السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-203-x
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٥٦
وفي نص آخر عن أبي جعفر «عليهالسلام» : «أمر الناس أن يتجلدوا ، وقال : أخرجوا أعضادكم ، وأخرج رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عضده ، ثم رمل بالبيت ليريهم أنه لم يصبهم جهد ، فمن أجل ذلك يرمل الناس ، وإني لأمشي مشيا ، وقد كان علي بن الحسين «عليهالسلام» يمشي مشيا» (١).
زاد في نص آخر عن ابن عباس قوله : «ورملوا بالبيت ثلاثة أشواط ، ورسول الله «صلىاللهعليهوآله» على ناقته ، وعبد الله بن رواحة آخذ بزمامها ، والمشركون بحيال الميزاب ، ينظرون إليهم ، ثم خرج رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بعد ذلك ، فلم يرمل ، ولم يأمرهم بذلك» (٢).
وقد تحدثنا عن هذا الأمر في عمرة القضاء ، في هذا الكتاب ، فراجع ..
سعى راكبا :
عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر : أن رسول الله «صلى الله عليه
__________________
(١) الوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٣ ص ٣٥٢ و (ط دار الإسلامية) ج ٩ ص ٤٢٨ وعلل الشرايع ج ٢ ص ٤١٢ وكشف اللثام (ط. ج) ج ٥ ص ٤٦٦ و (ط. ق) ج ١ ص ٣٤٢ ورياض المسائل ج ٧ ص ٤٠ وجواهر الكلام ج ١٩ ص ٣٥١.
(٢) الوسائل (ط دار الإسلامية) ج ٩ ص ٤٢٩ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٣ ص ٣٥٣ عن نوادر أحمد ، وراجع فقه الرضا (ط حجرية) ص ٧٣ والحدائق الناضرة ج ١٦ ص ١٢٨ ورياض المسائل ج ٧ ص ٤١ وجواهر الكلام ج ١٩ ص ٣٥١ ومستدرك الوسائل ج ٩ ص ٣٩٥ والبحار ج ٩٦ ص ٣٥٣ وجامع أحاديث الشيعة ج ١١ ص ٣١٧.
وآله» طاف في حجة الوداع على راحلته بالبيت ، وبين الصفا والمروة ليراه الناس.
وبكونه سعى راكبا جزم ابن حزم (١).
وظاهر الأحاديث عن جابر وغيره ، يقتضي : أنه مشى ، خصوصا قوله : فلما انصبت قدماه في الوادي رمل حتى إذا صعد مشى.
وجزم ابن حزم : بأن الراكب إذا انصب به بعيره فقد انصب كله ، وانصبت قدماه أيضا مع سائر جسده.
قال ابن كثير : وهذا بعيد جدا (٢).
وفي الجمع بينهما وجه أحسن من هذا ، وهو : أنه سعى ماشيا أولا ، ثم أتم سعيه راكبا ، وقد جاء ذلك مصرحا به ، ففي صحيح مسلم ، عن أبي الطفيل ، قال : قلت لابن عباس : أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا ، أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة.
قال : «صدقوا وكذبوا».
قال : قلت : ما قولك صدقوا وكذبوا؟!
قال : إن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» كثر عليه الناس يقولون : هذا محمد ، حتى خرج عليه العواتق من البيوت ، قال : وكان رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لا يضرب الناس بين يديه ، قال : فلما كثر عليه الناس ركب ،
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٦٥ عن أحمد ، ومسلم ، والنسائي ، وابن كثير ، وابن القيم ، وابن حزم وغيرها من المصادر التي مرت.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٦٥.
والمشي أفضل (١).
وعن قدامة بن عمار قال : «رأيت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وهو يسعى بين الصفا والمروة على بعير ، لا ضرب ، ولا طرد ، ولا إليك إليك» (٢).
قلت : «وفي حديث يعلى بن أمية : أنه رأى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مضطجعا بين الصفا والمروة ببرد له نجراني» (٣).
