرفه فيها ، ولهذا وقع الخلاف في أنه إذا قصر المال الموصى به عن الحج هل يصرف في وجوه البرّ أو يعود ميراثا فيمكن إجراء مثل ذلك هنا ، لتعذر صرف القدر الموصى به في الوصية ، والمسألة محل تردد وإن كان المصير
__________________
(١) الكافي ٤ : ٣١٠ ـ ١ ، الوسائل ٨ : ١١٩ أبواب النيابة في الحج ب ٣ ح ٢.
(٢) الكافي ٤ : ٣١٠ ـ ٢ ، الفقيه ٢ : ٢٧٢ ـ ١٣٢٧ ، التهذيب ٥ : ٤٠٨ ـ ١٤١٨ ، الوسائل ٨ : ١١٩ أبواب النيابة في الحج ب ٣ ح ١.
(٣) الظاهر أن وجه الضعف هو الإرسال فيهما.
الرابعة : لو كان عند إنسان وديعة ومات صاحبها وعليه حجة الإسلام وعرف أن الورثة لا يؤدّون جاز أن يقتطع قدر أجرة الحج فيستأجر به ، لأنه خارج عن ملك الورثة.
______________________________________________________
إلى ما ذكره الأصحاب لا يخلو من قرب. والقول في اعتبار الحج من البلد أو من الميقات كما مرّ (١).
قوله : ( الرابعة ، لو كان عند إنسان وديعة ومات صاحبها وعليه حجة الإسلام وعلم أن الورثة لا يؤدّون جاز أن يقتطع قدر أجرة الحج فيستأجر به ، لأنه خارج عن ملك الورثة ).
الأصل في هذه المسألة ما رواه الشيخ وابن بابويه في الصحيح ، عن بريد العجلي ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن رجل استودعني مالا فهلك وليس لوارثه شيء ولم يحج حجة الإسلام قال : « حجّ عنه وما فضل فأعطهم » (٢).
واعتبر المصنف وغيره (٣) في جواز الإخراج علم المستودع أن الورثة لا يؤدّون وإلاّ وجب استئذانهم ، وهو جيد ، لأن مقدار أجرة الحج وإن كان خارجا عن ملك الورثة إلاّ أن الوارث مخيّر في جهات القضاء ، وله الحج بنفسه والاستقلال بالتركة والاستئجار بدون أجرة المثل ، فيقتصر في منعه من التركة على موضع الوفاق.
واعتبر في التذكرة مع ذلك أمن الضرر ، فلو خاف على نفسه أو ماله لم يجز له ذلك. وهو حسن ، واعتبر أيضا عدم التمكن من الحاكم وإثبات الحق عنده وإلاّ وجب استئذانه (٤).
__________________
(١) راجع ص ٨٤.
(٢) الفقيه ٢ : ٢٧٢ ـ ١٣٢٨ ، التهذيب ٥ : ٤١٦ ـ ١٤٤٨ ، الوسائل ٨ : ١٢٨ أبواب النيابة في الحج ب ١٣ ح ١.
(٣) كالعلاّمة في القواعد ١ : ٧٨.
(٤) التذكرة ١ : ٣٠٨.
______________________________________________________
وحكى الشهيد في اللمعة قولا باعتبار إذن الحاكم في ذلك مطلقا واستبعده (١). وذكر الشارح أن وجه البعد إطلاق النص الوارد بذلك (٢). وهو غير جيد ، فإن الرواية إنما تضمنت أمر الصادق عليهالسلام لبريد بالحج عمن له عنده الوديعة وهو إذن وزيادة ، ولا ريب أن استئذان الحاكم مع إمكانه أولى ، أما مع التعذر فلا يبعد سقوطه حذرا من تعطيل الحق الذي يعلم من بيده المال ثبوته.
ومورد الرواية الوديعة ، وألحق بها غيرها من الحقوق المالية حتى الغصب والدين (٣). ويقوى اعتبار استئذان الحاكم في الدين ، فإنه إنما يتعين بقبض المالك (٤) أو ما في معناه.
ومقتضى الرواية أن المستودع يحج ، لكن جواز الاستيجار ربما كان أولى خصوصا إذا كان الأجير أنسب لذلك من الودعي.
وصرّح الشارح بأن إخراج الحج واجب على المستودع ، لظاهر الأمر فلو دفعه إلى الوارث اختيارا ضمن إن لم يتفق منه الأداء (٥). وهو حسن.
وهل يتعدى الحاكم إلى غير حجة الإسلام من الحقوق المالية كالدين والزكاة والخمس؟ قيل : نعم ، لاشتراك الجميع في المعنى المجوز (٦). وقيل : لا ، قصرا للرواية المخالفة للأصل على موردها (٧). والجواز بشرط العلم بامتناع الوارث من الأداء في الجميع حسن إن شاء الله تعالى.
