السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-203-x
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٥٦
وقد قال عروة بن الحارث الكندي : أنه شاهد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يومئذ أخذ بأعلى الحربة ، وأمر عليا «عليهالسلام» فأخذ بأسفلها ، ونحرا بها البدن ، ثم انفرد علي «عليهالسلام» ينحر الباقي من المائة كما قال جابر (١).
ونقول :
لاحظ ما يلي :
لتخرس الألسنة :
لو أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد أشرك أبا بكر في الهدي كما أشرك عليا «عليهالسلام» ، أو أشركه بما هو أقل من هذا ، لأقاموا الدنيا ولم يقعدوها في التحليلات ، والإستفادات ، والإستدلالات على عظمة ومنزلة أبي بكر ، وعلى إمامته وخلافته ، وربما يترقى بهم الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير و .. و .. الخ ..
بل إن إساءات وضعف وأخطاء أبي بكر وعمر ، تعتبر فضائل وكرامات ، وإشارات ودلالات ، وقد تجلى ذلك في موقفهم من كلمة عمر : إن النبي ليهجر ، فإنهم اعتبروا هذه الكلمة سببا في إنقاذ الإسلام والأمة من أمر عظيم!! كما سنرى ..
ولكن حين يتعلق الأمر بعلي «عليهالسلام» ، فإن الألسنة تخرس ، والمحابر تجف ، والأقلام تلتوي وتعيا عن أن تسجل عشر معشار ما حصل ،
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٧٦ و ٤٧٧.
فهل يتوقع منها أن تشير إلى شيء من الدلالات واللمحات؟!. بل تلهج ليل نهار بالتأويلات الهادفة إلى إفراغ مواقفه الرائدة والعظيمة من محتواها.
نحرا على عدد سني عمرهما :
إنه إذا كان «صلىاللهعليهوآله» قد نحر ثلاثا وستين بدنة على عدد سني عمره ، فإن عليا «عليهالسلام» أيضا قد نحر الباقي ، وكان على عدد سني عمره أيضا. وليس لنا أن نقطع بأن ذلك قد جاء على سبيل الصدفة ، للإحتمال القوي أن يكون مرادا له ومقصودا ..
المرجع هو أحاديث العترة :
بالنسبة للإختلاف في عدد الإبل التي نحرها الرسول «صلىاللهعليهوآله» ، وكيفيته ، وفي استقلاله بذلك أو في مشاركته عليا «عليهالسلام» لا سبيل إلى الجزم بذلك إلا إذا وجد أهل البيت «عليهمالسلام» ضرورة للتحديد والبيان ، فيتعين العودة إليهم ، والأخذ منهم ، فإن أهل البيت «عليهمالسلام» أدرى بما فيه ..
النبي صلىاللهعليهوآله يقسم شعره للتبرك به :
قالوا : لما أكمل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» نحره استدعى بالحلاق ، فحلق رأسه ، فقال للحلاق ـ وهو معمر بن عبد الله بن نضلة ـ وحضر المسلمون يطلبون من شعره ـ وهو قائم على رأسه بالموسى ، ونظر في وجهه وقال : «يا معمر ، أمكنك رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من شحمة أذنه ، وفي يدك الموسى»!!.
قال معمر : فقلت : أما والله يا رسول الله ، إن ذلك من نعم الله علي ومنّه.
قال للحلاق : «خذ» ، وأشار إلى جانبه الأيمن ، فلما فرغ منه قسم شعره على من يليه.
ثم أشار إلى الحلاق ، فحلق جانبه الأيسر ، ثم قال : «ها هنا أبو طلحة» ، فدفعه إليه (١).
قال ابن سعد : وحلق رأسه ، وأخذ من شاربه وعارضيه ، وقلم أظفاره ، وأمر بشعره وأظفاره أن تدفن (٢).
وروى البخاري عن أنس : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ شعره ، قال : وهذا لا يناقض رواية مسلم.
وفي رواية : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أعطاه أم سليم ، ولا يعارض هذا أنه دفعه لأبي طلحة لأنها امرأته.