__________________
(١) سبل الهدى الرشاد ج ٨ ص ٤٦٥ عن ابن كثير ، وابن حزم ، وراجع : بداية المجتهد لابن رشد الحفيد ج ١ ص ٢٧٣ ونيل الأوطار ج ٥ ص ١٢٢ و ١٢٣ ومسند أحمد ج ١ ص ٢٢٩ و ٢٩٧ و ٣١١ و ٣١٢ و ٣٦٩ و ٣٧٣ وصحيح مسلم ج ٤ ص ٦٤ و ٦٥ وسنن أبي داود ج ١ ص ٤٢١ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٥ ص ٨٢ و ١٠٠ و ١٥٤ وشرح مسلم للنووي ج ٩ ص ١١ والديباج على مسلم ج ٣ ص ٣٤٨ ومسند أبي داود الطيالسي ص ٣٥١ ومسند الحميدي ج ١ ص ٢٣٧ وصحيح ابن خزيمة ج ٤ ص ٢١٥ و ٢٤٠ وشرح معاني الآثار ج ٢ ص ١٨٠ وأمالي المحاملي ص ٨٢ وصحيح ابن حبان ج ٩ ص ١١٩ و ١٥٤ والمعجم الكبير ج ١٠ ص ٢٦٧ و ٢٦٨ والإستذكار لابن عبد البر ج ٤ ص ١٩٣ والتمهيد لابن عبد البر ج ٢ ص ٧٠ ونصب الراية للزيلعي ج ٣ ص ١١٩ و ١٢٥ وفيض القدير ج ١ ص ٧٤ وأحكام القرآن للجصاص ج ١ ص ٩٥ و ١٢٠ وتهذيب الكمال ج ٣٤ ص ٩ و ١٠ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٤٦٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٦٤ وج ٥ ص ١٨٠ و ١٨١.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٦٦ والبيهقي ج ٥ ص ١٠١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٣٣٠ والبداية والنهاية ج ٥ ص ١٨٣.
(٣) مسند أحمد ج ٤ ص ٢٢٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٦٥ عنه ، والبداية والنهاية ج ٥ ص ١٧٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٣١٩.
يرى بياض فخذ رسول الله صلىاللهعليهوآله :
وعن حبيبة بنت أبي تجراة قالت : «رأيت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يطوف بين الصفا والمروة ، والناس بين يديه وهو وراءهم ، وهو يسعى ، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي ، يدور به إزاره وهو يقول : «اسمعوا فإن الله عزوجل كتب عليكم السعي».
وفي الكبير قال : «ولقد رأيته من شدة السعي يدور الإزار حول بطنه وفخذيه حتى رأيت بياض فخذيه» (١).
ونقول :
إن لنا مع هذه الأقاويل وقفات عديدة ، هي التالية :
الإضطباع : حكمه ، ومعناه :
إضطبع الرجل : أبدى أحد ضبعيه ، واضطبع المحرم بثوبه ، أدخل الرداء تحت إبطه الأيمن ، وغطى به الأيسر ..
وروايات أهل البيت «عليهمالسلام» لم تشر إلى الإضطباع بشيء ، بل تكتفي بالأمر بلبس الإزار والرداء ، ولا تشير إلى لزوم كيفية بعينها ، فلا بد من حملها على لبسهما على النحو المتعارف ، وهو أن يأتزر بأحد الثوبين ، ويرتدي بالآخر بوضعه على الكتفين.
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٦٦ عن أحمد والطبراني ، وفي هامشه عن أحمد ج ٦ ص ٤٢١ ومجمع الزوائد ج ٣ ص ١٤٧ وراجع : المعجم الكبير للطبراني ج ٢٤ ص ٢٢٧.
وأما حديث علي بن أمية أنه رأى النبي «صلىاللهعليهوآله» مضطبعا بأحد ثوبيه ، فإن كان له نصيب من الصحة ، فربما يكون رداء الرسول «صلىاللهعليهوآله» قد اختل بسبب الهواء ، أو الزحام ، فرآه يعلى في تلك الحال ، قبل أن يصلحه «صلىاللهعليهوآله» ..
رأى بياض فخذي رسول الله صلىاللهعليهوآله!! :
وإذا كانوا يروون عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أن الفخذ من العورة التي لا يجوز إظهارها ، فإن ذلك يقتضي عدم جواز تشريع ما يوجب انكشافها من الأساس ..
واحتمال أن يكون التشريع لا يوجب ذلك ، وإنما اتفق ذلك لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» لسبب ما .. لا مجال لقبوله ، لأن ذلك لا بد أن يدخل في سياق التهاون والتقصير في رعاية الأحكام ، وهذا ممنوع على النبي الكريم «صلىاللهعليهوآله» .. وبدون ذلك ، فإن الله تعالى لا بد أن يسدد نبيه ويحفظه من أن يظهر منه ما يخل بمقامه ، ولا سيما العورة التي يأنف كل أحد من أن يراها أي كان من الناس ، حتى ولو بالرغم عنه ..
