تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦١

ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١)

____________________________________

[٢٠٨](ما أَغْنى عَنْهُمْ) أي ما أفادهم (ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) أي مدة متعتهم وبقائهم في الحياة ، وفي هذا تنبيه على أنهم وإن أخّر عنهم العذاب لكن إذا أتاهم ، لم يكونوا يأبهون بما متعوا به في الحياة ، فإن النعيم إذا زال ، كان كأن لم يكن ، ولم تنفع تلك المدة الطويلة من التنعم في التخفيف من العذاب.

[٢٠٩](وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) «من» لزيادة التعميم (إِلَّا) و (لَها مُنْذِرُونَ) فليخف هؤلاء أن يهلكهم الله سبحانه ، إذ أرسلت إليهم النذر فلم يؤمنوا.

[٢١٠] فقد أرسلنا المنذرين (ذِكْرى) أي لأجل تذكرهم بفساد عقيدتهم وعصيانهم فلما أبوا الإطاعة أهلكناهم (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) لهم في عقابهم ، بل لقوا جزاء كفرهم وظلمهم.

[٢١١] وقد كان المشركون يجعلون القرآن من قسم الكهانة التي تنزل بها الشياطين ، فجاءت الآية في مقام ردّهم ، إذ لو كانت كهانة لقدر على مثلها سائر الكهان (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ) أي بالقرآن (الشَّياطِينُ) يقال تنزل به إذا نزل معه.

[٢١٢](وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) أي إنزال القرآن ، إذ الشيطان يأمر بالفساد والكفر والمنكر ، فلا يلائمه الإصلاح والإيمان والمعروف (وَما يَسْتَطِيعُونَ) لأنه خارج عن قدرة المخلوق ، والله سبحانه يحرس الإعجاز عن قدرة

٨١

إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)

____________________________________

غيره تعالى ، نعم يتمكن الشيطان أن يأتي بالخارقة المفضوحة كونها ليست آية ، كما تفل مسيلمة في بئر ـ لينبع الماء ـ فجف.

[٢١٣](إِنَّهُمْ) إن الشياطين (عَنِ السَّمْعِ) أي استماع القرآن وتلقيه من قبل الله سبحانه (لَمَعْزُولُونَ) فلا يتمكنون أن يتلقوه من الله ليأتوا به إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل الذي يسمعه هو جبرائيل ، أو المراد أن الشيطان لا يسمح له باستماع ما في الملأ الأعلى ، إذ يرصد هناك بالشهب ، فكيف يتمكنون من تلقي القرآن والإتيان به.

[٢١٤] وإذ قد تبين لك الحق (فَلا تَدْعُ) يا رسول الله ، ولا بدع في توجه هذا الكلام إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن جميع الأوامر والنواهي متوجهة إليه بلا إشكال وفي جملتها هذا النهي (مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) كما يفعله المشركون (فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) أي تعذب بهذا العمل ، وتكون في جملة من عذبوا.

[٢١٥](وَأَنْذِرْ) يا رسول الله (عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) إليك ، وإنما خصوا بالذكر ، لأجل لزوم الاهتمام بالعشيرة أكثر من سائر الناس ، فإنهم إن آمنوا كانوا عونا ومساعدين ، وإن لم يؤمنوا كانوا أقوى الأعداء ، وأشد الألداء ، وقد ورد أن هذه الآية نزلت بمكة فجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني هاشم وهم أربعون رجلا كل واحد منهم يأكل كثيرا ويشرب القربة فأمر عليا برجل شاة فأدمها ثم قال : ادنوا بسم الله فدنى القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا ، ثم دعا بعقب من لبن فجرع منه جرعة ثم قال لهم : اشربوا باسم الله ، فشربوا حتى رووا فبدرهم أبو لهب فقال هذا

٨٢

وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨)

____________________________________

ما سحركم به الرجل فسكت صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ ولم يتكلم ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك الطعام والشراب ، ثم أنذرهم رسول الله فقال : يا بني عبد المطلب إني نذير إليكم من الله عزوجل والبشير فأسلموا وأطيعوني تهتدوا ، ثم قال : من يؤازرني ويكون وصيي بعدي وخليفتي في أهلي ويقضي ديني؟ فسكت القوم فأعادها ثلاثا؟ كل ذلك يسكت القوم ، ويقول عليّ عليه‌السلام أنا ، فقال في المرة الثالثة : أنت ، فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب أطع ابنك ، فقد أمّر عليك (١).