__________________
(١) اللمعة الدمشقية : ٦٦.
(٢) المسالك ١ : ٩٩.
(٣) المسالك ١ : ٩٩.
(٤) في « ض » : المال.
(٥) المسالك ١ : ٩٩.
(٦) كما في المسالك ١ : ٩٩.
(٧) كما في جامع المقاصد ١ : ١٦١.
الخامسة : إذا عقد الإحرام عن المستأجر عنه ، ثم نقل النيّة إلى نفسه لم يصحّ. فإذا أكمل الحجة وقعت عن المستأجر عنه ، ويستحق الأجرة. ويظهر لي أنها لا تجزي عن أحدهما.
______________________________________________________
تفريع : لو تعدد من عنده الوديعة وعلموا بالحق جاز لكل منهم الإخراج على الوجه المتقدم ، بل وجب كفاية. ولو توازعوا الأجرة جاز. ولو لم يعلم بعضهم الحق تعيّن على العالم. ولو حجوا جميعا مع علم بعضهم ببعض صحّ السابق خاصة وضمن اللاحق ، فإن أحرموا دفعة وقع الجميع عن المنوب عنه ، قيل (١) ويسقط من وديعة كل واحد ما يخصه من الأجرة الموزعة ويغرم الباقي (٢). ولو انتفى العلم فلا ضمان مع الاجتهاد ، ولو حصل العلم بعد الإحرام تحللوا ما عدا واحد بالقرعة.
قوله : ( الخامسة ، إذا عقد الإحرام عن المستأجر عنه ثم نقل النية إلى نفسه لم يصح ، فإذا أكمل الحجة وقعت عن المستأجر عنه ويستحق الأجرة ، ويظهر لي أنها لا تجزي عن أحدهما ).
أما عدم جواز نقل النية إلى نفسه فقال الشهيد في الشرح : إنه لا نزاع فيه ، لأن الإحرام قد انعقد عن المستأجر فلا يزول إلاّ بمحلّل.
والأصح ما اختاره المصنف من عدم إجزاء الحج مع النقل عن أحدهما ، أما عن النائب فلعدم صحة النقل اتفاقا ، وأما عن المنوب عنه فلانتفاء النية في باقي الأفعال.
والقول بوقوعه عن المستأجر للشيخ (٣) ـ رحمهالله ـ واختاره المصنف في المعتبر ، واستدل عليه بأن ما فعله وقع عن المستأجر فلا يصح العدول بها بعد إيقاعها ، وبأن أفعال الحج استحقت لغيره فلا يصح نقلها ، وإذا لم يصح
__________________
(١) في « ض » زيادة : وقع الجميع عن المنوب عنه.
(٢) كما في المسالك ١ : ٩٩.
(٣) الخلاف ١ : ٤١٤. المبسوط ١ : ٢٩٩.
السادسة : إذا أوصى أن يحجّ عنه وعيّن المبلغ ، فإن كان بقدر ثلث التركة أو أقلّ صحّ واجبا كان أو مندوبا ، وإن كان أزيد وكان واجبا ولم يجز الورثة ، كانت أجرة المثل من أصل المال ، والزائد من الثلث. وإن كان ندبا حجّ عنه من بلده إن احتمل الثلث ، وان قصر حجّ عنه من بعض الطريق ،
______________________________________________________
النقل فقد تمّت الحجة لمن بدأ بالنية له ، واستحق الأجير الأجرة لقيامه بما اشترط عليه (١). ويتوجه عليه ما ذكرناه.
قال الشهيد في الشرح : ويمكن أن يحتج للشيخ برواية ابن أبي حمزة ، عن الصادق عليهالسلام في رجل أعطى رجلا مالا يحجّ عنه فحجّ عن نفسه قال : « هي عن صاحب المال » (٢) قال ـ رحمهالله ـ : فإنه إذا كان يجزي عن المنوب لا مع نية الإحرام فلأن يجزي بنيته أولى.
وأقول : إن هذه الرواية ضعيفة باشتراك ابن أبي حمزة بين الثقة والضعيف ، وفي التهذيب رواها عن عليّ بن أبي حمزة ، عن الحسين ، عن أبي عبد الله عليهالسلام. والحسين مشترك بين جماعة أيضا ، ومع ذلك فهي رواية شاذة متروكة الظاهر ، فلا يمكن التعلق بها في إثبات هذا الحكم.
قوله : ( السادسة ، إذا أوصى أن يحجّ عنه وعيّن المبلغ ، فإن كان بقدر ثلث التركة أو أقل صحّ واجبا كان أو مندوبا ، وإن كان أزيد وكان واجبا ولم يجز الورثة كانت أجرة المثل من أصل المال والزائد من الثلث ، وإن كان ندبا حجّ عنه من بلده إن احتمل الثلث ، وإن قصر عنه حجّ عنه من بعض الطريق ).
