تفسير الصراط المستقيم - ج ١

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٠

بيّنة.

(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (١) ، (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٢) ، (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) (٣).

ومنها الحكم والحكمة والحكيم والمحكم.

فالأوّل : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) (٤) وإن أطلق أيضا على الكمال في العلم والعمل في قوله تعالى : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (٥) ، (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) (٦).

وعلى الحكم بين النّاس في قوله تعالى : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً) (٧).

وعلى ما يجري به قضاؤه سبحانه في قوله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) (٨).

وعلى الكتاب والحكمة في قوله تعالى في يحيى : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (٩).

والثاني : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) الآية (١٠) على ما روى في (مصباح الشريعة) من تفسير مولانا الصادق (عليه‌السلام) وإن كان أحد الوجوه في الآية قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أي لا يعلم ما أودعت وهيّأت في الحكمة إلا من استخلصته لنفسي وخصصته بها والحكمة هي

__________________

(١) الحاقّة : ٤٨.

(٢) المزمل : ١٩.

(٣) الأعلى : ٩.

(٤) الرعد : ٣٧.

(٥) الشعراء : ٨٣.

(٦) الشعراء : ٢١.

(٧) المائدة : ٥٠.

(٨) القلم : ٤٨.

(٩) مريم : ١٢.

(١٠) البقرة : ٢٦٩.

٣٢١

الكتاب (١) الخبر كما هو أظهر الوجوه أو أحدها في قوله تعالى : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) (٢) ، وقوله تعالى : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) (٣) ، نعم تطلق أيضا على النبوة كقوله تعالى : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (٤) ، (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) (٥) ، (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) (٦).

والثالث : (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) (٧) ، (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) (٨).

والرابع : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) (٩) ، (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (١٠). وهذه المادّة وإن كانت مأخوذة من الإحكام والإتقان أو من حكمة اللجام بالتحريك لما أحاط بحنكي الفرس من لجامه إلّا أنّ المقصود منها العلم بوجه الشيء ، وحقيقته ومن هنا يطلق على النبوّة والعدل والموعظة والكتاب والتورية والإنجيل والعلوم الحقّة والآداب الدينيّة وغيرها مما يرجع الى ما سمعت ولو على بعض الوجوه.

ومنها الهدى بمعنى العلم والهداية وما يهتدي به على وجه الإرائة أو الإيصال أو معا والوجوه مجتمعة في القرآن فإنّه (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (١١) ، (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ

__________________

(١) تفسير الصافي عن القمي ص ٢٢٨ ط. طهران الإسلامية.

(٢) الأحزاب : ٣٤.

(٣) القمر : ٥.

(٤) ص : ٢٠.

(٥) البقرة : ٢٥١.

(٦) النساء : ٥٤.

(٧) آل عمران : ٥٨.

(٨) يس : ٢.

(٩) هود : ١.

(١٠) آل عمران : ٧.

(١١) البقرة : ٢.

٣٢٢

الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١) (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (٢) ولظهور أنوار الهداية منه ظهورا تامّا عامّا متشعشعا قالت الجنّ لمّا سمعته : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) (٣) ، وقالوا أيضا : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤).

ومنها التنزيل (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (٥) ، (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) (٦).

والتفعيل للتكثير لكثرة مراتب نزوله الى أن وصل الى هذا العالم ، وذلك لعلوّ رتبته وارتفاع درجته ، ولذا عبّر بالمصدر المنبئ عن مقام الفعل لا الاسم.

ومنها الروح : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (٧) ، قال مولانا الباقر (عليه‌السلام): إنّه الكتاب والنبوّة (٨).

قلت : وذلك لأنّه يحيى به القلوب الميتة بالجهل وظلمة المعاصي وهو من عالم الأمر لا الخلق وإن تنزل إليه ففي تفصيل لذكر مبدئه ومنتهاه وستسمع تمام الكلام في حقيقة الروح وأقسامه وخصوص روح القدس والروح من أمر الربّ والروح الأمين ، وأنّ القرآن هو الروح من أمر الرّب (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (٩) ،

__________________

(١) النحل : ٨٩.