[٢١٦](وَاخْفِضْ جَناحَكَ) أصل خفض الجناح ، أن يسفل الطائر جناحه أمام والديه تواضعا واستعطافا. ثم استعمل بمعنى التواضع واللين وحسن الخلق (لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فتواضع لهم ، وألن جانبك نحوهم.

[٢١٧](فَإِنْ عَصَوْكَ) أي خالفوك أقاربك ولم يؤمنوا (فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) من عبادة الأصنام وإتيانكم لسائر المعاصي والآثام.

[٢١٨](وَتَوَكَّلْ) يا رسول الله ، أي فوض أمرك (عَلَى الْعَزِيزِ) الغالب بعزته على الكفار (الرَّحِيمِ) بالمؤمنين ، فلا يهونك إعراض قومك وعشيرتك عن الإيمان.

[٢١٩](الَّذِي يَراكَ) أي يحيط علمه بك ، أو ينظر إليك (حِينَ تَقُومُ)

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٣٨ ص ٢٢٠.

٨٣

وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ

____________________________________

بالدعوة وتصدع بالبلاغ ، فإنك على عينه ، ومن رعته عين الله سبحانه لا بد وأن ينجح في مرامه.

[٢٢٠](وَ) يرى (تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أي تصرفك بالذهاب والمجيء ، والتنظيم والتحريض والتعليم في جماعة المؤمنين الذين يسجدون لله ، وأتى بالسجود لأنه غاية الخضوع ، وهو من سمات المؤمنين ، وقد روي في تفسير هذه الآية عن الباقر عليه‌السلام : الذي يراك حتى تقوم بالنبوة وتقلبك في الساجدين أي في أصلاب النبيين (١).

وروي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام قالا : في أصلاب النبيين نبي بعد نبي حتى أخرجه من صلب أبيه نكاح غير سفاح من لدن آدم عليه‌السلام (٢).

[٢٢١](إِنَّهُ) تعالى (هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالك (الْعَلِيمُ) بأحوالك فتوكل عليه يكفيك كل مهمة.

[٢٢٢] وحيث نفى سبحانه أن ينزل على الرسول الشيطان ، أراد إثبات ذلك بالنسبة إلى الكفار المفترين عليه (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) أي هل أخبركم أيها الناس (عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ)؟ للوسوسة وإلقاء الباطل.

[٢٢٣](تَنَزَّلُ) أصله «تتنزل» حذفت إحدى تاءيه للقاعدة في باب المضارع إذا اجتمع عليه تاءان (عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ) مبالغة من الإفك ، وهو

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩ ص ٢٢٩.

(٢) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٢٠٣.

٨٤

أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥)

____________________________________

الكذب ، أي كل إنسان يكذب كثيرا (أَثِيمٍ) آثم آت بالمعصية.

[٢٢٤](يُلْقُونَ السَّمْعَ) أي أن الشياطين يلقون ما يسمعونه من هنا وهناك إلى الكهنة والأفاكين (وَأَكْثَرُهُمْ) أي أكثر الشياطين (كاذِبُونَ) لأنهم يكذبون عمدا ، بالإضافة إلى أنهم يتلقون كلما وصل إليهم من صدق الأخبار وكذبها ، فمثلا يسمع الشيطان من قصّاص في الروم قصة حول خلقة آدم ، فيلقيها على الكاهن ، وهكذا.

[٢٢٥] وقد كان بعض الكفار يرمون الرسول بأنه شاعر ، ولما أبطل السياق كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاهنا ـ كما كان يقول بعض ـ جاء لإبطال كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاعرا (وَ) الرسول ليس بشاعر إذ (الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) من غوى بمعنى ضل ، أي أن المنحرفين هم الذين يتبعون الشعراء ، ولا يتبع الرسول إلا كل مؤمن مهتدي ، فكيف يمكن أن يقال عنه : إنه شاعر؟ وهذا أبلغ من أن يقال : إن الشعراء أهل الغواية والفساد والهوى ، إذ تبعية الغاوي لأحد ، يدل على شدة الغواية في المتبوع.

[٢٢٦](أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، أو كل من يتأتى منه الرؤية (أَنَّهُمْ) أي الشعراء (فِي كُلِّ وادٍ) أي في كل طريق من طرق الضلال والهوى والفسق والفحش (يَهِيمُونَ) أي يذهبون هائمين ، كالهائم الحيران في الصحراء الذي لا يعلم أين يذهب وماذا يريد؟ وهكذا الشعراء ، فمرة يمدحون ، ومرة يذمون ، ومرة يشببون ، ومرة يكذبون في بطولاتهم ،

٨٥

وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)

____________________________________

وفسقهم ومجونهم وهكذا.

