تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨١

وافتتاحه ب (فَاعْلَمُوا) للاهتمام بشأنه ، والتنبيه على رعاية العمل به ، كما تقدّم في قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال : ٢٤] فإنّ المقصود بالعلم تقرّر الجزم بأنّ ذلك حكم الله ، والعمل بذلك المعلوم ، فيكون (فَاعْلَمُوا) كناية مرادا به صريحه ولازمه. والخطاب لجميع المسلمين وبالخصوص جيش بدر ، وليس هذا نسخا لحكم الأنفال المذكور أوّل السورة ، بل هو بيان لإجمال قوله : (لِلَّهِ) ... (وَلِلرَّسُولِ) وقال أبو عبيد : إنّها ناسخة ، وأنّ الله شرع ابتداء أنّ قسمة المغانم لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يريد أنها لاجتهاد الرسول بدون تعيين ، ثم شرع التخميس. وذكروا : أنّ رسول الله لم يخمّس مغانم بدر ، ثم خمّس مغانم أخرى بعد بدر ، أي بعد نزول آية سورة الأنفال ، وفي حديث علي: أنّ رسول الله أعطاه شارفا من الخمس يوم بدر ، فاقتضت هذه الرواية أنّ مغانم بدر خمّست.

وقد اضطربت أقوال المفسّرين قديما في المراد من المغنم في هذه الآية ، ولم تنضبط تقارير أصحاب التفاسير في طريقة الجمع بين كلامهم على تفاوت بينهم في ذلك ، ومنهم من خلطها مع آية سورة الحشر ، فجعل هذه ناسخة لآية الحشر والعكس ، أو أنّ إحدى الآيتين مخصّصة للأخرى : إمّا في السهام ، وإمّا في أنواع المغانم ، وتفصيل ذلك يطول. وتردّدوا في مسمّى الفيء فصارت ثلاثة أسماء مجالا لاختلاف الأقوال : النفل ، والغنيمة ، والفيء.

والوجه عندي في تفسير هذه الآية ، واتّصالها بقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) [الأنفال : ١] أنّ المراد بقوله : (أَنَّما غَنِمْتُمْ) في هذه الآية : ما حصلتم من الغنائم من متاع الجيش ، وذلك ما سمّي بالأنفال ، في أوّل السورة ، فالنفل والغنيمة مترادفان ، وذلك مقتضى استعمال اللغة ، فعن ابن عبّاس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعكرمة ، وعطاء: الأنفال الغنائم. وعليه فوجه المخالفة بين اللفظين إذ قال تعالى هنا (غَنِمْتُمْ) وقال في أوّل السورة [الأنفال : ١] : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) لاقتضاء الحال التعبير هنا بفعل ، وليس في العربية فعل من مادّة النفل يفيد إسناد معناه إلى من حصل له ، ولذلك فآية (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ) سيقت هنا بيانا لآية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) فإنّهما وردتا في انتظام متّصل من الكلام. ونرى أنّ تخصيص اسم النفل بما يعطيه أمير الجيش أحد المقاتلين زائدا على سهمه من الغنيمة سواء كان سلبا أو نحوه ممّا يسعه الخمس أو من أصل مال الغنيمة على الخلاف الآتي ، إنّما هو اصطلاح شاع بين أمراء الجيوش بعد نزول هذه الآية ، وقد وقع ذلك في كلام عبد الله بن عمر ، وأمّا ما روي عن ابن عبّاس : أنّ الأنفال ما يصل إلى

١٠١

المسلمين بغير قتال ، فجعلها بمعنى الفيء ، فمحمله على بيان الاصطلاح الذي اصطلحوا عليه من بعد.

وتعبيرات السلف في التفرقة بين الغنيمة والنفل غير مضبوطة ، وهذا ملاك الفصل في هذا المقام لتمييز أصناف الأموال المأخوذة في القتال ، فأما صور قسمتها فسيأتي بعضها في هذه الآية.

فاصطلحوا على أنّ الغنيمة ، ويقال : لها المغنم ، ما يأخذه الغزاة من أمتعة المقاتلين غصبا ، بقتل أو بأسر ، أو يقتحمون ديارهم غازين ، أو ما يتركه الأعداء في ديارهم ، إذا فرّوا عند هجوم الجيش عليهم بعد ابتداء القتال. فأمّا ما يظفر به الجيش في غير حالة الغزو من مال العدوّ ، وما يتركه العدوّ من المتاع إذا أخلوا بلادهم قبل هجوم جيش المسلمين ، فذلك الفيء وسيجيء في سورة الحشر.

وقد اختلف فقهاء الأمصار في مقتضى هذه الآية مع آية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) [الأنفال : ١] إلخ. فقال مالك : ليس أموال العدوّ المقاتل حقّ لجيش المسلمين إلّا الغنيمة والفيء. وأمّا النفل فليس حقّا مستقلا بالحكم ، ولكنّه ما يعطيه الإمام من الخمس لبعض المقاتلين زائدا على سهمه من الغنيمة ، على ما يرى من الاجتهاد ، ولا تعيين لمقدار النفل في الخمس ولا حدّ له ، ولا يكون فيما زاد على الخمس. هذا قول مالك ورواية عن الشافعي. وهو الجاري على ما عمل به الخلفاء الثلاثة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، في أشهر الروايتين عنه ، وسعيد بن المسيّب : النفل من الخمس وهو خمس الخمس.

وعن الأوزاعي ، ومكحول ، وجمهور الفقهاء : النفل ما يعطى من الغنيمة يخرج من ثلث الخمس.

و (ما) في قوله : (أَنَّما) اسم موصول وهو اسم (أنّ) وكتبت هذه في المصحف متّصلة ب (أنّ) لأنّ زمان كتابة المصحف كان قبل استقرار قواعد الرسم وضبط الفروق فيه بين ما يتشابه نطقه ويختلف معناه ، فالتفرقة في الرسم بين (ما) الكافّة وغيرها لم ينضبط زمن كتابة المصاحف الأولى ، وبقيت كتابة المصاحف على مثال المصحف الإمام مبالغة في احترام القرآن عن التغيير.

و (مِنْ شَيْءٍ) بيان لعموم (ما) لئلا يتوهّم أنّ المقصود غنيمة معيّنة خاصّة. والفاء في

١٠٢

قوله : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) لما في الموصول من معنى الاشتراط ، وما في الخبر من معنى المجازاة بتأويل : إن غنمتم فحقّ لله خمسه إلخ.

والمصدر المؤوّل بعد (أنّ) في قوله : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) مبتدأ حذف خبره ، أو خبر حذف مبتدؤه ، وتقدير المحذوف بما يناسب المعنى الذي دلّت عليه لام الاستحقاق ، أي فحقّ لله خمسه. وإنّما صيغ على هذا النظم ، مع كون معنى اللام كافيا في الدلالة على الأحقّيّة ، كما قرئ في الشاذ فلله خمسه لما يفيده الإتيان بحرف (أنّ) من الإسناد مرتين تأكيدا ، ولأنّ في حذف أحد ركني الإسناد تكثيرا لوجوه الاحتمال في المقدّر ، من نحو تقدير : حقّ ، أو ثبات ، أو لازم ، أو واجب.

واللام للملك ، أو الاستحقاق ، وقد علم أنّ أربعة الأخماس للغزاة الصادق عليهم ضمير (غَنِمْتُمْ) فثبت به أنّ الغنيمة لهم عدا خمسها.

