أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-332-4
ISBN الدورة:
الصفحات: ٤٦٩
يابن مسلمة ! من هذا ؟ فقال : موسى ابنه ، فقال : لأجبهنّه (١) بين يدي شيعته ! !
فقال عبد اللّه : مه ، لن تقدر على ذلك ، فقال : واللّه ، لأفعلنّ ، ثمّ التفت إلى موسى عليهالسلام ، فقال : يا غلام ، ممّن المعصية ؟
قال : «يا شيخ ، لا تخلو من ثلاث : إمّا أن تكون من اللّه وليس من العبد شيء ، فليس للحكيم أن يأخذ عبده بما لم يفعله ، وإمّا أن تكون من العبد ومن اللّه ؛ واللّه أقوى الشريكين ، فليس للشريك الأكبر أن يأخذ الشريك الأصغر بذنبه ، وإمّا أن تكون من العبد وليس من اللّه شيء ، فإن شاء عفا وإن شاء عاقب» .
قال : فأصابت أبا حنيفة سكتة كأنّما اُلقم في فيه حجر ، فقال له عبداللّه : ألم أقل لك : لا تتعرّض لأولاد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، ذرّيّة بعضها من بعض (٢) .
أقول : وفي ذلك قال الشاعر :
لَم تَخلُ أفعالُنا اللاتي نُذمُّ بِها |
|
إحدى ثلاثِ معانٍ حينَ نأتيها |
إِمَّا تَفرُّد بارينا بصنعتِها |
|
فَيسقط اللَّومُ عَنَّا حينَ ننشيها |
أو كانَ يُشركُنا فِيها فَيَلحقُهُ |
|
مَا سوفَ يَلحقُنا مِن لائمٍ فيها |
__________________
(١) أي : لأذلّنّه ، أو اُنكّس رأسه .
انظر : النهاية ١ : ٢٣٧ ـ جبه ـ .
(٢) الأمالي للصدوق : ٤٩٥ / ٦٧٥ ، الفصول المختارة : ٧٢ ـ ٧٣ (ضمن مصنّفات الشيخ المفيد ج٢) ، أعلام الدين : ٣١٨ ، الاحتجاج ٢ : ٣٣١ / ٢٦٩ ، روضة الواعظين ١ : ٣٩ ـ ٤٠ ، الطرائف ٢ : ٢٠ ـ٢١ ، وفيها بتفاوت يسير ، وفي الاحتجاج : عبداللّه بن مسلم ، وفي بقية المصادر لم يُذكر اسمه .
أو لم يَكن لإلهي في جِنايتِها |
|
ذَنبٌ فَما الذنبُ إلاَّ ذنبُ جانيها (١) |
وقد روي أنّ بعض أهل العدل وقف على جماعة من المجبّرة ، فقال لهم : أنا ما أعرف المجادلة والإطالة ، ولكنّي أسمع في القرآن قوله تعالى : ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ) (٢) ومفهوم هذا الكلام عند كلّ عاقل أنّ الموقد للنار غير اللّه ، وأنّ المطفئ للنار هو اللّه ، فكيف تقبل العقول أنّ الكلّ منه ، وأنّ الموقد للنار هو المطفئ لها ؟ ! فانقطعوا ولم يردّوا جواباً (٣) .
وقال عدليٌّ أيضاً للمجبّر : إنّ اللّه تعالى حكى في كتابه عن أهل المعاصي أنّهم يقولون في القيامة : ( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ) (٤) ، وكذا يقولون في النار : ( رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا ) (٥) وأمثال ذلك من الآيات ، فلو كان كما تقولون فعلى من كانوا يدعون ؟ ولمن يلعنون ؟ ومن الذي يجعلون تحت أقدامهم ؟ وعلى من هذا التظلّم وممّن هذا التألّم ؟ (٦) .
نعم ، لو كنتم على بصيرة لعرفتم أنّكم من جملة مصداق هذه الآيات ؛ حيث ادّعيتم أنّ مذهبكم هذا أخذتموه من بعض سلفكم الذين
__________________
(١) لم نعثر على قائله ، وانظر : مصادر هامش ٢ ص٢٨١ .
(٢) سورة المائدة ٥ : ٦٤ .
(٣) الطرائف ٢ : ٢٣ .
(٤) سورة الأحزاب ٣٣ : ٦٧ ـ ٦٨ .
(٥) سورة فصّلت ٤١ : ٢٩ .
(٦) الطرائف ٢ : ١٠ ـ ١١ .
مثلكم في احتمال الوقوع في الخطأ والضلال .
ونعم ما قال رجل لبشر المريسي (١) من أعيان الجبريّة ، حيث قال له : حمارك أفهم منك وأعقل ؛ لأنّه إذا رأى جدولاً ووجد أنّه يقدر أن يطفره طفره ، وإلاّ فلا ، فهو يفرّق بين مقدوره وغير مقدوره وأنت لا تفرّق ! (٢) .
وقال رجل آخَر لجبريٍّ أيضاً : إنّك تقول بالقدر إذا ناظرت أحداً ، وإذا رجعت إلى منزلك فوجدت جاريتك قد كسرت كوزاً يساوي فلساً شتمتها وضربتها ، وتركت مذهبك لأجل فلس واحد ! (٣) .
ورأى مجبّر غلامه يفجر بجاريته فأراد أن يضربه ، فقال له : إنّ القضاء ساقنا ، فرضي عنه ! (٤) .
ونقل مثله عن جبريّ رأى رجلاً يفجر بامرأته (٥) .
ونقل أيضاً مثله عن قاض جبريٍّ سمع رجلاً يسبّ الخلفاء (٦) .
وقال رجل لجبريٍّ : ممّن الحقّ ؟ قال : من اللّه .
قال له : فمن هو المحقّ ؟ قال : هو اللّه .
