آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مؤسسة عاشوراء للتحقيقات والبحوث الإسلامية
المطبعة: مطبعة الكوثر
الطبعة: ١
ISBN: 964-7263-74-0
الصفحات: ٢٠٦
ظاهراً وباطناً ، وربما يكون له خصال حميدة ، ولا أقل من خواطر حقّة ثابتة ، علىٰ درجات متفاوتة ، ولا سيّما أنَّ العبرة بأخير حالاته ونهاية أوقاته ، [ كما قيل :
هيچ کافر را سنجراری منگريد |
|
که مُسلمان مرونش باشد اميد ] (١) |
لو فرض خلوّه عن جميع الوسائل وانبتات يده عن تمام الحبائل ، فنلتزم عدم حصول الشفاعة له ، ولهذا وقع في الدعاء : ( اللّهم قرّب وسيلته ، وارزقنا شفاعته ) (٢) » (٣) انتهىٰ.
ثمّ مراده من جعله تعالىٰ شفيعاً لجرائمه وآثامه عنده تعالىٰ ، هو طلب العفو والمغفرة منه تعالىٰ ، علىٰ سبيل الكناية التي هي أبلغ من التصريح وأدعىٰ منه.
( وَأَسْأَلُكَ بِجُودِكَ أَنْ تُدْنِيني مِنْ قُرْبِكَ )
الجود والكرم بمعنًى واحد ، والجواد الذي لا يبخل بعطائه ، وهو من أسمائه تعالىٰ ، كما في الدعاء ( اللهم أنت الجواد الذي لا يبخل ) (٤).
والجود منه تعالىٰ إفادة ما ينبغي لا لعوض ولا لغرض ، كالعطاء والكرم والهبة منه تعالىٰ ؛ إذ مرجعها إلىٰ صفة واحدة هي الإفاضة والفيّاضية.
وفي المجمع : « سئل الحسن عليهالسلام ـ وهو في الطواف ـ فقيل : أخبرني عن الجواد ، فقال عليهالسلام : ( إنّ لكلامك وجهين ؛ فإن كنت تسأل عن المخلوق فالجواد الذي يؤدّي ما افتُرض عليه ، والبخيل الذي يبخل بما افتُرض عليه. وإن كنت تسأل عن الخالق فهو الجواد إن أعطىٰ ، وهو الجواد إن منع ؛ لأنه إن أعطىٰ عبداً أعطاه ما ليس له ، وإن منع منع ما ليس له ) » (٥).
_____________________________
(١) ليست في المصدر. |
(٢) « بحار الأنوار » ج ٨٧ ، ص ١٣٢ ، باختلاف. |
(٣) « شرح الأسماء » ص ٦٢٦. |
(٤) « بحار الأنوار » ج ٩٥ ، ص ٢٤١ ، باختلاف. |
(٥) « مجمع البحرين » ج ٣ ، ص ٢٩.
أقول : أراد عليهالسلام أنَّ خالق جميع العطيات وموجدها ومعطيها ومالكها نفسه تعالىٰ ، لا شريك له في الإيجاد ، كما لا ثاني له في الوجود.
وقول السائل : ( أن تُدنيني من قُربِكَ ) أي تقرّبني إليك. يقال : زيد أدنىٰ عمراً إلىٰ بكر ، أي قرّبه إليه ، وأدنوه مني : أي قرّبوه منّي ، من الإدناء. كأنّه قال : أسألك بسبب جودك وكرمك أن تعطيني بعطاء هو قربك ، يعني : توفّقني لإقامة طاعاتك وإدامة عباداتك ، حتّىٰ يحصل لي التخلّق بأخلاقك الحسنة والاتصاف بصفاتك الكريمة ؛ لأنّك قلت : ( عبدي أطعني حتىٰ أجعلك مثلي ، أقول لشيء : كن ، فيكون ، تقول لشيء : كن ، فيكون ) (١) ، كما قيل :
حكايت كنند از بزرگان دين |
|
حقيقت شناسان عين اليقين |
که صاحبدلی بر پلنگی نشست |
|
همی را ندار هوار وماری بدست |
باو گفتم اى مرد راه خدا |
|
بدين ره که رفتی مرا ره نما |
چه کردی که درنده رام تو شد |
|
نگين سعادت بنام تو شد |
بکفت ار بينگم زبون دست ومار |
|
وگربيل و گرگ هاست شگفتی مدار |
تو هم گردن از حکم داود هيچ |
|
که گردن به يچد ز حکم تر هيچ |
وقال المولوي :
بر كه ترسيد از حق وتقوىٰ گزيد |
|
ترسد از وی چن دانس وهر که ويد |
وفي الحديث القدسيّ أيضاً : ( مَن تقرّب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً ، ومن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً ، من أتاني مشياً أتيته هرولة ) (٢).
وكأن غاية التقرّب إليه تعالىٰ هي الفناء في أسمائه وصفاته ، وبعبارة اُخرىٰ : الفناء في الحضرة الواحدية ، وحينئذٍ يسري حكم المفني فيه في الفاني ، ويبقىٰ ببقائه
_____________________________
(١) « الجواهر السنية » ص ٢٨٤ ، باختلاف. |
(٢) « الأمالي » للسيد المرتضىٰ ، ج ٢ ، ص ٦. |
لا بإبقائه كما في الموجودات اللايزالية ، فإنها باقية بإبقاء الله تعالىٰ.
فهذه الغاية القصوىٰ والبغية الكبرىٰ حصلت لسيد الأنبياء وخاتمهم ، وسيد الأوصياء والأولياء وخاتمهم ، ولهذا قال صلىاللهعليهوآله : ( من رآني فقد رأىٰ الحقّ ) (١). وقال : ( لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبي مرسل ) (٢). وقال أمير المؤمنين عليهالسلام : ( معرفتي بالنورانية معرفة الله ) (٣)
وقال المولوي ـ حكاية عن نوح عليهالسلام ـ :
گفت نوح ای سرکشان من من نيم |
|
من ز جان مردم بجانان ميزيم |
چون بمردم از حواس ابو البشر |
|
حق مرا شد سمع و ادراک و بصر |
چونکه من من نيستم اين دم ز هواست |
|
پيش اين دم هر که دم زد کافر او است |
( وَأَن تُوزِعَني شُكرَك )
الإيزاع : الإلهام ، والجملة معطوفة علىٰ ما قبلها.