[٢٢٧](وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ) حول بطولات وفسوق وترغيب وتحريض وتنقير وإنذار (ما لا يَفْعَلُونَ) من تلك الأمور التي ينسبونها إلى أنفسهم ، والرسول بالعكس من ذلك كله فهو يمشي وفق منهج مستقيم ذي فضيلة وعدل وإحسان ، وإنه لا يكذب وإنما يفعل ما يؤمر به ، وينتهي عما يزجر عنه.

[٢٢٨] ثم استثنى سبحانه عن هذا العموم الشاعر الذي ليس كذلك ، فإن الشعر ليس مذموما لذاته ، وإنما هو مذموم لهذه الاعتبارات المذكورة في الآية السابقة ، ولذا قال سبحانه (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من الشعراء (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) حتى لم يشغلهم الشعر إلى نسيان الله سبحانه ، حتى يكذبوا ويفعلوا ما لا يليق بالمؤمنين (وَانْتَصَرُوا) من المشركين ، للرسول والمؤمنين (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) أي ظلمهم الكفار بسبهم وهجائهم في الشعر ونحوه (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) عند الموت ، أو في القيامة (أَيَّ مُنْقَلَبٍ) أي مرجع ويسمى المرجع والمصير المنقلب ، لانقلاب الإنسان من حاله إلى ذلك المحل (يَنْقَلِبُونَ) ويصيرون إليه ، وهذا تهديد لهم ، ولذا كان أمير المؤمنين عليه‌السلام وكثير من أولاد المعصومين عليهم‌السلام يقولون الشعر ، كما وردت بذلك متواتر الروايات.

٨٦

(٢٧)

سورة النمل

مكيّة / آياتها (٩٤)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «النمل» وقصة منهم ، وهي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة ، وإذ كان موضوع القرآن ، من أخريات مواضيع سورة الشعراء ، افتتحت هذه السورة بذكر القرآن.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١](بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أستعين ، أو نستعين باسم الإله ، وتخصيص «الله» بالذكر ، بأنه علم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال ، وما أجدر أن يجعله الإنسان أول عمله ، وأن يستعين به في أموره ، فإنه هو الرحمن الرحيم ، المتفضل بالرحم ، وقد ذكر أهل المعنى أن التكرار في ذكر اسم من أسماء الله سبحانه ، ليستعطف فضله في توصفه الإنسان بذلك القبيل من الوصف ، فالمكرر لاسم «الغنيّ» يثرى ، ولاسم العطوف يعطف ، وهكذا ، وهذا صحيح فإن علم النفس يقر إن للتكرار إيحاء على النفس.

٨٧

طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ

____________________________________

[٢](طس) «طاء» و «سين» وهما نموذج من حروف الهجاء (تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ) ف «طس» مبتدأ ، و «تلك» خبره ، وهذا أحد الأقوال في المسألة ، أو هي رموز بين الله وبين خاتم الأنبياء ، كما ورد على قول آخر ، أو غير ذلك مما تقدمت الإشارة إلى بعضها (وَكِتابٍ مُبِينٍ) أي واضح ظاهر لا غموض فيه ولا التواء ، وإنما أتى بوصفين للدلالة على أنه يقرأ ويكتب ، ولعلّه إشارة إلى لزوم الاحتفاء بالقرآن من جميع النواحي ، فإنه للكتابة والقراءة.

[٣](هُدىً) أي في حال كونه هداية إلى طريق الحق (وَبُشْرى) أي بشارة بالثواب والسعادة (لِلْمُؤْمِنِينَ) به فإنهم هم الهادون المبشرون أما غيرهم فإنهم ضالون منذرون.

[٤](الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) بإتيانها في أوقاتها مع شرائطها وآدابها ويداومون عليها (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) يعطونها ، والمراد الزكاة المستحبة أي الصلاة والصدقات ، لأن السورة مكية ولم تفرض هناك الزكاة ، أو المراد الأعم باعتبار التشريع مستقبلا (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي بالنشأة الآخرة من سؤال القبر والبعث والجزاء وغيرها (هُمْ يُوقِنُونَ) أي لا يشكون ، فهم معترفون بالمعاد ، وتكرار «هم» لعلّه لإفادة أن غير مقيم الصلاة ومؤتي الزكاة لا يوقن بالآخرة ، وإن اعترف لسانا بها.

