الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

ولكن الحق في (مَلَكٌ كَرِيمٌ) ألا يطمع فيه طمع الجنس ، وليكرم إكراما فوق الإنس ، دون تهمة وقحة وفي رغبة الجنس ، فكيف تكون الحالة الملكية عاذرة لامراة العزيز؟

الحق انه مبالغة منهن في جمال الصورة وكمال السيرة والسريرة ، مما يزيد النساء رغبة فيه وشغفا إليه ، لذلك نراها تعتذر به وهن يقبلن العاذرة ، وإلّا لانقلب سناد العذر ضده ، وقلّب الأمر عليها أشدّه.

وترى أن تقريرهن في (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) ولزامه أن الملك أفضل من البشر ، هلّا يعارض (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) فلا أحسن منه في تقويم مهما كان له مثيل في تقويم (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) حيث القليل منهم له مثيل؟

ولكن هذا تصريح دون معارض وذلك ـ على أكثر تقدير ـ تقرير ، فليقدر بقدره غير المعارض للتصريح ، وعلّه ان الحالة الفعلية الدائبة لملك كريم أفضل منها لبشر ، مهما كان الإنسان في استعداده وفاعليته تحصل له فعلية هي من الملك أكثر بكثير ، وكما في الرسول الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث فاق بجسمه على جبرئيل ليلة معراجه ، فضلا عن روحه! فلا تثبت الآية أن الملائكة أفضل من الإنسان ، اللهم إلّا في عرف عام قياسا إلى العوام.

فامرأة العزيز تخلق ذلك الجو العجيب الرهيب كيدا بكيدهن ، وجوابا مجسدا عن قولهن (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ ..).

فلقد كان هذا منهن في كيدها جوابا عن كيدهن حاضرا ، فانتصرت في المعركة إذ (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) ذلكن الملك الكريم الذي تقطّع بمجرد رؤيته الأيدي ، هوذا (الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) فلا تلمن إلّا أنفسكن حيث بهرت وانقهرت هكذا في لقاء واحد ولاوّل مرة ، أفلا أراوده أنا المسكينة

٨١

وقد عاشرته طول سنين حتى إذا بلغ أشده :

(قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ)(٣٢).

في ذلك الموقف القاهر والمشهد الظاهر الشاهر تجد مجالا للاعتراف بالمراودة مفتخرة بها ، متجهة فيها بعد تجسد الجواب عن مكرهن : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) حيث بهرني كما بهركن «فاستعصم» معانيا فيه تحرزا عما يعاينه ، وهو في الحق استعصام بالعصمة الإلهية وهي برهان ربه ، بعد الاستعصام بكل الطاقات البشرية.

وليست هي الآن لتكتفي بهذه وتلك ، إلّا ان تنهيها بثالث الثالوث بتهديد له بالغ ، حيث تظهر سيطرتها عليه أمامهن بتبجّح المرأة في ذلك الوسط دون اختجال ، فلا ترى بأسا من التجاهر بنزواتها الأنثوية مكشوفة ، وبكل افتخار في معرض النساء : (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) فهي في بداية الفضيحة أمام العزيز تردّد الأمر في غير تأكيد بين (أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) طالبة منه أحد الأمرين ، وهنا تؤكد بنفسها عليه الأمرين في تأكيدين (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) كأنها هي الآمرة والعزيز يطبّق أمرها كما تريد.

أفتاي هذا الذي ربّيته وأكرمته يستعصي أمري وهو من المكابرين ، فليسجن إذا وليكونن من الصاغرين ، لكيلا يكابرني بعد فيما آمره.

وإلى ذلك الحد الحديد الشديد تصل القحة في البلاط وقصور المترفين ، ولا سيما في الوقت الذي تجد صاحبة البلاط صاحباتها في سعار أكثر منها فما يصنع ـ إذا ـ يوسف الصديق :

(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ

٨٢

فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٣٤).

تحاشى يوسف هنا أن يجاوبها والنسوة ، وانصرف إلى ربه ملتمسا داعيا أن يصرف عنه كيدهن ، ففي دوران أمره بين أن يصبوا إليهن أو أن يسجن ويكون من الصاغرين ، هو يستحب السجن دون صبو ولا صغار : «رب» الذي ربيتني وخلصتني حتى الآن من كل سوء وفحشاء (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) فذلك سجن للبدن حفاظا على حرية الروح في عبوديته ، وهذا سجن للروح ورقية للهوى وفيه حظوة الجنس وحرية الشهوات بضروبها ، ولكني رجل الروح قبل الجسم ، فما الجسم إلّا ليحمل الروح في صالحه.