وقد جعل الله خمس الغنيمة حقّا لله وللرسول ومن عطف عليهما ، وكان أمر العرب في الجاهلية أنّ ربع الغنيمة يكون لقائد الجيش ، ويسمّى ذلك «المرباع» بكسر الميم.

وفي عرف الإسلام إذا جعل شيء حقّا لله ، من غير ما فيه عبادة له : أنّ ذلك يكون للذين يأمر الله بتسديد حاجتهم منه ، فلكلّ نوع من الأموال مستحقّون عيّنهم الشرع ، فالمعنى في قوله : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) أنّ الابتداء باسم الله تعالى للإشارة إلى أنّ ذلك الخمس حقّ الله يصرفه حيث يشاء ، وقد شاء فوكل صرفه إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولمن يخلف رسوله من أئمّة المسلمين. وبهذا التأويل يكون الخمس مقسوما على خمسة أسهم ، وهذا قول عامّة علماء الإسلام وشذّ أبو العالية رفيع (١) الرياحي ولاء من التابعين ، فقال : إنّ الخمس يقسم على خمسة أسهم فيعزل منها سهم فيضرب الأمير بيده على ذلك السهم الذي عزله فما قبضت عليه يده من ذلك جعله للكعبة : أي على وجه يشبه القرعة ، ثم يقسم بقية ذلك السهم على خمسة : سهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل. ونسب أبو العالية ذلك إلى فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأمّا الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فلحقه حالتان : حالة تصرّفه في مال الله بما ائتمنه الله على سائر مصالح الأمة ، وحالة انتفاعه بما يحبّ انتفاعه به من ذلك. فلذلك

__________________

(١) بضم الراء وفتح الفاء توفي سنة تسعين على الصحيح.

١٠٣

ثبت في الصحيح : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأخذ من الخمس نفقته ونفقة عياله ، ويجعل الباقي مجعل مال الله. وفي الصحيح : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في الفيء «ما لي ممّا أفاء الله عليكم إلّا الخمس والخمس مردود عليكم» فيقاس عليه خمس الغنيمة ، وكذلك كان شأن رسول الله في انتفاعه بما جعله الله له من الحقّ في مال الله. وأوضح شيء في هذا الباب حديث عمر بن الخطاب في محاورته مع العباس وعلي ، حين تحاكما إليه ، رواه مالك في «الموطأ» ورجال «الصحيح» ، قال عمر : «إنّ الله كان قد خصّ رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه غيره قال (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) [الحشر : ٧] فكانت هذه خالصة لرسول الله ، وو الله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم قد أعطاكموها وبثّها فيكم حتّى بقي منها هذا المال. فكان رسول الله ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله». والغرض من جلب كلام عمر قوله : «ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله».

وأمّا ذو (الْقُرْبى) ف (أل) في (الْقُرْبى) عوض عن المضاف إليه كما في قوله تعالى في سورة البقرة [١٧٧] (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى) أي ذوي قرابة المؤتي المال. والمراد هنا هو (الرسول) المذكور قبله ، أي ولذوي قربى الرسول ، والمراد ب (ذي) الجنس ، أي : ذوي قربى الرسول ، أي : قرابته ، وذلك إكرام من الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ جعل لأهل قرابته حقّا في مال الله ، لأن الله حرّم عليهم أخذ الصدقات والزكاة. فلا جرم أنّه أغناهم من مال الله. ولذلك كان حقّهم في الخمس ثابتا بوصف القرابة.

فذو القربى مراد به كلّ من اتّصف بقرابة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فهو عام في الأشخاص ، ولكن لفظ (الْقُرْبى) جنس فهو مجمل ، وأجملت رتبة القرابة إحالة على المعروف في قربى الرجل ، وتلك هي قربى نسب الآباء دون الأمّهات. ثم إنّ نسب الآباء بين العرب يعدّ مشتركا إلى الحدّ الذي تنشقّ منه الفصائل ، ومحملها الظاهر على عصبة الرجل من أبناء جدّه الأدنى. وأبناء أدنى أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم بنو عبد المطلب بن هاشم ، وإن شئت فقل : هم بنو هاشم ، لأنّ هاشما لم يبق له عقب في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا من عبد المطلب ، فالأرجح أنّ قربى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم بنو هاشم ، وهذا قول مالك وجمهور أصحابه ، وهو إحدى روايتين عن أحمد بن حنبل ، وقاله ابن عبّاس ، وعلي بن الحسين ، وعبد الله بن الحسن ، ومجاهد ، والأوزاعي ، والثوري. وذهب الشافعي ، وأحمد في إحدى روايتين عنه ، التي جرى عليها أصحابه ، وإسحاق وأبو ثور : أنّ القربى هنا : هم بنو

١٠٤

هاشم وبنو المطلب ، دون غيرهم من بني عبد مناف. ومال إليه من المالكية ابن العربي ، ومتمسّك هؤلاء ما رواه البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، عن جبير بن مطعم : أنّه قال : أتيت أنا وعثمان بن عفّان رسول الله نكلّمه فيما قسم من الخمس بين بني هاشم وبني المطلب فقلت يا رسول الله : قسمت لإخواننا بني المطلب ولم تعطنا شيئا ، وقرابتنا وقرابتهم واحدة فقال : «إنّما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد». وهو حديث صحيح لا نزاع فيه ، ولا في أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى بني هاشم وبني المطلب دون غيرهم. ولكن فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه يحتمل العموم في الأموال المعطاة ويحتمل الخصوص لأمور : أحدها : أنّ للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته سهما من الخمس فيحتمل أنّه أعطى بني المطلب عطاء من سهمه الخاصّ ، جزاء لهم على وفائهم له في الجاهلية ، وانتصارهم له ، وتلك منقبة شريفة أيّدوا بها دعوة الدين وهم مشركون ، فلم يضعها الله لهم ، وأمر رسوله بمواساتهم ، وذلك لا يكسبهم حقّا مستمرا.

ثانيها : أنّ الحقوق الشرعية تستند للأوصاف المنضبطة ، فالقربى هي النسب ، ونسب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهاشم ، وأمّا بنو المطلب فهم وبنو عبد شمس وبنو نوفل في رتبة واحدة من قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنّ آباءهم هم أبناء عبد مناف ، وإخوة لهاشم ، فالذين نصروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وظاهروه في الجاهلية كانت لهم المزية ، وهم الذين أعطى رسول الله أعيانهم ولم يثبت أنّه أعطى من نشأ بعدهم من أبنائهم الذين لم يحضروا ذلك النصر ، فمن نشأ بعدهم في الإسلام يساوون أبناء نوفل وأبناء عبد شمس ، فلا يكون في عطائه ذلك دليل على تأويل ذي القربى في الآية ببني هاشم وبني المطلب.

أمّا قول أبي حنيفة فقال الجصاص في «أحكام القرآن» قال أبو حنيفة في «الجامع الصغير» : يقسم الخمس على ثلاثة أسهم (أي ولم يتعرّض لسهم ذوي القربى) وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال : خمس الله والرسول واحد ، وخمس لذي القربى فلكلّ صنف سمّاه الله تعالى في هذه الآية خمس الخمس قال : وإنّ الخلفاء الأربعة متّفقون على أنّ ذا القربى لا يستحقّ إلّا بالفقر. قال : وقد اختلف في ذوي القربى من هم؟ فقال أصحابنا : قرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين حرّم عليهم الصدقة وهم (آل علي والعباس وآل جعفر وآل عقيل وولد الحارث بن عبد المطلب) وقال آخرون : بنو المطلب داخلون فيهم.