[٥](إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وأعرضوا عن قبول الإيمان ، فإن الإيمان

٨٨

زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ

____________________________________

بالآخرة يلازم الإيمان بسائر أصول الاعتقاد (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) بأن جعلنا الإنسان بحيث إذا تكرر منه شيء زيّن في نظره للملكة الحاصلة له من التكرار ، فإنهم لما وقفوا في الصف المقابل للمؤمنين وعملوا بالكفر والمعاصي وتمادوا فيها ، حصلت لهم ملكة حسب أعمالهم تدريجيا ، حتى ترسخت الرغبة قلوبهم ، ومن المعلوم أنّ الله خلق البشر هكذا ، فيصبح نسبة التزيين إليه تعالى ، باعتبار أنه الخالق والسبب الأول ، أو باعتبار عدم الضرب على أيديهم ، كما يقال أفسد الملك اللص الفلاني ، بمعنى أنّه لم يضرب على يده ولم ينتقم منه ، ومن المعلوم أن التزين لأعمالهم في نظرهم لا ينافي أنهم يعلمون بطلان طريقتهم ، كما نشاهد الفساق المنصفين يعترفون بأن أعمالهم باطلة ، مع أن العمل مزين في نظرهم ، حتى لا يتمكنون بسهولة من مفارقتها (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) العمه عمى القلب ، أي يمشون في المعاصي ، كما يمشي الإنسان الأعمى في الطريق ، لا يهتدي سبيلا.

[٦](أُوْلئِكَ الَّذِينَ) لم يؤمنوا بالآخرة (لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) أي العذاب السيئ وهو عذاب النار (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي في الدار الآخرة (هُمُ الْأَخْسَرُونَ) إذ لم يربحوا شيئا وقد خسروا أنفسهم ، حيث ألقوها في العذاب والنار الأبدية ، والمراد ب «الأخسر» إما التفضيل باعتبار أنهم أكثر خسارة من العصاة ، وإما منسلخ عن معنى التفضيل في مقابل أهل الجنة ، فالمعنى هم الخاسرون.

[٧](وَإِنَّكَ) يا رسول الله ، لست كما يقولون إن قرآنك شعر أو كهانة ، بل

٨٩

لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧)

____________________________________

(لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) أي لتعطى القرآن ، والتلقي الأخذ (مِنْ لَدُنْ) أي من طرف إله (حَكِيمٍ) في أمره يفعل الأشياء حسب المصالح ويضع الأمور في مواضعها (عَلِيمٍ) عالم بالأشياء ، ولا تلازم بين الوصفين خارجا ، ولذا جيء بهما ، إذ رب عالم لا حكمة له ، أو رب حكيم لا علم له.

[٨] ثم يأتي السياق لينقل طرفا من قصة موسى عليه‌السلام تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتنبيها للكفّار على عاقبة المجرمين ، وقد تكررت هذه القصة في القرآن الحكيم ، لكن بمزايا وخصوصيات وملامح مختلفة ، فاذكر يا رسول الله (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ) أي زوجته بنت شعيب لما رجع من بلاده يقصد مصر ، وقد كان وحيدا في الصحراء في ليلة مظلمة ، وأخذ زوجته الطلق ، وضل الطريق (إِنِّي آنَسْتُ) أي أبصرت ، ما يؤنس ويفرح فقد رأيت (ناراً) فقد رأى من بعيد ما يشبه النار في شجرة (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) فالزموا مكانكم ، حتى أذهب وأجيء بخبر النار هل يمكن الاستفادة منها أم لا؟ وإنها لمن؟ لعلنا نتمكن أن نذهب إلى أصحابها ليعاونونا في مشكلتنا (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) أي بشعلة منها ، والشهاب قطعة منها وقبس بمعنى الشيء الذي يؤخذ ويقتبس (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) والاصطلاء الاستدفاء بالنار ، من صلّى ، وأصله «اصتلى» بالتاء ، قلبت «طاء» على قاعدة باب التفعيل وإنما أتى بالضمائر جمعا ، مع أن المراد زوجته فقط ، إما تعظيما ، أو لما سبق ،

٩٠

فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)

____________________________________

من أن كلا من الجمع والجنس يقوم مقام الآخر ، فيراد من الجمع الواحد فما فوق ، ومن الجنس ، الجمع.

