الشيخ محمّد رضا المظفّر
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN الدورة:
الصفحات: ٢٨١
الواضح أيضا أنّ حقيقة هذه العلاقة المعبّر عنها بالولاية ، بين الله ورسوله وهؤلاء الذين آمنوا ، وبين أفراد الامة الإسلامية ليست كالرابطة المتقابلة بين فردين أو جماعتين من الامة أي رابطة الحبّ والتعاون والتناصر ، وإنما هي علاقة خاصّة يكون أحد الطرفين فيها مؤثّرا في الآخر دون العكس ، وليست هي إلّا الأولوية في التصرف ، وإن اختلفت بالنسبة إلى الله تعالى وإلى غيره أصالة وتبعا وشدّة وضعفا ، فولاية الله تعالى هي الأصيلة في حين أنّ ولاية الرسول ومن يتلوه هي ولاية مستمدّة من ولاية الله تعالى.
إذا لاحظنا هذا الذي قلناه وأدركنا الربط بين الحكم الوارد في هذه الآية ومدى تناسبه مع موضوعه ، وركّزنا على جعل ولاية الذين آمنوا ـ هؤلاء ـ في سياق ولاية الله تعالى ورسوله عرفنا بدقّة أنّ المراد منهم أولو الأمر الذين افترض الله طاعتهم على المؤمنين ، وقرن طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله ـ إلى أن قال ـ : وقد جاءت الولاية المعطاة لهؤلاء مطلقة في الآية بلا أي تقييد بجانب معيّن من الجوانب ؛ ولذا فيلتزم بهذا الإطلاق إلّا ما خرج بالدليل القطعيّ ، وهو الاستقلال بالولاية التكوينيّة والتشريعيّة ، فولايتهم على أيّ حال تبعية متفرعة على ولاية الله تعالى الأصيلة المستقلة (١).
وبالجملة مقتضى مغايرة المضاف مع المضاف إليه في قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ) أنّ المراد من الوليّ هو الأولى بالتصرّف وإلّا فلا مغايرة بعد كون النصرة أو المحبّة لا تختص بقوم دون قوم ؛ لأنّ كلّ مؤمن بالنسبة إلى آخر يكون كذلك ، مع أنّ سياق الآية لا يكون في مقام بيان كون المؤمنين بعضهم محبّا أو ناصرا للبعض ؛ إذ الآية في مقام بيان تعيين الأولياء من طرف واحد ، وهم : الله والرسول والذين آمنوا.
__________________
(١) الامامة والولاية : ص ٦٢ ـ ٦٤.
وكيف كان فالآية من آيات الولاية والإمامة ، ويؤيدها الأخبار الكثيرة ، منها : ما عن الثعلبيّ عن أبي ذر الغفاري قال : أما إني صليت مع رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ يوما من الأيام الظهر ، فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد شيئا ، فرفع السائل يديه إلى السماء وقال : اللهم اشهد إني سألت في مسجد نبيّك محمّد ـ صلىاللهعليهوآله ـ فلم يعطني أحد شيئا ، وكان عليّ ـ رضياللهعنه ـ في الصلاة راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمنى وفيه خاتم فاقبل السائل فأخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بمرأى من النبي ـ صلىاللهعليهوآله ـ وهو في المسجد ، فرفع رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ طرفه إلى السماء وقال : «اللهم إنّ أخي موسى سألك ، فقال (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)» فانزلت عليه قرآنا (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) اللهم وإنّي محمّد نبيّك وصفيّك اللهم واشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليّا اشدد به ظهري. قال أبو ذر ـ رضياللهعنه ـ فما استتم دعاءه حتّى نزل جبرئيل ـ عليهالسلام ـ من عند الله عزوجل قال يا محمّد اقرأ (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (١).
ومنها : ما رواه الكلينيّ ـ قدسسره ـ عن أبي جعفر ـ عليهالسلام ـ قال : أمر الله عزوجل رسوله بولاية عليّ وأنزل عليه (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ). الحديث (٢).
ومنها : ما رواه ابن بابويه عن أبي جعفر ـ عليهالسلام ـ في قول الله عزوجل :
__________________
(١) الإمامة والولاية : ص ٦٥ نقلا عن غاية المرام والغدير.
(٢) الإمامة والولاية : ص ٦٨.
(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) قال : «ان رهطا من اليهود أسلموا منهم عبد الله بن سلام وأسد وثعلبة وابن يامين وابن صوريا فأتوا النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ فقالوا : يا نبيّ الله ، إنّ موسى ـ عليهالسلام ـ أوصى إلى يوشع بن نون فمن وصيّك يا رسول الله؟ ومن ولينا بعدك؟ فنزلت هذه الآية : إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ، قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : قوموا ، فقاموا وأتوا المسجد ، فإذا سائل خارج ، فقال يا سائل ما أعطاك أحد شيئا؟ قال : نعم هذا الخاتم قال : من أعطاكه قال : أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلي ، قال : على أي حال أعطاك؟ قال : كان راكعا ، فكبّر النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ وكبّر أهل المسجد ، فقال النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ : عليّ وليّكم بعدي. قالوا رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمّد ـ صلىاللهعليهوآله ـ نبيّا وبعليّ بن أبي طالب وليّا ـ فأنزل الله عزوجل : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (١) وبقية الكلام تطلب من المطولات.