__________________
(١) هو بشر بن غياث بن أبي كريمة المَريسي الفقيه الحنفي المتكلّم ، يكنّى أبا عبد الرحمن ، كان أبوه يهوديّاً ، ونقل أنّ يهودياً مرّ والناس مجتمعون على بشر ، فقال : لا يفسد عليكم كتابكم كما أفسد أبوه علينا التوراة .
له كتب منها : الردّ على الخوارج ، والمعرفة ، وكفر المشبّهة وغيرها ، مات سنة ٢١٨ هـ .
انظر : تاريخ بغداد ٧ : ٥٦ / ٣٥١٦ ، الأنساب ٥ : ٢٦٧ ، وفيات الأعيان ١ : ٢٧٧ / ١١٥ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ١٩٩ / ٤٥ ، ميزان الاعتدال ١ : ٣٢٢ / ١٢١٤ ، لسان الميزان ٢ : ٤٩ / ١٦٣٨ .
(٢) لم نعثر عليه .
(٣ ـ ٥) الصراط المستقيم ٣ : ٦٥ .
(٦) لم نعثر عليه .
قال فممّن الباطل ؟ قال : من اللّه .
فقال له : فمن هو المبطل ؟ فانقطع ولم يحر جواباً (١) .
ونقل أيضاً أنّ جبريّاً استأذن من المأمون أن يناظر ثمامة ـ وكان عدليّاً ـ فأذن له ، فحرّك الجبريّ يده وقال : من حرّك هذه ؟ فقال ثمامة : حرّكها مَنْ اُمّه زانية ، فقال الجبريّ : شتمني يا مأمون في مجلسك ! فقال ثمامة : ترك هذا مذهبه يا مأمون ؛ لأنّه زعم أنّ اللّه حرّكها فلأيّ سبب غضب وليس للّه اُمّ ؟ فانقطع الجبريّ (٢) .
وأمثال هذه المَلازم على المجبّرة كثيرة بحيث لا يمكن إحصاؤها .
وقد ذكر بعض العلماء ما يزيد على سبعين نقضاً بيّناً واضحاً ليس هاهنا موضع ذكرها ، حتّى أنّه ذكر منها : أنّه يلزم على مذهبهم انقطاع حجّة الأنبياء عليهمالسلام ؛ لأنّ النبيّ إذا قال للكافر : آمِن بي لما أظهره اللّه من المعجزة على يدي ، يقول الكافر : إذا جاز أن يخلق اللّه فيّ الكفر ويعذّبني من غير جرم ، فلِمَ لا يجوز أن يُظهر المعجزة في يدك وأنت كاذب ؟
وبعبارة اُخرى ، يقول الكافر للنبيّ حين دعوته : قل للّذي بعثك يخلق فيّ الإيمان والقدرة المؤثّرة فيه حتّى أتمكّن من الإيمان واُؤمن بك ، وإلاّ فكيف تكلّفني الإيمان ولا قدرة لي عليه ، بل خلق فيَّ الكفر وأنا لا أتمكن من مقاهرة اللّه تعالى ؟
ومن العجائب أنّ المجبّرة زعموا أنّ اعتقاد كون أفعال العباد منهم مستلزم لكون العباد شركاء للّه ، وأنّ تعظيم الإله يقتضي أن تكون الأفعال
__________________
(١) الطرائف ٢ : ٢٤ ، الصراط المستقيم ٣ : ٦٠ ـ ٦١ .
(٢) الطرائف ٢ : ٣٣ ، الصراط المستقيم ٣ : ٥٩ .
كلّها من اللّه (١) . ولم يدركوا أنّ أيّ تعظيم للّه في نسبة خسائس العبيد ورذائلهم إليه ! وأيّ نسبة بين جلال اللّه الخالق وحقارة العبد المخلوق ؛ حتّى يتكمّل سبحانه بنسبة أفعالهم القاصرة وتدبيراتهم الناقصة إليه ! وكيف يتصوّر لعاقل أن يجوّز احتمال لزوم المشاركة المذكورة بين المخلوق وخالقه الذي في غاية الجلالة ، مع أنّ أدنى ذي فهم لا يرضى أن يحكم بأنّ سائس الملك شريك له في السياسة ؟ !
وأعجب من هذا أنّهم زعموا أيضاً أنّ الاعتقاد بأنّ العباد يقدرون أن يفعلوا أشياء باختيارهم يقتضي عجز اللّه تعالى عن العباد ، حيث يقع منهم ما لا يريد من المعاصي (٢) ، ولم يدركوا أنّ أيّ عجز يلحق بالمالك إذا جعل عبده مختاراً لأفعاله ، سواء فعل العبد ما يكره المولى أو ما يحبّ ؛ إذ معلوم أنّ المولى إن أراد قهر عبده لقهره ، ولقد كفى في هذا قوله تعالى : ( وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) (٣) ، وكذا ما مرّ في التبيان ، فافهم .
ثمّ إنّ من هؤلاء المذكورين : النجّاريّة (٤) ، أصحاب الحسين بن محمّد النجّار (٥) وبشر المريسي ، ومحمّد بن عيسى الملقّب بالبرغوث (٦) .
__________________
(١) انظر : الطرائف ٢ : ٧ .
(٢) انظر : الطرائف ٢ : ٨ .
(٣) سورة النحل ١٦ : ٩ .
(٤) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١: ٨٨ ـ ٩٠ .
(٥) الحسين بن محمّد بن عبداللّه النجّار الرازيّ ، من أجلّة المجبّرة ومتكلّميهم ، وكان حائكاً ، أو يعمل الموازين ، من أهل «قمّ» ، وله كتب منها : المخلوق ، الصفات والأسماء ، إثبات الرسل وغيرها ، مات سنة ٢٢٠ هـ .
انظر : الفهرست لابن النديم : ٢٢٩ ، الأعلام ٢ : ٢٥٣ .