أتراه دعى على نفسه بالسجن وهو عار أن سبّبه التهمة ، ولا سبيل إليه إلّا هيه؟ كلا! وإنما هو بيان حال أن لو انحصر أمري بين واقع العار وتهمته فالسجن التهمة أحب إلي فرارا عن واقع العار!.

إذا فلما ذا لم يطلب إلى ربه صرف كيدهن عنه بلا أن يسجن ، صرفا للمحظورين و (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)؟

ذلك ، وعلّه استسلام للرب وابتعاد عن المحظور حتى إن قدّر أن يسجن ، ومحور الدعوة (إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ ...) ولو بالسجن ، ولم يستجب ربه إلّا في ذلك الصرف : (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ..) لا أن قدّر سجنه وصرف الكيد عنه!.

وكيف يحتاج يوسف ـ بعد ما رأى برهان ربه فلم يهم بالعزيزة ـ أن يصرف ربه عنه كيدهن ، وفي برهان الرب وهو العصمة كفاية هنا كما هناك؟

ذلك لأن العصمة والقوة القدسية المفاضة على يوسف ، ليست بالتي

٨٣

هو يملكها ، دونما حاجة بعد إلى عناية إلهية متواصلة : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (١٧ : ٧٤)!

ثم البلية هنا قد زادت بمكايدات نسوة في المدينة ، وتهديدات صاحبة البلاط ، فقد دعونه إلى ما دعته إليه (مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) مما زاد في الطنبور نغمة أخرى ، وتفاقم الأمر مرة أخرى اكثر بكثير من الأولى.

فإن كانت رؤيته برهان ربه هناك تصده أن يهم بها ، وهي فعله مهما كان البرهان من ربه ، ولكنه هنا ـ وقد علت النبرة وازدحمت النسوة في المكيدة ـ هو بحاجة إلى برهان أقوى ، وصرف من الله (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ) مكيدة لا يقوى عليها إلّا الله حيث تكلّ كلّ القوى ، وتختل الموازين كلها ، اللهم إلا صرفا من الله.

(إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي ..) لا «تصرفني عنهن» إذ لم يكن ليهواهن ، وإنما هن اللاتي يكدنه لحد يكاد يصبو إليهن.

والصبو هو تميّل صبياني عن جهل وتفلّت عقل ، وصبا يصبو صبوة إذا نزع واشتاق وفعل فعل الصبيان ، فإن المكائد الأنثوية تصل لحد يطيّر بها العقل وينوبه الجهل (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) وهو القائل : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) فهو يستدعي من ربه في ذلك الموقف الهرج المرج أن يخصه برحمة خاصة تصرف عنه كيدهن (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) دعاءه (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) ثم لم يمنع ويردع عن سجنه (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) للدعاء «العليم» ما يصلح الداعي ، وقد كان يكفيه هنا أن يصرف عنه كيدهن وإن ببلية السجن ، وهي في نفس الوقت من ألطافه الخفية ، حيث كان ذريعة لاستئصال التهم عنه على طول الخط ، واستقطابه لأن يجعل على خزائن الأرض ، والسجن ـ فقط ـ طريق لهما قاطعة! (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ولكن صرفه

٨٤

شيء ، وسجنه المفصول عنه ب «ثم» شيء آخر ، ويستمر صرفه في طياته.

وكيف ينقم بسجنه الذي ارتضاه ابتعادا عن صبوه إليهن ولأمير المؤمنين علي (عليه السلام) به أسوة إذ قال : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ..)(١).

وكيف لا يرتضى السجن إن كان ولا بد ـ لصرف كيدهن عنه ، وقد تعلقن به جميعا ترأسهن العزيزة كما تصرح «مما يدعونني إليه ـ وكيدهن» دون «ما تدعوني اليه وكيدها» فهن جميعا مشتركات في الدعوة والمكيدة سواء بالقيلات واللفتات ، او الحركات والتغنّجات أو الاستباقات أماذا من دعوات مكيدات (٢).