[٩](فَلَمَّا جاءَها) أي جاء موسى عليه‌السلام نحو النار ووصل إليها (نُودِيَ) من قبل الله سبحانه ، والمنادي إما هو الله سبحانه ، بأن خلق صوتا سمعه موسى عليه‌السلام ، أو بعض الملائكة بإذنه سبحانه (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) ولم يكن ما رآه موسى عليه‌السلام نارا ، وإنما هو نور يتراءى كالنار ، والذين كانوا فيها هم الملائكة والأرواح الطاهرة ، والذين كانوا حولها هم موسى والملائكة الحافين بها وبه عليه‌السلام ، والمراد بالبركة هي الخير الكثير ، والمعنى أن موسى والملائكة أنعموا ـ بتفضيل الله لهم ـ ومنحوا الخير الكثير الدائم ، ولعلّ ظهور النار لأجل الإشارة إلى الهداية ، فكما يهدي الضياء الحائر إلى الطريق ، كذلك تهدي الرسالة الناس إلى السعادة ، والظاهر أن قوله «أن بورك» دعاء بهذا اللفظ ، وهو تبريك بالرسالة ، كما يبارك الإنسان من يظفر بمنصب أو نعمة (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) سبحان منصوب على تقدير فعل محذوف أي أسبح وأنزه الله تنزيها ، ولعل الإتيان بهذه الجملة هنا ، لإفادة أن أول الإيمان هو تنزيه الله من الشرك ، أو لأجل دفع أن يتوهم أن الله جسم موجود في تلك النار ، وهو الذي يتكلم بفمه ولسانه.

[١٠](يا مُوسى إِنَّهُ) أي المتكلم (أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ) الغالب في سلطانه القاهر لأعدائه (الْحَكِيمُ) الذي يفعل كل شيء بالحكمة والصلاح.

٩١

وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ

____________________________________

[١١](وَأَلْقِ) أي اطرح من يدك (عَصاكَ) فلقد كانت في يده عليه‌السلام عصا ، فألقاها فصارت حية (فَلَمَّا رَآها) موسى عليه‌السلام ، وإتيان الضمير مؤنثا ، لكون العصي مؤنث سماعي (تَهْتَزُّ) أي تتحرك بشدة ، (كَأَنَّها جَانٌ) وهي الحية الصغيرة ، والمراد أنها في خفة حركتها ـ مع عظم جثتها ـ كالحيّة الصغيرة التي تتحرك بكل سرعة وخفّة (وَلَّى) موسى عليه‌السلام (مُدْبِراً) فجعل يركض إلى الوراء خوفا منها (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي لم يرجع ولم يلتفت ، فكأنّ الراجع والملتفت يعقب الأمر السابق ، بخلاف الماشي في طريقه الذي لا يلتفت ، ولعلّ إلقاء هذا الخوف في قلب موسى عليه‌السلام كان لحكمة التدريب على تحمل المشاق فإن الإنسان ينضج بسبب المخاوف والأتعاب ، فيكون أصلح لإدارة دفة الحياة.

وهناك خوطب بقوله سبحانه (يا مُوسى لا تَخَفْ) من هذه الحية (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) فإنهم بعين الله سبحانه ، ومعنى «لديّ» لدى لطفي بهم وعنايتي لهم وهذا الكلام كان تمهيدا لتقوية قلب موسى حتى يلاقي المكذبين والمهددين برباطة جأش وقلب قويّ غير وجل.

[١٢](إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) استثناء منقطع ، وقد ذكرن ا أن مثل هذا الاستثناء إنما يؤتى به بملاحظة انسلاخ المستثنى منه عن القيد ، فكأنه قال «إني لا يخاف لدي أحد» «إلّا من ظلم» «أما المرسلون فلا يخافون» (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) أي تاب ـ وهو حسن ـ بعد العصيان ـ وهو سوء ـ

٩٢

فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢)

____________________________________

فإنه يخاف أن لا يغفر ذنبه ، وخصص الخوف بهؤلاء ، لأن من لم يسيء ، ومن أساء ولم يتب ، لا يخافان فإن الأول لا موجب لخوفه ، والثاني لا يعترف وإلّا تاب ، وغير المعترف لا يخاف ، وفي الكلام انتقال من الخوف من الأسباب الخارجية ـ كالحيّة ـ إلى الخوف من عذاب الله وانتقامه ومن تاب بعد العصيان (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) أغفر ذنبه ، وأتفضل عليه وهو فوق الغفران ، فإنك قد تغفر للمذنب ثم تعطيه فوق ذلك دينارا ، وكان هذا الكلام «إلا من ظلم ... إلى آخره» تمهيد لحال الكفار والعصاة الذين يرسل إليهم موسى عليه‌السلام وتعليم لموسى بأنّ الله غفّار لمن تاب.