من أوصى بالحج فإما أن يعيّن الأجير والأجرة معا ، أو لا يعيّنهما ، أو
__________________
(١) المعتبر ٢ : ٧٧٧.
(٢) التهذيب ٥ : ٤٦١ ـ ١٦٠٥ ، الوسائل ٨ : ١٣٦ أبواب النيابة في الحج ب ٢٢ ح ١ وفيهما : عن ابن أبي حمزة والحسين.
______________________________________________________
يعيّن الأجير دون الأجرة ، أو بالعكس ، ثم إما أن يكون الحج واجبا أو مندوبا فالصور ثمان :
الأولى : أن يعيّن الأجير والأجرة معا ويكون الحج واجبا ، ويجب اتباع ما عيّنه الموصى ، ثم إن كانت الأجرة المعيّنة مقدار أجرة المثل أو أقل نفذت من الأصل ، وإن زادت كان أجرة المثل من الأصل والزيادة من الثلث إن لم تجز الورثة ، ولو امتنع الموصى له من الحج بطلت الوصية واستؤجر غيره بأقل ما يوجد من يحجّ به عنه.
الثانية : الصورة بحالها والحج مندوب ، ويجب إخراج الوصية من الثلث إلاّ مع الإجازة فتنفذ من الأصل ، ولو امتنع الموصى له من الحج فالظاهر سقوطه ، لأن الوصية إنما تعلقت بذلك المعيّن فلا يتناول غيره. نعم لو علم تعلق غرض الموصى بالحج مطلقا وجب إخراجه ، لأن الوصية على هذا التقدير تكون في قوة شيئين ، فلا يبطل أحدهما بفوات الآخر.
الثالثة : أن يعيّن الأجير خاصة والحج واجب ، ويجب استيجاره بأقل أجرة يوجد من يحجّ بها عنه. واحتمل الشهيد في الدروس وجوب إعطائه أجرة مثله إن اتسع الثلث (١). وهو حسن ، بل لا يبعد وجوب إجابته إلى ما طلب مطلقا مع اتساع الثلث ، تنفيذا للوصية بحسب الإمكان ، ويكون الزائد عن الأقل محسوبا من الثلث إلاّ مع الإجازة ، ولو امتنع الموصى له من الحج وجب استيجار غيره بمهما أمكن.
الرابعة : الصورة بحالها والحج مندوب ، والكلام فيه كما سبق من احتساب الأجرة كلها من الثلث ، ولو امتنع الموصى له من القبول سقطت الوصية ، إلاّ إذا علم تعلق غرض الموصى بالحج مطلقا كما بيّناه.
الخامسة : أن يعيّن الأجرة خاصة والحج واجب ، فإن كانت مساوية
__________________
(١) الدروس : ٨٩.
وإن قصر عن الحج حتى لا يرغب فيه أجير صرف في وجوه البر ، وقيل : يعود ميراثا.
______________________________________________________
لأجرة المثل صرفها الوارث إلى من شاء ممّن يقوم بالحج ، وكذا إن نقص. وإن كان أزيد كان ما يساوي أجرة المثل من الأصل والزائد من الثلث.
السادسة : الصورة بحالها والحج مندوب ، وحكمها معلوم مما سبق من احتساب الأجرة كلّها من الثلث إلاّ مع الإجازة.
السابعة : أن لا يعيّن الأجير ولا الأجرة والحج واجب ، والواجب الحج عنه من أصل المال بأقل ما يوجد من يحج به عنه.
الثامنة : الصورة بحالها والحج مندوب ، والأجرة هنا من الثلث إلاّ مع الإجازة كما تقدم.
والحج في جميع هذه الصور من الميقات إلاّ أن ينصّ الموصى على إرادة الحج من البلد ، أو تدل القرائن عليه كما هو المتعارف الآن.
ومن هنا يظهر عدم المنافاة بين حكم المصنف بالحج من البلد مع الوصية ، والاكتفاء بقضائه بدونها من أقرب الأماكن.
ومع الوصية لا فرق بين الحج المندوب والواجب.
ولو قصر المال عن الحج من البلد وجب بحسب الممكن ، ولا يتعيّن الميقات. وقد تقدم ما يعلم منه هذه الأحكام.
قوله : ( وإن قصر عن الحج حتى لا يرغب فيه أجير أصلا صرف في وجوه البرّ ، وقيل : يعود ميراثا ).