يريد : أنّه بعدما أنعمتني وأعطيتني بالنعمة التي هي قُربك ، أسألك أن تُلهمني شكرك ؛ لأنّه ـ كما مرّ ـ لكلّ نعمة شكر خاصّ يختصّ بها ، وشكر تلك النعمة العظمىٰ موقوف علىٰ إلهامة تعالىٰ ، ولعله نفس تلك النعمة ، بناءً علىٰ الحديث القدسيّ الذي قال تعالىٰ : ( مَن عشقني عشقته ، ومَن عشقته قتلته ، ومَن قتلته فعليّ ديته ، ومَن عليّ ديته فأنا ديته ) (٤) ( من كان لله كان الله له ) (٥).
والشكر في اللغة : فعل ينبئ عن تعظيم المنعم لكونه منعماً (٦). وعند العلماء وفي اصطلاحهم : صرف العبد جيع ما أنعمه الله تعالىٰ عليه فيما خُلق لأجله.
_____________________________
(١) « صحيح البخاري » ج ٦ ، ص ٢٥٦٨ ، ح ٦٥٩٥.
(٢) « جامع الأسرار » ص ٢٧ ، ٢٠٥. |
(٣) « شرح الأسماء » ص ٦٢٣. |
(٤) انظر « شرح الأسماء » ص ١١٩ ، ٣٩٤ ، ٦٧٠. |
(٥) انظر « شرح الأسماء » ص ٢١٦ ، ٣٥٧ ، ٣٩٤. |
(٦) « مجمع البحرين » ج ٣ ، ص ٣٩ ، مادة « حمد ».
بيان أقسام الخواطر
والإلهام من فعل الله تعالىٰ ، أو مِن فعل الملك ، وهو الخاطر الذي بالقوّة والتسلّط وعدم الاندفاع ؛ إذ الخواطر والواردات علىٰ القلب أربعة أقسام :
رباني : ويسمّىٰ نقر الخاطر أيضاً.
وملكي : وهو الباعث علىٰ مندوب أو مفروض ، ويسمّىٰ إلهاماً
ونفساني : وهو ما فيه حظّ للنفس ، ويسمّىٰ هاجساً.
وشيطاني : هو الباعث علىٰ مخالفة الحقّ والعقل ، ويسمىٰ وسواساً.
وسيأتي زيادة توضيح لتلك الأقسام عند شرح : ( ونفسي بخيانتها ، ومِطالي ) إن شاء الله تعالىٰ.
وإن كان الإلهام فعل الملك فقط ، كما قال به بعض المحققين ، فإسناده إليه تعالىٰ من باب إسناد الفعل إلىٰ فاعله الحقيقي ، وانقطاعه عن الفاعل المجازي الذي هو في الحقيقة معدّ لا فاعل للشيء ؛ إذ جميع الملائكة جهات قادريته تعالىٰ ، وجنوده وأياديه الفعّالة العمّالة ، ومعطي الوجود ـ كما مرّ غير مرّة ـ ليس إلّا هو ، وقد أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالىٰ في مواضع كثيرة :
منها قوله : ( اللَّـهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (١) ، ومنها قوله تعالىٰ : ( هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ) (٢) ، ومنها قوله تعالىٰ : ( يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (٣) إلىٰ غير ذلك.
( وَأَنْ تُلْهِمُني ذِكْرَكَ )
المراد بالذكر هنا : ما يتذكّر به الإنسان من الأذكار والأوراد التي بها يستمد من
_____________________________
(١) « الزمر » الآية : ٤٢. |
(٢) « آل عمران » الآية : ٦. |
(٣) « النحل » الآية : ٩٣.
الله تعالىٰ ويطلب قضاء حاجاته منه ، بل يستحضره في قلبه ، حتىٰ لا ينساه وينسىٰ نفسه به ، كما قال الله تعالىٰ : ( نَسُوا اللَّـهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) (١).
فالأهم الأقرب والأولىٰ والأنسب أن يؤنس الإنسان نفسه بذكره تعالىٰ في جميع أوقاته ، وكان منظور نظره في جملة دعواته القربة إلىٰ وجهه الكريم ؛ ولذا قال سيد الساجدين زين العابدين عليهالسلام ، في المناجاة الثالثة عشر : ( وآنسنا بالذكر الخفي ، واستعملنا بالعمل الزكي ) (٢) ؛ حتىٰ تنوّر بيت فؤاده بنور جماله ، واستتر نقائصه الإمكانيّة تحت شعاع عظمته وجلاله.
فإذا جاوز عن دار الغرور وتوجّه إلىٰ دار السرور استقرَّ في الأنوار الخمسة ، كما قال صلىاللهعليهوآله : ( لا يزال المؤمن الذي يذكر الله في كلّ حال في أنوار خمسة : مدخله نور ، ومخرجه نور ، وكلامه نور ، وغذاؤه نور ، ومنظره يوم القيامة إلىٰ نور ) (٣).