وأمّا مفاد نصّ الدار فهو واضح ، ولا كلام فيه ، ويستفاد منه أنّ الدعوة إلى الإمامة مقرونة مع دعوى الرسالة ، وهو حاك عن أهمّية الإمامة ، كما أنّه يحكي عن عظمة عليّ ـ عليهالسلام ـ مع كونه عند ذلك في حوالي عشر سنوات ، حيث قام بإجابة دعوة الرسول والإيمان به ونصرته مع مخالفة كبراء عشيرة النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ لدعوته.
__________________
(١) الامامة والولاية : ص ٦٨.
٨ ـ عقيدتنا في عدد الأئمة
ونعتقد أنّ الأئمة ـ الذين لهم صفة الإمامة الحقّة ، هم مرجعنا في الأحكام الشرعيّة المنصوص عليهم بالأدلة ـ اثنا عشر إماما نصّ عليهم النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ جميعا بأسمائهم ، ثم نصّ المتقدّم منهم على من بعده على النحو الآتي :
١ ـ أبو الحسن علي بن أبي طالب (المرتضى) المتولد سنة ٢٣ قبل الهجرة والمقتول سنة ٤٠ بعدها.
٢ ـ أبو محمّد الحسن بن علي «الزكي» (٢ ـ ٥٠)
٣ ـ أبو عبد الله الحسين بن علي «سيّد الشهداء» (٣ ـ ٦١)
٤ ـ أبو محمّد علي بن الحسين «زين العابدين» (٣٨ ـ ٩٥)
٥ ـ أبو جعفر محمّد بن علي «الباقر» (٥٧ ـ ١١٤)
٦ ـ أبو عبد الله جعفر بن محمّد «الصادق» (٨٣ ـ ١٤٨)
٧ ـ أبو إبراهيم موسى بن جعفر «الكاظم» (١٢٨ ـ ١٨٢)
٨ ـ أبو الحسن علي بن موسى «الرضا» (١٤٨ ـ ٢٠٣)
٩ ـ أبو جعفر محمّد بن علي «الجواد» (١٩٥ ـ ٢٢٠)
١٠ ـ أبو الحسن علي بن محمّد «الهادي» (٢١٢ ـ ٢٥٤)
١١ ـ أبو محمّد الحسن بن علي «العسكري» (٢٣٢ ـ ٢٦٠)
١٢ ـ أبو القاسم بن الحسن «المهدي» (٢٥٦ ـ ٠٠٠)
وهو الحجّة في عصرنا الغائب المنتظر عجّل الله فرجه وسهّل مخرجه ، ليملأ الأرض عدلا وقسطا بعد ما ملئت ظلما وجورا (١).
______________________________________________________
(١) يكفيك جوامع الحديث منها : الاصول من الكافي ، وبحار الأنوار ، وإثبات الهداة ، وغاية المرام ، وقد أوردوا فيها النصوص التي وردت من طرق الشيعة والعامة لتعيين الائمة الطاهرين ـ عليهمالسلام ـ وهذه الروايات كثيرة ومتواترة جدا.
قال الشيخ الحرّ العامليّ ـ قدسسره ـ في إثبات الهداة : إذا عرفت هذا ظهر لك تواتر النصوص والمعجزات الآتية إن شاء الله تعالى ، بل تجاوزها حدّ التواتر بمراتب ، فإنّها أكثر بكثير من كلّ ما اتفقوا على تواتره لفظا أو معنى ، مثل وجوب الصلاة والزكاة ، وتحريم الخمر ، وأخبار المعاد ، وكرم حاتم ، وغزاة بدر وأحد وحنين ، وخبر الخضر وموسى ، وذي القرنين ، وأمثال ذلك ، وكثرة النقلة ـ من الشيعة وغيرهم بحيث لا يحصى لهم عدد ـ ظاهر واجتماع الشرائط المذكورة واضح ، لا ريب فيه ، ومن خلا ذهنه من شبهة أو تقليد حصل له العلم من هذه الأخبار بحيث لا يحتمل النقيض عنده أصلا ، ولو أنصف العامّة لعلموا أنّ نصوص أئمتنا ـ عليهمالسلام ـ ومعجزاتهم أوضح تواترا من نصوص النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ ومعجزاته ، ولو أنصف اليهود والنصارى وأمثالهم لعلموا أن تواتر نصوص نبينا وأئمتنا ـ عليهمالسلام ـ ومعجزاتهم أوضح وأقوى من تواتر نصوص أنبيائهم ومعجزاتهم ، كما أشرنا إليه سابقا (١).