(٦) محمّد بن عيسى الجهمي ، يكنّى أبا عبداللّه ، وله كتب ، منها : الاستطاعة ،
والضراريّة : أصحاب ضرار بن عمرو (١) ، وحفص الفرد (٢) ، وهؤلاء وافقوا المعتزلة في بعض المسائل ، كنفي الصفات الزائدة القديمة ، ووافقوا المجبّرة في القول بأنّ اللّه خالق أعمال العباد كلّها خيرها وشرّها وحسنها وقبيحها ، وقالوا : إنّ العبد مكتسب لها ، كما هو مذهب الأشعري ، وجوّزوا حصول فعل بين فاعلين ، ولهم مذاهب اُخرى في سائر المسائل ، حتّى أنّ من مذهب ضرار وحفص : أنّ الحجّة بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله في الإجماع فقط ، وأنّ كلّ ما نقل عن النبيّ صلىاللهعليهوآله في أحكام الدين من أخبار الآحاد فغير مقبول ، وأنّ الإمامة تكون في غير قريش أيضاً ، حتّى قال ضرار : إذا اجتمع قرشيٌّ ونبطيٌّ يقدّم النبطيّ في الإمامة على القرشيّ ؛ لكونه أقلّ عدداً وأضعف وسيلةً ، فيسهل عزله إذا خالف الشرع .
ومن العجائب أنّهم زعموا أنّ للإنسان حاسّةً سادسةً يرى بها البارئ
__________________
والمقالات ، والاجتهاد وغيرها ، مات سنة ٢٤٠ ، وقيل : سنة ٢٤١ هـ .
انظر : سير أعلام النبلاء ١٠ : ٥٥٤ / ١٨٩ .
(١) ضرار بن عمرو ، يكنّى أبا عمرو القاضي ، من بَدَعيّة المعتزلة ، وتُنسب إليه فرقة الضراريّة، له كتب منها : إثبات الرسل ، المساواة ، الردّ على الخوارج ، تفسير القرآن وغيرها.
انظر : الضعفاء الكبير للعقيلي ٢ : ٢٢٢ / ٧٦٥ ، الفهرست لابن النديم : ٢١٤ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٥٤٤ / ١٧٥ ، ميزان الاعتدال ٢ : ٣٢٨ / ٣٩٥٣ ، لسان الميزان ٣ : ٦٠٧ / ٤٣١٢ .
(٢) هو من أكابر المجبّرة ، يكنّى أبا عمرو ، وكان من أهل مصر ، وقدم البصرة فسمع بأبي الهذيل وناظره ، فقطعه أبو الهذيل ، وكان أوّلاً معتزليّاً ، ثمّ قال بخلق الأفعال ، وله كتب منها : الاستطاعة ، التوحيد ، الردّ على النصارى وغيرها ، يُذكر أنّه من أصحاب أبي يوسف ، المتوفّى في النصف الثاني من القرن الثاني .
انظر : الفهرست لابن النديم : ٢٢٩ ، ميزان الاعتدال ١ : ٥٦٤ / ٢١٤٣ ، لسان الميزان ٢ : ٦١٦ / ٢٩٠١ ، الطبقات السَّنيّة في تراجم الحنفيّة ٣ : ١٧٧ / ٧٨٦ .
تعالى في الجنّة (١) .
وأمثال هذه الخيالات الآرائيّة فيهم كثيرة .
ثمّ إنّ من الأصناف المذكورة الأشعريّة : أصحاب أبيالحسن عليّ بن إسماعيل الأشعريّ (من ولد أبي موسى الأشعري) (٢) ، وأكثر من يسمّي نفسه بأهل السنَّة اليوم على طريقته في كثير من العقائد .
ومن مذهبه ما مرّ في بيان الصفاتيّة من إثبات الصفات الزائدة القديمة ، فقال : إنّ البارئ تعالى عالم بعلم ، قادر بقدرة ، حيّ بحياة ، مريد بإرادة ، متكلّم بكلام ، سميع بسمع ، بصير ببصر ، وإنّ هذه صفات أزليّة قائمة بذاته تعالى ، لا يقال : هي هو أو غيره ، ولا لا هو ولا غيره .
قال : والعبارات والألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء دلالات على الكلام الأزلي ، والدلالة مخلوقة محدثة والمدلول قديم أزليّ .
قال الشهرستاني : وخالف في هذا جماعة الحشويّة من الصفاتيّة ؛ إذ حكموا بكون الحروف والكلمات قديمة .
قال : والكلام عند الأشعري معنى قائم بالنفس سوى العبارة ، وإطلاقه على العبارة عنده مجاز ، أو على سبيل الاشتراك اللفظي ، قال : فالمتكلّم عنده من قام به الكلام ، وعند المعتزلة من فعل الكلام .
ومذهبه في أفعال العباد أنّ للّه قدرةً وللعبد قدرةً إذا كان صحيحاً ، ولكن قدرة العبد واستطاعته تكون مع الفعل ولا تكون قبل الفعل ، وقدرته التي تكون مع الفعل ليس لها تأثير في الفعل ، بل الفعل يصدر بقدرة اللّه
__________________
(١) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٩٠ ـ ٩١ .
(٢) ما بين القوسين لم يرد في «م» .
الغالبة ، ويسمّى هذا الفعل من العبد كسباً (١) .
وقد قال هذا فراراً عمّا يلزم الجبريّة المحضة كما مرّ ، لكن لا ينفعه واقعاً ؛ ضرورة أنّ وجود القدرة التي لا تأثير لها لا ينفع ، ولا يخرجه من الجبر إلى الاختيار .
وأمّا الباقلاّني (٢) فقد تخطّى عن هذا القدر قليلاً فقال : إنّ ذات الفعل من اللّه ، إلاّ أنّه بالقياس إلى العبد يصير طاعة أو معصية (٣) .
وحاصل كلامه أنّ الصلاة والزنا يشتركان في أنّ كلّ واحد منهما حركة ، ولكن تتّصف حركات الزنا بالزنا ، وحركات الصلاة بالصلاة ، وأصل الحركة بقدرة اللّه ، وصفتها بقدرة العبد .