وفي لفظ : فبدأ بالشق الأيمن ، فوزعه الشعرة والشعرتين بين الناس ،
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٧٧ و ٤٧٨ وراجع : تاريخ مدينة دمشق ج ١٩ ص ٤١٣ و ٤١٤ ومسند أبي يعلى ج ٥ ص ٢١١ وصحيح ابن حبان ج ٤ ص ٢٠٦.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٧٨ وقال في هامشه : البخاري ج ١ ص ٢٧٣ (١٧١) ومسلم ج ٢ ص ٩٤٧ (٣٢٣ / ١٣٠٥) ، (٣٢٦ / ١٣٠٥) ، وراجع : الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٧٤ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ١١٦ وج ١٠ ص ٥٠.
ثم قال : بالأيسر ، فصنع به مثل ذلك ، ثم قال : «هاهنا أبو طلحة» فدفعه إليه.
وفي لفظ ثالث : دفع إلى أبي طلحة شعر شق رأسه الأيسر ، ثم أظفاره وقسمها بين الناس.
وكلمه خالد بن الوليد في ناصيته حين حلق ، فدفعها إليه ، فكان يجعلها في مقدم قلنسوته ، فلا يلقى جمعا إلا فضه.
وحلق أكثر أصحابه «صلىاللهعليهوآله» وقصر بعضهم ، فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «اللهم اغفر للمحلقين» ، ثلاثا ، كل ذلك يقال : والمقصرين يا رسول الله ، فقال : «والمقصرين في الرابعة» (١).
ومما يدخل في هذا السياق يعني سياق دعوة الناس للتبرك قولهم : إنه مج في دلو ، فأفرغ على سقايتهم في زمزم (٢) ..
ونقول :
إننا نشير هنا إلى بعض الأمور ، فنقول :
قصة الحلاق :
إن روايتهم لقصة الحلاق هنا قد اختلفت عما روي عن أهل البيت «عليهمالسلام» ، فقد تقدم عن الإمام الصادق «عليهالسلام» : أن قريشا
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٧٨ ومستدرك الوسائل ج ١٠ ص ٧ و ١٣٥ والبحار ج ٩٦ ص ٣٠٢ ومسند أحمد ج ٦ ص ٤٠٢ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ١١٦ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٧١٣.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٧٩.
قالت للحلاق : «أي معمر ، أذن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في يدك ، وفي يدك الموسى»؟.
لكن روايتهم هنا تقول : إن النبي «صلىاللهعليهوآله» هو الذي قال لمعمر ذلك ..
وقد قلنا هناك : إن من القريب جدا أن يكون الذين قالوا ذلك لمعمر كانوا يريدون إغراءه بقتل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، بصورة مبطنة ..
ولعل الرواية عن الإمام الصادق «عليهالسلام» هي الأولى بالإعتبار ، إذ لا يمكن أن يقول النبي «صلىاللهعليهوآله» ذلك لمعمر ، لأنه إن كان يقصد إغراءه بالقتل ، فذلك لا يمكن صدوره عنه «صلىاللهعليهوآله» ، لأن الإغراء بالقتل من أعظم الجرائم ، فكيف إذا كان المقصود هو أن يغريه بقتل نفسه ، وكيف إذا كان أكرم الخلق ، وأعظم الأنبياء ، وسيد المرسلين؟!
وإن كان المقصود : هو اتهام معمر بأنه يقصد ذلك ، أو يراد جعله في دائرة الإحتمال بنظر الناس ، فذلك لا يصدر من النبي «صلىاللهعليهوآله» أيضا ، إذ لا يحق له اتهام الناس بلا مبرر ودليل ..
وإن كان المقصود هو المزاح والملاطفة ، فالنبي «صلىاللهعليهوآله» لا يمزح بما يثير الشبهة ، ويعطي الإنطباع السلبي عن الأبرياء ..
إصرار عائشة بلا مبرر :
ورغبت إليه عائشة تلك الليلة ـ أعني ليلة النفر من منى ـ : أن يعمرها عمرة منفردة.
فأخبرها أن طوافها بالبيت وبالصفا والمروة قد أجزأ عن حجها وعمرتها.
فأبت إلا أن تعتمر عمرة منفردة.
فأمر أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم.