وقال أصبغ من المالكية : ذوو القربى هم عشيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأقربون الذين أمره الله بإنذارهم في قوله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] وهم آل قصي. وعنه أنّهم

١٠٥

آل غالب بن فهر ، أي قريش ، ونسب هذا إلى بعض السلف وأخرج أبو حنيفة من القربى بني أبي لهب قال : لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا قرابة بيني وبين أبي لهب فإنّه آثر علينا الأفجرين» رواه الحنفية في كتاب الزكاة ، ولا يعرف لهذا الحديث سند ، وبعد فلا دلالة فيه ، لأنّ ذلك خاصّ بأبي لهب فلا يشمل أبناءه في الإسلام. ذكر ابن حجر في الإصابة أنّ محمد بن إسحاق ، وغيره. روى عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قدمت درة بنت أبي لهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إنّ الناس يصيحون بي ويقولون : إنّي بنت حطب النار ، فقام رسول الله ؛ وهو مغضب شديد الغضب ، فقال : «ما بال أقوام يؤذونني في نسبي وذوي رحمي ألا ومن آذى نسبي وذوي رحمي فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله». فوصف درّة بأنّها من نسبه. والجمهور على أنّ ذوي القربى يستحقّون دون اشتراط الفقر ، لأنّ ظاهر الآية أنّ وصف قربى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو سبب ثبوت الحقّ لهم في خمس المغنم دون تقييد بوصف فقرهم ، وهذا قول جمهور العلماء.

وقال أبو حنيفة : لا يعطون إلّا بوصف الفقر وروي عن عمر بن عبد العزيز. ففائدة تعيين خمس الخمس لهم أنّ لا يحاصهم فيه من عداهم من الفقراء ، هذا هو المشهور عن أبي حنيفة ، وبعض الحنفية يحكي عن أبي يوسف موافقة الجمهور في عدم اشتراط الفقر فيهم.

وقد جعل الله الخمس لخمسة مصارف ولم يعيّن مقدار ما لكلّ مصرف منه ، ولا شكّ أنّ الله أراد ذلك ؛ ليكون صرفه لمصارفه هذه موكولا إلى اجتهاد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلفائه من بعده ، فيقسم بحسب الحاجات والمصالح ، فيأخذ كلّ مصرف منه ما يفي بحاجته على وجه لا ضرّ معه على أهل المصرف الآخر ، وهذا قول مالك في قسمة الخمس ، وهو أصح الأقوال ، إذ ليس في الآية تعرّض لمقدار القسمة ، ولم يرد في السنة ما يصحّ التمسك به لذلك ، فوجب أن يناط بالحاجة ، وبتقديم الأحوج والأهمّ عند التضايق ، والأمر فيه موكول إلى اجتهاد الإمام ، وقد قال عمر : «فكان رسول الله ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله».

وقال الشافعي : يقسم لكلّ مصرف الخمس من الخمس ، لأنها خمسة مصارف ، فجعلها متساوية ، لأنّ التساوي هو الأصل في الشركة المجملة ولم يلتفت إلى دليل المصلحة المقتضية للترجيح وإذ قد جعل ما لله ولرسوله خمسا واحدا تبعا للجمهور فقد جعله بعد رسول الله لمصالح المسلمين.

١٠٦

وقال أبو حنيفة : ارتفع سهم رسول الله وسهم قرابته بوفاته ، وبقي الخمس لليتامى والمساكين وابن السبيل ، لأنّ رسول الله إنّما أخذ سهما في المغنم لأنّه رسول الله ، لا لأنّه إمام ، فلذلك لا يخلفه فيه غيره.

وعند الجمهور أنّ سهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخلفه فيه الإمام ، يبدأ بنفقته ونفقة عياله بلا تقدير ، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.

(وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) تقدّم تفسير معانيها عند قوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) [البقرة : ١٧٧] وعند قوله تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ـ إلى قوله ـ وَابْنِ السَّبِيلِ) [النساء : ٣٦].

واليتامى وابن السبيل لا يعطون إلّا إذا كانوا فقراء ففائدة تعيين خمس الخمس لكلّ صنف من هؤلاء أن لا يحاصهم فيه غيرهم من الفقراء والشأن ، في اليتامى في الغالب أن لا تكون لهم سعة في المكاسب فهم مظنّة الحاجة ، ولكنّها دون الفقر فجعل لهم حقّ في المغنم توفيرا عليهم في إقامة شئونهم ، فهم من الحاجة المالية أحسن حالا من المساكين ، وهم من حالة المقدرة أضعف حالا منهم ، فلو كانوا أغنياء بأموال تركها لهم آباؤهم فلا يعطون من الخمس شيئا.

والمساكين الفقراء الشديد والفقر جعل الله لهم خمس الخمس كما جعل لهم حقّا في الزكاة ، ولم يجعل للفقراء حقّا في الخمس كما لم يجعل لليتامى حقّا في الزكاة.

وابن السبيل أيضا في حاجة إلى الإعانة على البلاغ وتسديد شئونه ، فهو مظنّة الحاجة ، فلو كان ابن السبيل ذا وفر وغنى لم يعط من الخمس ، ولذلك لم يشترط مالك وبعض الفقهاء في اليتامى وأبناء السبيل الفقر ، بل مطلق الحاجة. واشترط أبو حنيفة الفقر في ذوي القربى واليتامى وأبناء السبيل ، وجعل ذكرهم دون الاكتفاء بالمساكين ؛ لتقرير استحقاقهم.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) شرط يتعلق بما دلّ عليه قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ) لأن الأمر بالعلم لما كان المقصود به العمل بالمعلوم والامتثال لمقتضاه كما تقدّم ، صحّ تعلّق الشرط به ، فيكون قوله : (وَاعْلَمُوا) دليلا على الجواب أو هو الجواب مقدّما على شرطه ، والتقدير : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّ ما غنمتم إلخ. واعملوا بما علمتم

١٠٧

فاقطعوا أطماعكم في ذلك الخمس واقتنعوا بالأخماس الأربعة ، لأنّ الذي يتوقّف على تحقّق الإيمان بالله وآياته هو العلم بأنّه حكم الله مع العمل المترتّب على ذلك العلم. مطلق العلم بأنّ الرسول قال ذلك.

والشرط هنا محقق الوقوع إذ لا شك في أنّ المخاطبين مؤمنون بالله والمقصود منه تحقّق المشروط ، وهو مضمون جملة (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) إلى آخرها. وجيء في الشرط بحرف (إن) التي شأن شرطها أن يكون مشكوكا في وقوعه زيادة في حثّهم على الطاعة حيث يفرض حالهم في صورة المشكوك في حصول شرطه إلهابا لهم ؛ ليبعثهم على إظهار تحقّق الشرط فيهم ، فالمعنى : أنكم آمنتم بالله والإيمان يرشد إلى اليقين بتمام العلم والقدرة له وآمنتم بما أنزل الله على عبده يوم بدر حين فرق الله بين الحقّ والباطل فرأيتم ذلك رأي العين وارتقى إيمانكم من مرتبة حقّ اليقين إلى مرتبة عين اليقين فعلمتم أنّ الله أعلم بنفعكم من أنفسكم إذ يعدكم إحدى الطائفتين أنّها لكم وتودّون أنّ غير ذات الشوكة تكون لكم ، فكان ما دفعكم الله إليه أحفظ لمصلحتكم وأشدّ تثبيتا لقوّة دينكم. فمن رأوا ذلك وتحقّقوه فهم أحرياء بأن يعلموا أنّ ما شرع الله لهم من قسمة الغنائم هو المصلحة ، ولم يعبئوا بما يدخل عليهم من نقص في حظوظهم العاجلة ، علما بأنّ وراء ذلك مصالح جمة آجلة في الدنيا والآخرة.