ففي هذه الغائرة الحائرة المائرة لا مناص له ولا خلاص إلّا ان يستنجد ربه بمزيد من رحمة العصمة ان يصرف عنه كيدهن كيلا يقع في حبائلهن

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٤٢٣ ج ٥٨ في كتاب علل الشرايع باسناده الى ابن مسعود قال : احتجوا في مسجد الكوفة فقالوا : ما بال أمير المؤمنين (عليه السلام) لم ينازع الثلاثة كما نازع طلحة والزبير وعائشة ومعاوية؟ فبلغ ذلك عليا (عليه السلام) فامر ان ينادى الصلاة الجامعة فلما اجتمعوا صعد المنبر فحمد الله واثنى عليه قال : معاشر الناس! انه بلغني عنكم كذا وكذا؟ قالوا : صدق امير المؤمنين (عليه السلام) قد قلنا ذلك ، قال : ان لي بسنة الأنبياء أسوة فيما فعلت قال الله تعالى في محكم كتابه : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) قالوا : ومن هم يا امير المؤمنين؟ قال : أولهم ابراهيم (عليه السلام) ـ الى ان قال ـ ولي بيوسف أسوة إذ قال : رب السجن أحب الي مما يدعونني اليه ، فان قلتم ان يوسف دعى ربه وسأله السجن بسخط ربه فقد كفرتم ، وان قلتم انه أراد بذلك لئلا يسخط ربه عليه واختار السجن فالوصي اعذر.

(٢) في تفسير القمي في حديث جمعها النسوة وتقطيعهن أيديهن قال : فما امسى يوسف (عليه السلام) في ذلك اليوم حتى بعث كل امراة رأته تدعوه إلى نفسها فضجر يوسف في ذلك اليوم فقال : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ...).

٨٥

خيفة ان يضعف أمام الإغراء ، ويتضاعف عما كان من امرأة العزيز في (هَمَّ بِها لَوْ لا ..).

وها هي دعوة الإنسان العارف بحدّه ، القاصر في مدّه وشده ، الذي لا يغتر بعصمته ، فيريد مزيدا من عناية ربه وحياطته بحيازته (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ..) لا أن يسجن بالفعل ، حيث التراخي بين ذلك المشهد العارم وبين سجنه قائم كما تلمحه (ثُمَّ بَدا لَهُمْ ...).

وهكذا يجتاز الصديق محنته العارمة في هذه الحلقة الثالثة ، بعد غيابت الجب وبعد العزيزة ، ثم تبدء الحلقة الرابعة وهي سجنه حتى حين :

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي

٨٦

إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)(٤٢)

٨٧

هنا يوسف السجين يجد مجالا لائقا وجوا فائقا للدعوة الى التوحيد حين يرى صاحبي السجن بحاجة إلى تأويله ، وهما يريانه من المحسنين ، فهل سجن إلّا قضية الإيمان ، فليدع إلى الايمان أيا كان ، وليس السجن لأهل الله سجنا لحرية الدعوة ، فإنما هو استلاب لحرية الجسم حلّا وترحالا ، وأما الروح فقد يصبح بالسجن أروح ، وتبرز شفافيته ولباقته أريح وأنجح!.

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ)(٣٥).

ف «ثم» هنا تلمح إلى فصل غير قريب بين ذلك المشهد وسجنه ، والبداء ظهور رأي خلاف ما كان ، والآيات هي الدالات على براءة يوسف ، من براءته الذاتية المشهودة في عشرته ، وأن العزيزة راودته وقدّت قميصه من دبر ، وكما شهد شاهد من أهلها واعترف العزيز بكيدها ، وصرحت العزيزة بميدها في مشهد النسوة ، أمّا هيه (١).

وهذه كلها آيات قاطعة لبراءته وقحتها ، مما يجعله يكرم أكثر مما كان ، فضلا عن السجن حيث فيه يهان.

ولكنما الحق الواقع شيء ، والمصلحية في الأوساط الراقية والمترفة شيء آخر ، يفدون بكل حق ناصع حفاظا على مصلحية.

فلقد شاعت قصة المراودة في أوساط المدينة ولاكتها الألسن وتلقتها في الأوساط الشعبية ، واستطارت ـ بطبيعة الحال ـ أكثر مما كانت ، كما هي السنة في كل حادثة تدخل قالتها بين الجماهير ، فأصبحت حديث اليوم ، وتزداد شياعا فضياعا للبلد يوما بعد يوم ، مما تجعل قحة العزيزة وفضيحتها سنة تقتدى في كل الأوساط ، فإن ذلك الحسن الذي أوله سيدة

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٢٤ ج ٦٠ القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية : والآيات شهادة الصبي والقميص الممزق من دبر واستباقهما الباب حتى سمع مجاذبتها إياه على الباب فلما عصاها لم تزل مولعة بزوجها حتى حبسه.

٨٨

البلاط وأقرانها من السيدات ، من طبعه ألّا يلبث دون أن يقيم في المدينة بلوى وفوضى.