ففرغت من عمرتها ليلا ، ثم وافت المحصب مع أخيها ، فأتيا في جوف الليل ، فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : فرغتما؟
قالت : نعم.
فلما كانت ليلة الحصبة قلت : يا رسول الله ، يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع أنا بحجة.
فقال : «أو ما كنت طفت ليالي قدمنا مكة»؟
قلت : لا.
قال : «فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم ، فأهلي بعمرة ، ثم موعدك مكان كذا وكذا» (١).
قالت عائشة : فلقيني رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مصعدا على أهل مكة وأنا منهبطة ، أو أنا مصعدة وهو منهبط منها.
وظاهر هذا : أنهما تقابلا في الطريق ، وفي الأول : أنه انتظرها في منزله ، فلما جاءت نادى بالرحيل في أصحابه.
وقولها : وهو مصعد من مكة ، وأنا منهبطة عليها للعمرة ، ينافي انتظاره
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٨٤ وراجع : نيل الأوطار ج ٥ ص ٥٩ ومسند أحمد ج ٦ ص ١٢٢ وصحيح البخاري ج ٢ ص ١٥١ و ١٩٦ وصحيح مسلم ج ٤ ص ٣٣ وسنن النسائي ج ٥ ص ١٧٨ وعمدة القاري ج ٩ ص ١٩٥ وعمدة القاري ج ١٠ ص ٩٨ والسنن الكبرى للنسائي ج ٢ ص ٣٦٦ وشرح معاني الآثار ج ٢ ص ٢٠٣ وتغليق التعليق ج ٣ ص ١١٤.
لها في المحصب.
قال : فإن كان حديث الأسود محفوظا عنها ، فصوابه : (لقيني رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وأنا مصعدة من مكة ، وهو منهبط إليها ، فإنها طافت وقضت عمرتها ثم أصعدت لميعاده ، فوافته وهو قد أخذ في الهبوط إلى مكة للوداع ، فارتحل وأذن في الناس بالرحيل).
ولا وجه لحديث الأسود غير هذا (١).
ونقول :
١ ـ إذا كان النبي «صلىاللهعليهوآله» قد أخبر عائشة : أنه لا داعي لتلك العمرة التي طلبتها ، فلماذا تصر على فعل شيء يخبرها النبي «صلىاللهعليهوآله» أنه لم يعد له مكان؟ وهل بقي ذلك مستحبا إذا كان النبي «صلىاللهعليهوآله» قد عرّفها أنه لم يعد له مكان بعد حجها؟!
٢ ـ ولو فرضنا : أن ذلك كان منها طمعا في الثواب ، فلماذا تحرج النبي «صلىاللهعليهوآله» في أمر أظهر أنه يرغب بخلافه؟ أليس ذلك يوجب حبط عملها لو كان عملها مستحبا؟! وألا يسقط استحبابه ، ويحبط أجره ـ لو سلمنا باستحبابه ـ حين تكون قيمته هي أذى النبي «صلىاللهعليهوآله» ، وإرباك حركته وتفويت ما يرغب النبي «صلىاللهعليهوآله» بعدم تفويته؟!.
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٨٤ وراجع : مسند إسحاق بن راهويه ج ٣ ص ٨٦٢ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٢٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤١٣.
عائشة تعتمر رغم نهي النبي صلىاللهعليهوآله :
عن عائشة قالت : أحرمت من التنعيم بعمرة فدخلت ، فقضيت عمرتي ، وانتظرني رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بالأبطح حتى فرغت ، وأمر الناس بالرحيل (١) ..
كما أن أم سلمة لم تكن قد طافت ، وأرادت الخروج ـ وكانت قد اشتكت ، فأمرها أن تطوف على بعيرها من وراء الناس ، والناس يصلون ـ أي الصبح ـ فطافت كذلك (٢) ..
ونقول :
إنه لا كلام لنا على حديث طواف أم سلمة. ولكننا نريد أن نشير إلى بعض ما يرتبط بعمرة عائشة ، فنقول :
أولا : يفهم مما ذكرناه آنفا : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» لم يكن راضيا
__________________
(١) السيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤١٠ عن البخاري ومسلم ، وأبي داود ، وراجع : سنن أبي داود ج ١ ص ٤٤٥ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٢٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤١.