[١٣](وَأَدْخِلْ) يا موسى (يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) وهو شق الثوب الأعلى طرف الحلق ، فكان يدخل يده من الشق ، ويجعلها تحت إبطه (تَخْرُجْ) اليد حين تخرجها (بَيْضاءَ) مشرقة كالشمس (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي من غير أن يكون البياض من أجل المرض والبرص ، وهي آية أخرى زوّد بها موسى عليه‌السلام حجة على نبوته (فِي تِسْعِ آياتٍ) أي إنا أرسلناك في تسع معجزات ، والإتيان ب «في» لتشبيه الإنسان الحائز لها ، بالّذي في وسط الشيء ، لأنها تحيط بها وتحرسها وكأنّها مشتملة عليه كما يقال جاء فلان في جلالة (إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) القبط الكافرين بالله وباليوم الآخر (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي خارجين عن طاعة الله سبحانه ، وأمره ، من فسق بمعنى خرج.

٩٣

فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)

____________________________________

[١٤] فذهب موسى إلى فرعون بتلك الآيات ، وأظهرها له (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ) أي جاءت فرعون وقومه (آياتُنا) معاجزنا التي زودنا بها موسى عليه‌السلام (مُبْصِرَةً) أي في حال كون تلك الآيات تبصّر عن العمى ، وتهدي السبيل (قالُوا هذا) الذي جئت به يا موسى (سِحْرٌ مُبِينٌ) واضح ظاهر ، فليس ما جئت به إعجازا ، وإنما هو سحر.

[١٥](وَجَحَدُوا) أي أنكر آل فرعون (بِها) أي بالآيات والباء في «بها» من قبيل «الباء» في (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) (١) كما تقدم في تفسير الآية (وَاسْتَيْقَنَتْها) أي علموا أنها معاجز علم يقين (أَنْفُسُهُمْ) فاعل استيقنتها أي تيقنت نفوسهم بالآيات ، وإنما جيء بلفظ «أنفسهم» للدلالة على رسوخ اليقين والاطمئنان في النفوس ، وإنّما جحدوا بعد اليقين (ظُلْماً) على أنفسهم بالكفر ، وعلى بني إسرائيل الذين اضطهدوهم (وَعُلُوًّا) أي طلبا للعلو والرفعة وتكبرا (فَانْظُرْ) يا رسول الله ، أو كل من يتأتّى منه الرؤية ، والمراد رؤية القلب (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي فرعون وقومه الذين أفسدوا بالكفر والعصيان فقد كانت عاقبتهم أن أغرقهم الله سبحانه في البحر ، حتى لم تبق منهم باقية ، وأورث أرض مصر بني إسرائيل ، وجعل كلمته هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى.

__________________

(١) الفرقان : ٦٠.

٩٤

وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ

____________________________________

[١٦] ثم يأتي السياق لبيان قصة داود وسليمان وهما من أنبياء بني إسرائيل بعد موسى عليه‌السلام ، وإذ شاهدنا بعض قصص موسى فلنشاهد بعض قصص هذين النبيين العظيمين ، مع الارتباط لما ذكر هنا بموضوع العقيدة ارتباطا وثيقا (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (داوُدَ وَسُلَيْمانَ) وهو ابن داود عليهما‌السلام (عِلْماً) أي علما عظيما ، ومن جملة علومهم كان علم الحكومة والفصل في القضايا (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا) بالرسالة والعلم وسائر الأمور (عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) وإنما قالوا «على كثير» لأن جملة من عباد الله المؤمنين ـ وهم جماعة من الأنبياء ـ مساوون لهما أو أفضل منهما.

[١٧](وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) في الأمور المعنوية والمادية ، وبهذه الآية استدلت الصديقة الطاهرة عليها‌السلام ، على أن الأنبياء عليهم‌السلام يورثون في مقابل الحديث المختلف الذي نسبوه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذبا وزورا ب «إنا ٢ معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة» (وَقالَ) سليمان عليه‌السلام على وجه الشكر والاعلام (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أي نطقها ، فإن الطيور تتكلم بعضها مع بعض ، وقد منح الله سبحانه فهم نطقها لسليمان عليه‌السلام والمنطق مصدر ميمي بمعنى النطق (وَأُوتِينا) أي أعطينا (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ما يحتاج إليه الأنبياء عليهم‌السلام والملوك ، من العلم والقدرة والمال والجاه وغيرها (إِنَّ هذا) الذي منحنا الله سبحانه (لَهُوَ الْفَضْلُ

٩٥

الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها

____________________________________

الْمُبِينُ) الظاهر الذي تفضل علينا به.