وقد تقدم لنا كلام حول هذا الموضع حين الحديث عن نقل الحجارة لبناء الكعبة في الجزء الثاني من هذا الكتاب ، فراجع ..
قدوم علي عليهالسلام من اليمن :
قالوا : وسار رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قبل يوم التروية بيوم ، فقلنا غدا إن شاء الله تعالى بالخيف ، حيث استقسم المشركون ، ثم سار رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ـ والناس معه ـ حتى نزل الأبطح شرقي
مكة ، في قبة حمراء من أدم ، ضربت له هناك.
وهناك ـ كما قال ابن كثير ـ : قدم علي من اليمن ببدن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» محرشا لفاطمة.
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «صدقت» ثلاثا ، «أنا أمرتها يا علي بم أهللت»؟
قال : قلت : اللهم إني أهلّ بما أهلّ به رسولك. قال : ومعي هدي.
قال : «فلا تحل» ، فكان جملة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي ساقه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من المدينة مائة بدنة (١).
ونقول :
لاحظ ما يلي :
تحريش علي لفاطمة عليهماالسلام :
قد تقدم في روايات أهل البيت «عليهمالسلام» : أن عليا «عليهالسلام» قدم من اليمن فوجد فاطمة «عليهاالسلام» قد أحلت ، فذهب إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مستفتيا.
فتغيرت كلمة مستفتيا عند مناوئي أهل البيت «عليهمالسلام» ، فصارت : «محرشا» لتدل على : أن فاطمة «عليهاالسلام» لم تكن مأمونة في دينها بنظر علي «عليهالسلام» ، أو أن عليا «عليهالسلام» نفسه كان ذا طبيعة عدوانية ، واستفزازية ..
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٦٧.
الإجمال في النية :
لقد دلت نية علي «عليهالسلام» وهي : أهللت بما أهل به النبي «صلىاللهعليهوآله» ، صحة الإجمال في النية ، حين يكون المنوي محددا في الواقع ، وإن لم يعلم الناوي تفصيله ، وحدوده وخصوصياته حين إنشائه للنية.
فنية النبي «صلىاللهعليهوآله» كانت محددة واقعا ، فيكفي أن يقصد علي «عليهالسلام» ما قصده النبي «صلىاللهعليهوآله» ، إذ لا ترديد في النية ولا في المنوي بحسب الواقع ..
الكلب والحمار والمرأة :
وكان «صلىاللهعليهوآله» يصلي مدة مقامه هنا إلى يوم التروية بمنزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين بظاهر مكة ، فأقام بظاهر مكة أربعة أيام يقصر الصلاة : الأحد ، والإثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء.
ولم يعد إلى الكعبة ، كما في الصحيح عن ابن عباس.
وفي حديث أبي جحيفة : أنه أتى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بالأبطح وهو في قبة له حمراء ، فخرج بلال بفضل وضوئه ، فمن ناضح ومن نائل.
قال : فأذن بلال ، فكنت أتتبع فاه هاهنا وها هنا ، يعني يمينا وشمالا ، ثم خرج بلال بالعنزة بين يديه ، فخرج رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وعليه حلة حمراء ، فكأني أنظر إلى بريق ساقيه ، فصلى بنا الظهر والعصر ، ركعتين ركعتين ، تمرّ المرأة ، والكلب ، والحمار من وراء العنزة.
فقام الناس ، فجعلوا يأخذون بيده فيمسحون بها وجوههم.
قال : فأخذت يديه فوضعتها على وجهي ، فإذا هي أبرد من الثلج ، وأطيب ريحا من المسك (١).
ونقول :
١ ـ لقد تحدثنا فيما سبق عن عدم صحة قولهم : لا يقطع الصلاة إلا الكلب ، والحمار ، والمرأة .. وأن في هذا الكلام إساءة إلى الدين ، وتكذيب لآياته ، وإبطال لمناهجه ، فإنه لا يصح مساواة المرأة بالكلب والحمار ، وقد قال الله تعالى في كتابه : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٢) ، بلا فرق في ذلك بين المرأة والرجل ..
وقد كانت الزهراء «عليهاالسلام» بعد أبيها وبعلها أفضل الخلق. وأكرمهم على الله تبارك وتعالى.