(٢) السيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤١١ عن البخاري ، وراجع : كتاب الموطأ لمالك ج ١ ص ٣٧١ والمغني لابن قدامة ج ٣ ص ٣٨٨ و ٤١٥ والشرح الكبير لابن قدامة ج ٣ ص ٣٩١ والشرح الكبير لابن قدامة ج ٣ ص ٣٩٤ و ٣٩٥ وكشاف القناع للبهوتي ج ٢ ص ٥٥٩ والمحلى لابن حزم ج ٤ ٢٤٢ ونيل الأوطار ج ٥ ص ١٢٢ ومسند أحمد ج ٦ ص ٢٩٠ وصحيح البخاري ج ١ ص ١١٩ وج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٧ وج ٦ ص ٤٩ وصحيح مسلم ج ٤ ص ٦٨ وسنن أبي داود ج ١ ص ٤٢٠ وسنن النسائي ج ٥ ص ٢٢٣ وغير ذلك من مصادر فراجع.
باعتمار عائشة ، حتى لقد قالت له : «أترجع نساؤك بحجة وعمرة معا ، وأرجع بحجة»؟ (١).
ثانيا : قال ابن عباس : والله ، ما أعمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك.
وقال : كانوا يرون : أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض (٢) ..
ونلاحظ هنا على رواية ابن عباس : أنه لا شك في أنه قد كان لدى النبي «صلىاللهعليهوآله» ما يدعوه إلى الإسراع بالخروج ، ولكن إصرار عائشة قد منعه «صلىاللهعليهوآله» من المضي لإنجاز ذلك الأمر الهام.
اللهم اغفر للمحلقين :
وقد تقدم في النص السابق : أن بعض أصحابه «صلىاللهعليهوآله» أصر على التقصير ، ولم يرض بالحلق. وقد مر نظير ذلك في الحديبية ..
وهذا يعطي : أن عدم حلق الناس في الحديبية ، لم يكن بسبب حنقهم
__________________
(١) الكافي ج ٤ ص ٢٤٨ والبحار ج ٢١ ص ٣٩٣ وتهذيب الأحكام ج ٥ ص ٤٥٧ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١١ ص ٢١٧ و ٢١٨ و (ط دار الإسلامية) ج ٨ ص ١٥٣ و ١٥٤ ومسند أحمد ج ٦ ص ١٦٥ و ٢٦٦ ومسند إسحاق بن راهويه ج ٣ ص ٦٤٣ وتفسير مجمع البيان ج ٢ ص ٤٢ ومنتقى الجمان ج ٣ ص ١٢٥.
(٢) الغدير ج ٦ ص ٢١٧ عن صحيح البخاري ج ٣ ص ٦٩ وعن صحيح مسلم ج ١ ص ٣٥٥ وسنن البيهقي ج ٤ ص ٣٤٥ وسنن النسائي ج ٥ ص ١٨٠.
لأجل عدم دخول مكة ، بل كان لأمر آخر. قد يكون له ارتباط بعدم صحة اعتقادهم ، أو بعدم الرغبة في التخلي عن الرسوم التي كانت لدى أهل الجاهلية ، أو بعدم مبالاتهم بمراعات الأحكام الشرعية .. أو بغير ذلك ..
كما أن هذا التصرف الذي ظهر منهم في حجة الوداع يمثل فضيحة أخرى لهم ، ويبين أن ما يدعونه لأنفسهم من الطاعة لله ورسوله ، أو ما يدّعى لهم من العدالة والإستقامة ، هو مجرد ادّعاءات ، أو شعارات ترفع لتلافي الإحراج ، في مواقع الإستدلال والإحتجاج ..
تبرك الصحابة :
ورغم ظهور هذه الهنات في سلوك كثير من صحابة النبي «صلىاللهعليهوآله» ، فإن ذلك لم يمنع النبي «صلىاللهعليهوآله» من أن يوزع شعره وأظفاره على الناس لأجل التبرك ، لأن ذلك يدخل في دائرة التشريع ، والتعليم لهم ، ولا يختص أثره بأهل تلك الحقبة ، بل يمتد إلى كل مسلم يأتي عبر الأجيال والأحقاب ..