__________________
(١) اثبات الهداة : ج ١ ص ٣٥ ـ ٣٦
ثم إنّ الشيخ الحرّ العامليّ مع أنّه جمع النصوص في سبعة أجلاد ضخمة قال : وقد تركت أحاديث كثيرة ـ من الكتب التي رأيتها وطالعتها ، لضعف دلالتها ، واحتياجها إلى بعض التوجيهات ، وضمّ بعض المقدمات ـ لعدم الاحتياج إلى ذلك القسم ، ومن جملته أحاديث تفضيل أمير المؤمنين وسائر الأئمة ـ عليهمالسلام ـ فإنّها أكثر من أن تحصى ، وما لم أنقله منه ربّما كان أكثر مما نقلته ، ولكن لكثرة النصوص والمعجزات اكتفيت بما ذكرته ، ومن شكّ أو شكّك أو تعصّب بعد الاطلاع على ما جمعته ، فالله تعالى حاكم بيننا وبينه ، فإنّه قد تجاوز حدّ التواتر اللفظيّ والمعنويّ ، ولا يوجد في شيء من المتواترات اللفظيّة والمعنويّة ما يماثله ولا يقاربه ، وناهيك بنقل جميع الخصوم له وعدم خلوّ شيء من مؤلفات الفريقين منه إلّا النادر ، والله ولي التوفيق (١).
ولذا قال الخواجه نصير الدين الطوسيّ ـ قدسسره ـ بعد إثبات إمامة عليّ ـ عليهالسلام ـ : والنقل المتواتر دلّ على الأحد عشر.
وكيف كان فالروايات على أصناف وطوائف ، منها : ما يدلّ على أنّ الأئمة اثنا عشر من قريش وقد مرّت الإشارة إليها.
ومنها : ما يدلّ على أنّهم كانوا معيّنين عند الرسول الأعظم ـ عليه الصلوات والسّلام ـ ، كقوله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : «أخبرني جبرئيل بأسمائهم وأسماء آبائهم» (٢).
ومنها : ما يدلّ على ذكر بعض خصوصياتهم كقوله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : «من سرّه أن يحيى حياتي ويموت ميتني ويدخل الجنة التي وعدنيها ربّي ، ويتمسّك بقضيب غرسه ربّي بيده ، فليتول علي بن أبي طالب وأوصياءه من بعده ، فإنّهم لا يدخلونكم في باب ضلال ، ولا يخرجونكم من باب هدى ، ولا
__________________
(١) إثبات الهداة : ج ١ ص ٧٥ ـ ٧٦
(٢) اثبات الهداة : ج ١ ص ٢٤٩.
تعلموهم فإنّهم أعلم منكم» الحديث (١).
وكقوله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : «أنا رسول الله إلى الناس أجمعين ، ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من الله من أهل بيتي ، يقومون في الناس فيكذبون ، ويظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم» الحديث (٢).
وكقول عليّ ـ عليهالسلام ـ : «إنّ ليلة القدر في كلّ سنة وأنّه ينزل في تلك الليلة أمر السنة ، وإنّ لذلك الأمر ولاة بعد رسول الله ، فقيل من هم؟ فقال : أنا وأحد عشر من صلبي أئمة محدّثون» (٣).
وكقول أبي جعفر ـ عليهالسلام ـ : «نحن اثنا عشر إماما منهم حسن وحسين ثم الأئمة من ولد الحسين عليهالسلام» (٤).
وكقول رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : «من بعدي اثنا عشر نقيبا نجيبا محدّثون مفهّمون آخرهم القائم بالحقّ يملأها كما ملئت جورا» وهكذا زادت الروايات بيانا من جهة الأسماء والصفات وسائر الخصوصيات ، حتّى لا يبقى مجال للترديد والتشكيك فكلّ واحد من الأئمة الاثني عشر ، منصوص من قبل الإمام السابق ، حتّى ينتهي إلى تنصيص الرسول ـ صلىاللهعليهوآله ـ وتنصيصه ينتهي إلى تنصيص الله سبحانه وتعالى.
قال الشارح العلّامة ـ قدسسره ـ عند تبيين إمامة الأئمة الأحد عشر : «واستدلّ على ذلك بوجوه ثلاثة ، الوجه الأوّل : النقل المتواتر من الشيعة خلفا عن سلف ، فإنّه يدلّ على إمامة كلّ واحد من هؤلاء بالتنصيص ، وقد نقل المخالفون ذلك من طرق متعددة تارة على الإجمال ، واخرى على التفصيل ، كما روي عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ متواترا أنّه قال للحسين
__________________
(١) اثبات الهداة : ج ٢ ص ٢٥٤.
(٢) و (٣) اثبات الهداة : ج ٢ ص ٢٥٦.
(٤) اثبات الهداة : ج ٢ ص ٢٩٨.
ـ عليهالسلام ـ : هذا ابني إمام ابن إمام ، أخو إمام ، أبو ائمّة تسعة تاسعهم قائمهم ، وغير ذلك من الأخبار ، وروي عن مسروق ، وقال : بينا نحن عند عبد الله بن مسعود ، إذ قال له شابّ : هل عهد إليكم نبيّكم ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ كم يكون من بعده خليفة؟ قال : إنّك لحديث السنّ وأن هذا شيء ما سألني أحد عنه ، نعم عهد إلينا نبيّنا ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ أن يكون بعده اثنا عشر خليفة عدد نقباء بني إسرائيل.
الوجه الثاني : قد بيّنا أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما ، وغير هؤلاء ليسوا معصومين إجماعا فتعيّنت العصمة لهم ، وإلّا لزم خلوّ الزمان عن المعصوم ، وقد بيّنا استحالته.