وقوله : (وَما أَنْزَلْنا) عطف على اسم الجلالة ، والمعنى : وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ، وهذا تخلّص للتذكير بما حصل لهم من النصر يوم بدر ، والإيمان به يجوز أن يكون الاعتقاد الجازم بحصوله ، ويجوز أن يكون العلم به ، فيكون على الوجه الثاني من استعمال المشترك في معنييه ، أو من عموم المشترك.

وتخصيص (ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ) بالذكر من بين جملة المعلومات الراجعة للاعتقاد ، لأن لذلك المنزل مزيد تعلق بما أمروا به من العمل المعبر عنه بالأمر بالعلم في قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا).

والإنزال : هو إيصال شيء من علوّ إلى سفل ، وأطلق هنا على إبلاغ أمر من الله ، ومن النعم الإلهية إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ، فيجوز أن يكون هذا المنزل من قبيل الوحي ، أي والوحي الذي أنزلناه على عبدنا يوم بدر ، لكنه الوحي المتضمّن شيئا يؤمنون به مثل قوله : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) [الأنفال : ٧].

ويجوز أن يكون من قبيل خوارق العادات ، والألطاف العجيبة ، مثل إنزال الملائكة

١٠٨

للنصر ، وإنزال المطر عند حاجة المسلمين إليه ، لتعبيد الطريق ، وتثبيت الأقدام ، والاستقاء.

وإطلاق الإنزال على حصوله استعارة تشبيها له بالواصل إليهم من علوّ تشريفا له كقوله تعالى : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [الفتح : ٢٦]. والتطهر ولا مانع من إرادة الجميع لأنّ غرض ذلك واحد ، وكذلك ما هو من معناه ممّا نعلمه أو لما علمناه.

و (يَوْمَ الْفُرْقانِ) هو يوم بدر ، وهو اليوم السابع عشر من رمضان سنة اثنتين سمّي يوم الفرقان ؛ لأنّ الفرقان الفرق بين الحقّ والباطل كما تقدّم آنفا في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) [الأنفال : ٢٩] وقد كان يوم بدر فارقا بين الحقّ والباطل ؛ لأنّه أول يوم ظهر فيه نصر المسلمين الضعفاء على المشركين الأقوياء ، وهو نصر المحقّين الأذلّة على الأعزّة المبطلين ، وكفى بذلك فرقانا وتمييزا بين من هم على الحقّ ، ومن هم على الباطل.

فإضافة (يَوْمَ) إلى (الْفُرْقانِ) إضافة تنويه به وتشريف ، وقوله : (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) بدل من (يَوْمَ الْفُرْقانِ) فإضافة (يَوْمَ) إلى جملة : (الْتَقَى الْجَمْعانِ) للتذكير بذلك الالتقاء العجيب الذي كان فيه نصرهم على عدوّهم. والتعريف في (الْجَمْعانِ) للعهد. وهما جمع المسلمين وجمع المشركين.

وقوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) اعتراض بتذييل الآيات السابقة وهو متعلّق ببعض جملة الشرط في قوله : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) فإنّ ذلك دليل على أنّه لا يتعاصى على قدرته شيء ، فإنّ ما أسداه إليكم يوم بدر لم يكن جاريا على متعارف الأسباب المعتادة ، فقدرة الله قلبت الأحوال وأنشأت الأشياء من غير مجاريها ولا يبعد أن يكون من سبب تسمية ذلك اليوم (يَوْمَ الْفُرْقانِ) أنّه أضيف إلى الفرقان الذي هو لقب القرآن ، فإنّ المشهور أنّ ابتداء نزول القرآن كان يوم سبعة عشر من رمضان ، فيكون من استعمال المشترك في معنييه.

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢))

١٠٩

(إِذْ) بدل من (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) [الأنفال : ٤١] فهو ظرف ل (أَنْزَلْنا) [الأنفال : ٤١] أي زمن أنتم بالعدوة الدنيا ، وقد أريد من هذا الظرف وما أضيف إليه تذكيرهم بحالة حرجة كان المسلمون فيها ، وتنبيههم للطف عظيم حفّهم من الله تعالى ، وهي حالة موقع جيش المسلمين من جيش المشركين ، وكيف التقى الجيشان في مكان واحد عن غير ميعاد ، ووجد المسلمون أنفسهم أمام عدوّ قوي العدّة والعدّة والمكانة من حسن الموقع. ولو لا هذا المقصد من وصف هذه الهيئة لما كان من داع لهذا الإطناب إذ ليس من أغراض القرآن وصف المنازل إذا لم تكن فيه عبرة.

والعدوة بتثليث العين صفة الوادي وشاطئه ، والضمّ والكسر في العين أفصح وعليهما القراءات المشهورة ، فقرأه الجمهور ـ بضمّ العين ـ ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ـ بكسر العين ـ.

والمراد بها شاطئ وادي بدر. وبدر اسم ماء. و (الدُّنْيا) هي القريبة أي العدوة التي من جهة المدينة ، فهي أقرب لجيش المسلمين من العدوة التي من جهة مكة. و (بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) هي التي ممّا يلي مكة ، وهي كثيب ، وهي قصوى بالنسبة لموقع بلد المسلمين.

والوصف ب (الدُّنْيا) و (الْقُصْوى) يشعر المخاطبون بفائدته ، وهي أنّ المسلمين كانوا حريصين أن يسبقوا المشركين إلى العدوة القصوى ، لأنّها أصلب أرضا فليس للوصف بالدنو والقصو أثر في تفضيل إحدى العدوتين على الأخرى ، ولكنّه صادف أن كانت القصوى أسعد بنزول الجيش ، فلمّا سبق جيش المشركين إليها اغتمّ المسلمون ، فلمّا نزل المسلمون بالعدوة الدنيا أرسل الله المطر وكان الوادي دهسا فلبّد المطر الأرض ولم يعقهم عن المسير وأصاب الأرض التي بها قريش فعطّلهم عن الرحيل ، فلم يبلغوا بدرا إلّا بعد أن وصل المسلمون وتخيروا أحسن موقع وسبقوا إلى الماء ، فاتّخذوا حوضا يكفيهم وغوروا الماء ، فلمّا وصل المشركون إلى الماء وجدوه قد احتازه المسلمون ، فكان المسلمون يشربون ولا يجد المشركون ماء.

وضمير (وَهُمْ) عائد إلى ما في لفظ (الْجَمْعانِ) من معنى : جمعكم وجمع المشركين ، فلمّا قال : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) لم يبق معاد لضمير (وَهُمْ) إلّا الجمع الآخر وهو جمع المشركين.

و (الرَّكْبُ) هو ركب قريش الراجعون من الشام ، وهو العير. (أَسْفَلَ) من الفريقين

١١٠

أي أخفض من منازلهما ، لأن العير كانوا سائرين في طريق الساحل ، وقد تركوا ماء بدر عن يسارهم. ذلك أنّ أبا سفيان لمّا بلغه أنّ المسلمين خرجوا لتلقي عيره رجع بالعير عن الطريق التي تمرّ ببدر ، وسلك طريق الساحل لينجو بالعير ، فكان مسيره في السهول المنخفضة ، وكان رجال الركب أربعين رجلا.