٢ ـ على أننا لا ندري لماذا انحصر قطع الصلاة بالكلب والحمار دون سائر البهائم ، فلم يقطعها مرور الخنزير ، أو الفرس ، أو أي حيوان آخر؟!
٣ ـ وقد تحدثنا عن تبرك الصحابة بآثار نبيهم الأكرم «صلىاللهعليهوآله» أكثر من مرة فلا نعيد.
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٦٧ و ٤٦٨ عن أحمد ، والبخاري ومسلم ، وراجع : مسند أحمد ج ٤ ص ٣٠٨ وصحيح ابن خزيمة ج ٤ ص ٣٢٦ وتنقيح التحقيق في أحاديث التعليق للذهبي ج ١ ص ١١٩ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٤٥٠ والبداية والنهاية ج ٥ ص ١٨٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٣٣٦.
(٢) الآية ٦ من سورة الحجرات.
الفصل الخامس :
حج النبي صلىاللهعليهوآله برواية أهل السنة
النبي صلىاللهعليهوآله في عرفات :
قال ابن سعد : فوقف بالهضبات من عرفات وقال : «كل عرفة موقف إلا بطن عرنة» (١). أي بالنون.
قال ابن تيمية : بطن عرنة واد من حدود عرفة.
فخطب الناس قبل الصلاة على راحلته خطبة عظيمة.
وهو قائم في الركابين ـ كما عند أبي داود ـ عن العداء بن خالد (٢).
ونص الخطبة بعد الحمد لله ، والثناء عليه :
«أيها الناس ، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا. وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، وقد بلغت ، فمن كانت عنده أمانة فليردها لمن ائتمنه عليها.
ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي ، وإن أول دمائكم أضع. وفي رواية : وإن أول دم أضع من دمائنا دم ربيعة.
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٦٨ عن أبي داود ج ٢ ص ١٨٩ (١٩١٧) وراجع : الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٧٣ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ١١٣.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٦٨ عن أبي داود ج ٢ ص ١٨٩ (١٩١٧).
(وفي رواية : دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، كان مسترضعا في بني سعد بن بكر ، فقتلته هذيل (١).
وعند ابن إسحاق ، والنسائي ، في بني ليث ، فقتلته هذيل). فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية ، وإن كل ربا موضوع ، (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (٢) ، قضى الله أنه لا ربا ، وإن أول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله.
أما بعد أيها الناس ، الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ، ولكنه إن يطمع فيما سوى ذلك ، فقد رضي بما تحقرون من أعمالكم ، فاحذروه على دينكم.
أيها الناس ، إنّ (النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) (٣) ويحرموا ما أحل الله ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، وفي رواية : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) ، (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (٤) ، ثلاثة متوالية : ذي القعدة ، وذي الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر ، الذي بين جمادى وشعبان.
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٦٨ و ٤٦٩ وفي هامشه عن : مسلم ج ٢ ص ٨٨٦ ـ ٨٩٢ (١٤٧ / ١٢١٨) وأبي داود ج ٢ ص ١٨٥ (١٩٠٥) وابن ماجة ج ٢ ص ١٠٢٥ (٣٠٧٤).
(٢) الآية ٣٦ من سورة التوبة.
(٣) الآية ٢٧٩ من سورة البقرة.
(٤) الآية ٣٦ من سورة التوبة.
«أما بعد .. أيها الناس ، اتقوا الله ، واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهم شيئا ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله». وفي رواية : «بكتاب الله».
ولكم عليهن حق ، ولهن عليكم حق ، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع ، وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن انتهين فلهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
فاعقلوا أيها الناس قولي ، فإني قد بلغت ، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي أبدا ـ إن اعتصمتم به ـ أمرين ، (وفي رواية : أمرا بينا) كتاب الله عزوجل ، وسنة نبيه «صلىاللهعليهوآله».
أيها الناس ، اسمعوا قولي واعقلوه ، تعلمنّ أن كل مسلم أخ لمسلم.
وفي رواية : أخو المسلم ، وأن المسلمين إخوة ، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس ، فلا تظلمن أنفسكم.
واعلموا أن القلوب لا تغل على ثلاث : إخلاص العمل لله عزوجل ، ومناصحة أولي الأمر ، وعلى لزوم جماعة المسلمين ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم.
