عبد العزيز كاظم البهادلي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-08-0
الصفحات: ١٦٥
سيرة النبي وأهل البيت
كلمة المركز
حظيت مسألة الأمومة في الفكر الإسلامي برعاية خاصّة باعتبارها واحدة من أبرز عوامل نهضة المجتمع المسلم في توازن أجياله وتحمّلهم أعباء المسؤولية في المستقبل كاملة ، الأمر الذي يؤكّد أصالة الدور الإنساني للأم في بناء الحضارة ، وهو دور فرضه الإسلام للأم نتيجة للالتزامات الطبيعية التي تفرضها أوضاع ذلك الدور المعقّد من الحمل والإرضاع والتربية وما إلىٰ ذلك.
ومن الواضح أنّ الإسلام لم يحصر دور المرأة في تربية الأطفال ورعاية الزوج وإدارة شؤون المنزل ، بل وهبها مساحة واسعة للتحرّك ، تستطيع من خلالها القيام بمسؤوليّاتها في نطاق ثقافتها وطاقاتها الاجتماعية في تشخيص مواطن الخلل وإصلاحها ، كمن ترى في نفسها القدرة اللازمة على أن تهدي جمهوراً نسوياً إلىٰ الطريق المستقيم.
ومن هنا نجد القرآن الكريم لم يلغِ مسؤوليتها بحجّة دورها المنزلي ، بل فرض عليها التزامات طبيعية كمسلمة تجاه الإسلام في جهاده وحركته ، فحمّلها ـ مع الرجل ـ مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما في قوله تعالىٰ : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ... ) ، وقد حدّثنا القرآن الكريم عن نماذج فريدة من النساء اللواتي تفوّقن على الرجال في عصرهنّ ، في سعة النظرة ، ودقّة الفكر ، وعمق الوعي ، ووضوح الرؤية كما هو الحال في شخصيّة مريم العذراء ، وامرأة فرعون ، وملكة سبأ.
وفي تاريخنا الإسلامي صفحات من نور لشخصيّات نسوية رائعة كان لموقعهنّ الفاعل علىٰ مسرح الأحداث السياسية والاجتماعية والفكرية صدى كبير ، ومواقف إيمانية صلبة ثابتة ، بحيث صارت تلك المواقف البطولية قدوة حسنة ومثلاً أعلى للرجال والنساء معاً ، كما نجده واضحاً في حياة وسيرة أعظم نساء النبي صلىاللهعليهوآله أمّ المؤمنين خديجة الكبرى عليهاالسلام. ناهيك عمّا في تاريخ الإسلام من موقف نسوي عبقري ورثته بطلة كربلاء من أمّها الزهراء عليهماالسلام.
إنّ توفير الظروف
الإسلامية المناسبة للمرأة يكفل لها إمكانيّات النموّ الروحي والعقلي ، والالتزام العملي الذي تتوازن فيه عناصر شخصيّتها بشكل طبيعي ، بحيث يمكنها التفوّق علىٰ الرجال ، وإلغاء فوارق الجنس بالإيمان والعقل والإرادة
والمعرفة
والتضحية والموقف. وأمّا ما نشاهده ونستشعره اليوم من جوانب الضعف التي تعيشها المرأة المسلمة عموماً فليس هو من القضاء المحتّم في حياتها ، بل هو نتيجة للإهمال الكبير لعناصر القوّة والوعي في تربيّة شخصيّتها وبناء وجودها كما هو الحال تماماً في الرجل الضعيف الذي لم يجد الطريق التربوي الرحب في طفولته ، فضعف في فكره ، وتخلّف في وعيه ، وتعطّلت حركة حياته.
فالضعف المشاهد في المرأة المسلمة إذن ليس ناشئاً عن طبيعة في ذات المرأة بقدر ما هو ناشىء عن تقصير في تهيئة عوامل القوّة في الظروف المحيطة بها.