الوجه الثالث : أنّ الكمالات النفسانيّة والبدنيّة بأجمعها موجودة في كلّ واحد منهم ، وكلّ واحد منهم كما هو كامل في نفسه ، كذا هو مكمّل لغيره وذلك يدلّ على استحقاقه الرئاسة العامّة ؛ لأنّه أفضل من كلّ أحد في زمانه ، ويقبح عقلا المفضول على الفاضل ، فيجب أن يكون كلّ واحد منهم إماما ، وهذا برهان لمّي. (١)
هذا كلّه مضافا إلى دعوى الإمامة عن كلّ واحد من الأئمة الاثني عشر ، وظهور المعجزة في أيديهم ، وقد تواترت معجزاتهم عند خواصّهم وشيعتهم كما هي مسطورة في كتب الآثار عن الأئمة الأطهار ، وهي شاهدة على صدقهم في دعواهم ، ولذا تسلّم الإماميّة لإمامتهم ، وأجمعوا عليها جيلا بعد جيل ، ونسلا بعد نسل ، كما هو واضح.
ثم إنّك بعد ما عرفت من قطعيّة أنّ الأئمة هم الاثنا عشر لا أقلّ ولا أكثر ، نعلم بطلان دعوى الإمامة عن غيرهم ، كما نعلم بعد قطعيّة الخاتميّة ، بطلان
__________________
(١) شرح تجريد الاعتقاد : ص ٣٩٨ الطبع الحديث.
دعوى النبوّة بعد نبوّة نبينا محمّد ـ صلىاللهعليهوآله ـ ولا حاجة بعد بطلانها إلى الفحص والتحرّي حول مدّعي من ادعى الإمامة ، كما لا حاجة إلى الفحص والتحرّي حول مدّعي النبوّة بعد العلم ببطلان دعواها كما لا يخفى.
٩ ـ عقيدتنا في المهديّ «ع»
إنّ البشارة بظهور المهديّ من ولد فاطمة في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا ثابتة عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ بالتواتر ، وسجّلها المسلمون جميعا فيما رووه من الحديث عنه على اختلاف مشاربهم ، وليست هي بالفكرة المستحدثة عند (الشيعة) دفع إليها انتشار الظلم والجور ، فحلموا بظهور من يطهّر الأرض من رجس الظلم ، كما يريد أن يصوّرها بعض المغالطين غير المنصفين.
ولو لا ثبوت (فكرة المهدي) عن النبيّ على وجه عرفها جميع المسلمين وتشبعت في نفوسهم واعتقدوها لما كان يتمكن مدّعو المهديّة في القرون الأولى كالكيسانيّة والعبّاسيين ، وجملة من العلويّين وغيرهم من خدعة الناس ، واستغلال هذه العقيدة فيهم ، طلبا للملك والسلطان ، فجعلوا ادعاءهم المهديّة الكاذبة طريقا للتأثير على العامّة وبسط نفوذهم عليهم.
ونحن مع إيماننا بصحّة الدين الإسلامي ، وأنّه خاتمة الأديان الإلهية ، ولا نترقب دينا آخر لإصلاح البشر ، ومع ما نشاهد من انتشار
الظلم واستشراء الفساد في العالم على وجه ، لا تجد للعدل والصلاح موضع قدم في الممالك المعمورة ، ومع ما نرى من انكفاء المسلمين أنفسهم عن دينهم وتعطيل أحكامه وقوانينه في جميع الممالك الإسلامية ، وعدم التزامهم بواحد من الألف من أحكام الإسلام ، ونحن مع كلّ ذلك لا بدّ أن ننتظر الفرج بعودة الدين الإسلامي إلى قوّته وتمكينه من إصلاح هذا العالم المنغمس بغطرسة الظلم والفساد.
ثم لا يمكن أن يعود الإسلام إلى قوّته وسيطرته على البشر عامّة ، وهو عليه اليوم وقبل اليوم من اختلاف معتنقيه في قوانينه وأحكامه وفي أفكارهم عنه ، وهم على ما هم عليه اليوم وقبل اليوم من البدع والتحريفات في قوانينه والضلالات في ادعاءاتهم.
نعم لا يمكن أن يعود الدين إلى قوّته إلّا إذا ظهر على رأسه مصلح عظيم يجمع الكلمة ، ويردّ عن الدين تحريف المبطلين ، ويبطل ما الصق به من البدع والضلالات بعناية ربّانيّة وبلطف إلهي ، ليجعل منه شخصا هاديا مهديّا ، له هذه المنزلة العظمى والرئاسة العامّة والقدرة الخارقة ، ليملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا. والخلاصة أنّ طبيعة الوضع الفاسد في البشر البالغة الغاية في الفساد والظلم مع الإيمان بصحة هذا الدين وأنّه الخاتمة للأديان يقتضي انتظار هذا المصلح «المهديّ (ع)» ، لإنقاذ العالم ممّا هو فيه.