لذلك (بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) بدا للعزيز حفاظا على سمعة البلاط وحرمته وحريمه ، وبدا للعزيزة وقد كانت تهدده من قبل (لَيُسْجَنَنَّ ..) فبعد ان تصبّرت ردحا من الزمن واستمرت فيما حاولت فشلّت وفشلت فأصرت على العزيز أن يسجنه بعد ما احتالت في تلبيس الأمر عليه كما يلوح من (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) وما رده الملك عليهن : (ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) وقولهن (حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) وأخيرا تصريحه ثانية من العزيزة : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).

فلو لا تلبيسها أمره على العزيز لمن يكن لقولها الآن : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ...) مجال ، وقد حصحص من قبل في مشهد النسوة إذ قطعن أيديهن ، مما يدل على أنها كادت واحتالت في تعمية الأمر على العزيز لحد صمم على سجنه ، أم إن المصلحية والتعمية هما الباعثان على ان (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) وتراهم من هم غير العزيز والعزيزة؟ علّهم هما ونسوة في المدينة وسائر أصحاب البلاط ، مهما يرأسهم العزيز وترأسه العزيزة ، بدا لهم كلهم من بعد ما رأو الآيات.

وعلّ «حين» هو حين التناسي عن جريمتها ، وحين النسيان عنه ، وحين استتباب أمر البلاط رجوعا إلى ما كان قبل المراودة ، أم وحين ظهور الأمر بعد إخفاءه.

وكأن فاعل (بَدا لَهُمْ) محذوف حيث «ليسجننه» فعل لا يصلح فاعلا ولا مفعولا ، فالفاعل «أمر ورأى غير ما كان» بموجبه (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى

٨٩

حِينٍ) سجن مؤكد في بعدين ، محدد لا يعلم إلّا أنه غير مؤبد ، فحتى تحفظ سمعة البيوتات المستهترة ، وتسمع كلمة عزيزة البلاط ، حين يعجز رجالاتها عن صيانتها ، يبدو لهم أن يسجن فتى بريء ، كلّ جريمته برائته ونزاهته ، وأنه لم يستجب نزوة الشهوة للعزيزة ، أن لو كان يستجيب لكان أعز من العزيز!

وهذه شيمة شنيعة في الأوساط الارستقراطية والجاهلية ، تعاميا عن فضائل الكرامات وفواضل الصفات ، استئصالا لها وتأصيلا للشهوات والمصلحيات ، فإلى حلقة رابعة من حلقات البليات لصاحب الشيم الكريمة والقيم العالية :

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(٣٦) (١).

__________________

(١). في تكوين التورات الاصحاح ٣٩ يقول : «فكان لما سمع سيده كلام امرأته الذي كلمته به قائلة بحسب هذا الكلام صنع بي عبدك أنّ غضبه حمى فأخذ يوسف سيده ووضعه في بيت السجن المكان الذي كان اسرى الملك محبوسين فيه وكان هناك في بيت السجن ، ولكن الرب كان مع يوسف وبسط اليه لطفا وجعل نعمة له في عيني رئيس بيت السجن فدفع رئيس السجن الى يد يوسف جميع الأسرى الذين في بيت السجن وكل ما كانوا يعلمون هناك كان هو العامل ولم يكن رئيس بيت السجن ينظر شيئا البتة مما في يده لأن الرب كان معه ومهما صنع كان الرب ينجحه ، ثم في الاصحاح ٤١ ، تسوق قصة صاحبي السجن ورؤياهما ورؤيا فرعون مصر وملخصه : انهما كانا رئيس سقاة فرعون ورئيس الخبازين اذنباه فحبسهما فرعون في سجن رئيس الشرطة عند يوسف فرأى رئيس السقاة في منامه انه يعصر خمرا والآخر أن الطير تأكل من طعام حمله على رأسه فاستفتيا يوسف فعبر رؤيا الأول برجوعه الى سقي فرعون شغله السابق والثاني بصلبه وأكل الطير من لحمه وسأل الساقي ان يذكره عند فرعون لعله يخرج من السجن لكن الشيطان أنساه ذلك ...

٩٠

«فتيان» هما عبيدان من خدم البلاط كما تلمح له (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) فأحدهما ساقيه ، والآخر خبازه ، ويا لها من معية بارعة تخلق ظرفا صالحا لتخلّص يوسف من السجن ، وقد يخصر السياق أمره معهما دون أن يحصره ولأن أمرهما هو الأساس في تبرزه في تأويل رؤياهما ، وهما اللذان رأياه من المحسنين تفرسا فارسا مارسا من عشرته قلّت أم كثرت ، فأهل الفراسة يتفرسون الإحسان وسواه في صفحات الوجه وفلتات اللسان ووجنات الأركان.