ما اختاره المصنف ـ رحمهالله ـ من صرفه في وجوه البرّ هو المشهور بين الأصحاب ، وبه قطع في المنتهى ، واستدل عليه بأن هذا القدر من المال قد خرج عن ملك الورثة بالوصية النافذة ولا يمكن صرفه في الطاعة التي عيّنها
السابعة : إذا أوصى في حجّ وغيره قدّم الواجب. فإن كان الكل واجبا وقصرت التركة قسمت على الجميع بالحصص.
______________________________________________________
الموصى فيصرف إلى غيرها من الطاعات ، لدخولها في الوصية ضمنا (١).
ويتوجه عليه أولا منع خروجه عن ملك الوارث بالوصية ، لأن ذلك إنما يتحقق مع إمكان صرفه فيها والمفروض امتناعه ، ومتى ثبت الامتناع المذكور كشف عن عدم خروجه عن ملك الوارث.
وثانيا أن الوصية إنما تعلقت بطاعة مخصوصة وقد تعذرت ، وغيرها لم يدل عليه لفظ الموصى نطقا ولا فحوى ، فلا معنى لوجوب صرف الوصية إليه. وقوله : إن غيرها من الطاعات داخل في الوصية ضمنا ، غير واضح ، لما بيّنّاه مرارا من أن الموجود في ضمن المقيد حصة من المطلق مقوّمة له ومنعدمة بانعدامه ، لا نفس الماهية المطلقة ، ومن هنا يظهر قوة القول بعوده ميراثا.
وفصّل المحقق الشيخ علي ـ رحمهالله ـ في هذه المسألة فقال : إن كان قصوره حصل ابتداء بحيث لم يمكن صرفه في الحج في وقت ما ، كان ميراثا ، وإن كان ممكنا ثم طرأ القصور بعد ذلك لطروّ زيادة الأجرة ونحوه فإنه لا يعود ميراثا ، لصحة الوصية ابتداء فخرج بالموت عن الوارث فلا يعود إليه إلاّ بدليل ولم يثبت ، غاية الأمر أنه قد تعذر صرفه في الوجه المعيّن فيصرف في وجوه البرّ كما في المجهول المالك (٢). واستوجهه الشارح (٣) ـ قدسسره ـ ولعل الحكم بعوده ميراثا مطلقا أقرب ، ولو أمكن استتمام المال بالتجارة وصرفه في الحج بعد مدة لم يبعد جوازه.
قوله : ( السابعة ، إذا أوصى في حجّ وغيره قدّم الواجب ، فإن كان الكل واجبا وقصرت التركة قسمت على الجميع بالحصص ).
__________________
(١) المنتهى ٢ : ٨٧٤.
(٢) جامع المقاصد ١ : ١٦١.
(٣) المسالك ١ : ٩٩.
الثامنة : من عليه حجة الإسلام ونذر أخرى ثم مات بعد الاستقرار أخرجت حجة الإسلام من الأصل ، والمنذورة من الثلث. ولو ضاق المال إلا عن حجة الإسلام اقتصر عليها ، ويستحب أن يحجّ عنه النذر. ومنهم من سوّى بين المنذورة وحجة الإسلام في الإخراج من الأصل والقسمة مع قصور التركة ، وهو أشبه. وفي الرواية : إذا نذر أن يحجّ رجلا ومات وعليه حجة الإسلام أخرجت حجة الإسلام من الأصل ، وما نذره من الثلث ، والوجه التسوية لأنهما دين.
______________________________________________________
المراد بالوجوب هنا المالي ، كالحج والزكاة والكفارة وسائر الديون ، ولا ريب في تقديمه على الوصايا المتبرع بها ، لخروجه من الأصل.
ولو أوصى بالحج وغيره من الواجبات المالية فالمشهور بين الأصحاب قسمة التركة على الجميع بالحصص ، لأنها ديون لزمت الذمة وليس أحدها أولى فوجب قسمة التركة بينها ، وحكى العلاّمة في التذكرة عن بعض علمائنا قولا بتقديم الحج ، لأولويته (١). وهو ضعيف.
قوله : ( الثامنة : من عليه حجة الإسلام ونذر أخرى ثم مات بعد الاستقرار أخرجت حجة الإسلام من الأصل والمنذورة من الثلث ، ولو ضاق المال إلاّ عن حجة الإسلام اقتصر عليها ، ويستحب أن يحج عنه النذر ، ومنهم من سوّى بين المنذورة وحجة الإسلام في الإخراج من الأصل والقسمة مع قصور التركة ، وهو أشبه ، وفي الرواية : إذا نذر أن يحج رجلا ومات وعليه حجة الإسلام أخرجت حجة الإسلام من الأصل وما نذره من الثلث ، والوجه التسوية ، لأنهما دين ).