والمعنى : والركب بالجهة السفلى منكم ، وهي جهة البحر وضمير (مِنْكُمْ) خطاب للمسلمين المخاطبين بقوله : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) والمعنى أنّ جيش المسلمين كان بين جماعتين للمشركين ، وهما جيش أبي سفيان بالعدوة القصوى ، وعير القوم أسفل من العدوة الدنيا ، فلو علم العدوّ بهذا الوضع لطبّق جماعتيه على جيش المسلمين ، ولكن الله صرفهم عن التفطّن لذلك وصرف المسلمين عن ذلك ، وقد كانوا يطمعون أن يصادفوا العير فينتهبوها كما قال تعالى : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) [الأنفال : ٧] ولو حاولوا ذلك لوقعوا بين جماعتين من العدوّ.

وانتصب (أَسْفَلَ) على الظرفية المكانية وهو في محلّ رفع خبر عن (الركب) أي والركب قد فاتكم وكنتم تأملون أن تدركوه فتنتهبوا ما فيه من المتاع.

والغرض من التقييد بهذا الوقت ، وبتلك الحالة : إحضارها في ذكرهم ، لأجل ما يلزم ذلك من شكر نعمة الله ، ومن حسن الظنّ بوعده والاعتماد عليه في أمورهم ، فإنّهم كانوا حينئذ في أشدّ ما يكون فيه جيش تجاه عدوّه ، لأنّهم يعلمون أنّ تلك الحالة كان ظاهرها ملائما للعدوّ ، إذ كان العدوّ في شوكة واكتمال عدّة ، وقد تمهدت له أسباب الغلبة بحسن موقع جيشه ، إذ كان بالعدوة التي فيها الماء لسقياهم والتي أرضها متوسّطة الصلابة ، فأما جيش المسلمين فقد وجدوا أنفسهم أمام العدوّ في عدوة تسوخ في أرضها الأرجل من لين رملها ، مع قلّة مائها ، وكانت العير قد فاتت المسلمين وحلّت وراء ظهور جيش المشركين ، فكانت في مأمن من أن ينالها المسلمون ، وكان المشركون واثقين بمكنة الذبّ عن عيرهم ، فكانت ظاهرة هذه الحالة ظاهرة خيبة وخوف للمسلمين ، وظاهرة فوز وقوة للمشركين ، فكان من عجيب عناية الله بالمسلمين أن قلب تلك الحالة رأسا على عقب ، فأنزل من السماء مطرا تعبّدت به الأرض لجيش المسلمين فساروا فيها غير مشفوق عليهم ، وتطهّروا وسقوا ، وصارت به الأرض لجيش المشركين وحلا يثقل فيها السير وفاضت المياه عليهم ، وألقى الله في قلوبهم تهوين أمر المسلمين ، فلم يأخذوا حذرهم ولا أعدّوا للحرب عدّتها ، وجعلوا مقامهم هنالك مقام لهو وطرب ، فجعل الله ذلك سببا لنصر

١١١

المسلمين عليهم ، ورأوا كيف أنجز الله لهم ما وعدهم من النصر الذي لم يكونوا يتوقّعونه. فالذين خوطبوا بهذه الآية هم أعلم السامعين بفائدة التوقيت الذي في قوله : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) الآية. ولذلك تعيّن على المفسّر وصف الحالة التي تضمنتها الآية ، ولو لا ذلك لكان هذا التقييد بالوقت قليل الجدوى.

وجملة (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) في موضع الحال من (الْجَمْعانِ) [الأنفال : ٤١] وعامل الحال فعل (الْتَقَى) [الأنفال : ٤١] أي في حال لقاء على غير ميعاد ، قد جاء ألزم ممّا لو كان على ميعاد ، فإنّ اللقاء الذي يكون موعودا قد يتأخّر فيه أحد المتواعدين عن وقته ، وهذا اللقاء قد جاء في إبان متّحد وفي مكان متجاور متقابل.

ومعنى الاختلاف في الميعاد : اختلاف وقته بأن يتأخّر أحد الفريقين عن الوقت المحدود فلم يأتوا على سواء.

والتلازم بين شرط (لَوْ) وجوابها خفي هنا وقد أشكل على المفسّرين ، ومنهم من اضطرّ إلى تقدير كلام محذوف تقديره : ثم علمتم قلّتكم وكثرتكم ، وفيه أنّ ذلك يفضي إلى التخلّف عن الحضور لا إلى الاختلاف. ومنهم من قدر : وعلمتم قلّتكم وشعر المشركون بالخوف منكم لما ألقى الله في قلوبهم من الرعب ، أي يجعل أحد الفريقين يتثاقل فلم تحضروا على ميعاد ، وهو يفضي إلى ما أفضى إليه القول الذي قبله ، ومنهم من جعل ذلك لما لا يخلو عنه الناس من عروض العوارض والقواطع ، وهذا أقرب ، ومع ذلك لا ينثلج له الصدر.

فالوجه في تفسير هذه الآية أنّ (لَوْ) هذه من قبيل (لو) الصهيبية فإنّ لها استعمالات ملاكها : أن لا يقصد من (لو) ربط انتفاء مضمون جوابها بانتفاء مضمون شرطها ، أي ربط حصول نقيض مضمون الجواب بحصول نقيض مضمون الشرط ، بل يقصد أنّ مضمون الجواب حاصل لا محالة ، سواء فرض حصول مضمون شرطها أو فرض انتفاؤه ، إمّا لأنّ مضمون الجواب أولى بالحصول عند انتفاء مضمون الشرط ، نحو قوله تعالى: (وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) [فاطر : ١٤] ، وإمّا بقطع النظر عن أولوية مضمون الجواب بالحصول عند انتفاء مضمون الشرط نحو قوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨]. ومحصّل هذا أنّ مضمون الجزاء مستمرّ الحصول في جميع الأحوال في فرض المتكلم ، فيأتي بجملة الشرط متضمنّة الحالة التي هي عند السامع مظنة أن يحصل فيها نقيض مضمون الجواب. ومن هذا قول طفيل في الثناء على بني جعفر بن كلاب:

١١٢

أبوا أن يملّونا ولو أنّ أمّنا

تلاقي الذي لاقوه منا لملّت

أي فكيف بغير أمّنا.

وقد تقدّمت الإشارة إلى هذا عند قوله تعالى : (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) في هذه السورة [٢٣] ، وكنا أحلنا عليه وعلى ما في هذه الآية عند قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) الآية في سورة الأنعام [١١١].

والمعنى : لو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ، أي في وقت ما تواعدتم عليه ، لأن غالب أحوال المتواعدين أن لا يستوي وفاؤهما بما تواعدا عليه في وقت الوفاء به ، أي في وقت واحد ، لأنّ التوقيت كان في تلك الأزمان تقريبا يقدّرونه بأجزاء النهار كالضحى والعصر والغروب ، لا ينضبط بالدرج والدقائق الفلكية ، والمعنى : فبالأحرى وأنتم لم تتواعدوا وقد أتيتم سواء في اتّحاد وقت حلولكم في العدوتين فاعلموا أنّ ذلك تيسير بقدر الله لأنّه قدر ذلك لتعلموا أنّ نصركم من عنده على نحو قوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧].