فالذكر ينبغي أن يلتفت إلىٰ أن يكون في تذكاره تعالىٰ عمدة غرضه نفس الذكر ، ولا يدرج فيه مقاصد اُخر ، وإن أدرج ولم يقض أوطاره المندرجة لا يعبأ به ، فإنّه قال تعالىٰ : ( عَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ) (٤). كما قال المولوي رحمهالله :
آن يکی الله سيکفنی بشی |
|
تا که شيرين گردد از ذکرش بی |
گفت شيطان آخر ای بسيار گو |
|
اين همه الله را لبيک گو |
می نيايد يک جواب از پيش تخت |
|
چند الله سيزنی باردی سخت |
او پريشان دل شد ونهاد سر |
|
ديدر خواب او خضر را در خضر |
گفت هين از ذکر چون وا مانده |
|
چون پشيمانی از آن گش خوانده |
کفت لبيکم نميايد جواب |
|
زان همی برستم که باشم در باب |
_____________________________
(١) « الحشر » الآية : ١٩. |
(٢) « بحار الأنوار » ج ٩١ ، ص ١٥١. |
(٣) « بحار الأنوار » ج ٤ ، ص ١٨ ، باختلاف. |
(٤) « البقرة » الآية : ٢١٦. |
گفت او را که گفت اين بمن |
|
که بر وبا أو بگو ای ممتحن |
خود همان الله تو لبيك ما است |
|
و ان نياز و در دو سوزت لبيك ما است |
حيلهها وجاره جونهاى تو |
|
جذبها بود وگشودن پای تو |
از خدا غير خدا را خواستن |
|
اطن افزو نيسيت کلی کاستن |
( اللّهُمَّ إنّي أَسْأَلُكَ سُؤالَ خاضِعٍ مُتَذَلّلٍ خاشِعٍ أن تُسامِحَني )
التذلل : المَسكنة والهوان والحقارة ، من الذل ـ بالضم ـ ضد العزة.
الخضوع ـ كالخشوع ـ : الخوف والخشية.
فالمراد بالخضوع هنا : هو التطامن والتواضع ، والخشية في القلب والأفعال.
وبالخشوع : التطامن والتواضع في الصوت والقول.
المسامحة : المساهلة ، تسامحني : أي تساهلني ولا تأخذني بالشدّة والقهر.
وفي الدعاء أيضاً : ( اللهم تفضّل عليَّ بالمياسرة إذا حاسبتني المياسرة ) (١).
مفاعلة من اليسر ، والمراد : المسامحة في الحساب يوم القيامة.
( وَتَرْحَمَني وَتَجْعَلَني بِقِسْمِكَ راضِياً )
أي بقسمك الذي قسمت لي من الأرزاق ، والعلم والمعرفة ، والعزّة أو الذلة ، والصحّة أو المرض. وبالجملة ، فجميعها بقدرته وحوله وتقديره وقضائه وقدره وعلمه ومشيئته وإمضائه.
قال الله تعالىٰ : ( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ ) (٢) ، وقال : ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) (٣).
الرضا : ضد السخط والكراهة.
_____________________________
(١) « المصباح » للكفعمي ، ص ١٩٣ ، « بحار الأنوار » ج ٨٣ ، ص ٣٥٤.
(٢) « الزخرف » الآية : ٣٢. |
(٣) « الذاريات » الآية : ٢٢. |
( قَانِعَاً )
القانع : هو الذي يقنع ويرضىٰ بالقليل ، ولا يسخط ولا يكره بقلّة المعيشة. وفي الصحاح : « القانع : الراضي بما معه وبما يعطىٰ من غير سؤال » (١).
أقول : فضيلة القناعة في الأخبار كثيرة ، كقوله عليهالسلام : ( القانع غني وإن جاع وعرىٰ ، ومَن قنع استراح من أهل زمانه واستطال علىٰ أقرانه ، ومَن قنع فقد اختار الغنىٰ علىٰ الذل ، والراحة علىٰ التعب ) وقوله عليهالسلام : ( القناعة كنز لا ينفد ) (٢). ولعل عدم نفاده لأنّ الإنفاق منه لا ينقطع كلّما تعذر عليه شيء من اُمور الدنيا قنع القانع بما دونه ورضي به.
وقوله عليهالسلام : ( عَزّ مَن قنع ، وذلّ مَن طمع ).
وقول أمير المؤمنين عليهالسلام : ( إنّي طلبت الغنىٰ فما وجدت إلّا بالقناعة ، عليكم بالقناعة تستغنوا ، وطلبت القدر والمنزلة فما وجدت إلّا بالعلم ، تعلّموا يعظم قدركم في الدارين ، وطلبت الكرامة فما وجدت إلّا بالتقوىٰ ، اتقوا الله لتكرموا ، وطلبت الراحة فما وجدت إلّا بترك مخالطة الناس ، اتركوا الدنيا ومخالطة الناس تستريحوا ) (٣).
أو غير ذلك من الأحاديث التي تدلّ علىٰ فضيلة القناعة.
وسرّها واضح ؛ إذ من المعلوم أنّ من قنع بالقليل من الزاد في مسافرته إلىٰ الله تعالىٰ أمن من الكد والتكلّف والسعي في الطلب ، ولا يوقع نفسه في متاعب الكسب ومصاعب الاُمور ، ويتقّي بوجهه سوء الاكتساب ، حتّىٰ لا يقع في الشبهات والمحرّمات ، ولهذا يصان دينه وإيمانه ، وكان بمعزل من الصفات الخسيسة والسمات الخبيثة ، ويقبل بجميع وجوهه إلىٰ الله تعالىٰ ، ويجعل غاية عزيمته سرعة سيره من هذا الجسر ؛ ليلتحق بالمفردين (٤) ، يسلك في سلك المقرّبين أو في حزب أصحاب اليمين ، وتبرّأ عن الانخراط في زمرة المكذّبين الضالين.
_____________________________
(١) « الصحاح » ج ٣ ، ص ١٢٧٣. |
(٢) « روضة الواعظين » ص ٤٥٤. |
(٣) « بحار الأنوار » ج ٦٦ ، ص ٣٩٩ ، ح ٩١. |
(٤) كذا في المخطوط. |
مع أنّ الإنسان العارف يعلم أن قسّام الأرزاق بجملتها هو الحكيم علىٰ الإطلاق ، قد قدّر لكلّ فرد من أفراد الأناسي والحيوانات رزقاً معيّناً معلوماً ، مقسوماً في أوقات خاصة ، لا يقدّم ولا يؤخر طرفة عين.
بر سر هر لقمه بنوشته عيان |
|
كز فلان بن فلان بن فلان |
بل لكلّ غصن من أغصان الأشجار والنباتات وأوراقها رزق معيّن مشخّص ، مرزوقة به ، لا ترتزق ورقة رزق الاُخرىٰ ، بل جميع العالم مرزوقة من الله تعالىٰ من السماوات والأرضين ، كلّ برزق مخصوص يختصّ به ، كما مرّ في أوائل هذا الشرح.