وإذا ما كان العنصر الأنثوي يختزن بعض الضعف في شخصية المرأة انطلاقاً من الجانب العاطفي الأكثر ظهوراً في مشاعرها ، أو من الجانب الجسدي الذي لا يتمتّع بالقوّة البدنية للرجال عادة ؛ فإنّ ذلك لا يمنع أبداً من إكسابها قوّة بتربية الفكر بالمعرفة ، وتقوية العقل بالممارسة ، وتقوية الجسد بالعبادات من الصلاة والنوافل التي هي رياضة بدنية راقية. وأمّا العاطفة فهي وإن كانت غريزة لا يمكن التغلّب عليها ولكن يمكن التحكّم بها من خلال الوعي القائم علىٰ مواجهة الأمور بطريقة موضوعية من خلال منهج تربوي عملي إسلامي متوازن. وبهذا نفسّر كيف قدّمت الكثير من الأمّهات أولادهنّ على مذبح الكرامة إحتساباً وقربة لله عزّ وجل ولم تمنعهنّ من ذلك عواطف الأمومة وحرارتها ، وبها نفهم سرّ الطاقات الهائلة التي امتلكتها بعض النسوة في تاريخ الإسلام لتقابل بها جبروت الرجال بكلّ قوّة وثبات كما حصل لسيّدة النساء ، وبطلة كربلاء عليهماالسلام.
وهناك مواقف بطولية قادتها أمّ الخير البارقية ، وسودة بنت عمارة ، وأروى بنت الحارث بن عبدالمطّلب ، والزرقاء بنت عدي ، وبكارة الهلالية ، لقّنّ بها الطغاة المردة دروساً قاسية لازالت بعض فصولها محفوظة في التاريخ.
وقد اختار هذا الكتاب ـ عزيزي القارىء ـ الحديث عن الصفوة من النساء المسلمات بكلّ ما تعنيه كلمة الصفوة من معنى ، وهنّ أمّهات المعصومين عليهمالسلام مسلّطاً الضوء علىٰ سيرتهنّ العطرة ، وتاريخهنّ المضيء المشرق ، بعبارة مختصرة وافية. سائلين المولى أن يُنتفع به ،
وهو الموفّق للصواب بمنه.
مركز الرسالة
المُقدَّمةُ
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام علىٰ نبينا محمّد وآله الطاهرين.
الحديث عن أمهات المعصومين هو الحديث عن الصفوة من بنات حواء عليهاالسلام عبر التاريخ ، وإذا كان التاريخ بعناصره المشرقة ونماذجه الحيّة وصوره الرائعة يمثّل الجذر الممتد عبر الزمان فيجب المحافظة عليه وتعميقه وتأصيله علىٰ أساس الحق والعدل ؛ لأنّ كل أمة بلا جذور قابلة لأن تندرس وتُستأصل بسهولة ويسر.
والحديث عن سيرة أمهات المعصومين ليس من قصص قديم الزمان ، وإنما هو اكتشاف لما ينبغي أن تكون الأُم المسلمة عليه ، إذ لا مثل أعلىٰ في عالم المرأة المسلمة من أُمهات أهل البيت عليهمالسلام ، وإننا إذ نعيش الماضي مع أُمهات المعصومين عليهمالسلام فلا يعني ذلك أن نتجمّد علىٰ أعتاب التاريخ ، وإنما لنستلهم من محطاته ـ التي عبرت كل الحدود وتجاوزت الزمن ـ قيم الإسلام ومثله العليا التي يشعر المسلم من خلالها في كل زمان ومكان أنّ معه روحاً تحلّق لا يحسّ معها بشيء من أدران المادة وقوة كفيلة برسم معالم الطريق الصحيح.
ومن هنا كان اختيار هذا البحث الذي قسمت فيه أُمهات المعصومين عليهمالسلام إلىٰ قسمين :
فالأوّل : أُمهات أصحاب الكساء عليهمالسلام ، ويبدأ بالسيدة أم الامهات آمنة بنت وهب عليهاالسلام وينتهي بشهادة الصدّيقة فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، وقد أدخلنا السيدة خديجة الكبرىٰ عليهاالسلام في هذا القسم وإن لم تنجب من سيد البشر صلىاللهعليهوآله إماماً معصوماً ، ولكنها أنجبت الصدّيقة فاطمة الزهراء عليهاالسلام أُم الأئمة الأطهار عليهمالسلام.