(٢) الإسراء : ٩.

(٣) الجن : ١ ـ ٢.

(٤) الأحقاف : ٣٠.

(٥) الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٣.

(٦) فصلت : ٢ ـ ٣.

(٧) النحل : ٢.

(٨) الصافي للفيض الكاشاني مرسلا : ص ٨١٦.

(٩) الشورى : ٥٢.

٣٢٣

(نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) (١) ، (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (٢).

ومنها غير ذلك من الألقاب الكثيرة التي أكثرها على وجه التوصيف والتعبير كالبيان : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) (٣) ، على حدّ قولهم زيد عدل لظهور هداياته ودلالاته.

والتبيان : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٤) والمبين : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (٥).

والحبل : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) (٦) ، على أحد الوجوه بل كلّها لاتّحادها في المعنى.

والشفاء والرحمة : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٧) ، (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) (٨) لأنّه شفاء من جميع الأمراض الظاهرة والباطنة التي أعظمها الجهل والنفاق والكفر والفسوق وغيرها من الأمراض النفسانيّة والأخلاق الرذيلة والانحرافات القلبيّة والقالبيّة.

وفي (الكافي) عنهم (عليهم‌السلام) في قوله تعالى : (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) (٩) ، قال : من نفث الشّيطان (١٠).

__________________

(١) النحل : ١٠٢.

(٢) الشعراء : ١٩٣.

(٣) آل عمران : ١٣٨.

(٤) النحل : ٨٩.

(٥) الشعراء : ٢.

(٦) آل عمران : ١٠٣.

(٧) الإسراء : ٨٢.

(٨) يونس : ٥٧.

(٩) يونس : ٥٧.

(١٠) تفسير الصافي ج ١ ص ٧٥٦ ط. الإسلاميّة بطهران ـ النفث شبيه بالنفخ وفي الدعاء : وأعوذ بك من نفث الشيطان وهو ما يلقيه في قلب الإنسان ويوقعه في باله مما يصطاده به.

٣٢٤

وفي الإهليلجة (١) عن الصادق (عليه‌السلام) إنّه شفاء من أمراض الخواطر ومشتبهات الأمور (٢).

وروي العيّاشي عن الصادق (عليه‌السلام) أنّه شكى رجل الى النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وجعا في صدره فقال (عليه‌السلام) استشف بالقرآن إنّ الله يقول : وشفاء لما في الصّدور (٣).

والبصائر : (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) (٤) لأنّه يوجب زيادة البصيرة ونقاوة السريرة إذ كما أنّ للناس أبصارا يدركون ويشاهدون بها الأجسام المحدودة ، الهيولانيّة ، فكذلك لقلوب المؤمنين بصائر يشاهدون بها الأمور المعنويّة والحقائق النورانيّة ولذا قالوا : إنّ لشيعتنا أربعة أعين يعني يدركون بها الحقّ والباطل في الظاهر والباطن.

والعروة الوثقى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) (٥) ، وإرادة الولاية لا تنافيه.

والعليّ الحكيم : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٦) ، على أظهر الوجوه بل أكثرها وهو دليل على كثير ممّا مرّ فتأمّل.

والعزيز : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) (٧) ، ولذا وصف بالعزّة فلا يوجد مثله أو لأنّه قهر غيره من الكتب بالنسخ

__________________

(١) الأهليلجة حديث مرويّ عن المفضّل بن عمر عن الصادق (عليه‌السلام) في التوحيد.

(٢) بحار الأنوار ج ٣ ص ١٥٢ ط. الآخوندي بطهران.

(٣) الأصول من الكافي كتاب فضل القرآن ج ٢ ص ٤٣٩ ط. الإسلامية بطهران.