ولأجل ذلك آمنت بهذا الانتظار جميع الفرق المسلمة ، بل الامم من غير المسلمين غير أنّ الفرق بين الإمامية وغيرها هو أنّ الإمامية تعتقد أنّ هذا المصلح المهدي هو شخص معيّن معروف ولد سنة ٢٥٦ هجرية ولا
يزال حيّا هو ابن الحسن العسكري واسمه (م ح م د).
وذلك بما ثبت عن النبي وآل البيت من الوعد به وما تواتر عندنا من ولادته واحتجابه.
ولا يجوز أن تنقطع الإمامة وتحول في عصر من العصور وإن كان الإمام مخفيّا ليظهر في اليوم الموعود به من الله تعالى الذي هو من الأسرار الإلهية التي لا يعلم بها إلّا هو تعالى.
ولا يخلو من أن تكون حياته وبقاؤه هذه المدة الطويلة معجزة جعلها الله تعالى له ، وليست هي بأعظم من معجزة أن يكون إماما للخلق وهو ابن خمس سنين يوم رحل والده إلى الرفيق الأعلى ولا هي بأعظم من معجزة عيسى إذ كلّم الناس في المهد صبيّا وبعث في الناس نبيا.
وطول الحياة أكثر من العمر الطبيعي ، أو الذي يتخيل أنه العمر الطبيعي ، لا يمنع منها فن الطب ولا يحيلها ، غير أنّ الطبّ بعد لم يتوصل إلى ما يمكنه من تعمير حياة الإنسان.
وإذا عجز عنه الطب فإنّ الله تعالى قادر على كلّ شيء ، وقد وقع فعلا تعمير نوح ، وبقاء عيسى ـ عليهماالسلام ـ كما اخبر عنهما القرآن الكريم ... ولو شكّ الشاك فيما أخبر به القرآن فعلى الإسلام السلام.
ومن العجب أن يتساءل المسلم عن إمكان ذلك ، وهو يدّعي الإيمان بالكتاب العزيز.
وممّا يجدر أن نذكره في هذا الصدد ونذكّر أنفسنا به ، أنّه ليس معنى انتظار هذا المصلح المنقذ (المهدي ـ عليهالسلام ـ) ، أن يقف المسلمون مكتوفي الأيدي فيما يعود إلى الحقّ من دينهم ، وما يجب عليهم
من نصرته والجهاد في سبيله ، والأخذ بأحكامه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بل المسلم أبدا مكلّف بالعمل بما انزل من الأحكام الشرعيّة ، وواجب عليه السعي لمعرفتها على وجهها الصحيح بالطرق الموصلة إليها حقيقة ، وواجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ما تمكّن من ذلك وبلغت إليه قدرته (كلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيته). فلا يجوز له التأخر عن واجباته بمجرّد الانتظار للمصلح (المهدي ـ عليهالسلام ـ) والمبشّر الهادي.
فإنّ هذا لا يسقط تكليفا ولا يؤجل عملا ولا يجعل الناس هملا كالسوائم (١).
______________________________________________________
(١) يقع البحث في مقامات :
أحدها : أنّ مقتضى ما مرّ من ادلّة لزوم الإمامة والعصمة ، هو عدم خلوّ كلّ عصر وزمان عن وجود الإمام المعصوم سواء قام بالسيف أو لم يقم ، ظهر أو لم يظهر ، وعليه فنعتقد بوجود الإمام المعصوم الحيّ في كلّ زمان.
وبهذا الأمر الثابت يظهر بطلان المذاهب التي أهمل أصحابها هذا الأصل الأصيل كالزيدية الذين قالوا بإمامة كلّ فاطميّ عالم زاهد خرج بالسيف مع ادعاء الإمامة (١) فإنّهم أهملوا العصمة بما اعتقدوا وذهبوا إليه ، هذا مضافا إلى أنّ بعض الأئمة الذين لم يشهروا سيفهم ، كعلي بن الحسين والإمام الباقر والإمام الصادق إلى الإمام الثاني عشر ممّن نصّ النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ
__________________
(١) فرق الشيعة : ص ٧٨.
والأئمة الاول على إمامتهم ، فاشتراط القيام بالسيف اشتراط شيء في قبال نصّ النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ على إمامتهم ، ألا ترى ما روي في كتب الفريقين عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ في الحسن والحسين ـ عليهماالسلام ـ :
هذان ولداي إمامان قاما أو قعدا ، ولو كان القيام بالسيف شرطا لما صدر ذلك عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ قال العلّامة الحليّ ـ قدسسره : كلام الزيدية باطل من وجوه ، الأوّل : قولهم بعدم العصمة ، وهم يشاركون كلّ من خالف الإمامية في هذه المقالة إلى أن قال : الخامس ليس القيام بالسيف شرطا لقوله ـ عليهالسلام ـ في الحسن والحسين ـ عليهماالسلام ـ هذان ولداي إمامان قاما أو قعدا ، ولو كان القيام بالسيف شرطا لما صحّ نفيه عنهما كالعلم والعدالة (١). ومما ذكر يظهر أيضا بطلان مذهب الفطحية ، الذين قالوا بإمامة عبد الله بن جعفر ، وهكذا بطلان مذهب الإسماعيلية الذين قالوا بإمامة إسماعيل بن جعفر ، مع أنّهما ليسا بمعصومين ، وليسا بداخلين فيما نصّ النبيّ والأئمة السابقة ـ عليهم الصلوات والسّلام ـ على إمامتهم.