[١٨](وَحُشِرَ) أي جمع (لِسُلَيْمانَ) عليه‌السلام ، في ذات يوم (جُنُودُهُ) فقد أحضر الجميع بخدمته (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ) فقد كان الجميع مسخرين له بأمر الله سبحانه وقدرته (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يمنعون ، ويحبس أولهم عن المضي ليلحقه الأخير من الجيش فيجتمعون ، من وزع بمعنى منع ، يقال ليس لفلان وازع ، أي مانع يمنعه عن العمل الفاسد.

[١٩](حَتَّى إِذا أَتَوْا) سليمان مع الجنود (عَلى وادِ النَّمْلِ) إضافة إلى النمل لكثرة النمل في ذلك الوادي (قالَتْ نَمْلَةٌ) والتاء للوحدة كتمرة وتمر ، وشجرة وشجر (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) وجحوركم (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) التحطيم التكسير والتهشيم أي لا يكسرنكم ولا يدوسكم بالأقدام (سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ولا يلتفتون إلى تحطمكم فإن الإنسان لا يبالي بتحطيم النمل وصغار الحيوان ، ويظهر من هذا أنهم كانوا ركبانا ومشاة ، لا محمولين على الريح في الهواء.

[٢٠] وشاء الله سبحانه أن يسمع سليمان كلام النملة (فَتَبَسَّمَ) سليمان (ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) التبسم هو مقدمة الضحك ، فإنه ضحك خفيف ، والإتيان بضاحكا ، لإفادة أنه عليه‌السلام ضحك ضحكا كثيرا لكن على نحو

٩٦

وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ

____________________________________

التبسم لا على نحو القهقهة ، وإنما ضحك عليه‌السلام أن الإنسان إذا سمع أو رأى ما لا عهد له به أخذه التعجب ثم الضحك ، ثم توجه إلى الله سبحانه شاكرا لهذه النعمة التي أنعمها عليه بتعريفه منطق الحيوانات (وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي ألهمني من وزع بمعنى كفّ والمعنى اجعلني أزع شكر نعمتك أي أكفّه وامنعه أن يذهب عني فلا أنفك عنه (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ) والمراد بالنعمة الجنس فإن سماع كلام النملة ذكّره بنعم الله عليه ، كما إن الإنسان إذا رأى نعمة تذكر سائر النعم (وَعَلى والِدَيَ) فقد أكرمت أبي بالنبوة والحكمة وفصل الخطاب وأن الحديد كان يلان في يده وأكرمت أمي بأن جعلتها زوجة نبي ووالدة نبي بما كان لها من الطهارة والنزاهة (وَ) ألهمني (أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً) أي عملا صالحا ، والمراد به الجنس ، نحو ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، والسرّ في ذلك أن لفظ المفرد له جهتان جهة المادة وجهة الأفراد ، فقد يراد الأولى فيفيد الجنس ، وقد يراد الثانية مع الأولى فيفيد الفرد (تَرْضاهُ) بأن يكون صلاحه من هذا النوع الذي أنت ترضاه ، لا صلاحا ـ بنظر الناس ـ ولكنك لا ترضاه (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ) يا رب (فِي عِبادِكَ) أي في جملة (الصَّالِحِينَ) بأن أكون في جملتهم في الدنيا والآخرة.

[٢١] ثم ينتقل السياق إلى قصة أخرى من قصص سليمان عليه‌السلام (وَ) في ذات يوم (تَفَقَّدَ) سليمان عليه‌السلام (الطَّيْرَ) أي تعرّف على أحوال

٩٧

فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ

____________________________________

الطيور ليرى أيها حاضر وأيها مفقود ، فلم يجد الهدهد من بينها (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) أي ما للهدهد لا أراه ، وكان هذا تعبير مؤدّب ، حتى كأن الإنسان أصابه شيء ـ كغفلة أو ذهول أو جهل ـ حتى لا يرى ما يطلبه ، وإن كان المطلوب حاضرا (أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) فهو غائب حتى لم أره ، والمعنى أني لا أراه مع حضوره ، أم إنه غائب ولذا لا أراه؟

[٢٢](لَأُعَذِّبَنَّهُ) أي أعذبن الهدهد (عَذاباً شَدِيداً) كنتف ريشة (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) جزاء لغيبته بدون رخصة ، فيعتبر بذلك أبناء جنسه (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي) أي يجيء إليّ (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة واضحة ظاهرة تبين عذره في غيبته بدون رخصة ، وإنما تسمى الحجة ، سلطانا ، لأنها تسيطر على الخصم فلا مفلت له منها.