وعلّ «قال» دون عطف تلمح إلى وصل القول بالدخول دون فصل ، أم فصلا بليل او قدر من النوم يصلح لرؤياهما ، ولأن فصله كان قريبا وفي نفس الوقت غريبا ل (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إحسانا جعله موضع ثقة المساجين ، متوسمين فيه من طيبة ، وصلاحا وإصلاحا.

ولماذا «أراني» هنا دون «رأيت» كما في رؤيا يوسف؟ كأن فاعله المنام ، فهو الذي أراني دون اليقظة ، أراني ما كنت فاعله للملك وشاغله وأنا الآن في سجنه (أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) إراءة لهذه الحالة.

و (أَعْصِرُ خَمْراً) والخمر لا تعصر وإنما يعصر لها العنب ، هذا تعبير رائج هائج عن عصر عصير كثير وكما : خبزت خبزا وطبخت آجرا ، اعتبارا بالمآل ، عطفا له على الحال ، وكأن المآل حال قضية تأكد الاشتغال.

الفتيان يذكران رؤياهما ، راغبين تأويلهما حقا (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) والمحسن يرى بشفافية روحه ما لا يراه المسيء ، ويحسن إلى سجين مثله ما لا يرجى من المسيئين.

وهل يبتدر يوسف بالتأويل ، عجالة في إحسانه دنيويا قبل إحسانه إليهما روحيا وأخرويا؟ كلّا ، فعلى رجالات الحق انتهاز الفرص للدعوة إلى الحق ، وكونه سجينا لا يعفيه من تصحيح العقيدة الفاسدة ، وإصلاح

٩١

الأوضاع الكاسدة ، التي تقوم على حق الربوبية لآلهة الأرض ، وإبطالها لإله السماوات والأرض!

فهل يبدأ يوسف بدعوته تعاميا عما يتطلبان؟ وفيه إبعاد عن الحق لأنه خلاف غايتهما القصوى! والسياسة الصالحة هنا في الدعوة تتطلب تقديم رجاء واطمئنان لهما أنه سوف يقضي طلبتهما ، وهنا جو صالح بين الأمرين لكي يبين سبب كونه من المحسنين ليجذبهم إحسانه كما هو.

ولكي يطمئنهما أكثر مما يريان ، يبين موقفه من تأويل ، أنه ليس فقط للرؤيّ ، بل وله علم تأويل الطعام :

(قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ)(٣٧).

وهكذا يدخل يوسف في نفوس صاحبي السجن بكل سياسة وكياسة في تنقّل الحديث ، حيث يؤكد لنفسه عليهما من العلم اللدني أكثر مما يريان حيث (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ) أيا كان وأيان ومن ايّ كان ، من السجن أو خارجه (إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ (١) أَنْ يَأْتِيَكُما) وذلك من إنباءات النبوات كما في المسيح (عليه السلام) (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٣ : ٤٩).

فحتى لا يظنا أنه خبير بتأويل الرؤيا ـ فقط ـ في ظنون كسواه من المعبرين ، أم أنه ـ فقط ـ معبر الرؤيا كذي فنّ مثل سائر الفنون مهما كان بعيدا عن الظنون ، ولأنه يزعج المصاحب الثاني تأويلا لرؤياه بصلبه ، لهذه كلها وحكم أمثالها أخذ يبين موقفه من العلم الرسالي ، ومن هوامشه تأويل الرؤيا ، لكي يقع تأويله موقعه من القبول ، وعلّ الذي يصلب يؤمن

٩٢

بذلك قبل صلبه فلا يموت مشركا ، وحين يؤمن فلا يهمه الصلب أم يبقى حيا ، وكذا الذي ينجو يحظوا بالإيمان فلا يعد ساقي ربه ، ويذكره عنده علّه ينجو من تهمته.

وعلى الجملة فداعية الحق عليه في كل مجال أن يتذرع لدعوته ذريعة ، وهي الآن تأويل رؤيا صاحبي السجن ، فلما يؤولها لهما وهما فيه بحاجة إليه مدقعة ، ولتكن الفترة بين قالتهم وتأويله مجالة مناسبة لدعوته بأدائه ببيان كيانه في العلم ، ومن هوامشه تأويل الطعام فضلا عن الرؤيا ، هنا يأخذ كلامه مجامع الأسماع والقلوب ، وهنا يفعل ما يشاء من الهدى مقلب القلوب.

فليس السجن لأصحاب الدعوات الرسالية ومن يحملونها من سواهم ، إنه ليس سجنا لدعواتهم ، بل تعلو فيه نبراتها ، وتشعّ أكثر وأكثر من خارج السجن أثراتها ، حيث السجن للأبرياء ، وحتى سواهم ، هو جو الانقطاع إلى الله عن كل ما سوى الله.