وركاكته وعدم خلوصه عمّا يلزم غيره أيضاً ظاهرة على من له أدنى بصيرة .
ومن مذهب الأشعري أيضاً : أنّ إرادة اللّه واحدة أزليّة متعلّقة بجميع (المرادات من أفعاله) (٤) الخاصّة وأفعال عباده ، من حيث إنّها مخلوقة ، لا من حيث إنّها مكتسبة لهم ؛ ولهذا قال : أراد الجميع خيرها وشرّها ونفعها وضرّها ، وكما أراد وعلم أراد من العباد ما علم ، وأمر القلم حتّى كتب في
__________________
(١) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٩٥ ـ ٩٦ .
(٢) هو محمّد بن الطيّب بن محمّد الباقلاني البصري ثمّ البغدادي ، يكنّى أبا بكر ، المتكلّم المشهور ، كان على مذهب الأشعري ومؤيّداً اعتقاده وناصراً طريقته ، وسمع من أبي بكر بن مالك القطيعي ، وأبي محمّد بن ماسي ، وأبي أحمد النيسابوري ، وله كتب منها : تمهيد الأوائل ، إعجاز القرآن ، الإنصاف وغيرها ، ولد سنة ٣٣٨ هـ ، ومات سنة ٤٠٣ هـ .
انظر : تاريخ بغداد ٥: ٣٧٩ / ٢٩٠٦ ، الأنساب ١: ٢٦٥ ، المنتظم ١٥: ٩٦ / ٣٠٤٤ ، وفيات الأعيان ٤ : ٢٦٩ / ٦٠٨ ، سير أعلام النبلاء ١٧ : ١٩٠ / ١١٠ ، الأعلام ٦ : ١٧٦ .
(٣) حكاه عنه الشهرستاني في الملل والنحل ١ : ٩٧ .
(٤) في «م» : (الإرادت من أفعال عباده) .
اللوح المحفوظ ، فذلك حكمه وقضاؤه وقدره الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل (١) .
ومن مذهبه : جواز تكليف ما لا يطاق (٢) .
ومن مذهبه : أنّ كلّ موجود يصحّ أن يرى ؛ لأنّ المصحّح للرؤية إنّما هو الوجود ، والبارئ تعالى موجود فيصحّ أن يرى ، ولكن لا يجوز أن تتعلّق به الرؤية على جهة ومكان وصورة ومقابلة واتّصال شعاع أو على سبيل الانطباع ، فإنّ ذلك مستحيل (٣) ، ولهذا قال الشهرستاني : إنّ له قولين في ماهيّة الرؤية :
أحدهما : أنّه علم مخصوص ، قال : ويعني بالخصوص أنّه متعلّق بالوجود دون العدم .
والثاني : أنّه إدراك وراء العلم لا يقتضي تأثيراً في المدرك ولا تأثّراً عنه .
وقال : إنّه أثبت له اليدين والوجه ونحوهما ممّا ورد به السمع من غير تأويل .
قال : وله قول في التأويل أيضاً (٤) .
ومن مذهبه أيضاً على ما نقل عنه الشهرستاني : أنّ الإيمان والطاعة بتوفيق اللّه ، والكفر والمعصية بخذلانه ، لكن فسّر التوفيق بخلق القدرة على الطاعة ، والخذلان بخلق القدرة على المعصية ، بنحو ما يرجع إلى ما مرّ عنه في أفعال العباد ، وعند بعض أصحابه التوفيق هو : تيسّر أسباب الخير ، وضدّه الخذلان (٥) .
__________________
(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٩٦ .
(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٩٦ .
(٣) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٠ .
(٤) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠١ .
(٥) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٢ .
ومذهبه في الإمامة : أنّها تثبت بالاتّفاق والاختيار دون النصّ والتعيين ، قال : إذ لو كان ثمّة نصٌّ لما خفي ، والدواعي تتوفّر على نقله .
قال : ولا نقول في عائشة وطلحة والزبير إلاّ أنّهم رجعوا عن الخطأ ، ولا نقول في معاوية وعمرو بن العاص إلاّ أنّهما بغيا على الإمام الحقّ فقاتلهم (علي) (١) مقاتلة أهل البغي.
قال : وأمّا أهل النهروان فهم الشراة المارقون عن الدين ؛ للخبر عن النبيّ صلىاللهعليهوآله (٢) .
قال : «وكان عليّ كرّم اللّه وجهه على الحقّ في جميع أحواله يدور معه الحقّ حيث ما دار» (٣) بموجب دعاء النبيّ صلىاللهعليهوآله له (٤) .
أقول : سيظهر فساد عامّة ما ادّعاه هاهنا لا سيّما دعوى عدم نقل التعيين مع توفّر دواعيه ، لما سيتّضح من كمال ظهور خلافه ، أي : كثرة نقل التعيين مع توفّر دواعي الإخفاء ، فتأمّل .
ثمّ إنّ من اُولئك الأصناف : الكرّاميّة ، أصحاب محمّد بن كرّام (٥) ،
__________________
(١) ما بين القوسين لم يرد في «م» .
(٢) انظر : الخصال للشيخ الصدوق ٢ : ٥٧٤ ، من لا يحضره الفقيه ١ : ١٢٤ / ٢٨٨ ، الموطّأ ١ : ٢٠٤ / ١٠ ، صحيح البخاري ٦ : ٢٤٤ ، كتاب فضائل القرآن ، صحيح مسلم ٢ : ٧٤١ / ١٠٦٤ ، المحلّى لابن حزم ١١ : ٩٧ / ٢١٥٤ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١١٥ .
(٣) أشار إلى الحديث الوارد عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بألفاظ مختلفة : «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ . . .» .
(٤) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٢ ـ ١٠٣ .