فإذا كان أزمّة الاُمور من الأرزاق وغيرها بيده تعالىٰ ، فِلَم لا يرتضي العبد القانع بما تيسّر له من المعيشة ، واغتم بأقسام الآخرين ، وأخرج نفسه من سلسلة الصابرين والشاكرين ؟! والحمد لله رب العالمين.
( وَفِي جَمِيْعِ الأَحْوَالِ مُتَواضِعاً )
التواضع : التذلل ، وفي الحديث : ( ما تواضع أحد لأحد لله إلّا رفعه ).
فالعارف البصير ، والمسترشد الخيبر ، الناظر بنور الله إلىٰ وجهه الكريم ، في كلّ حال من الأحوال لابدّ أن يكون متواضعاً عند الجميع في جميع الأحوال ؛ لأنّه لا يرىٰ شيئاً إلّا وقد يرىٰ الله فيه أو معه أو بعده ، ما ورد عن أمير المؤمنين عليهالسلام ( ما رأيت شيئاً إلّا وقد رأيت الله قبله أو فيه أو معه ) علىٰ تعدّد الرواية (١).
وكان تواضعه وخضوعه وخشوعه كلّه لله تعالىٰ ، بل الكامل المرشد إذا ذهل طرفة عين عن استبصار أنواره تعالىٰ ، وأحياناً توجّه إلىٰ الغير بإسناده فعل من الأفعال أو موجود من الموجودات إلىٰ غيره تعالىٰ ، ثم التفت إلىٰ ذلك النظر ، استغفره تعالىٰ وأناب إليه ، كما قال صلىاللهعليهوآله : ( ليغان علىٰ قلبي ، وإنّي لأستغفر الله في كل يوم سبعين
_____________________________
(١) انظر « علم اليقين » ج ١ ، ص ٤٩.
مرّة ) (١).
سرمايه دولت اى برادر بگف ار |
|
وين عمر گرامی بخسارت بگذار |
يعنی همه جا با همه کس در همه کار |
|
ميدار نهضة جشم دل جان يار |
ثم إنّ هذه الجملة معطوفة علىٰ الجملة التي قبلها ، أي ( وتجعلني في جميع الأحوال متواضعاً ).
( اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ سُؤالَ مَنَ اشْتَدَتْ فاقَتُهُ )
( أسألك ) معطوف علىٰ ( أسألك ) وتكرير لفظ الجلالة للالتذاذ ، إذ ذكر الحبيب علىٰ الحبيب أحلىٰ وألذّ من العسل المصفّىٰ الذي نهره في الجنّة موعود المتّقين ، بل أهنأ وأمرأ من الخمر التي هي لذة للشاربين ، كما قال الشاعر :
أعد ذكر نعمان لنا إنَّ ذكره |
|
هو المسك ما كررته يتضوع (٢) |
الفاقة والخصاصة والإملاق والمسكنة والمتربة ، جميعها بمعنًى واحد : هو الافتقار ، يقال : فلان اشتدت فاقته ، أي بلغت فاقته وحاجته في أمر إلىٰ النهاية ، بحيث لا يتصوّر فوقها حاجة وفاقة فيه ؛ إذ للاحتياج مراتب مختلفة ، بعضها في الشدّة واللزوم فوق بعض ؛ لأنَّ احتياج الإنسان إلىٰ طعامه أشدّ وآكد من احتياجه إلىٰ ملح طعامه ، واحتياجه إلىٰ الماء أشدّ من احتياجه إلىٰ القصعة والكوزة ، واحتياج الوجودات إلىٰ مقوّمها وقيّومها أشدُّ وآكد ممن احتياجها إلىٰ نفسها.
ولذا قال الله تعالىٰ ( يَا مُوسَىٰ أنا بدّك اللازم ) (٣) ؛ لأنه تعالىٰ مقوّم الجميع وقيّومها ، والوجودات كلّها روابط محضة وفقراء صرفة ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّـهِ وَاللَّـهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) (٤).
_____________________________
(١) « بحار الأنوار » ج ٢٥ ، ص ٢٠٤. |
(٢) انظر « تاج العروس » ج ٥ ، ص ٤٣٦. |
(٣) انظر « شرح الأسماء » ص ٤٦٣. |
(٤) « فاطر » الآية : ١٥. |
وربّما كانت الحاجة في شيء واحد ذات مراتب متفاوته في الشدّة والضعف ، كما إذا احتاج أحد في الليل إلىٰ سراج أنار بيته المظلم ولم يمكنه ، ثم يخطر بباله أن ينظر إلىٰ كتاب في مسألة ، فحينئذٍ يؤكد احتياجه إلیٰ السراج ، ثم يدخل سارق في بيته للسرقة ، فاشتدت حاجته إلىٰ السراج حينئذٍ ، ثم يقصد السارق قتل صاحب البيت ، فالحاجة إلىٰ السراج حينئذٍ بلغت إلىٰ النهاية ، ولا يتصوّر فوقها حاجة فيه.
( وَأَنْزَلَ بِكَ عِنْدَ الشدائِدِ حاجَتَهُ )
( الشدائد ) : جمع « شديد » ، وهو الأمر الصعب. وتقديم الظرف لقصد الحصر ، أي أنزل بك لا بغيرك ، ولمراعاة السجع.
والجملة معطوفة علىٰ ما قبلها ، يعني : ( أسألك سؤال من اشتدت فاقته ، وسؤال مَن أنزل بك عند الشدائد حاجته ) ، وذلك كمن حان أن تغرق سفينته وألقتها السوافن العاصفة في التهلكة ، فكيف حال السفان والربّان حينئذٍ ؟ فلابدّ أن يلتجئ بجميع مشاعره وقواه إلیٰ الله تعالیٰ ، ويتضرّع إليه حتیٰ ينجيه وسفينته من الغرق ، وإذن لا يلتفت إلىٰ نفسه ، فضلاً عن الالتفات إلىٰ الغير.