والقسم الآخر : يشمل أُمهات الأئمة من ذرية الحسين عليهمالسلام وأولهن أُم الإمام زين العابدين عليهالسلام وآخرهن أُم الإمام المهدي عجّل الله تعالىٰ فرجه الشريف.
جدير بالذكر أنّ الأُمهات الطاهرات في القسم الأول كلهن من قريش وكذلك الحال مع أُم الإمام الباقر عليهالسلام وأُم الإمام الصادق عليهالسلام ، وأما الأُمهات الأخريات عليهن السلام فليس كذلك حيث شاء الله تبارك وتعالى أن تتشرّف الاُمم الاخرىٰ وتشاطر نساء مكّة المعظمة في شرف المزاوجة مع البيت النبوي الطاهر وأن يجعل أرحامهن مأوىٰ ومهبط لباقي الائمّة الطاهرين ، وبالتالي تفوز تلك النساء الطاهرات بحمل ذريّة رسول الله صلىاللهعليهوآله المعصومين عليهمالسلام ، ومن ثمّ تتشرّف تلك الاُمم الاُخرىٰ بأن أُمهات الأئمّة منهم وأنّهم أخوال أهل البيت عليهمالسلام ، فقد تشرفت بلاد فارس بأنّهم أخوال الامام زين العابدين عليهالسلام ، فيما تشرفت بلاد السودان والنوبة بخؤولة الإمام الكاظم عليهالسلام ، وكذلك تشرّفت أُمم الترك والأقباط والبربر والقسطنطينية والاندلس بأنّهم أخوال أئمّة أهل البيت عليهمالسلام (الرضا والجواد والهادي والعسكري ومهدي آل محمّد أرواحنا فداه) ، وهكذا امتدّت رحمة الله الواسعة لتشمل كثيراً من الاُمم مع بني هاشم في إنجاب وإيواء الذريّة الطاهرة لحمل مشاعل الهداية للناس ، وهنا لا بأس بإيضاح بعض الفوارق بين نساء القسمين :
أولاً : إن نساء القسم الأول يعود أصلهن إلىٰ مكّة المعظمة وإلىٰ المدينة المنورة وإلىٰ قبيلة قريش حيث يُعرَفن بالوجاهة والسؤدد عند أهل مكّة.
الثاني : إن أمهات القسم الأول قد اضطلعن بأدوار جسيمة بحكم معاصرتهن للأحداث الكبرى التي واجهها الإسلام في بداية انطلاقته ، ويبدأ هذا الدور بأم المؤمنين خديجة الكبرىٰ عليهاالسلام حيث آمنت به ، صلىاللهعليهوآله علناً وأنفقت كل ما عندها من أموال ولم تأل جهداً في الدفاع عن حصن النبوّة حتّىٰ ماتت صابرة محتسبة بعدما كانت تجارتها قد غطّت كل أصقاع الجزيرة ، وكذا تحمّلت السيدة فاطمة بنت أسد عليهاالسلام الجوع والفقر والمعاناة من أجل حماية ورعاية نبي الإسلام محمد صلىاللهعليهوآله حتّىٰ قال عنها بأنها أمّه ! (١) بعدها جاء دور الصدّيقة فاطمة عليهاالسلام حيث قامت من أبيها صلىاللهعليهوآله مقام البنت والأُم في آن واحد ، حتىٰ قال في حقّها صلىاللهعليهوآله : « فاطمة أُم أبيها » (٢) ، وبعد انتهاء دور النبوة بوفاة الخاتم محمد صلىاللهعليهوآله ، ومجيء دور الإمامة وما رافقها من أحداث مؤلمة حيث سارعت الصديقة فاطمة عليهاالسلام لاحقاق الحق وابطال الباطل حتى سقطت أوّل شهيدة (٣) في طريق الامامة بعد أن ذللت كل المصاعب بوجه خليفة رسول الله أمير
_____________
(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤.
(٢) أُسد الغابة ٥ : ٥٢٠ ، الاستيعاب ٤ : ٣٨٠ ، المناقب / ابن المغازلي : ٣٤٠ / ٣٩٢ ، مقاتل الطالبيين : ٥٧ ، في مقتل الحسن بن علي عليهالسلام ، ط ١ ، انتشارات المكتبة الحيدرية ، عن الإمام الباقر عليهالسلام : « كانت فاطمة عليهاالسلام تكنىٰ أُم أبيها ».