أما وجوب إخراج حج الإسلام من الأصل فهو موضع نصّ ووفاق ، وإنما الخلاف في حج النذر ، فذهب جمع من الأصحاب منهم ابن
__________________
(١) التذكرة ١ : ٣٠٨.
______________________________________________________
إدريس (١) والمصنف ومن تأخر عنه (٢) إلى وجوب إخراجها من الأصل أيضا كحج الإسلام ، لما أشار إليه المصنف من تساويهما في كونهما دينا ، وهو إنما يتم بعد قيام الدليل على وجوب قضائهما من التركة ، ولم نقف في ذلك على رواية سوى رواية ضريس التي أوردها المصنف ـ رحمهالله ـ وقد بيّنّا فيما سبق أن الحج ليس واجبا ماليا بل هو واجب بدني وإن توقف على المال مع الحاجة إليه كما تتوقف الصلاة عليه كذلك ، وإنما وجب قضاء حج الإسلام بالنصوص الصحيحة المستفيضة (٣) ، وإلحاق حج النذر به يتوقف على الدليل.
وقال الشيخ في النهاية والمبسوط والتهذيب : يجب إخراج المنذورة من الثلث (٤) ، واحتج عليه في التهذيب بما رواه في الصحيح ، عن ضريس بن أعين قال : سألت أبا جعفر عن رجل عليه حجة الإسلام ونذر في شكر ليحجن رجلا فمات الرجل الذي نذر قبل أن يحجّ حجة الإسلام وقبل أن يفي لله بنذره فقال : « إن كان ترك مالا حج عنه حجة الإسلام من جميع ماله ويخرج من ثلثه ما يحج به عنه للنذر ، وإن لم يكن ترك مالا إلاّ بقدر حجة الإسلام حج عنه حجة الإسلام مما ترك وحج عنه وليّه النذر ، فإنما هو دين عليه » (٥).
وأجاب عنها في المختلف بالحمل على من نذر في مرض الموت (٦). وهو يتوقف على وجود المعارض.
__________________
(١) السرائر : ١٥٣.
(٢) كالعلامة في المنتهى ٢ : ٨٧٢.
(٣) الوسائل ٨ : ٤٩ أبواب وجوب الحج ب ٢٨.
(٤) النهاية : ٢٨٣ ، والمبسوط ١ : ٣٠٦ ، والتهذيب ٥ : ٤٠٦.
(٥) التهذيب ٥ : ٤٠٦ ـ ١٤١٣ ، الوسائل ٨ : ٥١ أبواب وجوب الحج ب ٢٩ ح ١ ، ورواه في الفقيه ٢ : ٢٦٣ ـ ١٢٨٠.
(٦) المختلف : ٣٢١.
______________________________________________________
نعم يمكن المناقشة في هذا الاستدلال بأن مورد الرواية خلاف محل النزاع ، لأن موردها من نذر أن يحجّ رجلا ، أي يبذل له ما يحج به ، وهو خلاف نذر الحج ، ولعل ذلك هو السرّ في إيراد المصنف الرواية بعد حكاية القولين من دون أن يجعلها سندا لأحدهما فتأمل.
ومقتضى الرواية أن المال إذا ضاق إلاّ عن حجة الإسلام يقتصر عليه ، وبه جزم في المنتهى (١) ، وهو كذلك ، لوجوب تقديمها على المنوب عنه ، ولأن وجوب إخراجها بعد الموت قطعي ، وفي وجوب إخراج المنذورة ما سبق من الإشكال.
وما ذكره المصنف من قسمة التركة بينهما مع القصور مشكل ، لأن التركة إذا كانت قاصرة عن أجرة مثل الحجتين كانت القسمة مقتضية لعدم الإتيان بواحدة منهما ، إلاّ أن يتفق من يحج بدون أجرة المثل ، والمتجه وجوب تقديم حج الإسلام مع القصور كما بيّنّاه.
وقال الشيخ في التهذيب : قوله عليهالسلام : « فليحج عنه وليه ما نذر » على جهة التطوع والاستحباب ، دون الفرض والإيجاب. واستدل عليه بما رواه في الصحيح ، عن عبد الله بن أبي يعفور قال ، قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : رجل نذر لله لئن عافا الله ابنه من وجعه ليحجنه إلى بيت الله الحرام ، فعافا الله الابن ومات الأب فقال : « الحجة على الأب يؤدّيها عنه بعض ولده » قلت : هي واجبة على ابنه الذي نذر فيه؟ فقال : « هي واجبة على الأب من ثلثه ، أو يتطوع ابنه فيحج عن أبيه » (٢) والكلام في هذه الرواية كما سبق في الرواية الأولى من أن موردها خلاف محل النزاع ، وقد ظهر من ذلك أن الحكم بوجوب قضاء حج النذر من أصله مشكل جدا ، فإن كان إجماعيا فينبغي المصير إلى ما ذكره الشيخ من خروجه من الثلث ، اقتصارا
__________________
(١) المنتهى ٢ : ٨٧٢.