وهذا غير ما يقال ، في تقارب حصول حال لأناس : «كأنهم كانوا على ميعاد» كما قال الأسود بن يعفر يرثي هلاك أحلافه وأنصاره.

جرت الرياح على محلّ ديارهم

فكأنهم كانوا على ميعاد

فإنّ ذلك تشبيه للحصول المتعاقب.

وضمير (لَاخْتَلَفْتُمْ) على الوجوه كلّها شامل للفريقين : المخاطبين والغائبين ، على تغليب المخاطبين ، كما هو الشأن في الضمائر مثله.

وقد ظهر موقع الاستدراك في قوله : (وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) إذ التقدير : ولكن لم تتواعدوا وجئتم على غير اتّعاد ليقضي الله أي ليحقّق وينجز ما أراده من نصركم على المشركين. ولمّا كان تعليل الاستدراك المفاد بلكن قد وقع بفعل مسند إلى الله كان مفيدا أنّ مجيئهم إلى العدوتين على غير تواعد كان بتقدير من الله عناية بالمسلمين.

ومعنى (أَمْراً) هنا الشيء العظيم ، فتنكيره للتعظيم ، أو يجعل بمعنى الشأن وهم لا يطلقون (الأمر) بهذا المعنى إلّا على شيء مهمّ ، ولعلّ سبب ذلك أنه ما سمّي (أمرا) لا باعتبار أنّه ممّا يؤمر بفعله أو بعمله كقوله تعالى : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) [مريم : ٢١] وقوله :

١١٣

(وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) [الأحزاب : ٣٨].

و (كانَ) تدلّ على تحقّق ثبوت معنى خبرها لاسمها من الماضي مثل (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم : ٤٧] أي ثبت له استحقاق الحقية علينا من قديم الزمن. وكذلك قوله : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) [مريم : ٢١]. فمعنى (كانَ مَفْعُولاً) أنّه ثبت له في علم الله أنّه يفعل. فاشتق له صيغة مفعول من فعل للدلالة على أنّه حين قدرت مفعوليته فقد صار كأنّه فعل ، فوصف لذلك باسم المفعول الذي شأنه أن يطلق على من اتّصف بتسلط الفعل في الحال لا في الاستقبال.

فحاصل المعنى : لينجز الله ويوقع حدثا عظيما متّصفا منذ القدم بأنّه محقّق الوقوع عند إبّانه ، أي حقيقا بأن يفعل حتّى كأنّه قد فعل لأنّه لا يمنعه ما يحفّ به من الموانع المعتادة.

وجملة : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) في موضع بدل الاشتمال من جملة : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) لأنّ الأمر هو نصر المسلمين وقهر المشركين وذلك قد اشتمل على إهلاك المهزومين وإحياء المنصورين وحفّه من الأحوال الدالّة على عناية الله بالمسلمين وإهانته المشركين ما فيه بيّنه للفريقين تقطع عذر الهالكين ، وتقتضي شكر الأحياء. ودخول لام التعليل على فعل (لِيَهْلِكَ) تأكيد للام الداخلة على (لِيَقْضِيَ) في الجملة المبدل منها. ولو لم تدخل اللام لقيل : يهلك مرفوعا.

والهلاك : الموت والاضمحلال ، ولذلك قوبل بالحياة. والهلاك والحياة مستعاران لمعنى ذهاب الشوكة ، ولمعنى نهوض الأمة وقوتها ، لأنّ حقيقة الهلاك الموت ، وهو أشد الضرّ فلذلك يشبّه بالهلاك كلّ ما كان ضرّا شديدا ، قال تعالى : (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) [التوبة : ٤٢] ، وبضدّه الحياة هي أنفع شيء في طبع الإنسان فلذلك يشبه بها ما كان مرغوبا ، قال تعالى : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) [يس : ٧٠] وقد جمع التشبيهين قوله تعالى : (أمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢]. فإن الكفار كانوا في عزّة ومنعة ، وكان المسلمون في قلّة ، فلما قضى الله بالنصر للمسلمين يوم بدر أخفق أمر المشركين ووهنوا ، وصار أمر المسلمين إلى جدّة ونهوض ، وكان كلّ ذلك ، عن بينة ، أي عن حجّة ظاهرة تدلّ على تأييد الله قوما وخذله آخرين بدون ريب.

ومن البعيد حمل (لِيَهْلِكَ) و (يَحْيى) على الحقيقة لأنّه وإن تحمّله المعنى في قوله: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ) فلا يتحمّله في قوله : (وَيَحْيى مَنْ حَيَ) لأنّ حياة الأحياء ثابتة لهم

١١٤

من قبل يوم بدر.

ودلّ معنى المجاوزة الذي في (عَنْ) على أنّ المعنى ، أن يكون الهلاك والحياة صادرين عن بيّنة وبارزين منها.

وقرأ نافع ، والبزّي عن ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب ، وخلف «حيي» بإظهار الياءين ، وقرأه البقية : «حيّ» بإدغام إحدى الياءين في الأخرى على قياسالإدغام وهما وجهان فصيحان.

و (عَنْ) للمجاوزة المجازية ، وهي بمعنى (بعد) ، أي : بعد بيّنة يتبيّن بها سبب الأمرين : هلاك من هلك ، وحياة من حيي.

وقوله : (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) تذييل يشير إلى أنّ الله سميع دعاء المسلمين طلب النصر ، وسميع ما جرى بينهم من الحوار في شأن الخروج إلى بدر ومن مودّتهم أن تكون غير ذات الشوكة هي إحدى الطائفتين التي يلاقونها ، وغير ذلك ، وعليم بما يجول في خواطرهم من غير الأمور المسموعة وبما يصلح بهم ويبني عليه مجد مستقبلهم.

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣))

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ) بدل من قوله : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) [الأنفال : ٤٢] فإنّ هذه الرؤيا ممّا اشتمل عليه زمان كونهم بالعدوة الدنيا لوقوعها في مدّة نزول المسلمين بالعدوة من بدر ، فهو بدل من بدل.

والمنام مصدر ميمي بمعنى النوم ، ويطلق على زمن النوم وعلى مكانه.

ويتعلق قوله : (فِي مَنامِكَ) بفعل (يُرِيكَهُمُ) ، فالإراءة إراءة رؤيا ، وأسندت الإراءة إلى الله تعالى ؛ لأنّ رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحي بمدلولها ، كما دلّ عليه قوله تعالى ، حكاية عن إبراهيم وابنه (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) [الصافات : ١٠٢] فإنّ أرواح الأنبياء لا تغلبها الأخلاط ، ولا تجول حواسهم الباطنة في العبث ، فما رؤياهم إلّا مكاشفات روحانية على عالم الحقائق.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد رأى رؤيا منام ، جيش المشركين قليلا ، أي قليل العدد وأخبر برؤياه المسلمين فتشجّعوا للقاء المشركين ، وحملوها على ظاهرها ، وزال عنهم ما كان

١١٥

يخامرهم من تهيّب جيش المشركين. فكانت تلك الرؤيا من أسباب النصر ، وكانت تلك الرؤيا منّة من الله على رسوله والمؤمنين ، وكانت قلة العدد في الرؤيا رمزا وكناية عن وهن أمر المشركين لا عن قلّة عددهم.

ولذلك جعلها الله في رؤيا النوم دون الوحي ، لأنّ صور المرائي المنامية تكون رموزا لمعان فلا تعدّ صورتها الظاهرية خلفا ، بخلاف الوحي بالكلام.