ثانيها : أنّ مقتضى الأخبار المتواترة إنّ الأئمة ـ عليهمالسلام ـ هم الاثنا عشر ، لا أقل ولا أكثر ، ولازم ذلك أيضا بطلان اعتقاد من ذهب إلى الأزيد ، كالزيدية ، أو إلى الأقلّ كالكيسانية الذين قالوا بإمامة عليّ ـ عليهالسلام ـ وبعده الحسن ثم الحسين ثم محمّد بن الحنفية ، وقالوا : إنّه الإمام المنتظر أعني المهديّ الذي يملأ الأرض عدلا ، وهو إلى الآن مستتر في جبل رضوى بقرب المدينة (٢).
هذا مضافا إلى إهمالهم العصمة وإعراضهم عن النصوص الخاصّة من النبيّ والأئمة الماضين على أشخاص الأئمة اللاحقين عليهمالسلام.
__________________
(١) كشف الفوائد : ص ٨٣.
(٢) راجع كشف الفوائد : ص ٨٢.
ومما ذكر يظهر أيضا بطلان مذهب الناووسية ، الذين وقفوا على إمامة الإمام جعفر الصادق ـ عليهالسلام ـ وبطلان مذهب الواقفية الذين وقفوا على إمامة الإمام موسى الكاظم ـ عليهالسلام ـ وعليه فالحقّ هو مذهب الاثنى عشرية الذين قالوا بإمامة اثني عشر ، كما نصّ النبيّ والأئمة الأول ـ صلوات الله عليهم ـ على أشخاصهم.
ثالثها : أنّ فكرة وجود الإمام في كلّ عصر وزمان ليست فكرة حديثة ، بل هي أمر له سابقة من لدن خلقة البشر ، لما عرفت من إقامة البراهين التامّة على لزوم الارتباط بين الخلق وخالقه بالنبوّة أو الإمامة ، وأكّدها النبيّ صلىاللهعليهوآله بجملات ، منها : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهلية (١) فالاعتقاد بالإمامة كان مبتنيا على أساس قويم برهاني ، بل فكرة كون الأئمة في الإسلام اثني عشر ، وفكرة كون الأئمة الأحد عشر ـ عليهمالسلام ـ من نسل النبيّ ونسل علي وفاطمة ، ونسل الحسين ـ عليهمالسلام ـ وبعض خصوصيات أخر أمر سماويّ أخبر به الأنبياء السالفة ونبيّنا ـ صلىاللهعليهوآله ـ بالتواتر من الأخبار.
روى في منتخب الأثر عن كفاية الأثر بإسناده إلى أمّ سلمة قالت : قال : رسول الله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : لمّا اسري بي إلى السماء ، نظرت فإذا مكتوب على العرش لا إله إلّا الله محمّد رسول الله ، أيدته بعليّ ، ونصرته بعليّ ، ورأيت أنوار عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، وأنوار علي بن الحسين ومحمّد بن عليّ وجعفر بن محمّد وموسى بن جعفر وعليّ بن موسى ومحمّد بن عليّ ، وعليّ بن محمّد ، والحسن بن عليّ ، ورأيت نور الحجّة يتلألأ من بينهم كأنّه كوكب درّي ،
__________________
(١) موسوعة الإمام المهدي : ص ٩ نقلا عن أحمد بن حنبل في مسنده : ج ٢ ص ٨٣ وج ٣ ص ٤٤٦ ، وج ٤ ص ٩٦٠ وغيره من الأعلام فراجع.
فقلت يا رب من هذا؟ ومن هؤلاء؟ فنوديت يا محمّد هذا نور عليّ وفاطمة ، وهذا نور سبطيك الحسن والحسين ، وهذه أنوار الأئمة بعدك من ولد الحسين مطهّرون معصومون ، وهذا الحجّة الذي يملأ الأرض (الدنيا نخ) قسطا ، وعدلا (١) وعليه ففكرة ظهور الإمام الثاني عشر ـ أرواحنا فداه ـ وغلبته على الظلم والجور ، وإقامته للعدل والقسط والحكومة الإلهية الإسلامية في جميع أقطار الأرض ، أمر سماوي أخبر به الأنبياء السابقة ونبيّنا محمّد ـ صلىاللهعليهوآله ـ والأئمة الأطهار ـ صلوات الله عليهم ـ بالتواتر ، ووقع كما أخبروا من دون ريب وشبهة ، بل يمكن إقامة البرهان عليه بما يلي :
قال العلّامة الطباطبائي ـ قدسسره ـ في «الشيعة في الاسلام» تحت عنوان بحث في ظهور المهدي ـ عجل الله فرجه ـ من وجهة نظر العامّة : وكما أشرنا في بحث النبوّة والإمامة وفقا لقانون الهداية الجارية في جميع أنواع الكائنات ، فالنوع الإنساني منه مجهّز بحكم الضرورة بقوة (قوّة الوحي والنبوّة) ترشده إلى الكمال الإنساني والسعادة النوعيّة ، وبديهي أنّ الكمال والسعادة لو لم يكونا أمرين ممكنين وواقعين للإنسان الذي تعتبر حياته حياة اجتماعية لكان أصل التجهيز لغوا وباطلا ، ولا يوجد لغو في الخلقة مطلقا.