(٥) محمّد بن كرّام بن عراق بن حزابة السجستاني (السجزي) سجن بنيسابور لأجل بدعته ثمانيّة أعوام ثمّ اُخرج وسار إلى بيت المقدس ، ومات فيها سنة ٢٥٥ هـ ، يكنّى أبا عبداللّه ، إمام الكراميّة ، وله كتب منها : كتاب عذاب القبر .
انظر : الفرق بين الفِرَق : ٢١٥ / ١١٩ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٨ ، سير أعلام النبلاء ١١ : ٥٢٣ / ١٤٦ ، ميزان الاعتدال ٤ : ٢١ / ٨١٠٣ ، تاريخ الإسلام (حوادث ووفيات ٢٥١ ـ ٢٦٠) : ٣١٠ / ٤٨٢ ، الأعلام ٧ : ١٤ .
وهو مع كونه من الصفاتيّة ينتهي كلامه إلى القول بالتجسيم والتشبيه صريحاً ، وقد شاركه في القول بالتجسيم والتشبيه طوائف اُخرى أيضاً ما عدا الغُلاة الآتية .
قال الشهرستاني : يبلغ عدد تلك الطوائف إلى اثنتي عشرة (١) فرقة ، واُصولها ستّة ، منهم : الهيصميّة ، والواحديّة ، والإسحاقيّة ، والعابديّة ، والمضريّة ، والكهمشيّة ، وأصحاب أحمد الجهمي (٢) وغيرهم ، حتّى أنّ كثيراً من قدماء الحنابلة في بغداد كانوا على التجسيم ، حتّى نقلوا عن مضر وكهمش وغيرهما : أنّهم أجازوا على ربّهم الملامسة والمصافحة ، وأنّ المخلصين من المؤمنين يعانقونه في الدنيا والآخرة ، إذا بلغوا في الرياضة إلى حدّ الإخلاص والاتّحاد المحض (٣) .
ونقل الكعبي عن بعضهم أنّه كان يجوّز الرؤية في الدنيا ، وأن يزورهم يزوره (٤) .
وحكي عن داوُد (٥) أنّه قال : اعفوني عن الفرج واللحية وسلوني عمّا وراء ذلك ! !
__________________
(١) وردت في النسخ : «عشر» خطأً فأثبتنا صوابها.
(٢) جميع هذه الطوائف التي ذكرت تعود إلى فرقة «الكرّاميّة» المنسوبة إلى محمّد بن كرّام الذي تقدّمت ترجمته آنفاً ، ولم يفرّد أهل التراجم لكلٍّ منها ترجمة مستقلّة .
انظر: الفِرَق بين الفرق : ٢١٥ ـ ٢٢٥ / ١١٩ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٨ ـ ١١٤.
(٣) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٥ ، وفيه : أحمد الهجيمي .
(٤) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٥ ، فيه : وأن يزوره ويزورهم .
(٥) هو داوُد الجواربي ، ولم نعثر على ترجمة له .
انظر : ميزان الاعتدال ٢ : ٢٣ / ٢٦٦١ ، لسان الميزان ٣ : ٣٤ / ٣٣٠٣ .
وقال : إنّ معبوده جسم ولحم ودم ، وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس ولسان وعين واُذن ، ومع ذلك جسم لا كالأجسام ، ولحم لا كاللحوم ، ودم لا كالدماء ، وكذلك سائر الصفات ، ولا يشبه شيئاً من المخلوقات ، ولا يشبهه شيء (١) .
وحكي عنه أنّه قال : هو أجوف من أعلاه إلى صدره ، مصمت ما وراء ذلك ، وله شعر قطط (٢) .
وأكثر هذه الأقوال مأخوذة من اليهود ، كما مرّ أنّ التشبيه قول معظمهم ، حتّى قالوا : إنّه بكى في الطوفان حتّى رمدت عيناه فعادته الملائكة (٣) (٤) .
وقد نصّ محمّد بن كرَّام على أنّ معبوده على العرش استقراراً ، وعلى أنّه في جهة فوق ذاتاً ، وأطلق عليه اسم الجوهر ، وأنّه مماسٌ للعرش .
وقال بعضهم : امتلأ العرش به ! وصار المتأخرون منهم إلى أنّه تعالى بجهة الفوق ومحاذاة للعرش .
وقالت العابديّة : أنّه بينه وبين العرش من البعد والمباينة والمسافة ما لا ينتهي .
وقال محمّد بن الهيصم (٥) : إنّ بينه وبين العرش بُعْداً لا يتناهى ، وإنّه
__________________
(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٥ .
(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٥ .
(٣) العبارة في المصدر هكذا : حتّى قالوا : اشتكت عيناه فعادته الملائكة وبكى على طوفان نوح حتّى رمدت عيناه .
(٤) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٦ .
(٥) هو أبو عبداللّه محمّد بن الهيصم ، شيخ الكرّاميّة في وقته ، ورأس طائفة
مباين للعالم بينونة أزليّة ، ونفى التحيّز والمحاذاة ، وأثبت الفوقية والمباينة ، وأطلق أكثرهم لفظ الجسم عليه (١) .
وقال بعضهم : نعني بكونه جسماً أنّه قائم بذاته .
ثمّ إنّ منهم من أثبت له النهاية من ستّ جهات .
ومنهم من أثبت له النهاية من جهة تحت .
ومنهم من أنكر النهاية وقال : هو عظيم ، ولهم في معنى العِظَم خلاف .
فقال بعضهم : معنى عظمته هو أنّه مع وحدته على جميع أجزاء العرش ، والعرش تحته ، وهو فوق كلّه على الوجه الذي هو فوق جزءٍ منه .
وقال بعضهم : معنى عظمته أنّه يلاقي مع وحدته من جهة واحدة أكثر من واحد ، وهو يلاقي جميع أجزاء العرش ، وهو العليّ العظيم (٢) .
وأمثال هذه الأقوال السخيفة عندهم كثيرة لا نطيل الكلام بذكرها .