أو كمن ظهرت أمارات الموت عليه ، وكان في حالة الاحتضار والهلاكة ، فكيف حاله مع الله تعالىٰ ؟ وإلىٰ من يلتجئ هنالك ؟ ومن هو يكشف السوء عنه غيره تعالىٰ ؟
فالعبد المؤمن الذي استقرَّ بين الخوف والرجاء ينبغي أن يكون في جميع الأوقات ملتجئاً ومتضرّعاً إليه تعالىٰ ، كمن اشتدت فاقته ، وأنزل به عند الشدائد حاجته.
( وَعَظُمَ فيمَا عِنْدَكَ رَغْبَتُهُ )
معطوفة علىٰ ما قبلها ، كما مرّ.
الرغبة : تارةً تُستعمل مع « في » ، وهي بمعنىٰ : ميل النفس ، كما هاهنا. وتارةً تُستعمل مع « عن » ، وهي بمعنىٰ : الزهد وعدم الميل ، كما في قوله تعالىٰ : ( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ) (١) ، وقوله صلىاللهعليهوآله ( ومَن رغب عن سنّتي فليس مني ) (٢). والهاء فيها لتأنيث المصدر.
وفي الحديث : ( لا تجتمع الرغبة والرهبة في قلب إلّا وجبت له الجنّة ) (٣).
والرغبة : هي السؤال والطلب من الله تعالىٰ ، والرهبة هي الخوف منه تعالىٰ ، والرغبة في الدعاء هي أن تستقبل ببطن كفّيك إلىٰ السماء ، وتستقبل بهما وجهك.
فاعلم أنَّ جميع المتعاقبات في سلسلة الزمان من الجواهر والأعراض مجتمعات في وعاء الدهر ، وجميع ما في الدهور الأربعة منطويات في السرمد ، فجملة الموجودات ثابتة باقية بنحو كمالاتها عنده تعالىٰ ، كما قال : ( مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّـهِ بَاقٍ ) (٤).
فالطالب ينبغي أن يلتمس منه تعالىٰ جميع حوائجه ، وجملة مآربه ومطالبه ولو كان ملح طعامه وبلاغة كلامه ، كما قيل :
كان السؤال للعبيد ديدنا |
|
طول الخطاب للحبيب استُحسنا |
قال لموسىٰ عني اسأل ملحكا |
|
وهكذا سلني شراك نعلكا |
رفع اليدين كِديةً ثم الحذا |
|
للوجه إيماءً للاستحيا خذا |
( اَللَّهُمَّ عَظُمَ سُلْطانَكَ )
انصرف عن المسألة والاستغفار إلىٰ التوصيف ؛ ايماءً إلىٰ أنّه في دعواته
_____________________________
(١) « البقرة » الآية : ١٣٠. |
(٢) « بحار الأنوار » ج ٢٢ ، ص ١٢٤ ؛ ج ٦٧ ، ص ١١٦. |
(٣) « الفقيه » ج ١ ، ص ١٣٥ ، ح ٦٣٢ ، « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٤٧٧ ، أبواب أفعال الصلاة ، ب ٣ ، ح ٣.
(٤) « النحل » الآية : ٩٦.
ومسألاته ليس مقصوده هو التكدّي والسؤال فقط ، بل قصده الحقيقي هو طول المكالمة والمخاطبة مع الحبيب.
وفيه قد يلتفت إلىٰ نفسه ، فما يرىٰ إلّا الجرائم والآثام ، فيطلب منه تعالىٰ المغفرة والرحمة.
وقد يلتفت ويستغرق في أوصافه تعالىٰ من الجمال والجلال واللطف والقهر ، فيصفه ويعظّمه علىٰ حسب ما يمكنه من ذلك ، وعلىٰ قدر تجلّيه تعالىٰ عليه ، وإذا حضرته غاية الاستغراق والهيمان لا يقدر علىٰ التكلّم والمخاطبة ، فكلَّ لسانه وارتعش أركانه ، وتزلزل فرائصه وعظامه.
ثمّ « السلطان » قد مرّ أنّه « فُعلان » ، يُذكّر ويؤنث ، وأنّه بمعنىٰ الحجّة والبرهان ، والقوّة والغلبة. فهو تعالىٰ عظيم حجّته وبرهانه ، وشديدة قوّته وغلبته. وقد عرفت معاني الكلّ ، تأويلاتها وتفسيراتها.
( وَعَلَا مَكَانُكَ )
أي ارتفع ، يقال : فلان مُكّن عند السلطان ، أي عظم وارتفع عنده. ومكانه تعالىٰ عرشه بجميع إطلاقاته ومعانيه ، إذ قد مرّ أنَّ للعرش إطلاقاتٍ أربعاً : علمه المحيط ، وفيضه المقدّس ، والعقل الأوّل ، والفلك الأقصىٰ.
وفي الأخبار : ( أنّ قلب المؤمن عرش الرحمن ) (١) ، كما قال المولوي :
گفت بيغمبر که حق فرمود است |
|
من نگنجم هيچ در بالا و پست |
در زمبن و آسمان و عرش نيز |
|
اين يقين دان من نگنجم ای عزيز |
در دل مؤمن بگنجيم همچو ضيف |
|
بی ز چون و بی چگونه بی ز کيف |
فالمؤمن الحقيقي الذي ورد في حقّه أنّه أعزّ من الكبريت الأحمر ، إذا وسع قلبه
_____________________________
(١) « بحار الأنوار » ج ٥٥ ، ص ٣٩.
بحيث اتّحد بأحد معاني العرش وانطبق عليه يصير عرش الله.
وفي الخبر أيضاً : ( قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ، يقلّبه كيف يشاء ) (١).
مراتب الإيمان والمعرفة
وإنّما قلنا : المؤمن الموصوف بكذا صار قلبه كذا ، إذ للإيمان مراتب أربعة : من الايمان التقليدي ، والإيمان البرهاني ، والعياني ، والتحقّقي الذي هو حقّ الإيمان حقيقته ، وأخير درجاته ونهاية مقاماته.