هذا بالإضافة إلى أنه يفيد خالصي الإيمان منهم ، وكذلك الحال بالنسبة للتائبين والنادمين.
التبرك ، في معناه ومغزاه :
وإذا أردنا أن نعرف مغزى تشريع التبرك بالأنبياء والأوصياء ، وآثارهم ، حسبما أكده النبي «صلىاللهعليهوآله» للناس في مناسبات كثيرة ، ومنها هذا المورد الذي نحن بصدد الحديث عنه ، فعلينا أن نرجع أولا إلى معنى البركة في اللغة ، لنجد أنها تعني : النماء والزيادة ، فالتبرك : هو طلب ذلك ..
فإذا كان النبي «صلىاللهعليهوآله» يوجه الناس إلى التبرك ، فهو يوجههم إلى طلب الفاقد للنماء والزيادة من الواجد ، من خلال الإقتراب منه والإتصال به ..
والله هو مصدر الفيض لكل هذا الوجود وما فيه ، فالإتصال به ولو بمستوى الإتصال الشكلي أو الرمزي ، أو الروحي بصفيّه ونبيه ، بإظهار الحب ، وبالتعبير عن القناعة الوجدانية ـ إن هذا الإتصال من موجبات النماء والزيادة ، ويهيء لهذا الفيض ، الذي هو مرهون باستجلاب الرضا والمحبة والفوز بالعناية والرعاية ، والمنح والألطاف ..
وبذلك نعرف : أن التبرك معناه : الشعور بالحاجة والنقص والضعف ، أو بالحاجة إلى الإنتقال من حسن إلى أحسن ، ومن مرحلة إلى مرحلة أسمى منها ..
كما أنه يعني : بلورة إرادة التكامل والتسامي ، والخروج من هذا الواقع إلى ما هو أفضل منه وأمثل.
كما أن التبرك ينتهي بالإنسان إلى الدخول في آفاق الرحمة الإلهية ، والإنطلاق في رحابها ، بعد أن يكون الإنسان قد حرر نفسه من كل قيد يشده إلى الأرض ، ومن كل عبودية وبعد أن يملك قراره ، وحريته ، واختياره ..
ثم هو يعني : الشعور بالقوة ، وبالغنى عن الخلق ، والتخلي عن الأنا ، والإبتعاد عن الغرور والعنجهية.
وهو أخيرا : يدفع الإنسان إلى مراقبة نفسه ، وتهذيبها ، ورسم ملامحها وفق ما يرضي من يسعى لنيل رضاه ، ويرى في ذلك غاية الفوز بمبتغاه ..
النفر من منى :
قالوا : وكان يوم الثلاثاء ، فركب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، والمسلمون معه ، فنفر بهم من منى ، فنزل المحصب ـ وهو واد بين مكة ومنى ـ فصلى بهم العصر ، وهو بالأبطح ، وهو خيف بني كنانة ، حيث تقاسم المشركون على الكفر ، ثم هجع هجعة بعد العشاء الآخرة ، ثم دخل مكة فطاف بالبيت (١) ..
وهذا يشير إلى : أنه «صلىاللهعليهوآله» قصد أن ينزل بالمحصب ، مراغمة لمشركي قريش لما كتبوا الصحيفة التي التزموا فيها بمصارمة بني هاشم وبني المطلب ، حيث حصروهم في شعب أبي طالب «عليهالسلام».
وهذا هو الموضع الذي نزل فيه عام الفتح أيضا ..
وقد حاول بعضهم أن يدّعي : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» لم يتعمد ذلك (٢) ، ولعله لكي يخفف من حدة وقع هذا الإجراء على رؤوس الحاقدين على النبي «صلىاللهعليهوآله» وعلى دينه ..
لم يدخل صلىاللهعليهوآله إلى البيت ولم يطف :
وقد زعمت الروايات : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» بعد نفره من منى دخل مكة ، وطاف بالبيت ، وبقي إلى صباح اليوم التالي ، فصلى الصبح ، ثم
__________________
(١) راجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٠٥ ـ ٤٠٨ والمبسوط للسرخسي ج ٤ ص ٨ ونيل الأوطار ج ٥ ص ١٦٥ ومسند أحمد ج ٢ ص ١١٠ و ١٢٤ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٢٤.