(٢) التهذيب ٥ : ٤٠٦ ـ ١٤١٤ ، الوسائل ٨ : ٥٢ أبواب وجوب الحج ب ٢٩ ح ٣.
المقدمة الثالثة : في أقسام الحج
وهي تمتع ، وقران ، وإفراد
______________________________________________________
فيما خالف الأصل على موضع الوفاق.
قوله : ( المقدمة الثالثة : في أقسام الحج ، وهي ثلاثة : تمتّع ، وقران ، وإفراد ).
هذا موضع وفاق بين العلماء ، ويدل عليه روايات كثيرة : منها ما رواه الشيخ في الحسن ، عن معاوية بن عمار ، قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : « الحج ثلاثة أصناف : حج مفرد وقران وتمتّع بالعمرة إلى الحجّ ، وبها أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والفضل فيها ، ولا نأمر الناس إلاّ بها » (١).
وعن منصور الصيقل قال ، قال أبو عبد الله عليهالسلام : « الحج عندنا على ثلاثة أوجه : حاجّ متمتّع ، وحاجّ مقرن سائق للهدي ، وحاجّ مفرد للحج » (٢).
قال في المعتبر : ويدل على الحصر أن العمرة إما أن تتقدم على الحج مع اتفاق شروط التمتع ، أو يبدأ بالحج ، والأول تمتع ، والثاني إفراد ، ثم إن الإفراد إما أن ينضمّ إليه سياق أو لا يضمّ ، والأول قران ، والثاني أفراد (٣). هذا كلامه ـ رحمهالله ـ ولا يخلو من تسامح ، فإن الدليل على الحصر في الحقيقة النصوص المتضمنة لهذا التقسيم لا نفس التقسيم.
ووجه التسمية أما في الإفراد ، فلانفصاله عن العمرة وعدم ارتباطه بها.
وأما القران فلاقتران الإحرام بسياق الهدي.
__________________
(١) التهذيب ٥ : ٢٤ ـ ٧٢ ، الإستبصار ٢ : ١٥٣ ـ ٥٠٤ ، الوسائل ٨ : ١٤٨ أبواب أقسام الحج ب ١ ح ١.
(٢) التهذيب ٥ : ٢٤ ـ ٧٣ ، الإستبصار ٢ : ١٥٣ ـ ٥٠٥ ، الوسائل ٨ : ١٤٩ أبواب أقسام الحج ب ١ ح ٢ ، ورواه في الكافي ٤ : ٢٩١ ـ ٢ ، والفقيه ٢ : ٢٠٣ ـ ٩٢٦.
(٣) المعتبر ٢ : ٧٧٩.
أما التمتع : فصورته أن يحرم من الميقات بالعمرة المتمتع بها ، ثم يدخل مكة ، فيطوف سبعا بالبيت ، ويصلي ركعتيه بالمقام ، ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعا ، ويقصّر.
ثم ينشئ إحراما للحج من مكة يوم التروية على الأفضل ، وإلا
______________________________________________________
وأما التمتع فهو لغة التلذذ والانتفاع ، وإنما سمّي هذا النوع بذلك لما يتخلل بين عمرته وحجه من التحلل المقتضي لجواز الانتفاع والتلذذ بما كان قد حرّمه الإحرام قبله مع الارتباط بينهما وكونهما كالشيء الواحد ، فيكون التمتع الواقع بينهما كأنه حاصل في أثناء الحج. أو لأنه يربح ميقاتا ، لأنه لو أحرم بالحج من ميقات بلده لكان يحتاج بعد فراغه من الحج إلى أن يخرج إلى أدنى الحلّ فيحرم بالعمرة عنه ، وإذا تمتّع استغنى عن الخروج ، لأنه يحرم بالحج من جوف مكة.
قال الله تعالى ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) (١) ومعنى التمتع بها إلى الحج : الانتفاع بثوابها والتقرب بها إلى الله تعالى قبل الانتفاع بالحج ، إلى وقت الحج ، فيجتمع حينئذ التقربان ، أو المنتفع بها إذا فرغ منها باستباحة ما كان محرّما إلى وقت التلبس بالحج ، فالباء سببية ، وهذان المعنيان ذكرهما الزمخشري في الكشاف (٢) ، والنيسابوري في تفسيره (٣). وقيل : إن المعنى فمن انتفع بسبب العمرة قاصدا إلى الحج فعليه ما تهيّأ له من الهدي (٤).