ومن تكن الدنيا نيته يجعل الله فقره بين عينيه ، ويشتت عليه ضيعته ، ولا يأتيه منها إلا ما كتب له ، ومن تكن الآخرة نيته يجعل الله غناه في قلبه ، ويكفيه ضيعته ، وتأتيه الدنيا وهي راغمة.
فرحم الله امرأ سمع مقالتي حتى يبلغه غيره ، فرب حامل فقه وليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. أرقاءكم ، أرقاءكم ، أطعموهم
مما تأكلون ، واكسوهم مما تلبسون ، فإن جاء بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ، ولا تعذبوهم ، أوصيكم بالجار (حتى أكثر ، فقلنا : إنه سيورثه).
أيها الناس ، إن الله قد أدى لكل ذي حق حقه ، وإنه لا يجوز وصية لوارث ، والولد للفراش ، وللعاهر الحجر ، ومن ادّعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله ، والملائكة ، والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا.
العارية مؤداة ، والنحلة مردودة ، والدين مقضي ، والزعيم غارم.
أما بعد .. فإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من هاهنا عند غروب الشمس ، حتى تكون الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها. هدينا مخالف هديهم ، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام عند طلوع الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها. ويقولون : أشرق ثبير ، كيما نغير ، فأخر الله هذه وقدم هذه. (يعني : قدم المزدلفة قبل طلوع الشمس ، وأخر عرفة إلى أن تغيب الشمس) ، وإنّا لا ندفع من عرفة حتى تغيب الشمس ، وندفع من المزدلفة حتى تطلع الشمس ، وهدينا مخالف لهدي الأوثان والشرك» (١).
وفي حديث المسور بن مخرمة قال : خطبنا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بعرفات ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
«أما بعد .. أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من هذا الموضع إذا
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٦٨ و ٤٦٩ و ٤٧٠ عن ابن إسحاق والنسائي.
كانت الشمس على رؤوس الجبال ، كأنها عمائم الرجال في وجوهها ، وإنّا ندفع بعد أن تغيب ، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام إذا كانت الشمس منبسطة» (١).
«وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون»؟
قالوا : نشهد أنك بلغت ، وأديت ، ونصحت ، فقال بإصبعه السبابة ، يرفعها إلى السماء وينكتها على الناس : «اللهم اشهد ، اللهم اشهد ، اللهم اشهد». ثلاث مرات.
وعن ابن عباس : «أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» خطب بعرفات ، فلما قال : «لبيك اللهم لبيك ، قال : إنما الخير خير الآخرة».
ونقول :
قد تضمنت هذه الخطبة العظيمة أمورا هامة لا مجال للإفاضة في الحديث عنها ، فآثرنا أن نقتصر منها على ثلاثة أمور ، نعرضها للقارئ الكريم باختصار هنا ، وبتفصيل بعد انتهاء الحديث عن حج رسول الله «صلىاللهعليهوآله». وهي التالية :
الأول : قريش في مواجهة الرسول صلىاللهعليهوآله :
إنها تعرضت لموضوع الإمامة بشكل أساسي ، فواجهت قريش وأعوانها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بالسوء والأذى والإهانة والغوغائية .. وسنشرح ذلك بالتفصيل إن شاء الله حين نتعرض له ، في باب
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٧٠ عن الطبراني في الكبير ج ٢٠ ص ٢٤.
«الغدير والإمامة».
الثاني : لبيك اللهم لبيك :
قد يقال : إنه «صلىاللهعليهوآله» قد لبى في آخر الخطبة المذكورة آنفا ، مع أن الحاج يقطع التلبية في عرفة.
ويجاب : بأن قطع الحاج للتلبية في عرفة إنما هو عند زوال الشمس ..
وقد صرح النص المتقدم : بأنه «صلىاللهعليهوآله» قد خطب هذه الخطبة قبل الصلاة ، وهذا معناه : أن تلبيته المشار إليها في آخر الخطبة قد حصلت مع الزوال أو قبله بلحظات ..
الثالث : تحريف خطبة رسول الله صلىاللهعليهوآله :
إن التدقيق في نصوص الخطبة المشار إليها ، وفي النصوص التي وردت في سائر الآثار بالأسانيد الصحيحة والصريحة يفيد أن هذه الخطبة قد تعرضت ـ فيما يظهر ـ للتحريف من ناحيتين :
إحداهما : قوله «صلىاللهعليهوآله» : «قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي أبدا ، إن اعتصمتم به» ، أمرين : كتاب الله عزوجل ، وسنة نبيه.