وقد حكاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمسلمين ، فأخذوها على ظاهرها ، لعلمهم أنّ رؤيا النبي وحي ، وقد يكون النبي قد أطلعه الله على تعبيرها الصائب ، وقد يكون صرفه عن ذلك فظنّ كالمسلمين ظاهرها ، وكلّ ذلك للحكمة. فرؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تخطئ ولكنها أو همتهم قلّة العدد ، لأنّ ذلك مرغوبهم والمقصود منه حاصل ، وهو تحقّق النصر ، ولو أخبروا بعدد المشركين كما هو لجبنوا عن اللقاء فضعفت أسباب النصر الظاهرة المعتادة التي تكسبهم حسن الأحدوثة. ورؤيا النبي لا تخطئ ، ولكنها قد تكون جارية على الصورة الحاصلة في الخارج ، كما ورد في حديث عائشة في بدء الوحي : أنّه كان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح ، وهذا هو الغالب ، وخاصّة قبل ابتداء نزول الملك بالوحي ، وقد تكون رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رمزية وكناية كما في حديث رؤياه بقرا تذبح ، ويقال له : الله خير ، فلم يعلم المراد حتّى تبيّن له أنّهم المؤمنون الذين قتلوا يوم أحد. فلمّا أراد الله خذل المشركين وهزمهم أرى نبيئه المشركين قليلا كناية بأحد أسباب الانهزام ، فإنّ الانهزام يجيء من قلّة العدد. وقد يمسك النبي عليه الصلاة والسلام عن بيان التعبير الصحيح لحكمة ، كما في حديث تعبير أبي بكر رؤيا الرجل الذي قصّ رؤياه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقول النبي له : «أصبت بعضا وأخطأت بعضا» وأبى أن يبيّن له ما أصاب منها وما أخطأ. ولو أخبر الله رسوله ليخبر المؤمنين بأنّهم غالبون المشركون لآمنوا بذلك إيمانا عقليا لا يحصل منه ما يحصل من التصوير بالمحسوس ، ولو لم يخبره ولم يره تلك الرؤيا لكان المسلمون يحسبون للمشركين حسابا كبيرا. لأنّهم معروفون عندهم بأنّهم أقوى من المسلمين بكثير.

وهذه الرؤيا قد مضت بالنسبة لزمن نزول الآية ، فالتعبير بالفعل المضارع لاستحضار حالة الرؤيا العجيبة.

والقليل هنا قليل العدد بقرينة قوله : (كَثِيراً). أراه إيّاهم قليلي العدد ، وجعل ذلك في المكاشفة النومية كناية عن الوهن والضعف. فإنّ لغة العقول والأرواح أوسع من لغة

١١٦

التخاطب ، لأنّ طريق الاستفادة عندها عقلي مستند إلى محسوس ، فهو واسطة بين الاستدلال العقلي المحض وبين الاستفادة اللغوية.

وأخبر ب «قليل» و «كثير» وكلاهما مفرد عن ضمير الجمع لما تقدّم عند قوله تعالى : (مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) [آل عمران : ١٤٦].

ومعنى : (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ) أنّه لو أراكهم رؤيا مماثلة للحالة التي تبصرها الأعين ؛ لدخل قلوب المسلمين الفشل ، أي إذا حدثهم النبي بما رأى ، فأراد الله إكرام المسلمين بأن لا يدخل نفوسهم هلع ، وإن كان النصر مضمونا لهم.

فإن قلت : هذا يقتضي أنّ الإراءة كانت متعيّنة ولم يترك الله إراءته جيش العدوّ فلا تكون حاجة إلى تمثيلهم بعدد قليل ، قلت : يظهر أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجا أن يرى رؤيا تكشف له عن حال العدوّ ، فحقّق الله رجاءه ، وجنّبه ما قد يفضي إلى كدر المسلمين ، أو لعلّ المسلمين سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستعلم ربّه عن حال العدوّ.

والفشل : الجبن والوهن. والتنازع : الاختلاف. والمراد بالأمر الخطة التي يجب اتباعها

في قتال العدوّ من ثبات أو انجلاء عن القتال.

والتعريف في (الْأَمْرِ) للعهد وهو أمر القتال وما يقتضيه.

والاستدراك في قوله : (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) راجع إلى ما في جملة : (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً) من الإشعار بأنّ العدوّ كثير في نفس الأمر ، وأنّ الرؤيا قد تحاكي الصورة التي في نفس الأمر ، وهو الأكثر في مرائي الأنبياء ، وقد تحاكي المعنى الرمزيّ وهو الغالب في مرائي غير الأنبياء ، مثل رؤيا ملك مصر سبع بقرات ، ورؤيا صاحبي يوسف في السّجن ، وهو القليل في مرائي الأنبياء مثل رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه هزّ سيفا فانكسر في يده ، فمعنى الاستدراك رفع ما فرض في قوله : (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً). فمفعول (سَلَّمَ) ومتعلّقه محذوفان إيجازا إذ دلّ عليه قوله : (لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ) والتقدير : سلّمكم من الفشل والتنازع بأن سلمكم من سببهما ، وهو إراءتكم واقع عدد المشركين ، لأنّ الاطّلاع على كثرة العدوّ يلقي في النفوس تهيّبا له وتخوّفا منه ، وذلك ينقص شجاعة المسلمين الذين أراد الله أن يوفّر لهم منتهى الشجاعة.

ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) دون أن يقول : ولكنّه سلّم ، لقصد زيادة إسناد ذلك إلى الله ، وأنّه بعنايته ، واهتماما بهذا الحادث.

١١٧

وجملة : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تذييل للمنة ، أي : أوحى إلى رسوله بتلك الرؤيا الرمزية ، لعلمه بما في الصدور البشرية من تأثّر النفوس بالمشاهدات والمحسوسات أكثر ممّا تتأثّر بالاعتقادات ، فعلم أنّه لو أخبركم بأنّ المشركين ينهزمون ، واعتقدتم ذلك لصدق إيمانكم ، لم يكن ذلك الاعتقاد مثيرا في نفوسكم من الشجاعة والإقدام ما يثيره اعتقادي أنّ عددهم قليل ، لأنّ الاعتقاد بأنّهم ينهزمون لا ينافي توقّع شدّة تنزل بالمسلمين ، من موت وجراح قبل الانتصار ، فأمّا اعتقاد قلّة العدوّ فإنّها تثير في النفوس إقداما واطمئنان بال ، فلعلمه بذلك أراكهم الله في منامك قليلا.

ومعنى (بِذاتِ الصُّدُورِ) الأحوال المصاحبة لضمائر النفوس ، فالصدور أطلقت على ما حلّ فيها من النوايا والمضمرات ، فكلمة ذات بمعنى صاحبة ، وهي مؤنث (ذو) أحد الأسماء الخمسة ، فأصل ألفها الواو ووزنها (ذوت) انقلبت واوها ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، قال في «الكشّاف» في تفسير سورة فاطر [٣٨] في قوله تعالى : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) هي تأنيث ذو ، وذو موضوع لمعنى الصحبة من قوله :

لتغني عنّي ذا إنائك أجمعا (١)

يعني أنّ ذات الصدور الحالة التي قرارتها الصدور فهي صاحبتها وساكنتها ، فذات الصدور النوايا والخواطر وما يهمّ به المرء وما يدبّره ويكيده.