وأكثرهم قالوا : نحن نُثبت القدر خيره وشرّه من اللّه تعالى ، وأنّه أراد الكائنات كلّها خيرها وشرّها ، وخلق الموجودات كلّها حسنها وقبيحها ، ونُثبت للعبد فعلاً بالقدرة الحادثة يسمّى ذلك كسباً ، والقدرة الحادثة مؤثّرة في إثبات فائدة زائدة على كونه مفعولاً مخلوقاً للبارئ تعالى ، وتلك الفائدة
__________________
«الهيصميّة» المنسوبة إليه ، والتي مرّ ذكرها ضمن فِرَق الكرّامية .
وله أقوال يبدو أنّها تختلف عمّا نقل عن شيخ فرقتهم ابن كرّام الذي أسلفنا ترجمته ، كما ذكر ذلك في الوافي بالوافيات ٥ : ١٧١ / ٢٢٠٦ ، ولم نجد له ترجمة في غيره .
(١) انظر : الملل والنحل ١ : ١٠٨ ـ ١٠٩ .
(٢) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٩ .
هي مورد التكليف ، والمورد هو المقابل بالثواب والعقاب (١) .
ومن عقائد هؤلاء : أنّ الإيمان هو الإقرار باللسان فقط دون التصديق بالقلب ودون سائر الأعمال ، وفرّقوا بين تسمية المؤمن مؤمناً فيما يرجع إلى أحكام الظاهر والتكليف ، وفيما يرجع إلى أحكام الآخرة والجزاء ، فالمنافق عندهم مؤمن في الدنيا حقيقة ، مستحقٌّ للعقاب الأبدي في الآخرة .
ومن عقائدهم في الإمامة : أنّها تثبت بالإجماع دون النصّ والتعيين ، حتّى أنّهم جوّزوا عقد البيعة لإمامين في قُطرين (٢) .
قال الشهرستاني : إنّ غرضهم إثبات إمامة معاوية في الشام باتّفاق جماعة من الصحابة ، وإثبات إمامة أمير المؤمنين عليّ عليهالسلام بالمدينة والعراقين باتّفاق عامّة الصحابة .
قال : ومذهبهم اتّهام عليّ عليهالسلام في الصبر على ما جرى بعثمان والسكوت عنه ، وتصويب معاوية فيما استند به في قتال عليّ عليهالسلام من طلب قتلة عثمان (٣) ، ولهم أيضاً مقالات سخاف لا طائل في ذكرها .
فهؤلاء الذين ذكرناهم مع الذين قدّمنا ذكرهم من طوائف المعتزلة يرتقون ـ أي أعاظمهم ـ إلى ما يزيد على ثلاثين فرقة ، وأكثر عقائدهم فسادها ظاهر ، بل بالبداهة لكلّ ذي مسكة ، وحاشا أن يكون مبنى دين اللّه على أمثال هذه السخافات الفاضحة ، ومع هذا يجري هاهنا أيضاً ما ذكرناه في المعتزلة ممّا ينادي بعدم كون الفرقة الناجية فيهم ، فلا تغفل .
__________________
(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١١٣ .
(٢ و٣) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١١٣ .
المبحث الثالث : في بيان الفِرَق الذين عدّوهم من صنفي الخوارج والوعيديّة ؛ لاشتراكهم في تكفير صاحب الكبيرة وتخليده في النار ، وكذا بيان الفِرَق الذين عدّوا من المرجئة ؛ لموافقتهم الخوارج في بعض المسائل المتعلّقة بالإمامة ، وهؤلاء يرتقي أعاظم طوائفهم وفِرَقهم إلى أزيد من عشرين فرقة ، كما سيظهر ، فيكون مع ما سبق بضعاً وخمسين (١) فرقة :
فمن هؤلاء الطوائف :
المحكّمة : وهم الخوارج الذين خرجوا على عليّ عليهالسلام حين جرى أمر الحَكَمين (٢) وقاتلهم في نهروان ، ورأسهم كان : عبداللّه بن الكوّاء (٣) وحُرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية (٤) ، وعروة بن جرير (٥) وغيرهم ،
__________________
(١) في «ن» : «وسبعين» .
(٢) في «م» : «حكم الحكمين» .
(٣) هو من رؤوس الخوارج ينسب إلى بني يشكر ، وكان أمير المؤمنين عليهالسلام عندما دخل إلى الخوارج وكلّمهم . . . حتّى قال لهم : « من زعيمكم » ؟ فقالوا : ابن الكوّاء .
انظر : الكامل في التاريخ ٣ : ٣٢٦ ، و٣٢٨ ، ميزان الاعتدال ٢ : ٤٧٤ / ٤٥٢٥ ، لسان الميزان ٤ : ١٠٢ / ٤٧٦٦ .
(٤) حرقوص ـ بضمّ أوّله وسكون الراء وضمّ القاف ـ له ذكر في فتوح العراق ، وزعم أبو عمر أنّه ذو الخويصرة التميمي رأس الخوارج المقتول بالنهروان ، وقيل : إنّ الخوارج تزعم أنّ حرقوص بن زهير كان من أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآله قُتل يوم النهروان .
انظر : الإصابة ١ : ٣٢٠ / ١٦٦١ ، و٤٨٥ / ٢٤٥١ .
(٥) لعلّه عروة بن حدير ، هو من رجال النهروان ، وأوّل من قال : لا حكم إلاّ للّه ، وأوّل من حكّم بـ : «صفّين» ، أخذه عبيداللّه بن زياد فقتله ، مات حدود سنة ٥٨ هـ .
انظر : الكامل للمبرّد ٣ : ١٠٩٧ ، المعارف : ٤١٠ ، الفرق بين الفِرَق : ٧٤ ، الأعلام ٤ : ٢٢٦ .
وتابعوا أوّلاً عبداللّه بن وهب الراسبي (١) (٢) .
وقد أشرنا إلى أنّهم يكفّرون أصحاب الكبار .