فإن الرواية الصحيحة في حديث الثقلين هي قوله «صلىاللهعليهوآله» : «إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي».
ولكنها بدلت وغيرت من قبل مناوئي العترة ، ظنا منهم أن ذلك يجدي في تقوية موقفهم مقابل أهل بيت النبوة عليهم الصلاة والسلام.
على أننا نقول :
أولا : قد ذكرنا في بعض فصول هذا الكتاب : أن حديث «وسنتي» لا
يتنافى مع حديث «وعترتي» ، بل منسجم معه تمام الإنسجام حيث يدلان معا على أن السنة التي تركها «صلىاللهعليهوآله» ، لا بد أن تؤخذ من العترة دون غيرهم ، لأن العترة هم المأمونون على سنته أكثر من كل أحد سواهم كما أظهرته الوقائع ..
ثانيا : إن نفس هذا الذي اختار إيراد الخطبة المحرفة التي قالت : «وسنتي» بدل وعترتي .. ولم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى الروايات الصحيحة ..
إنه هو نفسه قد عاد فذكر الرواية الصحيحة في موضع آخر من كتابه ، فأوجب هذا الفصل بين الروايتين صعوبة التنبه والجمع بينهما على القارئ العادي ، بل قد لا يخطر في باله : أن ثمة رواية أخرى على الإطلاق ، والرواية الصحيحة أو الأصح هي التالية :
روى الترمذي وحسنه ، عن جابر بن عبد الله ، قال : رأيت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في حجة الوداع يوم عرفة ، وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي (١).
__________________
(١) راجع : ينابيع المودة ج ١ ص ٩٩ و ١٠٩ و ١٢٥ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٦ والجامع الصحيح للترمذي ج ٥ ص ٣٢٧ وامتاع الأسماع ج ٦ ص ٤ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ١٢٣ والمعجم الأوسط ج ٥ ص ٨٩ والمعجم الكبير ج ٣ ص ٦٦ ونظم درر السمطين ص ٢٣٢ والغيبة للنعماني ص ٥٠ والمحتضر ص ١٩٩ والبحار ج ٢٣ ص ١٢٩ وج ٨٩ ص ١٠٢ وجامع أحاديث الشيعة ج ١ ص ١٩٦ ومستدرك سفينة البحار ج ٨ ص ٢٣٢ وخلاصة عبقات الأنوار ج ١ ص ١٠٥ و ١٢٤ و ١٩٨ و ٢٣٤ و ٢٥١ و ٢٥٥ وكنز العمال ج ١ ص ٤٨ (ط ـ
الثانية : إنه قد حذف من الخطبة حديث : «الأئمة بعدي إثنا عشر ، كلهم من قريش» ، الذي نص البخاري ومسلم ، ومصادر كثيرة أخرى على أنه «صلىاللهعليهوآله» قد قاله في يوم عرفة على رؤوس الأشهاد ، فأقامت قريش ، ومن يدور في فلكها الدنيا عليه ولم تقعدها ..
وأساءت الأدب مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وفضحت نفسها ، وضجت وعجت ، ومنعت النبي «صلىاللهعليهوآله» من إكمال كلامه ، كما سنوضحه في باب : «الغدير .. والإمامة». إن شاء الله تعالى ..
الذين أردفهم النبي صلىاللهعليهوآله خلفه :
ويلاحظ هنا : أنهم يذكرون : أنه «صلىاللهعليهوآله» حين أفاض من عرفة أردف أسامة بن زيد خلفه (١) ..
وقالوا : إنه «صلىاللهعليهوآله» سار بمزدلفة مردفا للفضل بن عباس ، وانطلق أسامة بن زيد على رجليه في سباق قريش (٢).
__________________
أولى) ونوادر الأصول ص ٦٨ وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج ١٠ ص ٥١ وتحفة الأشراف ج ٢ ص ٢٧٨ وجامع الأصول ج ١ ص ٢٧٧ ومشكاة المصابيح ج ٣ ص ٢٥٨.