(٢) راجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٠٨ و ٤٠٩.
ارتحل (١) ..
ولكننا نقول :
أولا : إن الروايات الصحيحة ، الواردة عن أهل البيت «عليهالسلام» تقول : إنه «صلىاللهعليهوآله» نفر حتى انتهى إلى الأبطح ، فطلبت عائشة العمرة ، فأرسلها ، فاعتمرت ، ثم أتت النبي «صلىاللهعليهوآله» ، فارتحل من يومه ، ولم يدخل المسجد الحرام ، ولم يطف بالبيت (٢) ..
ثانيا : عن جابر قال : خرج رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من مكة عند غروب الشمس ، وصلى المغرب في سرف (٣) ، وهذا معناه : أنه لم يصلّ المغرب والعشاء ، ولا الصبح في مكة في اليوم التالي ، كما زعموه ..
فلا يصح قولهم : إنه «صلىاللهعليهوآله» : لما فرغ من صلاة الصبح ، طاف بالبيت سبعا ، ووقف في الملتزم بين الركن الذي فيه الحجر الأسود ، وبين باب الكعبة ، فدعا الله عزوجل وألزق جسده بجدار الكعبة.
ولا يصح أيضا ما روي عن بعضهم : أنه رأى رسول الله «صلى الله
__________________
(١) السيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٠٦ و ٤٠٧ و ٤١٠ و ٤١١ والمغازي ج ٣ ص ١١١٤ وراجع : مغني المحتاج ج ١ ص ٤٧٢.
(٢) الكافي ج ٤ ص ٢٤٨ والبحار ج ٢١ ص ٣٩٣ وراجع : تهذيب الأحكام ج ٥ ص ٢٧٥ و ٤٥٧ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١١ ص ٢١٧ و ٢١٨ وج ١٤ ص ٢٨٤ و (ط دار الإسلامية) ج ٨ ص ١٥٣ وج ٨ ص ١٥٤ وج ١٠ ص ٢٢٩ ومستطرفات السرائر لابن إدريس ص ٥٥٣ والبحار ج ٢١ ص ٣٩٣ وج ٩٦ ص ٣٢٧ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٠ ص ٣٥٥ وج ١٠ ص ٣٥٥.
(٣) راجع : مسند أحمد ج ٣ ص ٣٠٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤١٢.
عليه وآله» ، يلزق وجهه ، وصدره بالملتزم (١) ..
غير أن ذلك لا يعني أنه «صلىاللهعليهوآله» لم يفعل ذلك كله ، بل الظاهر : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد وقف في الملتزم ، وألزق جسده به ، وغير ذلك ، لكن في الأيام التي سبقت على النفر من منى ..
عمرة في رمضان تعدل حجة معه :
وقالوا : إنه بعد رجوع النبي «صلىاللهعليهوآله» من حجة الوداع ، أعلم أن عمرة في رمضان تعدل حجة معه (٢) ..
لكننا نقول :
قد يقال : إن السبب في ذلك هو : أن مرض الجدري أو الحصبة انتشر في الناس بعد إعلان النبي «صلىاللهعليهوآله» عن عزمه على المسير إلى الحج ، فمنعت من شاء الله أن تمنع من الحج .. فإن صح ذلك ، فإن إعلان هذا الأمر بعد عودته ، قد يسهم في جبر النفوس الكسيرة ، التي آلمها حرمانها من نيل شرف المسير مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
__________________
(١) راجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤١١ و ٤١٢ وتلخيص الحبير ج ٧ ص ٤٢٠ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٥ ص ١٦٤ وسنن الدارقطني ج ٢ ص ٢٥٤ ونصب الراية للزيلعي ج ٣ ص ١٨٥ والدراية في تخريج أحاديث الهداية ج ٢ ص ٣٠ وكنز العمال ج ٧ ص ٩٣ والكامل لابن عدي ج ٦ ص ٤٢٤ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٢٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤١٢.
(٢) راجع سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٥٠ عن ابن سعيد.