(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤))

(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) عطف على (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ) [الأنفال : ٤٣] وهذه رؤية بصر أراها الله الفريقين على خلاف ما في نفس الأمر ، فكانت خطأ من الفريقين ، ولم يرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) أوله ، إذا قال قلت بالله حلفة.

يذكر ضيفا أي إذا شرب الضيف من إناء اللبن وقال : قدني ، أي حسبي أقسمت عليه بالله لتغنى عني أذاك أجمعا فاللام في (لتغني) لام القسم وهي مفتوحة وتغنى أي تبعد عني ، يقولون أغن عني وجهك أي أبعده وأراد : لا ترجعه إلى. وذا انائك : أي ما في إنائك من اللبن وهو مفعول (تغني) أي حلفت عليه ليشربن جميع ما في الإناء. والياء لتحتيه في قوله : لتغني مفتوحة فتحة بناء ، فإن أصله لتغنين بنون توكيد فحذفها تخفيفا وأبقى الفتحة التي كانت قبلها دليلا على أنها محذوفة.

١١٨

ولذلك عديت رؤيا المنام الصادقة إلى ضمير النبي ، في قوله : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ)[الأنفال : ٤٣] وجعلت الرؤية البصرية الخاطئة مسندة إلى ضمائر الجمعين ، وظاهر الجمع يعمّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيخصّ من العموم. أرى الله المسلمين أنّ المشركين قليلون ، وأرى المشركين أنّ المسلمين قليلون. خيل الله لكلا الفريقين قلّة الفريق الآخر ، بإلقاء ذلك التخيّل في نفوسهم ، وجعل الغاية من تينك الرؤيتين نصر المسلمين ، وهذا من بديع صنع الله تعالى إذ جعل للشيء الواحد أثرين مختلفين ، وجعل للأثرين المختلفين أثرا متّحدا ، فكان تخيّل المسلمين قلّة المشركين مقويّا لقلوبهم ، وزائدا لشجاعتهم ، ومزيلا للرعب عنهم ، فعظم بذلك بأسهم عند اللقاء ، لأنّهم ما كان ليفلّ من بأسهم إلّا شعورهم بأنّهم أضعف من أعدائهم عددا وعددا ، فلمّا أزيل ذلك عنهم ، بتخييلهم قلّة عدوّهم ، خلصت أسباب شدّتهم ممّا يوهنها. وكان تخيّل المشركين قلّة المسلمين ، أي كونهم أقلّ ممّا هم عليه في نفس الأمر ، بردا على غليان قلوبهم من الغيظ ، وغارّا إياهم بأنّهم سينالون التغلّب عليهم بأدنى قتال ، فكان صارفا إيّاهم عن التأهّب لقتال المسلمين ، حتّى فاجأهم جيش المسلمين ، فكانت الدائرة على المشركين ، فنتج عن تخيّل القلّتين انتصار المسلمين.

وإنّما لم يكن تخيل المسلمين قلة المشركين مثبطا عزيمتهم ، كما كان تخيّل المشركين قلّة المسلمين مثبطا عزيمتهم ، لأنّ المسلمين كانت قلوبهم مفعمة حنقا على المشركين ، وإيمانا بفساد شركهم ، وامتثالا أمر الله بقتالهم ، فما كان بينهم وبين صبّ بأسهم على المشركين إلّا صرف ما يثبط عزائمهم. فأمّا المشركون ، فكانوا مزدهين بعدائهم وعنادهم ، وكانوا لا يرون المسلمين على شيء ، فهم يحسبون أنّ أدنى جولة تجول بينهم يقبضون فيها على المسلمين قبضا ، فلذلك لا يعبئون بالتأهّب لهم ، فكان تخييل ما يزيدهم تهاونا بالمسلمين يزيد تواكلهم وإهمال إجماع أمرهم.

قال أهل السير : كان المسلمون يحسبون عدد المشركين يتراوح بين السبعين والمائة وكانوا في نفس الأمر زهاء ألف ، وكان المشركون يحسبون المسلمين قليلا ، فقد قال أبو جهل لقومه ، وقد حرز المسلمين : إنّما هم أكلة جزور ، أي قرابة المائة ، وكانوا في نفس الأمر ثلاثمائة وبضعة عشر.

وهذا التخيل قد يحصل من انعكاس الأشعّة واختلاف الظّلال ، باعتبار مواقع الرائين من ارتفاع المواقع وانخفاضها ، واختلاف أوقات الرؤية على حسب ارتفاع الشمس ، وموقع الرائين من مواجهتها أو استدبارها ، وبعض ذلك يحصل عند حدوث الآل

١١٩

والسراب ، أو عند حدوث ضباب أو نحو ذلك ، وإلقاء الله الخيال في نفوس الفريقين أعظم من تلك الأسباب.

وهذه الرؤية قد مضت بقرينة قوله : (إِذِ الْتَقَيْتُمْ) فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحالة العجيبة لهاته الإراءة ، كما تقدّم في قوله تعالى : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) [الأنفال : ٤٣].

و (إِذِ الْتَقَيْتُمْ) ظرف ل (يُرِيكُمُوهُمْ) وقوله : (فِي أَعْيُنِكُمْ) تقييد للإرادة بأنّها في الأعين ، لا غير ، وليس المرئيّ كذلك في نفس الأمر ، ويعلم ذلك من تقييد الإراءة بأنّها في الأعين ، لأنّه لو لم يكن لمقصد لكان مستغنى عنه ، مع ما فيه من الدلالة على أنّ الإراءة بصرية لا حلمية كقوله في الآية الأخرى : ترونهم مثليهم رأي العين [آل عمران:١٣].

والالتقاء افتعال من اللقاء ، وصيغة الافتعال فيه دالّة على المبالغة. واللقاء والالتقاء في الأصل الحضور لدى الغير ، من صديق أو عدوّ ، وفي خير أو شرّ ، وقد كثر إطلاقه على الحضور مع الأعداء في الحرب ، وقد تقدّم عند قوله تعالى في هذه السورة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) [الأنفال : ١٥] الآية.

(وَيُقَلِّلُكُمْ) يجعلكم قليلا ، لأنّ مادة التفعيل تدلّ على الجعل ، فإذا لم يكن الجعل متعلّقا بذات المفعول ، تعيّن أنّه متعلّق بالإخبار عنه ، كما ورد في الحديث في يوم الجمعة : «وفيه ساعة» ، قال الراوي : يقلّلها ؛ أو متعلق بالإراءة كما هنا ، وذلك هو الذي اقتضى زيادة قوله : (فِي أَعْيُنِهِمْ) ليعلم أنّ التقليل ليس بالنقص من عدد المسلمين في نفس الأمر.

وقوله : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) هو نظير قوله : (وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الأنفال : ٤٢] المتقدم أعيد هنا لأنّه علّة إراءة كلا الفريقين الفريق الآخر قليلا ، وأما السابق فهو علّة لتلاقي الفريقين في مكان واحد في وقت واحد.

ثم إنّ المشركين لما برزوا لقتال المسلمين ظهر لهم كثرة المسلمين فبهتوا ، وكان ذلك بعد المناجزة ، فكان ملقيا الرعب في قلوبهم ، وذلك ما حكاه في سورة آل عمران [١٣] قوله : ترونهم مثليهم رأي العين.

وخولف الأسلوب في حكاية إراءة المشركين ، وحكاية إراءة المسلمين ، لأنّ

١٢٠