(٣) الكافي / الكليني ١ : ٤٥٨ باب مولد فاطمة الزهراء عليهاالسلام حديث ٢ بسند معتبر عن الإمام الكاظم عليهالسلام قال : « ان فاطمة صدّيقة شهيدة ».
المؤمنين عليهالسلام مضحيةً بنفسها (والجود بالنفس أقصى غاية الجود) وعلى هذا فان دور تلك النسوة (نساء القسم الأول) كان بارزاً وملحوظاً عندما كان الإسلام ضمن نطاق مكّة والمدينة والطائف.
وأمّا بعد اقصاء الخلافة عن امير المؤمنين عليهالسلام وتقمّص غيره للمناصب الإلهيّة من جهة ، واتساع رقعة الإسلام والدولة الإسلامية من جهة أُخرىٰ ، فلم يكن لنساء القسم الثاني دورٌ بارز وملحوظ سيما وأن أئمة أهل البيت عليهمالسلام قد تعرّضوا في هذه الفترة للملاحقة والمتابعة والمراقبة ، ولذا لم يصل إلينا منهنّ سلام الله عليهنّ إلّا الروايات القليلة التي تشير وتشيد بأدوارهنّ أو تذكر فضائلهنّ ، ولكن لا ينسىٰ ما قمن به من الاقتران بأئمّة أهل البيت وانجاب أولادهم المعصومين وتحمل الأعباء الكبيرة من أجل تربيتهم وترويج الإسلام الصحيح رغم مراقبة حكام الجور وتحمّل المصاعب والمخاطر ليل نهار ، فجزاهنّ الله خير الجزاء عن النّبي وأهل بيته الأطهار عليهمالسلام.
* *
توطئة :
في بيان دور المرأة وجهادها في الإسلام
ما إن سطعت شمس الرسالة الإسلامية وصدع النبي محمّد صلىاللهعليهوآله بالرسالة المقدسة داعياً ومبشراً ونذيراً حتى سارعت المرأة المسلمة لتسهم بدورها في اعتناق الإسلام ونشره والتصديق برسوله والإيمان بمبادئه. لقد هبّت المرأة من رُقادها وأجابت دعوة الإسلام بقلب ملؤه التقوىٰ ونفس فيّاضة بالإيمان.
إنّ النساء المؤمنات ما زلن في كلّ عصر ومصر يضاهين الرجال بالاخلاص لعقيدتهن ومبادئهن والاندفاع في سبيل بناء صرح الإسلام الخالد ، لذا نرىٰ أنّ المؤمنات في عهد الرسول صلىاللهعليهوآله ، بل وحتى الفترة التي تلت وفاة الرسول صلىاللهعليهوآله ، كنّ شريكات المؤمنين في نهضتهم والجهاد في نشر الإسلام وجهاد المشركين.
نعم ، لقد استيقظت المرأة وانبعثت مواهب النساء المؤمنات وبرزت كفاءاتهن التي كانت مطمورة ترزح تحت اثقال فادحة من قوانين المجتمع الجاهلي وسخافات التقاليد الموروثة من العقائد البالية.
أجل عندما سطع نور الإسلام الخالد انبرت
المرأة المسلمة للاسهام بنصيبها الأكبر في الجهاد ، فكانت مع أخيها المسلم المجاهد جنباً إلىٰ جنب في ساحات الوغىٰ ، تروي ظمأه إذا عطش ، وتضمد جراحه إذا اُصيب ، وقد صوّرت
إحدى الشاعرات ذلك علىٰ لسانهن بروعة :
نحن وإن لم نحسن الرمي ولم |
|
تستطع إحدانا تقليب الظبا |
نخدم الجرحىٰ ونقضي حقّهم |
|
ونواسي في الوغىٰ من نُكبا (١) |
لقد زخرت نفوس نساء صدر الإسلام بالعقيدة الإسلامية الفياضة ، واندفعت في عروقها دماء التضحية والفداء ، لقد كانت تثير الحماس في روحه وتعالجه اذا انتكس ، وأمّا اذا داهمها أعداء الله وتعرّضت للأهوال فانها تبادر للدفاع وتقف وقفة الأبطال ، وتقبل علىٰ محاربة الأعداء غير هيّابة ولا وجلة بشجاعة وثبات وصلابة عقيدة ، بل وكانت كلّما ادلهمّت الخطوب ازدادت حماساً واندفاعاً إيماناً بإسلامها.