وبعبارة اخرى أنّ البشر منذ أن وجد على ظهر البسيطة كان يهدف إلى حياة اجتماعية مقرونة بالسعادة ، وكان يعيش لغرض الوصول إلى هذه المرحلة ، ولو لم تتحقق هذه الامنية في الخارج ، لما منّى الإنسان نفسه بهذه الامنية ، فلو لم يكن هناك غذاء لم يكن هناك جوع ، وإذا لم يكن هناك ماء لم يكن عطش ، وإذا لم يكن تناسل لم تكن علاقة جنسية.
__________________
(١) منتخب الأثر : ص ١١٤.
فعلى هذا وبحكم الضرورة (الجبر) فإنّ مستقبل العالم سيكشف عن يوم يهيمن فيه العدل والقسط على المجتمع البشري ، ويتعايش أبناء العالم في صلح وصفاء ومودّة ومحبّة ، تسودهم الفضيلة والكمال وطبيعي أنّ استقرار مثل هذه الحالة بيد الإنسان نفسه ، والقائد لمثل هذا المجتمع سيكون منجي العالم البشري ، وعلى حدّ تعبير الروايات سيكون المهديّ (١).
وكيف كان فنذكر من الروايات الكثيرة المتواترة رواية واحدة ، وهي ما رواه في فرائد السمطين عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : إنّ خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي لاثنا عشر ، أوّلهم أخي وآخرهم ولدي قيل : يا رسول الله ومن أخوك؟ قال : عليّ بن أبي طالب ، قيل : فمن ولدك؟ قال : المهديّ الذي يملأها قسطا وعدلا ، كما ملئت جورا وظلما والذي بعثني بالحقّ بشيرا لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يخرج فيه ولدي المهديّ ، فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلّي خلفه ، وتشرق الأرض بنور ربّها ، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب (٢).
قال الشهيد السيد محمّد باقر الصدر ـ قدسسره ـ : «إن فكرة المهديّ بوصفه القائد المنتظر لتغير العالم إلى الأفضل قد جاءت في أحاديث الرسول الأعظم عموما ، وفي روايات أئمة أهل البيت خصوصا ، وأكّدت في نصوص كثيرة بدرجة لا يمكن أن يرقى إليها الشك ، وقد احصي أربعمائة حديث عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ من طرق إخواننا أهل السنّة كما احصي مجموع الأخبار الواردة في الإمام المهديّ من طرق الشيعة والسنّة ، فكان أكثر من ستة آلاف رواية. هذا رقم إحصائي كبير لا يتوفر نظيره في كثير من قضايا الإسلام
__________________
(١) الشيعة في الإسلام تعريب بهاء الدين : ص ١٩٥.
(٢) موسوعة الامام المهدي : ص ٧٠ نقلا عن فرائد السمطين : ج ٢ ص ٥٦٢.
البديهيّة التي لا شكّ فيها لمسلم عادة» (١).
ثم مما ذكر يظهر وجه ضعف القول بأنّ فكرة ظهور المهديّ مستحدثة عند الشيعة ، هذا مضافا إلى ما أشار إليه في المتن من أنّه لو لا ثبوت فكرة المهديّ عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ على وجه عرفها جميع المسلمين وتشبّعت في نفوسهم واعتقدوها لما كان يتمكن مدّعو المهديّة في القرون الاولى كالكيسانية والعبّاسيين وجملة من العلويين ، وغيرهم من خدعة الناس ، واستغلال هذه العقيدة فيهم طلبا للملك والسلطان ، فجعلوا ادعاءهم المهديّة الكاذبة طريقا للتأثير على العامّة وبسط نفوذهم عليهم.
ثم لا يخفى عليك قصور ما أفاده المصنّف من أنّ طبيعة الوضع الفاسد في البشر البالغة الغاية في الفساد والظلم مع الإيمان بصحّة هذا الدين ، وأنّه الخاتمة للأديان يقتضي انتظار هذا المصلح (المهديّ) لإنقاذ العالم مما هو فيه ، ولأجل ذلك آمنت بهذا الانتظار جميع الفرق المسلمة الخ.
فإنّ مجرد طبيعة الوضع الفاسد يقتضي إظهار مصلح وإخراجه حتّى يتمكّن به إصلاح العالم مما هو فيه ولا يدلّ على وقوع هذا الإصلاح إلّا بضميمة ما بشّر الله به في الكتاب العزيز من غلبة الدين الإسلامي على جميع الأديان كقوله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) أو بضميمة بشارة النبيّ والأئمة الماضين ـ عليهمالسلام ـ بوقوع هذا الأمر وحتميته ، وهذا هو السبب في إيمان جميع الفرق المسلمة بذلك الانتظار لا مجرد طبيعة الوضع الفاسد فلا تغفل.