قوله : ( أما التمتع فصورته أن يحرم من الميقات بالعمرة المتمتّع بها ، ثم يدخل مكة فيطوف سبعا بالبيت ، ويصلّي ركعتيه بالمقام ، ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعا ، ويقصّر ، ثم ينشئ إحراما آخر للحج
__________________
(١) البقرة : ١٩٦.
(٢) الكشاف ١ : ٢٤١.
(٣) غرائب القرآن ( تفسير الطبري ) ٢ : ٢٣٨.
(٤) حكاه في الكشاف ١ : ٢٢٤.
بقدر ما يعلم أنه يدرك الوقوف ، ثم يأتي عرفات فيقف بها إلى الغروب ، ثم يفيض إلى المشعر فيقف به بعد طلوع الفجر ، ثم يفيض إلى منى فيحلق بها يوم النحر ويذبح هديه ويرمي جمرة العقبة.
ثم إن شاء أتى مكة ليومه أو لغده ، فطاف طواف الحج وصلى ركعتيه وسعى سعيه ، وطاف طواف النساء وصلى ركعتيه ، ثم عاد إلى منى لرمي ما تخلّف عليه من الجمار.
وإن شاء أقام بمنى حتى يرمي جماره الثلاث يوم الحادي عشر ، ومثله يوم الثاني عشر ، ثم ينفر بعد الزوال. وإن أقام إلى النفر الثاني جاز أيضا ، وعاد إلى مكة للطوافين والسعي.
______________________________________________________
من مكة يوم التروية على الأفضل ، وإلاّ بقدر ما يعلم أنه يدرك الوقوف ، ثم يأتي عرفات فيقف بها إلى الغروب ، ثم يفيض إلى المشعر فيقف به بعد طلوع الفجر ، ثم يفيض إلى منى فيحلق بها يوم النحر ، ويذبح هديه ، ويرمي جمرة العقبة ، ثم إن شاء أتى مكة ليومه أو لغده فطاف طواف الحج وصلّى ركعتيه وسعى سعيه ، وطاف طواف النساء وصلّى ركعتيه ، ثم عاد إلى منى ليرمي ما تخلّف عليه من الجمار ، وإن شاء أقام بمنى حتى يرمي جماره الثلاث يوم الحادي عشر ، ومثله يوم الثاني عشر ، ثم ينفر بعد الزوال. وإن أقام إلى النفر الثاني جاز أيضا ، وعاد إلى مكة للطوافين والسعي ).
هذه الصورة متفق عليها بين الأصحاب في الجملة ، وكان ينبغي أن يذكر المبيت ليلة العاشر بالمشعر فإنه واجب ، وكذا الأكل من الهدي فإنه واجب عند المصنف ، وتقييد النفر في الأول بمن اتقى الصيد والنساء ، وإنما ترك ذلك اعتمادا على ما سيجيء من التفصيل.
لكن حكمه ـ رحمهالله ـ بجواز الإقامة بمنى أيام التشريق قبل الطوافين
وهذا القسم فرض من كان بين منزله ومكة اثنا عشر ميلا فما زاد من كل جانب ، وقيل : ثمانية وأربعون ميلا ،
______________________________________________________
والسعي مناف لما سيذكره في محله من عدم جواز تأخير ذلك من غد يوم النحر (١) ، وكأنه (٢) رجوع عن الفتوى.
وربما جمع بين الكلامين بحمل الجواز هنا على معنى الإجزاء ، وهو لا ينافي حصول الإثم بالتأخير. وهو مقطوع بفساده.
والأصح ما اختاره المصنف هنا من جواز تأخير ذلك إلى انقضاء أيام التشريق ، للأخبار الكثيرة الدالة عليه ، وسيجيء الكلام في ذلك مفصّلا إن شاء الله تعالى.
قوله : ( وهذا القسم فرض من كان بين منزله وبين مكة اثنا عشر ميلا فما زاد من كل جانب ، وقيل : ثمانية وأربعون ميلا ).
أجمع علماؤنا كافة على أن فرض من نأى عن مكة التمتع ، لا يجوز لهم غيره إلاّ مع الضرورة ، قاله في التذكرة (٣). وقال في المنتهى : قال علماؤنا أجمع : فرض الله على المكلفين ممن نأى عن المسجد الحرام وليس من حاضريه التمتع مع الاختيار ، لا يجزيهم غيره ، وهو مذهب فقهاء أهل البيت عليهمالسلام قال : وأطبق الجمهور كافة على جواز النسك بأيّ الأنواع الثلاثة شاء ، وإنما اختلفوا في الأفضل (٤).
والأصل في وجوب التمتع على النائي قوله تعالى ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) إلى قوله ( ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) (٥) والظاهر عود الإشارة إلى جميع ما تقدم.
__________________
(١) في ص ١٠٩.
(٢) في « م » : وكان له.
(٣) التذكرة ١ : ٣١٧.