لقد حمل صدر الدعوة الإسلامية التفاف النساء المضحيات حول النبي صلىاللهعليهوآله وعطفهن عليه ، فكانت منهنّ المؤمنات الصادقات اللواتي استعذبن العذاب في سبيله وسبيل دعوة الإسلام ، ولعل أصدق الصور المشرقة في تاريخ نساء صدر الإسلام هي تضحيات أُم المؤمنين السيدة خديجة الكبرىٰ عليهاالسلام التي ضحّت بكلّ ما تملك من مال وجاه في سبيل نصرة زوجها العظيم محمّد صلىاللهعليهوآله ، وكذلك تضحيات السيدة سميّة زوجة ياسر وأُم الصحابي الجليل عمار رضياللهعنه ، وكذلك تضحيات نخبة من المؤمنات كأُم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها (٢) ونسيبة المازنية. ثمّ تتابع جهاد المرأة حتىٰ تكلّل بسقوط أوّل شهيدة في سبيل الإمامة
_____________
(١) طلائع الشهداء من بني هاشم / السيدة مريم نور الدين فضل الله : ٤٠.
(٢) أُستشهد زوجـها في مـعارك المسلمين الاُولىٰ ثمّ تزوّجـها رسول الله صلىاللهعليهوآله ، عن الإصابة / ابن حجر العسقلاني ٤ : ٤٠٨.
الحقّة والولاية الإلٰهية والتي كانت بحق تمثل الجسر الرابط بين النبوّة الخاتمة والولاية الحقّة ، ألا وهي الشهيدة الصديقة فاطمة الزهراء حيث كانت المحامي الأوّل وملاذ الأمير عليهالسلام في تلك المحنة الدهماء.
ثمّ تتابع جهاد النساء المسلمات حيث وقفت عقيلة بني هاشم الحوراء زينب الكبرىٰ عليهاالسلام وأتمّت ثورة أخيها الإمام الحسين عليهالسلام ، بجدارة واستطاعت بقوّة حجّتها وإيمانها وصبرها أن تزيل القناع الذي تجلبب به الطلقاء من بني اُميّة وادعاءاتهم الكاذبة من أنهم خلفاء الرسول صلىاللهعليهوآله ، وأوضحت زيف وكذب ادعاءاتهم بخطبها البليغة التي أيقظت الناس علىٰ حقيقة أباطيل أعداء الله ورسوله ، ولا زالت قافلة النساء المؤمنات وبنات الصديقة فاطمة عليهاالسلام يتسابقن لتسجيل أروع التضحيات في سبيل راية الإسلام.
وفي تاريخنا المعاصر أمثلة شتىٰ من المؤمنات المجاهدات الشهيدات ، وفي طليعتهن العلوية الطاهرة بنت الهدىٰ (آمنة الصدر) وكوكبة من تلميذاتها اللواتي نلن شرف الشهادة ، كالسيدة سلوىٰ البحراني ، والمهندسة رجيحة المسلماوي ، والمهندسة ابتهاج النوّاب ، والدكتورة شكريّة السمّان ، والدكتورة ساجدة العماري وغيرهن.
نعم ، رفع الإسلام مكانة الأُم إلىٰ حيث رفعها الله تعالىٰ إلىٰ موقعها ، كما يتبيّن من قول رسوله الكريم : « الجنّة تحت أقدام الأمهات » (١).
لقد أوصى الرسول وأهل بيته عليهمالسلام بالأُم وبالنساء عموماً ، قال صلىاللهعليهوآله : « فاتّقوا
_____________
(١) كنز العمّال / المتّقي الهندي ١٦ : ٤٦١ / ٤٥٤٣٩ باب برّ الوالدين (برّ الأُم).