فعبثا يفكر الطغاة ويحاولون ان سجن الأبدان للدعات هو سجن للدعوات!

وهنالك ليوسف مربع من الإنباءات الغيبية ، ١ تأويل كل طعام قبل أن يأتيهما في مثلث الزمان ٢ : اين مصدره وأنى ، ٣ وكيف هو لمّا يأتي وماذا اثره؟ ، ٤ وما يؤول اليه بالمآل ، حيث التأويل هو المرجع بداية او نهاية ام في الحال ، فأنا أنبئكم ما سيأتيكم من طعام قبل إتيانه ، وماذا أثره ، هل يضر او ينفع ، هل هو سم (١) قاتل يقطع ام غذاء ينفع ،

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٩ ـ اخرج ابو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ ..) قال : كره العبارة لهما فأجابهما بغير جوابهما ـ

٩٣

فأنا ـ إذا ـ بتأويل الرؤيا أقدر ، وقد تعني «بتأويله» ـ ضمن ما تعني ـ تأويل رؤياهما ، وإنما أفرد الضمير في تذكير اعتبارا بمرجعه الأصيل «طعام» وأما أن تعني الرؤيا فقط فخلاف أدب اللفظ والمعنى (١).

وذلكما العلم الواسع ليس يحصل ـ بطبيعة الحال ـ من دراسات رسمية ، بل «ذلكما» البعيد المدى ، الشاسع المحتد (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) بجنب علوم أخرى تتبناها الرسالة الإلهية ، فهذه كآيات تدل على اختصاص صاحبها بالله ، وتلك الرسالية الأخرى هي مادة الرسالة ومبناها ومدعاها وحجرها الأساس ، نبراسا ينير الدرب على السالكين.

ولماذا هكذا علمني ربي دونكم وسائر الناس ل (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) نفيا يمثل «لا إله» ومن ثم إثبات يمثل «إلا الله» واتبعت ملة آبائي ...».

فرغم أنني ربّيت منذ الطفولة حتى بلوغ أشدّي في جو الشرك والإلحاد ، ونوازع الشهوات والحيونات ، (إِنِّي تَرَكْتُ ..) وبكل إصرار وإجهار ، وكفاني موقفي من امراة العزيز ونسوة في المدينة.

(.. تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) وبطبيعة الحال (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) لا سواهم ، حيث الإيمان بالله يدفع للايمان بالآخرة ، (إِنِّي تَرَكْتُ ..) : فلا إله : ثم «إلّا الله» :

(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ

__________________

ـ ليريهما ان عنده علما وكان الملك إذا أراد قتل انسان صنع له طعاما معلوما فأرسل به اليه ...

(١) اما ادب اللفظ فلان الرؤيا مؤنث والضمير مذكر ، وهي هنا اثنتان والضمير مفرد ، واما المعنى فلان تأويل الرؤيا لا صلة له بإتيان طعام يرزقانه.

٩٤

بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)(٣٨).

فتلكما ملة التوحيد ، وهؤلاء من دعاته الأصول ، فأنا اتبعت ملة هؤلاء الآباء الأكارم نسخة طبق الأصل و (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ..) ف «ما كان» تضرب إلى أعماق الماضي ، تثبيتا لكيان التوحيد العريق العميق في ذواتنا ، دون (أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) غير الله ، لا إشراكا في الربوبية ولا في العبودية أمّا هيه من مختلف دركات الإشراك ، من رياء وسمعة إلى عبادة الأوثان وبينهما عوان.

و «ذلك» العظيم العظيم (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) أن جعلنا من دعاة التوحيد ونفاة الشرك (وَعَلَى النَّاسِ) حيث أرسل إليهم أمثالنا من المخلصين الصامدين في التوحيد (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) تلك النعمة العالية الغالية ف (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها)!

ملة ابراهيم وهي سنة التوحيد الخاص ، بعيدة عن إفراط أو تفريط ، نائية عن تسرب الشرك بدركاته ، هذه الملة هي المتّبعة للأنبياء الإبراهيمين ولكافة المسلمين على طول الخط الرسالي ، وحتى خاتم النبيين ، وهو في أعلى قمم التوحيد : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٦ : ١٦١) (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) (٣ : ٩٥) (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) (٤ : ١٢٥)!

وهنا يوسف في السجن بين السجناء المشركين يقرر خطه المستقيم وصراطه القويم : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (٣٨). ثم بعد التعريف بملته يأخذ في دعوة التوحيد ،

٩٥

حيث الداعي الى الحق عليه أولا ان يحققه في نفسه ويبينه :

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)(٣٩).