[٢٣](فَمَكَثَ) أي لبث سليمان مكثا (غَيْرَ بَعِيدٍ) في المدة ، أي انتظر زمانا يسيرا قليلا ، وقد رأى الهدهد راجعا ، (فَقالَ) لسليمان (أَحَطْتُ) أي علمت ، ويقال للعلم إحاطة ، لأنه يحيط بالمعلوم ، ونسبة الإحاطة إلى الشخص من باب علاقة الحال والمحل ، إذ الإنسان وعاء العلم (بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أنت يا سليمان ، وكأنّه أراد بذلك أن يبدي عذره في غيبته وأنه لم يشتغل بأمر نفسه ، وإنما كانت غيبته لأجل الفحص والبحث في أطراف ملك سليمان ، كجولة استطلاعية يريد بها خير سليمان عليه‌السلام لا خير نفسه

٩٨

وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ

____________________________________

(وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) وهي مدينة في اليمن ، سميت باسم رجل كان يسمى «سبأ» لسكونة أولاده فيها «بنبإ» أي بخبر ـ متعلق ب «جئتك» (يَقِينٍ) لا كذب فيه.

[٢٤](إِنِّي وَجَدْتُ) في ذلك البلد (امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) أي أنها ملكة عليهم ، ومراده بالمرأة «بلقيس» ومعنى تملكهم تتصرف فيهم تصرف الملّاك في أملاكهم (وَأُوتِيَتْ) أي أعطيت (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه الملوك ، من المال والجلال والجاه ونفوذ الكلمة وما أشبهها (وَلَها عَرْشٌ) أي كرسي تجلس عليه (عَظِيمٌ) وبعد ما ذكر الهدهد ملكها بين دينها.

[٢٥] قال (وَجَدْتُها وَقَوْمَها) أي أتباعها (يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) فلا يسجدون لله سبحانه ، وإنما سجدتهم للشمس (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) حيث أن الشيطان هو الذي يوحي ويوسوس إلى الكفار والعصاة بكفرهم وعصيانهم (فَصَدَّهُمْ) أي منعهم (عَنِ السَّبِيلِ) الحق ، وهو سبيل الدين ، وسبيل الله سبحانه (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) إلى السبيل حيث إن الشيطان منعهم عنه.

[٢٦] فقد منعهم عن السبيل لكي (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ)

٩٩

فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ

____________________________________

أي المخفي من الأشياء (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإن المخلوقات كلها مخفية في كتم العدم وإنما يخرجها الله سبحانه إلى الوجود ، ولعلّ توصيف الهدهد ، لله سبحانه بهذا الوصف ، لأجل أنه سبحانه زوده بنظر حادّ يرى به الماء تحت الأرض كما يرى الإنسان الماء في القارورة (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ) في أنفسكم ، وفي أسراركم ، ومن مخابئ في الأرض (وَما تُعْلِنُونَ) من الكلام ومن سائر الأشياء.

[٢٧](اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا شريك له ، من شمس أو غيرها (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي الملك العظيم ، الذي وسع كرسيّه السماوات والأرض ، فما ذكرته من كون عرش بلقيس عظيم ، إنما هو عظيم بالنسبة إلى عروش الدنيا ، أما العرش العظيم الذي هو أعظم من كل شيء فهو عرش الله سبحانه ، وقد يحتمل أن يكون هذا من كلام سليمان ، أو من كلامه تعالى في القرآن.

[٢٨] ولما أخبر الهدهد سليمان عليه‌السلام بهذا الخبر (قالَ) سليمان (سَنَنْظُرُ) في قولك ونبحث عن خبرك لنرى (أَصَدَقْتَ) في مقالك (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ)؟ أي في جملتهم ومنهم.

[٢٩] ثم كتب سليمان عليه‌السلام كتابا يأمر فيه بلقيس بالإيمان وبأن تسافر إليه وأعطاه إلى الهدهد ليوصله إليها وقال له (اذْهَبْ) يا هدهد (بِكِتابِي هذا) الذي كتبته (فَأَلْقِهْ) أي اطرحه

١٠٠