غير أننا نقول عن الإعتمار في شهر رمضان :
إننا لم نجد فيما روي عن أهل بيت العصمة «عليهمالسلام» ، ما يدل على فضل العمرة في شهر رمضان على ما سواها ، بل وجدنا ما روي عن الإمام الصادق «عليهالسلام» : «أفضل العمرة ، عمرة رجب» (١) ..
وعن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليهالسلام : أنه سئل اي العمرة أفضل؟ عمرة في رجب أو عمرة في شهر رمضان؟ فقال : لابل عمرة في شهر رجب أفضل (٢).
وعنه «عليهالسلام» : «اعتمر في أي شهر شئت ، وأفضل العمرة ، عمرة رجب» (٣) ..
وعنهم «عليهمالسلام» : «لكل شهر عمرة» (٤) ..
__________________
(١) تفسير العياشي ج ١ ص ٨٨ والبحار ج ٩٦ ص ٣٣٢ و ٣٣١ وعن علل الشرائع ص ٤٠٨.
(٢) ذخيرة المعاد (ط. ق) ج ١ ق ٣ ص ٦٩٧ والحدائق الناضرة ج ١٦ ص ٣٣٠ ورياض المسائل ج ٧ ص ١٧٦ ومستند الشيعة ج ١٣ ص ١٢١ وراجع جواهر الكلام ج ٢٠ ص ٤٥٨ وجامع المدارك ج ٢ ص ٥٥٨ والإحصار والصد ص ١٧٢ ومن لا يحضره الفقيه ج ٢ ص ٤٥٤ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٤ ص ٣٠١ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٤ ص ٣٠١.
(٣) دعائم الإسلام ج ١ ص ٣٣٤ والبحار ج ٩٦ ص ٣٣٣ ومستدرك الوسائل ج ١٠ ص ١٧٦.
(٤) قرب الإسناد ص ١٦٢ والبحار ج ٩٦ ص ٣٣١ ومختلف الشيعة ج ٤ ص ٣٦٠ والحدائق الناضرة ج ١٦ ص ٣٢٠ ورياض المسائل ج ٧ ص ١٧٩ ومستند الشيعة ج ١١ ص ١٦٣ وج ١٣ ص ١٢١ ومن لا يحضره الفقيه ج ٢ ص ٤٥٨ والإستبصار ـ
ولعل الصحيح هنا ما روي عن الإمام الصادق «عليهالسلام» عندما سأله الوليد بن صبيح :
«قال : قلت لأبي عبد الله «عليهالسلام» : بلغنا أن عمرة في شهر رمضان تعدل حجة.
فقال : إنما كان ذلك في امرأة وعدها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فقال لها : اعتمري في شهر رمضان فهي لك حجة» (١).
فالظاهر من هذه الرواية اختصاص هذا الفضل بتلك المرأة لوعد النبي صلىاللهعليهوآله وضمانه «صلىاللهعليهوآله» لها بقرينة «فهي لك حجة».
يويد ذلك ما روي من حديث أم معقل الذي أخرجه أيضا النسائي من طريق معمر عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن امرأة من بني أسد يقال لها أم معقل قالت : «أردت الحج فاعتل بعيري ، فسألت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : اعتمري في شهر رمضان فإن عمرة في شهر رمضان تعدل حجة» (٢).
__________________
ج ٢ ص ١٥٦ و ٣٢٦ وتهذيب الأحكام ج ٥ ص ٣٢ و ١٦٤ و ٤٣٥ والبحار ج ٩٦ ص ٣٣١ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٠ ص ٣٤٠ وغير ذلك من المصادر فراجع.
(١) الكافي ج ٤ ص ٥٣٦ وكشف اللثام (ط. ج) ج ٦ ص ٢٩٥ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٠ ص ٤٦٢ وجواهر الكلام ج ٢٠ ص ٤٥٩ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٤ ص ٣٠٤ و (ط دار الإسلامية) ج ١٠ ص ٢٤١.
(٢) مسند أحمد ج ٦ ص ٤٠٦ ونيل الأوطار ج ٥ ص ٣٠ وفتح الباري ج ٣ ص ٤٨٠ والسنن الكبرى للنسائي ج ٢ ص ٤٧٢ والمعجم الكبير للطبراني ج ٢٥ ص ١٥٥ والإستذكار لابن عبد البر ج ٤ ص ١٠٦ والتمهيد لابن عبد البر ج ٢٢ ص ٥٦.