الله في النساء ، واستوصوا بهن خيراً » (١) ، وقال صلىاللهعليهوآله : « المرأة ريحانة » (٢) ، وقال أيضاً : « من أخلاق الأنبياء حبّ النساء » (٣) بل تكلّلت تلك الأحاديث الشريفة الموصية بالمرأة بقوله صلىاللهعليهوآله : « حُبِّب إليَّ من دنياكم النساء والطيب ، وجعلت قرّة عيني في الصلاة » (٤) فموقع المرأة في نظر الإسلام يتوسّط أمرين ومحاط بركنين أساسيين ، وهما الركن الدنيوي الممثّل لقمّة الحياة وهو عصارة جمال الطبيعة المتمثّل بالطيب والركن الآخر ، وهو الصلاة التي تمثّل صميم الإسلام وعمود الدين ، إذن فالمرأة المتوسطة في المنظور النبوي الشريف بين الطيب والصلاة ما هي إلّا المرأة المؤمنة والمحبّة للّه ورسوله وأهل بيته الطاهرين ، والتي هي ريحانة لأُمّها وأبيها ، والحبيبة لزوجها والمعاضدة له في رحلة الحياة الشاقّة ، والملهمة لأبنائها ، والمربية المرشدة والصانعة لأجيال المستقبل.
والمرأة الطاهرة هي الكائن الوحيد الذي باستطاعته أن يرفد المجتمع بالأفراد الصالحين ، ليتمكّن من خلالهم السير علىٰ طريق الاستقامة والقيم الإنسانية السامية.
إن وظيفة الاُمومة تُعد من أصعب وأشرف وظائف المرأة ، ولذا فليس من السهل حصر حقوق الاُمهات في دائرة معيّنة ، بل إنّ أداء حقّها يعدّ من الصعوبة
_____________
(١) تحف العقول / الحسن ابن شعبة الحرّاني : ٣٠ خطبة الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله في حجّة الوداع ، ط : مؤسسة الأعلمي.
(٢) تحف العقول / الحسن ابن شعبة الحرّاني : ٦٣ ، فقرة من كتاب أمير المؤمنين إلى ابنه الحسن عليهماالسلام (باب وصايا أمير المؤمنين عليهالسلام).
(٣) الكافي / الكليني ٥ : ٣٢٠ / ١ باب حبّ النساء من كتاب النكاح.
(٤) كنز العمال ٧ : ٢٨٨ / ١٨٩١٣ باب فضائل الصلاة.
بمكان ، إلّا بعون الله وتوفيقه ، ولا يخفىٰ أنّ الرحمة والرأفة والحنان التي يحملها قلب الاُم ما هي إلّا تجلٍّ لرحمة الربّ عزّوجلّ ، وقد صوّر أحد أبناء تلك النسوة الطاهرات ـ وهو الإمام السجاد عليهالسلام ـ حقّ الاُم الوارد في (رسالة الحقوق) قائلاً :
« وأما حقُّ اُمك ، فأن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحدٌ أحداً ، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحدٌ أحداً ، ووقتك بجميع جوارحها ، ولن تُبال أن تجوع وتُطعمك ، وتعطش وتسقيك ، وتعرىٰ وتكسوك ، وتظلك وتَضحىٰ ، وتهجر النوم لأجلك ، ووقتك الحر والبرد لتكون لها ، وأنك لا تطيق شكرها إلّا بعون الله وتوفيقه » (١).
أجل لقد مزج رب العزة قلوب الاُمهات وأرواحهنّ بنور رحمته ، ولذا فانّ الرحمة الأزلية هي التي أكسبت الاُمهات تحمّل كل المشاقّ والعذاب منذ لحظة استقرار النطفة في الأرحام إلىٰ فترة الحمل ثمّ الولادة وما بعدها من حضانة وتربية حتّىٰ آخر العمر ، ومن هنا كان حقّها علىٰ ولدها يفوق حقّ أبيه عليه.
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : « جاء رجلٌ إلىٰ النبي صلىاللهعليهوآله فقال : يا رسول الله من أبرّ ؟ قال : أُمّك ، قال : ثمّ من ؟ قال : أُمك ، قال : ثمّ من ؟ قال : أُمك ، قال : ثمّ من ؟ قال : أباك » (٢).