رابعها : أنّ الفرق بين الإمامية وغيرها من الفرق المسلمة ، بل الامم من غير المسلمين ، هو أنّ الامامية تعتقد بوجود هذا المصلح ، وأنّه المهديّ بن الحسن
__________________
(١) بحث حول المهدي : ص ٦٣ ـ ٦٤.
العسكريّ ، ومتولد في سنة ٢٥٦ هجرية ، ولا يزال حيّا.
والدليل عليه هو أمران ، أحدهما : الروايات الدالّة على خصوص شخصه ، وأنّه ثاني عشر من الأئمة ، وأنّه التاسع من ولد الحسين ـ عليهالسلام ـ ونحو ذلك ، فإنّ مثل هذه الروايات الكثيرة المتواترة تدلّ على وجوده وإلّا لم يكن تاسعا من ولد الحسين أو ثاني عشر من الأئمة الذين لا تخلو الأرض منهم ، وهذه الروايات نقلت قبل وجوده وشاعت وكانت محفوظة ومسطورة في الجوامع.
قال الشهيد السيد محمّد باقر الصدر ـ قدسسره ـ في ذيل قوله ـ صلىاللهعليهوآله ـ : «الخلفاء والامراء اثنا عشر» : «قد أحصى بعض المؤلفين رواياته فبلغت أكثر من مائتين وسبعين رواية مأخوذة من أشهر كتب الحديث عند الشيعة والسنّة ، بما في ذلك البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود ومسند أحمد ومستدرك الحاكم على الصحيحين ، ويلاحظ أنّ البخاري الذي نقل هذا الحديث كان معاصرا للإمام الجواد والإمامين الهادي والعسكري ـ عليهمالسلام ـ» (١).
وثانيهما : هو ما أشار إليه في المتن حيث قال : وما تواتر عندنا من ولادته واحتجابه ، ولا يجوز أن تنقطع الإمامة وتحوّل في عصر من العصور وإن كان الامام مخفيا الخ.
ولقد أفاد وأجاد الشهيد السيد محمّد باقر الصدر ـ قدسسره ـ حيث قال : «إنّ المهديّ حقيقة عاشتها امة من الناس ، وعبّر عنها السفراء والنوّاب طيلة سبعين عاما من خلال تعاملهم مع الآخرين ، ولم يلحظ عليهم أحد كلّ هذه المدّة تلاعبا في الكلام أو تحايلا في التصرّف ، أو تهافتا في النقل ، فهل تتصور ـ بربّك ـ أنّ بإمكان أكذوبة أن تعيش سبعين عاما ، ويمارسها أربعة على سبيل
__________________
(١) بحث حول المهدي : ص ٦٥ ـ ٦٦.
الترتيب ، كلّهم ينفقون عليها ويظلون يتعاملون على أساسها وكأنها قضيّة يعيشونها بأنفسهم ويرونها بأعينهم دون أن يبدر منهم أيّ شيء يثير الشكّ ، ودون أن يكون بين الأربعة علاقة خاصّة متميّزة تتيح لهم نحوا من التواطؤ ، ويكسبون من خلال ما يتّصف به سلوكهم من واقعية ثقة الجميع ، وإيمانهم بواقعية القضيّة ، التي يدّعون أنّهم يحسّونها ويعيشون معها ـ إلى أن قال ـ : وهكذا نعرف أنّ ظاهرة الغيبة الصغرى ، يمكن أن تعتبر بمثابة تجربة علمية لإثبات ما لها من واقع موضوعي ، والتسليم بالإمام القائد بولادته وحياته وغيبته وإعلانه العام عن الغيبة الكبرى التي استتر بموجبها عن المسرح ، ولم يكشف نفسه لأحد» (١).
هذا مضافا إلى إخبار الإمام العسكري ـ عليهالسلام ـ بولادته لأصحابه ورؤية جمع منهم إياه ، قبل وفاة أبيه كأحمد بن اسحاق وغيره ، وظهور المعجزة على يده ، وقد ذكر الطبرسيّ ـ قدسسره ـ جمعا كثيرا ممّن رآه في حال غيبته ، ووقف على معجزاته من الوكلاء وغيرهم ، وقال : «وأمّا غيبته الصغرى منها فهي التي كانت فيها سفراؤه موجودين وأبوابه معروفين لا تختلف الإمامية القائلون بإمامة الحسن بن عليّ فيهم ، فمنهم أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري ومحمّد بن علي بن بلال وأبو عمرو عثمان بن سعيد السمّان وابنه أبو جعفر محمّد بن عثمان وعمر الأهوازي وأحمد بن اسحاق وأبو محمّد الوجناني وإبراهيم بن مهزيار ومحمّد بن إبراهيم في جماعة اخرى ربّما يأتي ذكرهم عند الحاجة إليهم في الرواية عنهم ، وكانت مدة هذه الغيبة اربعا وسبعين سنة ، وكان أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري بابا لأبيه وجدّه من قبل ، وثقة لهما ، ثم تولى الباقية من قبله ، وظهرت المعجزات على يده الخ» (٢).
__________________
(١) بحث حول المهدي : ص ٧١ ـ ٧٢.
(٢) أعلام الورى : ص ٤١٦ ـ ٤٢٥.