(٤) المنتهى ٢ : ٦٥٩.
(٥) البقرة : ١٩٦.
______________________________________________________
وحكى المصنف في المعتبر عن بعض فضلاء العربية أنهم قالوا : تقديره : ذلك التمتع (١). وهو جيد ، لما نصّ عليه أهل العربية من أن « ذلك » للبعيد.
وأما الأخبار الواردة بذلك فمستفيضة جدا ، بل تكاد أن تبلغ حدّ التواتر ، فمن ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح ، عن معاوية بن عمار ، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهماالسلام ، عن آبائه عليهمالسلام ، قال : « لمّا فرغ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من سعيه بين الصفا والمروة أتاه جبرئيل عليهالسلام عند فراغه من السعي وهو على المروة فقال : إن الله يأمرك أن تأمر الناس أن يحلّوا إلاّ من ساق الهدي ، فأقبل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على الناس بوجهه فقال : يا أيها الناس هذا جبرئيل ـ وأشار بيده إلى خلفه ـ يأمرني عن الله عز وجل أن آمر الناس أن يحلّوا إلاّ من ساق الهدي ، فأمرهم بما أمر الله به ، فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نخرج إلى منى ورؤوسنا تقطر من النساء؟! وقال آخر : يأمرنا بشيء ويصنع هو غيره؟! فقال : يا أيها الناس لو استقبلت من أمري ما استدبرت صنعت كما صنع الناس ، ولكني سقت الهدي ، ولا يحلّ من ساق الهدي حتى يبلغ الهدي محلّه ، فقصّر الناس وأحلّوا وجعلوها عمرة ، فقام إليه سراقة بن مالك بن خثعم (٢) المدلجي فقال : يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال : بل للأبد إلى يوم القيامة ، وشبك بين أصابعه. وأنزل الله في ذلك قرآنا ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) (٣).
وفي الصحيح ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : « دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ، لأن الله تعالى يقول : ( فَمَنْ
__________________
(١) المعتبر ٢ : ٧٨٥.
(٢) في « م » : جشيم ، وفي التهذيب : جشعم ، وفي الوسائل جعشم.
(٣) التهذيب ٥ : ٢٥ ـ ٧٤ ، الوسائل ٨ : ١٧١ أبواب أقسام الحج ب ٣ ح ١.
______________________________________________________
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) فليس لأحد إلاّ أن يتمتّع ، لأن الله تعالى أنزل ذلك في كتابه وجرت به السنّة من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم » (١).
وفي الحسن ، عن معاوية بن عمار ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : « من حجّ فليتمتّع ، إنّا لا نعدل بكتاب ربّنا عزّ وجلّ وسنة نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم » (٢).
إذا تقرّر ذلك فاعلم أن للأصحاب في حدّ البعد المقتضي لتعين التمتع قولين ، أحدهما : إنه البعد عن مكة باثني عشر ميلا فما زاد من كل جانب ، ذهب إليه الشيخ في المبسوط (٣) وابن إدريس (٤) والمصنف في هذا الكتاب ، مع أنه رجع عنه في المعتبر وقال : إنه قول نادر لا عبرة به (٥).
والثاني : إنه البعد عن مكة بثمانية وأربعين ميلا ، ذهب إليه الشيخ في التهذيب والنهاية (٦) وابنا بابويه (٧) وأكثر الأصحاب ، لكن مقتضى كلام الشيخ ـ رحمهالله ـ أن البعد إنما يتحقق بالزيادة عن الثمانية والأربعين. والأمر في ذلك هيّن ، لأن الحصول على رأس المسافة المذكورة من غير زيادة ولا نقصان نادر ، وهذا القول هو المعتمد.
لنا : ما رواه الشيخ في الصحيح ، عن زرارة ، عن أبي جعفر
__________________
(١) التهذيب ٥ : ٢٥ ـ ٧٥ ، الإستبصار ٢ : ١٥٠ ـ ٤٩٣ ، الوسائل ٨ : ١٧٢ أبواب أقسام الحج ب ٣ ح ٢.
(٢) الكافي ٤ : ٢٩١ ـ ٦ ، التهذيب ٥ : ٢٧ ـ ٨٢ ، الإستبصار ٢ : ١٥٢ ـ ٥٠٠ ، الوسائل ٨ : ١٧٥ أبواب أقسام الحج ب ٣ ح ١٤.
(٣) المبسوط ١ : ٣٠٦.
(٤) السرائر : ١٢١.
(٥) المعتبر ٢ : ٧٨٥.
(٦) التهذيب ٥ : ٣٢ ، والنهاية : ٢٠٦.
(٧) الصدوق في المقنع : ٦٧ ، وحكاه عنهما في المختلف : ٢٦٠.