ومن بدعهم في الإمامة جوّزوا أن يكون الإمام من غير قريش ، وكلّ من ينصبونه برأيهم بشرط معاشرته الناس بالعدل واجتناب الجور ، وإلاّ وجب عزله أو قتله .
قيل : وهؤلاء أشدّ الناس قولاً بالقياس ، وتجويز أن لا يكون إمام في العالم أصلاً .
ومن صريح ما يدلّ على كفرهم تكفيرهم عليّاً عليهالسلام ، حتّى أنّهم لعنوه بسبب التحكيم الذي هم ألجأوه إليه ، ثمّ قالوا : لا حكم إلاّ للّه ، فلِمَ رضيت بتحكيم الرجال ؟ ! هذا ، مع أنّهم هم الحاكمون في هذه المسألة وهم رجال (٣) .
وتفصيل حكاياتهم وتبيان كفرهم وفسادهم مذكورة في كتب السير .
وبالجملة : بطلان مذاهب الخوارج وأتباعهم من ضروريّات سائر طوائف الإسلام .
ومنهم : الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق (٤) ، وهم الذين خرجوا في
__________________
(١) عبداللّه بن وهب الراسبي الأزدي ، من رؤوس الخوارج الأباضيّة ، وكان مع أمير المؤمنين عليهالسلام في صفّين ، قُتل في النهروان سنة ٣٨ هـ ، ولم يذكروا أنّه روى شيئاً .
انظر : الكامل في التاريخ ٣ : ٣٣٥ ، ميزان الاعتدال ٢ : ٥٢٤ ، لسان الميزان ٤ : ١٢ / ٤٥٩١ ، و١٩١ / ٤٨٩٨ ، الأعلام ٤ : ١٤٣ .
(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١١٥ ـ ١١٧ .
(٣) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١١٦ .
(٤) هو نافع بن الأزرق بن قيس الحنفي الحروري ، يكنّى أبا راشد ، من رؤوس
الأهواز وفارس في أيّام عبداللّه بن الزبير والحجّاج .
ومن بدعهم ـ زائداً على سابقيهم ـ أنّهم صرّحوا بتصويب قاتل عليّ عليهالسلام ، وكفّروا كثيراً من المسلمين كابن عبّاس وسائر أصحاب عليّ عليهالسلام .
ومن مذهبهم تكفير عائشة وعثمان وأمثالهما أيضاً ، وكفّروا كلّ من لم يهاجر إليهم ، وأباحوا قتل أطفال مخالفيهم ونسوانهم ، وأسقطوا الرجم عن الزاني وسائر الأحكام التي لم يفهموها من القرآن .
ومن مذهبهم عدم جواز التقيّة في قول ولا عمل ، وجواز أن يبعث اللّه نبيّاً يعلم أنّه يكفر بعد نبوّته ، أو كان كافراً قبل بعثته ، وأجمعوا على أنّ من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر وخرج به عن الإسلام جملةً ، ويكون مخلّداً في النار مع سائر الكفّار ، واستندوا في ذلك إلى كفر إبليس ، فقالوا : ما ارتكب إلاّ كبيرة من الكبائر حيث اُمر بالسجود فامتنع ، وإلاّ فهو كان عارفاً بوحدانيّة اللّه سبحانه (١) .
ثمّ منهم : النجدات (٢) أصحاب نجدة بن عامر الحنفي (٣) ، وقيل :
__________________
الخوارج ، وإليه تُنسب فرقة الأزارقة ، وكان من أهل البصرة ، أقام في سوق الأهواز يعترض الناس بما يحيّر العقل ، مات سنة ٦٥ هـ .
انظر : الحور العين : ١٧٧ ـ ١٧٨ ، ميزان الاعتدال ٤ : ٢٤١ / ٨٩٩١ ، لسان الميزان ٧ : ١٦١ / ٨٨١٩ ، الأعلام ٧ : ٣٥١ .
(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٢١ ـ ١٢٢ بتفاوت يسير ، وانظر : الفرق بين الفِرَق : ٨٢ / ٦٩ .
(٢) انظر : الفرق بين الفِرَق : ٨٧ / ٧٠ .
(٣) هو نجدة بن عامر الحروري الحنفي ، من رؤوس الخوارج ، زائغ عن الحقّ ، وقد نُسبت إليه فرقة النجدات أو النجدية ، وقدم مكّة ، وله مقالات وأتباع انقرضوا ،
عاصم ، وهؤلاء كانوا أيضاً في زمان الأزارقة ، واختصّوا أيضاً بمذاهب ، فإنّهم قالوا بكون الجاهل فيما سوى معرفة اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ، والإقرار بما جاء به النبيّ صلىاللهعليهوآله من اللّه معذوراً إلى أن تقوم الحجّة عليه ؛ ولهذا يقال لهم : العاذريّة لأنّهم عذروا بالجهالات في الأحكام الفروعيّة .
وقالوا : من نظر نظرة أو كذب كذبة صغيرة وأصرّ عليها فهو مشرك ، ومن زنى وشرب وسرق غير مصرٍّ عليه فهو غير مشرك .
ونقل عنهم : أنّهم قالوا بجواز التقيّة في القول والعمل كلّه وإن كان في قتل النفس .
وقيل : إنّهم أجمعوا على أنّه لا حاجة إلى إمام قطّ (١) .
ثمّ إنّ منهم : البيهسيّة أصحاب أبي البيهس الهيصم بن جابر (٢) ، وكانوا في زمان الحجّاج أيضاً ، ومنهم الشبيب (٣) المشهور بالشجاعة ،
__________________
وكان أوّل أمره مع نافع بن الأزرق ، ثمّ فارقه لإحداثه في مذهبه ، ولد سنة ٣٦ هـ ، ومات سنة ٦٩ هـ .