نقل كلام المحقّق الطوسي في مراتب المعرفة
قال سلطان الحكماء : « اعلم أنَّ مراتب المعرفة مثل مراتب النار مثلاً ، وأنّ أدناها مَن سمع أنّ في الوجود شيئاً يعدم كلّ شيء يلاقيه ، ويظهر أثره في كلّ شيء يحاذيه ، ويسمّىٰ ذلك الموجود ناراً. ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالىٰ معرفة المقلّدين الذين صدّقوا من غير وقوف علىٰ الحجج والبراهين.
وأعلىٰ منها مرتبة ، من وصل إليه دخان النار ، وعلم أنّه لابدّ له من مؤثر ، فحكم بذات لها أثر هو الدخان. ونظير هذه المرتبة في معرفة الله معرفة أهل النظر والاستدلال الذين حكموا بالبراهين القاطعة علىٰ وجود الصانع.
وأعلىٰ منها مرتبة ، من أحسّ بحرارة النار بسبب مجاورتها ، وشاهد الموجودات بنورها ، وانتفع بذلك الأثر. ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالىٰ معرفة المؤمنين المخلصين الذين اطمأنت قلوبهم بالله ، وتيقّنوا أنّ الله نور السماوات والأرض كما وصف به نفسه.
وأعلىٰ منها مرتبة ، من احترق بالنار بكلّيته وتلاشىٰ فيها بجملته. ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالىٰ معرفة أهل الشهود والفناء في الله ، وهي الدرجة العليا
_____________________________
(١) « سنن ابن ماجة » ج ١ ، ص ٧٢ ، ح ١٩٩ ؛ « بحار الأنوار » ج ٦٧ ، ص ٣٩ ـ ٤٠.
والمرتبة القصوىٰ. رزقنا الله الوصول إليها والوقوف عليها ، بمنّه وكرمه » (١). انتهىٰ كلامه.
أقول : في كلام سيد الشهداء عليهالسلام : ( اعرفوا الله بالله ) (٢). معناه : أنّه تارةً يعرف تعالىٰ بأقواله ، وتارةً يعرف بآثاره وأفعاله ، وتارة يعرف بصفاته ، أي بالاتصاف بها ، وتارةً يعرف الله بذاته المحيطة. وتلك المعارف بعضها فوق بعض ، وهذا بعينه مقصوده من تطبيق مراتب المعرفة بمعرفة النار ومراتبها.
فإن قلت : إنّك قد قصرت الإيمان الحقيقي وحقّ الإيمان بالمرتبة الرابعة ، وقلت : إنّها نهاية درجاته وغاية مراتبه ، فما تقول في إيمانه تعالىٰ بنفسه ، وأحد أسمائه هو ( المؤمن ) ؟
قلنا : قد عرفت أنّ الإيمان التحقيقي لا يتيسّر إلّا للمخلصين الذين أفنوا أنفسهم في الله وبقوا به ، فإذا حصل ذلك المقام لأحد ارتفعت الاثنينية من البين ، ويسري حكم المفنى فيه في الفاني ، كما قال أمير المؤمنين عليهالسلام : ( إنَّ لله لأوليائه شراباً إذا شربوا طربوا ، وإذا طربوا سكروا ، وإذا سكروا طابوا ، وإذا طابوا ذابوا ، وإذا ذابوا خلصوا ، وإذا خلصوا تخلّصوا ، وإذا تخلّصوا طلبوا ، وإذا طلبوا وجدوا ، وإذا وجدوا وصلوا ، وإذا وصلوا اتصلوا ، وإذا اتصلوا لا فرق بينهم وبين حبيبهم ) (٣).
در خدا گم شو کمال اين است و بس |
|
کم شدن کم کن وصال اين است و بس |
( وَخَفِيَ مَكْرُكَ )
الخفية : الاستتار ، خفي مكره : أي استتر.
المكر من الخَلق : خدعة وخبّ ، ومن الله : مجازاة ، كما قال الله تعالىٰ :
_____________________________
(١) عنه في « مجمع البحرين » ج ٥ ، ص ٩٧. |
(٢) « التوحيد » ص ٢٨٦ ، ح ٣. |
(٣) انظر « شرح الأسماء » ص ٥٣٤.
( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّـهُ وَاللَّـهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (١).
بيان ما قيل في معنىٰ المكر والتردّد من الله تعالىٰ
وقيل : مكره تعالىٰ : استدراج العبد الماكر من حيث لا يعلم.
وقيل : مكره : إرداف النعم مع المخالفة ، وإبقاء الحال مع سوء الأدب ، وإظهار خوارق العادات التي من قبيل الاستدراجات (٢).
وقيل : إنَّ المكر والغضب والحياء والخدعة والتردّد وسائر صفات المخلوقين إذا اُسندت إليه تعالىٰ يراد منها الغايات لا المبادئ ، مثلاً قوله تعالىٰ في الحديث القدسي : ( ما تردّدت في شيء أنا فاعله كترددي في قبض روح عبدي المؤمن ، إنّني لاُحبُّ لقاءه ويكره الموت فأصرفه عنه ) (٣).
فالمراد من معنىٰ التردد في هذا الحديث : إزالة كراهة الموت عنه ، وهذه الحالة تقدّمها أحوال كثيرة من مرض وهرم وزمانة وفاقة وشدّة بلاء ، تهوّن علىٰ العبد مفارقة الدنيا ، ويقطع عنها علاقته ، حتّىٰ إذا يئس منها تحقّق رجاؤه بما عند الله ، فاشتاق إلىٰ دار الكرامة ، فأخذ المؤمن عمّا تشبّث به من أسباب الدنيا وحبّها شيئاً فشيئاً بالأسباب المذكورة ، مضاهي فعل التردد من حيث الصفة ، فعبّر تعالىٰ به.
( وَظَهَرَ أَمْرُكَ )
بيان معنىٰ الأمر التكويني والأمر التشريعي
أمره التكويني : هو كلمة « كُن » الوجودية التي جميع الأشياء ظاهرة بها ، وهي ظاهرة بذاتها لا لذاتها ، بل لعلّتها التي هي ذات الله العليا.