إنّ تربية الأولاد وتقديمهم كاملين للمجتمع لهو أشرف الأعمال ، ويلتقي مع الهدف الذي بُعِث من أجله الأنبياء والرسل علىٰ مرّ العصور منذ بدء الخليقة ونزول آدم عليهالسلام وحتّىٰ ختم النبوات بمحمّد الخاتم صلىاللهعليهوآله.
_____________
(١) أمالي الصدوق : ٤٥٣ / ٦١٠ المجلس ٥٩.
(٢) الكافي / الكليني ٢ : ١٥٩ / ٩.
وإنّ أحضان الاُمهات مصنع الرجال العظماء ، ولهذا المعنى أشار سيد شباب أهل الجنّة عليهالسلام في خطبته التي ألقاها صبيحة يوم العاشر من شهر محرم الحرام علىٰ مسامع جيوش بني أُميّة الزاحفة صوب قتاله لاتمام الحجّة عليهم ولإظهار عزّة المؤمنين قائلاً :
« ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين : بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبىٰ الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجورٌ طابت وطَهُرت ، وأُنوفٌ حميّة ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام علىٰ مصارع الكرام » (١).
فذكر سلام الله عليه الدعامة الأُولىٰ لتربية الإنسان المسلم وسموّه ، وخصّها بتلك الحجور الطيبة الطاهرة التي فتح السبط عليهالسلام عينيه وهو في أحضانها ، وفي زيارته الشريفة : « غذتك يد الرحمة ، ورضعت من ثدي الإيمان ، ورُبّيت في حجر الإسلام » (٢).
أجل لقد قيّض الله سبحانه وتعالىٰ لهذه الأجساد النورانية ، والتي كانت أشباحاً (٣) معلّقة بقوائم العرش أن تهبط إلىٰ الأرض بسلام وأن تستقرّ في الصلب المبارك لآدم عليهالسلام ، ثُمَّ تنتقل إلىٰ الرحم الطاهر للسيدة حواء ، ثُمَّ انتقلت عبر الأزمان من أصلاب شامخة إلىٰ أرحام مطهّرة لتصل إلىٰ الصلب المبارك لسيد مكّة (عبد المطّلب) ثُمَّ انقسم النور إلىٰ شطرين ؛ فاستقرّ أحدهما في صلب
_____________
(١) مقتل الخوارزمي ٢ : ٦.
(٢) مصباح الزائر / ابن طاووس : ٢٣٩ (زيارة الحسين عليهالسلام ليلة ويوم عرفة).
(٣) الكافي ١ : ٤٤٢ / ١٠ باب مولد النبي صلىاللهعليهوآله وآله ووفاته ، من كتاب الحجّة.
السيد عبدالله عليهالسلام ، فيما استقر الآخر في صلب أبي طالب عليهالسلام (١) ، ثُمَّ قُدّر له أن ينتقل إلىٰ أرحام الطاهرتين (أُم النبي السيدة آمنة بنت وهب ، وأُم الأمير السيدة فاطمة بنت أسد عليهماالسلام) ثُمَّ ينحدر النور فيستقر في رحم الطاهرة السيدة خديجة الكبرىٰ عليهاالسلام ليثمر عن بزوغ أتقىٰ وأطهر وأنور السيدات العواتك ، نور النبوّة الزاهر الصدّيقة الوتر فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، ويعود هذا النور مرّة أخرىٰ فيلتقي مع نور الأمير علي عليهالسلام (٢) ، ومن هنا فقد ورد عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : « لولا أنّ الله تبارك وتعالى خلق أمير المؤمنين عليهالسلام لفاطمة ، ما كان لها كفوٌ علىٰ ظهر الأرض من آدم ومن دونه » (٣) ويلتحم فيثمر ويزهر عن شروق بَدرَي الدجىٰ ـ الحسن والحسين عليهماالسلام ـ سيدي شباب أهل الجنّة. ومن ثمّ ينتقل النور إلىٰ بقيّة التسعة المعصومين الهداة المهديين من ذريّة الحسين (سلام الله عليهم أجمعين).