انظر : الحور العين : ١٧٠ ، تهذيب الأسماء واللغات ٢ : ١٢٥ / ١٨٩ ، ميزان الاعتدال ٤ : ٢٤٥ / ٩٠١٣ ، لسان الميزان ٧ : ١٦٨ / ٨٨٣٢ ، شذرات الذهب ١ : ٧٦ ، الأعلام ٨ : ١٠ .
(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٢٢ ـ ١٢٥ .
(٢) هو الهيصم بن جابر الضبعي من بني سعد بن ضبيعة ، رأس الفرقة البيهسيّة من الخوارج ، وكان من الأزارقة ، ثمّ كفّر ابن الأزرق وابن إباض في بعض ما ذهبا إليه ، وذلك في عهد الوليد الاُموي ، ثمّ قُتل وصُلب بالمدينة سنة ٩٤ هـ .
انظر : مقالات الإسلاميّين : ١١٣ ، الحور العين : ١٧٦ ، الأعلام ٨ : ١٠٥ .
(٣) هو شبيب بن يزيد بن نعيم الشيباني النجراني الخارجي ، يكنّى أبا الضحّاك ، كان مع صالح بن مسرح رأس الصفرية ، فلمّا مات صالح أوصى إليه من بعده ، ولد سنة ٢٦ هـ ، وغرق في نهر الأهواز سنة ٧٧ هـ .
وأكثرهم يقولون : لا محرّم سوى ما في قوله تعالى : «قُلْ لاَ أَجِدُ فىِ مَا أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّماً» (١) الآية ، وإنّ ما سوى ذلك كلّه حلال .
وقال بعض فِرَقهم : إنّ الإمام إذا كفر كفرت الرعيّة الغائب منهم والشاهد ، وإنّ الرجل إذا أوقع حراماً ولم يعلم تحريمه فقد كفر .
وكذا قال هؤلاء البعض منهم بما مرّ في المفوّضيّة من قولهم : إنّ اللّه تعالى فوّض إلى العباد ، وليس له في أعمال العباد مشيئة .
وفيهم مذاهب اُخرى متناقضات بحيث تبرّأ بعضهم من بعض ، حتّى قال بعضهم بتكفير من حصل له السكر ولو بالشراب الحلال (٢) .
ثمّ إنّ منهم : العجاردة أصحاب عبد الكريم بن عجرد (٣) ، وهؤلاء كالنجدات في مذاهبهم وبدعهم إلاّ أنّهم تفرّدوا ببعض الأشياء كإنكارهم كون سورة يوسف من القرآن ، وتكفير الأطفال حتّى يدعى إلى الإسلام ، ووجوب الدعاء إليه إذا بلغ ، وأمثال ذلك (٤) .
__________________
انظر : المعارف : ٤١٠ ، مقالات الإسلاميّين : ١١٥ ، وفيات الأعيان ٢ : ٤٥٤ / ٢٨٨ ، الأعلام ٣ : ١٥٦.
(١) سورة الأنعام ٦ : ١٤٥ .
(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٢٥ ـ ١٢٧ .
(٣) هو عبد الكريم بن عجرد ، أحد رؤوس الخوارج ، وهو كبير الطائفة المعروفة بالعجاردة ، وافق النجدات في بدعهم ، وقد اختلف في مبدأ أمره ، فقيل : إنّه من أصحاب عطيّة بن الأسود الحنفي ، وقيل : إنّه ينتسب إلى رجل يسمّى أبا سعيد ، ثمّ خالفه ، ولم يذكروا شيئاً عن وفاته أو غيرها .
انظر : مقالات الإسلاميّين : ٩٣ ـ ٩٥ ، الحور العين : ١٧١ ، الوافي بالوفيات ١٩ : ٨٣ / ٨٣ .
(٤) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٢٨ ـ ١٢٩ .
ومنهم : الميمونيّة أصحاب ميمون (١) من العجاردة ، وتفرّدوا عنهم بأشياء :
منها : تجويز نكاح بنات البنات وبنات أولاد الإخوة والأخوات ، وأنّ اللّه ليس له مشيئة في معاصي العباد ، وأنّ الخير والشرّ كلّه من العبيد (٢) .
ومنهم : الحمزيّة أصحاب حمزة بن أدرك (٣) ، وهم أيضاً من العجاردة ، وتفرّدوا عنهم بأشياء :
منها : جواز وجود إمامين في عصر واحد ما لم يجمع الكلمة ، ولم يقهر الأعداء (٤) .
ومنهم : الخلفيّة أصحاب خلف الخارجي (٥) ، وهم من خوارج كرمان ومكران ، وخالفوا الحمزيّة من العجاردة في القدر ، وأضافوا القدر خيره وشرّه إلى اللّه ، ولهم مخالفات اُخَر أيضاً (٦) .
__________________
(١) هو ميمون بن خالد ، كان من العجاردة ، وهو من أهل بلخ ، وقد خرج عن العجاردة بسبب ميله إلى القدريّة .
انظر : مقالات الإسلاميّين : ٩٣ ـ ٩٥ ، الحور العين : ١٧١ .
(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٢٩ ، الوافي بالوفيات ١٩ : ٨٣ ـ ٨٤ .
(٣) هو حمزة بن أدرك أو أدرد أو أكرك ، ظهر سنة تسع وسبعين ومائة وغلب على خراسان وسجستان ومكران وقهستان وكرمان ، وكان له أتباع كثيرون ، وله معارك كثيرة مع بعض فِرَق الخوارج . . . وعاث في الأرض فساداً لا يقف في طريقه أحد إلاّ استحلّ دمه .
انظر : مقالات الإسلاميّين : ٩٣ ، الحور العين : ١٧١ .
(٤) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٢٩ ـ ١٣٠ .
(٥) كما في مقالات الإسلاميّين : ٩٣ ، والملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٣ ، والوافي بالوفيات ١٩ : ٨٤ ، ولم نجد فيها أكثر ممّا ذكره المؤلّف .
(٦) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٣٠ .