وأمره التشريعي والتكليفي : هو ما جاء به الأنبياء من الأوامر والنواهي التي
_____________________________
(١) « آل عمران » الآية : ٥٤. |
(٢) انظر « شرح الأسماء » ص ٢٢٠. |
(٣) « الكافي » ج ٢ ، ص ٢٤٦ ، ح ٦ ، « بحار الأنوار » ج ٦٤ ، ص ٦٥ ـ ٦٦.
ظهورها بواسطة مظاهره تعالىٰ ، من الأنبياء والأولياء ، وهو أيضاً ظاهر غاية الظهور. وقوله تعالىٰ : ( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ ) (١) ، أي ما أمرنا إلّا كلمة واحدة ، وهي كلمة « كن » التي هي وجود جميع الموجودات ، كما مرّ غير مرة.
وأمر الله الذي قال في القرآن ( أَتَىٰ أَمْرُ اللَّـهِ ) (٢) القيامة ، وقال الله تعالىٰ : ( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) (٣) أي ما أمر حشر الجميع إلّا في طرفة عين ، وفيه إظهار القدرة التامّة الكاملة ، ردعاً ومنعاً للجاهلين.
( وَغَلَبَ قَهْرُكَ )
القهر : الغلبة ، وقهره تعالىٰ : تسخير الكلّ ومسخّرية الجميع تحت سطوع نوره تعالىٰ ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) (٤). وفي الدعاء : ( الحمد لله الذي علا فقهر ) (٥) أي علا علىٰ جميع الموجودات ، فقهر الكلّ بعلوّه تعالىٰ عليها.
( وَجَرَت قُدْرَتُكَ )
بيان ما قيل في معنىٰ قدرته
القدرة عند المتكلمين (٦) : صحّة صدور الفعل والترك. وعند الحكماء هذا التعريف مخصوص بقدرة الحيوان ، إذ الصحة إمكان ، والإمكان ذاتياً كان أو وقوعياً لا يليق بجناب الواجب الوجود بالذات الذي هو واجب الوجود من جميع الجهات ، بل هم قالوا في تعريف القدرة : كون الفاعل بحيث إن شاء فعل ، وإن لم يشأ لم يفعل ، ولكنّه تعالىٰ شاء وفعل ، وصدق الشرطية ـ كما قرّر في حلها ـ لا ينافي وجوب المقدّم ولا امتناعه ، فإنّها تتألف من صادقين ومن كاذبين ، ومن صادق وكاذب.
_____________________________
(١) « القمر » الآية : ٥٠. |
(٢) « نحل » الآية : ١. |
(٣) « النحل » الآية : ٧٧. |
(٤) « الأنعام » الآية : ١٨. |
(٥) « بحار الأنوار » ج ٧٣ ، ص ١٩٢ ، ١٩٦. |
(٦) انظر « الباب الحادي عشر » ص ٩٩. |
فالمعتبر في القدرة ـ كما قالوا ـ مقارنه الفعل للعلم والمشيئة ، ولا يعتبر حدوث الفعل فيها ولا ينافي دوامه معها. وقدم العالم باطل ، وحدوثه واقع بدليل آخر ؛ لأنَّ القدرة استدعت ذلك ، فإنَّ العقول كلّها صادرة عن الله تعالىٰ بالقدرة والاختيار ، مع أنّها دائمة بدوام الله.
وبالجملة ، فقدرته تعالىٰ في مقام ذاته عين ذاته ، وذاته كلّها قدرة واختيار وإرادة وعلم ومشيئة ، وفي مقام فعله أيضاً عين فعله ؛ إذ كما أنّه فعل الله كذلك هو قدرة الله. وفي العقول : جواهر مفارقة عن المواد ، ذاتاً وفعلاً ؛ لأنّها فيها نفس وجوداتها. وفينا : القدرة كيفية نفسانية. فجرت قدرته تعالىٰ بإخراج الممكنات من الليس إلىٰ الأيس ، واكتساء المواد بألبسه الصور ، ونفخ الأرواح في الأبدان ، وإماتة النفوس ، وإحياء الموتىٰ ، وإيصال النفوس إلىٰ الغايات في الاستكمال ، وأرزاق الخلائق ، وإعطاء المسألات ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب. وبالجملة :
كمترين كارش بود هر روز آن |
|
كوسه لشكر ميكند آنسو روان |
لشكرى از اصلاب سوى امرت است |
|
بهر آن تا در رحم رديد نبات |
لشكرى از ارحام سوى خاكدان |
|
تا ز نر و ماده پرگردر جهان |
لشکری از خاك آن سوى أجل |
|
تا به بيند هر كسى حسن عمل |
( وَلَا يُمكِنُ الفِرارُ مِنْ حُكُومَتِكَ )
فكيف يمكن الفرار من حكومته تعالىٰ ، وهو ذاته محيطة وفعله محيط بجميع الأشياء ، وقدرته جارية علىٰ الكلّ ولا يمتنع معها شيء ، وحكمه نافذ في أعماق الموجودات وآخذٌ بناصيتها ، وهي وجودات الأشياء ؟ إذ كما عرفت مراراً وجود الكلّ منه تعالىٰ وبه وإليه ، كما قيل :
ظهور تو بمن است |
|
و وجود من از تو |
فلست تظهر لولاي |
|
إن لم أكن لولاك |
نقل كلام أفلاطون الإلهي
ومن آثار أفلاطون الإلهي أنّه قال : « العالم كرة ، والأرض نقطة ، والأفلاك قسي ، والحوادث سهام ، والإنسان هدف ، والرامي هو الله ، فأين المفرّ ؟ ». روي أنه قيل هذه الكلمات في حضور علي عليهالسلام ، قال : ( ففرّوا إلىٰ الله ) (١).
غير از تو پناه و مجدم نيست |
|
هم در تو گريز هم از گريزم |
أقول : استفهام أفلاطون من التابعين ليس من باب الغفلة وعدم الاستشعار بذلك ، كيف وأنه كما ورد في حقه عن النبي صلىاللهعليهوآله : ( كان نبياً جهله قومه ) ، وأنّه صدر حكماء الإشراق جميعاً ؟! بل من باب الامتحان والاستخبار عن مريديه ، ليعلم أنّهم ماذا يقولون في جوابه ؟!