وأما رواية علي بن حديد التي تقول : «كتبت إلى أبي جعفر «عليهالسلام» أسأله عن الخروج في عمرة شهر رمضان أفضل ، أو أقيم حتى ينقضي الشهر وأتم صومي؟ فكتب إلي كتابا قرأته بخطه :
سألت يرحمك الله عن أي العمرة أفضل ، عمرة شهر رمضان أفضل يرحمك الله» (١).
فالمراد بها كما قال المحقق النراقي وغيره : أن العمرة في شهر رمضان أفضل من الإقامة والصوم ، كما يدل عليه صدرها (٢).
إعتمار النبي صلىاللهعليهوآله بعد حجة الوداع :
وقد زعمت روايات غير أهل البيت «عليهمالسلام» : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد اعتمر في حجة الوداع ، فقد روي عن ابن عباس : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد اعتمر أربع عمر ، عمرة الحديبية ، وعمرة القضاء ، وعمرة الجعرانة ، والعمرة التي مع حجة الوداع (٣) ..
ولكن المروي عن أئمة أهل البيت «عليهمالسلام» ـ وهم أدرى بما فيه ـ :
__________________
(١) مستند الشيعة ج ١٣ ص ١٢١ وجواهر الكلام ج ٢٠ ص ٤٥٩ والكافي ج ٤ ص ٥٣٦ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٤ ص ٣٠٤ وخاتمة المستدرك ج ٥ ص ٣٣٦ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٠ ص ٤٦٣.
(٢) مستند الشيعة ج ١٣ ص ١٢١ وراجع جواهر الكلام ج ٢٠ ص ٤٥٩ والإحصار والصد ص ١٧٣.
(٣) البحار ج ٢١ ص ٣٩٧ و ٣٩٨ عن مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٥٢ وعن الطبري ، وعن الخصال ج ١ ص ٩٣ وتقدم ذكر المصادر فراجع.
أنه «صلىاللهعليهوآله» اعتمر ثلاث عمر متفرقات ، هي : الحديبية ، والقضاء ، والجعرانة ، بعد رجوعه من الطائف من غزوة حنين (١) ..
وعن أبي عبد الله «عليهالسلام» ، قال : ذكر أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» اعتمر في ذي القعدة ثلاث عمر ، كل ذلك يوافق عمرته ذا القعدة (٢) ..
في الطريق إلى المدينة :
وفي العودة إلى المدينة : خرج رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من أسفل مكة ، عند غروب الشمس (٣) ، فصلى المغرب في سرف ـ على بعد تسعة أميال من مكة ..
ثم واصل سيره ومعه مئات الألوف من الناس ، حتى بلغ غدير خم ، حيث أخذ «صلىاللهعليهوآله» البيعة لعلي «عليهالسلام» بالإمامة بعده ، كما سنرى في الأبواب والفصول التالية.
__________________
(١) البحار ج ٢١ ص ٣٩٨ و ٤٠٠ و ٤٠١ عن مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٥٢ وعن الكافي (الفروع) ج ١ ص ٢٣٥ وتقدم ذكر المصادر فراجع.
(٢) الكافي ج ٤ ص ٢٥٢.
(٣) راجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤١٢ ومسند أحمد بن حنبل ج ٣ ص ٣٠٥ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٢٦ والمعجم الأوسط ج ٢ ص ١٣٤ وكنز العمال ج ٨ ص ٢٤٧ والجامع لأحكام القرآن ج ١٠ ص ٣٠٥ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٣٥.
الباب الحادي عشر
الغدير في الحديث والتاريخ
الفصل الأول : الغدير والمعارضون
الفصل الثاني : الموقف. الفضيحة
الفصل الثالث : في حدود المكان والزمان
الفصل الرابع : حديث الغدير وأسانيده
الفصل الخامس : في ظلال حديث الغدير
الفصل السادس : في ظلال آيات الغدير
الفصل السابع : سورة المائدة متى نزلت وكيف؟!
الفصل الثامن : شبهات .. وأجوبتها
الفصل التاسع : الغدير في ظل التهديدات الإلهية