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٧٢ ومسند أحمد ج ١ ص ٧٥ و ١٥٧ و ٢١٣ و ٢١٤ وسنن أبي داود ج ١ ٤٣١ وكنز العمال ج ٥ ص ١٥١ والتاريخ الصغير للبخاري ج ١ ص ٣٣٠ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ١٢٨ وعلل الدارقطني ج ٤ ص ١٦ وعيون الأثر ج ٢ ص ٣٤٦.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٧٣ وراجع : مسند أحمد ج ٥ ص ٢٠٠ وسنن
وحين أفاض إلى مكة ، زعموا : أنه أردف معاوية بن أبي سفيان من منى إلى مكة (١).
الفضل بن عباس .. والنظر إلى الأجنبية :
وقالوا أيضا : إنه حين كان مردفا الفضل بن عباس في طريقه تلك عرضت له امرأة من خثعم جميلة ، فسألته عن الحج عن أبيها. وكان شيخا كبيرا لا يستمسك على الراحلة ، فأمرها أن تحج عنه ، وجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، فوضع «صلىاللهعليهوآله» يده على وجهه ، فصرفه إلى الشق الآخر ، لئلا تنظر إليه ولا ينظر إليها.
وقال جابر : وكان الفضل رجلا حسن الشعر أبيض وسيما ، فقال العباس : لويت عنق ابن عمك.
فقال : «رأيت شابا وشابة ، فلم آمن الشيطان عليهما» (٢).
__________________
الدارمي ج ٢ ص ٥٧ وصحيح مسلم ج ٤ ص ٧٤ وسنن أبي داود ج ١ ص ٤٣١ وسنن النسائي ج ٥ ص ٢٦١ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٥ ص ١٢٢ وفتح الباري ج ٣ ص ٤١٧ و ٤٢٥ وعمدة القاري ج ١٠ ص ٢٤ وكنز العمال ج ٥ ص ٢٠١ وعيون الأثر ج ٢ ص ٣٤٧.
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٧٩ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ١١٧.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٧٣ و ٤٧٤ وراجع : كتاب الأم للشافعي ج ٢ ص ١٢٤ وكتاب الموطأ لمالك ج ١ ص ٣٥٩ والمغني لابن قدامة ج ٧ ص ٤٦٠ وسبل السلام ج ٢ ص ١٨١ وكتاب المسند للشافعي ص ١٠٨ ومسند أحمد ج ١ ص ٣٥٩ وصحيح البخاري ج ٢ ص ١٤٠ و ٢١٨ وصحيح مسلم ج ٤ ص ١٠١ وسنن أبي داود ج ١ ص ٤٠٧ وسنن النسائي ج ٥ ص ١١٨ وج ٨
ليس هذا قياسا :
وسأله آخر هناك عن أمه ، وقال : «إنها عجوز كبيرة ، وإن حملتها لم تستمسك ، وإن ربطتها خشيت أن أقتلها».
قال : «أرأيت إن كان على أمك دين أكنت قاضيه»؟
قال : نعم.
قال : «فحج عن أمك» (١).
ونقول تعليقا على ما تقدم :
حتى معاوية :
إننا لا ننكر أن يردف النبي «صلىاللهعليهوآله» من يحتاج إلى الإرداف ، لأجل حاجته إلى ما يركبه .. أو لأنه «صلىاللهعليهوآله» كان
__________________
ص ٢٢٨ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٤ ص ٣٢٨ وشرح مسلم للنووي ج ٩ ص ٩٧ وعمدة القاري ج ٩ ص ١٢٣ وج ١٠ ص ٢١٥ والسنن الكبرى للنسائي ج ٢ ص ٣٢٥ وج ٣ ص ٤٧٢ وصحيح ابن خزيمة ج ٤ ص ٣٤٢ و ٣٤٣ و ٣٤٤ وصحيح ابن حبان ج ٩ ص ٣٠١ و ٣٠٩ والمعجم الكبير ج ١٨ ص ٢٨٢ ومعرفة السنن والآثار ج ٣ ص ٤٧٣ والاستذكار لابن عبد البر ج ٤ ص ١٦٣ والتمهيد لابن عبد البر ج ٩ ص ١٢٢ وتفسير البغوي ج ١ ص ٣٣٠ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٢٦.
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٧٤ وسنن الدارمي ج ٢ ص ٤١ وسنن النسائي ج ٥ ص ١١٩ وج ٨ ص ٢٢٩ والسنن الكبرى للنسائي ج ٢ ص ٣٢٥ وج ٣ ص ٤٧٠ والمعجم الكبير ج ١٨ ص ٢٩٦ وكنز العمال ج ٥ ص ٢٧٣.