( اللّهُمَّ لَا أَجِدُ لِذُنُوبي غافِراً وَلَا لِقَبائِحي ساتِراً )
أي ولا أجد لأفعالي وصفاتي القبيحة ساتراً.
القبائح : جمع « قبيحة » ، كمدائح : جمع « مديحة ».
روي عن صادق عليهالسلام أنّه قال : ( ما من مؤمن إلّا وله مثال في العرش ، فإذا اشتغل بالركوع والسجود فعل مثاله مثل ذلك ، فعند ذلك تراه الملائكة ، فيصلون عليه ويستغفرون له ، وإذا اشتغل بالمعصية أرخىٰ الله علىٰ مثاله ستراً ، لئلا يطلع عليها الملائكة ) (٢).
ومن أسمائه تعالىٰ ، كما في الدعاء : ( يا من أظهر الجميل وستر القبيح ) (٣).
أقول : ومعنىٰ رؤية الملائكة حسنات المؤمنين وعدم رؤيتهم سيئاتهم ـ كما قيل (٤) ـ أنّهم يرون الأشياء باعتبار جهاتها النورية ، وبعبارة اُخرىٰ : باعتبار وجوهها
_____________________________
(١) انظر « شرح الأسماء » ص ٤١٥. |
(٢) انظر « شرح الأسماء » ص ٢٧٩ ـ ٢٨٠. |
(٣) « المصباح » للكفعمي ، ص ٣٣٧. |
(٤) انظر « شرح الأسماء » ص ٢٨٠. |
إلىٰ الله الحسنة ، لا باعتبار وجوهها إلىٰ أنفسها القبيحة ؛ لاستغراق الملائكة في مشاهدة جمال الله وجلاله.
وروي عن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهماالسلام : أنّه جاء رجل ، وقال : أنا رجل عاص ولا أصبر عن المعصية ، فعظني بموعظة ، فقال عليهالسلام : ( افعل خمسة أشياء وأذنب ما شئت ، فأول ذلك : لا تأكل من رزق الله وأذنب ما شئت ، والثاني : اخرج من ولاية الله وأذنب ما شئت ، والثالث : اطلب موضعاً لا يراك الله وأذنب ما شئت ، والرابع : إذا جاء ملك الموت لقبض روحك فادفعه عن نفسك وأذنب ما شئت ، والخامس : إذا أدخلك مالك في النار فلا تدخل في النار ، وأذنب ما شئت ) (١) انتهىٰ.
( وَلَا لِشَيءٍ مِن عَمَلِيَ القَبِيْحِ بِالحَسَنِ مُبَدِّلاً غَيرَكَ )
القبيح والقبيحة : خلاف الحسن والحسنة ، وهو تعالىٰ مبدّل السيئات بالحسنات.
ومن أسمائه : ( يا مبدّل ) كما يبدّل الأرض غير الأرض ، ويبدّل وجودات الأبدال إلىٰ وجودات أنور وأقهر ، ويبدّل الجماد إلىٰ النبات ، والنبات إلىٰ الحيوان ، والحيوان إلىٰ الإنسان ، ويبدّل الإنسان بالقوّة إلىٰ الإنسان بالفعل ، ويبدّل النطفة إلىٰ العلقة ، والعلقة إلىٰ المضغة ، والمضغة إلىٰ الجنين ، وهكذا.
بالجملة ، هو تعالىٰ مبدّل جميع ما بالقوىٰ إلىٰ الفعليات ، والسيئات إلىٰ الحسنات.
( لَا إلهَ إلّا أنَتَ )
أي لا معبود إلّا أنت ؛ إذ لكلّ موجود نصيب من المعبودية ، من حيث الاحتياج إليه في نظام العالم ، وإن كان معبوديته أيضاً باعتبار وجه الله الذي هو في كلّ شيء.
_____________________________
(١) « بحار الأنوار » ج ٧٥ ، ص ١٢٦ ، ح ٧.
وفي الحقيقة ليس سوىٰ ذاته ووجهه تعالىٰ مألوه ، وموصوف بأنّه محتاج إليه ، كما قال المولوي قدسسره :
هر چه در چشم جهان نکوست |
|
عکس حسن و پرتو احسان او است |
گر بر آن احسان و حسن ايحق شاسن |
|
از تو روزی در وجود آيد سپاس |
در حقيقت آن سپاس او بود |
|
نام اين و آن لباس او بود |
ديدهٔ خواهم که باشد شد شناس |
|
تا شناسه شاه را در هر سپاس |
ومن أسمائه ( يا من لا يعبد إلّا إياه ) (١).
والحال أنّ المعبودات الباطلة كثيرة : من الأصنام والأحجار والأشجار ، والكواكب والنيران ، والصور والطيور ، حتّىٰ الكلاب والقطط ، والدراهم والدنانير ، والنساء والبنات والبنين ، والخيول والبغال والحمير. وبالجملة ، أكثر الأشياء أو جميعها بوجه.
فمعنىٰ هذا الاسم الشريف : أنّه وإن عبد القاصرون والكافرون كلٌّ معبوداً خاصاً ، بزعمهم الباطل واعتقادهم الكاسد الراجل ، ولكن في الحقيقة ما عبدوا إلّا وجهه الكريم ، وفيضه القديم العميم ، الذي أشار إليه في القرآن الحكيم : ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (٢) ، وما خلا وجهه تعالىٰ داثر زائل وفاسد باطل.
كلّ شيءٍ ما خلا الله باطل |
|
إنّ فضل الله غيم هاطل |
وقال لبيد :
ألَا كل شيءٍ ما خلا الله باطل |
|
وكل نعيم لا محالة زائل (٣) |
ولذا قال الله تعالىٰ : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
_____________________________
(١) « المصباح » للكفعمي ، ص ٣٣٩. |
(٢) « البقرة » الآية : ١١٥. |
(٣) انظر « مجمع البحرين » ج ٣ ، ص ١٤٠.