أيا صاحبي سجن البدن ، لماذا أنتم في سجن الروح وهو أسجن وألعن ، ألا فتحرروا من ذلك السجن اللعين ، (.. أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) سؤال يهجم على أعماق الفطر والفكر والعقول ، فيهزّها هزة موقظة ، فالفطرة لا تعرف إلّا إلها واحدا هو (اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) والعقل الناضج الذي يتبنى الفطرة وسائر الآيات آفاقية وأنفسية ، كذلك لا تعرف إلّا (اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) والكون بوحدة تدبيره ونظامه دون تفاوت يشهد أنه (اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).

ثم وفي مواصفة «ارباب» ب «متفرقون» ومواصفة «الله» وجاهها ب (الْواحِدُ الْقَهَّارُ) دليل إجمالي فيه تفاصيل الأدلة على بطلان الشرك وضرورة التوحيد.

فالأرباب المتفرقون الذين لا يملك كل نفسه فضلا عن عبّاده ، ولا يقهر شركائه فيتوحد ، وهي متقسمة الأقدار ، مختلفة المقادير ، متشاكسة فيها ، هذه المتفرقة المفرقة لا تجدي نفعا إلّا تبعثرا في الحياة ، وتعثرا في متطلبات الحياة ، فلا خير فيها ـ إذا ـ إلّا شر.

وترى كيف تتأتى هنا صيغة الخير وهي أفعل تفضيل يقابلها ما فيه قليل الخير ، والأرباب المتفرقون لا خير فيهم لا كثيرا ولا قليلا؟

الخير فيما لا يعدّى بمن لا يعني الأفعل ، بل مقابل الشر ، فإما الأرباب المتفرقون خير والله الواحد القهار شرّ! ام الله خير وهم أشرار وقد يؤتى بالخير الأفعل مقابل الشر مسايرة في الحجاج ، دفعا عن

٩٦

اللجاج ، وأخذا بأقل تقدير بين الأمرين أنّ أحدهما المدّعى أفضل فليترك أمامة المفضول مهما كان فيه فضل.

(أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ) في ربوبياتهم ، كرب العلم ورب القدرة ورب الحياة ، ورب السماء ورب الأرض ، ورب الشمس والقمر ، ورب البحار ، ورب الحسن ورب الحب ورب الأمن والخصب ، وهم ـ على زعمهم ـ ملائكة الله حيث هم حملة تعيّنات ذات الله وصفاته ـ

ثم الأرباب الجن وهم ـ على زعمهم ـ مبادئ الشر ، ومن ثم أولياء الله ، وهذه الثلاث كأصول الأرباب ، وكل متفرقون في عديدهم وربوبياتهم ومربوبيهم ، تفرقات فوق تفرقات ، ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور؟.

أهؤلاء خير (أَمِ اللهُ ـ الْواحِدُ ـ الْقَهَّارُ) ف «الله» واحد في ألوهيته الأصيلة لدى الكل وفي خالقيته (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ).

فمن ثم هو واحد في ربوبيته ومعبوديته ، كوحدته الحقيقية في سائر الجهات والحيثيات الذاتية والصفاتية والأفعالية.

واحد في مثلث الزمان وقبله وبعده ، لم يكن عديدا ثم توحد ، كما ليس هو الآن في عدد ، وليس يتعدد ، وواحد في ذاته حيث البساطة المطلقة ، دون بعد ولا أبعاد ، ولا حد ولا حدود ، وواحد في صفات ذاته أنها عين بعض ، وكلها عين الذات دون تعدد إلّا في تحبير اللغات.

وعلى الجملة هو واحد في عمق الأزل والأبد والسرمد ، واحد لا بعدد ولا عن عدد ولا بتأويل عدد ، ويستحيل عليه العدد ذاتا وصفاتا وكيانا فلن يتعدد ، وذلك قضية كونه (الْواحِدُ الْقَهَّارُ).

٩٧

«قهار» يقهر التعدد أيا كان وأيان ، ويقهر شركاءه المخلوقون ، ويقهر كل نقص وركس ، قهارا في كافة الحقول دون ان يقهر بإشراك او تنقيص أو أفول ، فهو واحد في قهاريته ، قهار في واحديته (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).

(أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ) لا يقهرون شركاءهم ولا عبّادهم (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (٦ : ١٨)! (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) (٦ : ٦١).

وليسوا ليخلقوا شيئا حتى يقهروه (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١٣ : ١٦)! ثم يوم القيامة قهار كما هو اليوم قهار (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١٤ : ٤٨) (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤٠ : ١٦).

فسبحانه (سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٣١ : ٤٠) ليس في سائر الآلهة الأرباب إلّا دمار وبوار (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ)!

(ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٤٠).

الأرباب المتفرقون التي تعبدون ، ما يملكون من الربوبية أمرا «إلّا أسماء» ليست لها مسميات ، تسميات جوفاء خواء (سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) ما لم يأذن به الله ، ولم يسمها الله إذ (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) لا سلطان الدليل والبرهان ، فلا برهان من الله على ربوبيتها ، ولا سلطان العلم والقدرة ، فكيف تشركون بالله ما لم ينزل به سلطانا ، ثم عساكر البراهين آفاقية وأنفسية هي كلها سلطانه على أنه (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).

ف «إن الحكم» لربوبية سواه لو أمكنت ، وسائر الحكم «إلّا لله» ومن

٩٨

حكمه المستمر طول الرسالات خلاف ما تزعمون وتشركون (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أمر الحكم إمرة دون ما يقابل النهي ، فقد حكم ذلك الحاكم الوحيد في الكون (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) في كلمة مطردة (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ).

و «ذلك» الأمر الحكم هو (الدِّينُ الْقَيِّمُ) دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ودين ناموس الكون بوحدة النظام والتنسيق الدالة على وحدة المنظم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) جهلا في تقصير طال أم قصر حيث الإشراك بالله لا يقبل القصور ، إلّا تقصيرا في تجاهل أو جهالة بمختلف الدركات! فدين التوحيد هو الدين القيم ، القوي القائم لإدارة شئون الأفراد والمجتمعات ، دون تزعزع ولا فشل ولا عوج.

فإذ ليس وراء الأسماء التي سميتوها أنتم وآباءكم المشركون ، إلّا ادعاء هباء وخواء ، فما تعبدون من دونه إلّا أسماء وعبادة الاسم خواء وهباء ، وحتى إذا كان اسم الله فضلا عن الشركاء ، فهي إذا عبادة خاوية في بعدين هباء على هباء.

وعبادة المعبود إن كانت لألوهيته في ذاته؟ فإنه هو الله لا سواه! وان كانت لربوبية معطاة من قبل الله؟ فما أنزل الله بها من سلطان ، وحتى لو كان فكيف يسوى في العبادة بينها وبين الله ، بل تترك ـ بالمرة ـ عبادة الله ، ويوحّد الأرباب المتفرقون في عبادتهم ، دون الله! : توحيد الشرك! أن يعبد الشركاء دون الله.

ثم العبادة إن كانت طاعة في مصلحيات الحياة ، فالأصلح فيها عبادة الله الذي خلق الشركاء! بل هي الصالحة دون سواها ، فإنهم أرباب متفرقون ، قاصرون في توجيهاتهم ـ لو كانت ـ وقاصرون في ربوبياتهم

٩٩

المتخيلة ، إذ تفرقت ، والحياة الوحيدة المطمئنة ليست إلّا على ضوء عبادة (اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) وبيده ملكوت كل شيء وناصيته! ف (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) في الحياة وبمختلف الحقول ، ولدي كل الفطر والعقول (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) فانما (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٣٠ : ٧).

ف (الدِّينُ الْقَيِّمُ) هو الدينونة الحقيقية لله وحده ، الخضوع له وحده ، واتباع أمره وحده ، سواء في شعيرة تعبدية أو سياسية ، أخلاقية أو ثقافية أو اقتصادية امّا هيه من قضايا الدينونة المطلقة ، التي تحلّق على كافة الحقول الحيوية منذ الولادة حتى الممات.

ولقد رسم يوسف الصديق في هذه المجالة القليلة ، بهذه الكلمات القلة الناصحة الناصعة الجميلة ، رسم بها فيها كل معالم الدين القيم ، وكل مقوماته (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

فقد نرى يوسف السجين بأيدي المشركين يخطط في السجن ويرسم هندسة القضاء على حكم الفراعنة والطواغيت ، متذرعا إليه بتعبير الرويّ ، وإلى استلام عرش الحكم (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) :

فأخيرا يجهّل الطغمة الحاكمة والمحكوم عليهم ، تجهيلا للمرسوم الملكي الجبار الفرعوني ، أنه اغتصاب لحكم (اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) الذي هو المدار وعليه الطمأنينة والقرار.

وهنا بعد ما تتم الدعوة في كل إجمال وجمال يبدأ الصديق بتأويل رؤيا صاحبي السجن بكل رياحة حال واطمئنان بال حيث قال :

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ)(٤١).

١٠٠