* *
_____________
(١) معاني الأخبار / الصدوق : ٥٦ / ٤ باب معاني أسماء محمّد وعلي وفاطمة والأئمة عليهمالسلام.
(٢) في الحديث الشريف : «قال الملك : إن الله أمرني أن اُزوّج النور من النور ! قال (رسول الله صلىاللهعليهوآله) : مَنْ مِنْ مَنْ ؟ قال الملك : فاطمةُ من عليٍّ» معاني الأخبار / الصدوق : ١٠٤ ، ودلائل الإمامة : ٩٣ / ٢٧ فقرة من حديث خبر (محمود الملك الهابط على النبي صلىاللهعليهوآله يبشّره بزواج فاطمة بالسماء).
(٣) الكافي ١ : ٤٦١ / ١٠ باب مولد الزهراء عليهاالسلام من كتاب الحجّة.
القسم الأول
أُمهات أصحاب الكساء عليهمالسلام
أولاً : أُم خاتم الأنبياء والمرسلين صلىاللهعليهوآله
اسمها : السيدة الجليلة آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة.
ولادتها : ولدت عليهاالسلام في حدود منتصف القرن السادس الميلادي.
أسرتها : سليلة الأُسرة المباركة من القبيلة ذات الشأن العظيم التي استأثرت وحدها بخدمة البيت العتيق وما نالها من خدمته من أمجاد وامتيازات ، أجل لقد كانت آمنة أفضل امرأة نسباً وموضعاً حيث امتازت بالذكاء وحسن البيان.
وتنتمي أُسرتها إلىٰ (زهرة) بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي ، وهو الأخ الشقيق (لِقصي) الذي ملك مدينة (مكّة) ثمّ تركها لِقريش ميراثاً مجيداً لم تنافسها في شيء منه قبيلة أخرىٰ حتىٰ جاءها (محمّد صلىاللهعليهوآله) حفيد قصي بن كلاب بمجد الدهر وعزّ الأبد. (١)
_____________
(١) راجع السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٣٨ ، طبعة دار الفكر للثقافة والنشر عام ١٤١٥ ه.
أمّا أُمهما (زهرة وقصي) : فهي فاطمة بنت سعد بن شبل أحد بني الجدرة حيث لقّبوا بذلك نسبة إلىٰ جدّهم (عامر بن عمرو الأزدي) الذي بنىٰ للكعبة المعظّمة جداراً حين دخلها السيل ذات مرة ففزعت قبيلة قريش لذلك ، وخافت من أثر السيل أن يجرف الكعبة حيث يذهب شرفها ودينها ، ولمّا التفتوا إلىٰ جدار عامر ، فسمّوه بالجادر ، حيث لقّبوا أولاده من بعده ببني الجدرة. وكان (بنو زهرة) ممن سبقوا الىٰ تلبية النداء حين تداعت قبائل من قريش إلىٰ حلف (الفضول) ، وقد كان ذلك قبل مبعث النبي صلىاللهعليهوآله بنحو عشرين عاماً ، وكان أكرم حلف وأشرفه (١). فمن هذه الأُسرة القرشية الكريمة التي عرفت بصلة الودّ والحبّ لبني عبدمناف بن قصي ، كانت السيدة (آمنة بنت وهب بن عبدمناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة) التي توّجت ذلك المجد العريق بالشرف الذي لا يُدرك. لقد نشأت السيدة (آمنة) في أعزّ بيئة وأطيب منبت ، فاجتمع لها من أصالة النسب ورفعة الحسب ما تزهو به في مجتمع مكّة المتميِّز بكرم الأصول ومجد الأعراق ، فقد كانت زهرة قريش اليانعة ، وبنت سيد بني زهرة نسباً وشرفاً ، وقد ظلت في خدرها محجوبة عن العيون مصونة عن الابتذال حتىٰ ما يكاد الرواة يتبيّنون ملامحها أو يتمثّلونها في صباها الغض. أبوها : هو (وهب بن عبد مناف) سيد بني زهرة شرفاً وحسباً ، وقد مدحه الشاعر حيث أنشد :
_____________ (١) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١١٩ من موضوع حلف الفضول ، بتصرّف. |