(٤) الأعراف : ٢٠٣.

(٥) البقرة : ٢٥٦.

(٦) الزخرف : ٤.

(٧) فصلت : ٤١ ـ ٤٢.

٣٢٥

ومن الأعداء بالجزية والمسخ بل قهر كلّ من لم يؤمن ولم يعمل به بذلّة الكفر والجهالة والجزية والخزي في الدنيا والآخرة.

والمهيمن الّذي هو الرقيب الحافظ المؤتمن : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (١) ، لأنّه يحكم به على غيره من الكتب بالنسخ والصحّة والثبات وغيرها ولا يحكم بها عليه.

والطيّب : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) (٢) ، لتنزّهه عن جميع النقصانات والعيوب ، وانتشار نفخات قدسيّة وأنسه في أصقاع القلوب ، واستيلاء سلطان حيطته على أسرار الغيوب.

والقول الفصل : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) (٣) ، لأنّه يفصل بين الحقّ والباطل ، أو أنّه يقضي بالحقّ.

والكريم : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (٤).

قيل : إنّه تعالى سمّى سبعة أشياء بالكريم : سمّى نفسه بالكريم : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (٥) ، إذ لا جواد أجود منه ، وسمّي القرآن بالكريم لأنّه لا يستفاد من شيء من الكتب نحو ما يستفاد منه من الحكم والعلوم والحقائق والمعارف ، وسمّي موسى كريما : (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) (٦) ، سمّي ثواب الأعمال كريما (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) (٧) ، وسمّي عرشه كريما (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ

__________________

(١) المائدة : ٤٨.

(٢) الحج : ٢٤.

(٣) الطارق : ١٣.

(٤) الواقعة : ٧٧.

(٥) الإنفطار : ٦.

(٦) الدخان : ١٧.

(٧) يس : ١١.

٣٢٦

الْكَرِيمِ) (١) ، لأنّه منزل الرحمة ، وسمّي جبرئيل كريما : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (٢) ، ومعناه أنّه عزيز ، وسمّي كتاب سليمان كريما : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) (٣) ، فالقرآن كتاب كريم من ربّ كريم نزل به ملك كريم على رسول كريم لأجل أمّة كريمة فإذا تمسّكوا به نالوا ثوابا كريما.

والمبارك : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) (٤) ، لكثرة بركاته وفيوضه ، وتجلّيات أنواره وآثاره.

قيل سمّي الله به أشياء : فسمّى الموضع الذي كلّم فيه موسى مباركا : (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) (٥) ، وسمّى شجرة الزيتون مباركة : (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) (٦) لكثرة منافعها ، وسمّي عيسى (عليه‌السلام) مباركا : (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) (٧) ، وسمّى المطر مباركا : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) (٨) لما فيه من المنافع ، وسمّى ليلة القدر مباركة : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) (٩).

قلت : وسمّى الأئمّة المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) قرى مباركة : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) (١٠).

فالقرآن ذكر مبارك أنزله ملك مبارك في ليلة مباركة على نبيّ مبارك في قرى مباركة لأنّ القرآن نزل فيهم وفي شيعتهم.

والمنادي بناء على أحد التفسير لقوله : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي

__________________

(١) المؤمنون : ١١٦.

(٢) الحاقة : ٤٠.

(٣) النحل : ٢٩.

(٤) التكوير : ١٩.

(٥) الأنبياء : ٥٠.

(٦) القصص : ٣٠.

(٧) النور : ٣٥.

(٨) مريم : ٣١.

(٩) الدخان : ٣.

(١٠) الأنبياء : ٧١.

٣٢٧

لِلْإِيمانِ) (١).

والنبأ العظيم : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) (٢) ، وإن فسّر في الأخبار بمولانا أمير المؤمنين (عليه‌السلام) وبالإمامة كما فسّر بهما أيضا : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) (٣) ، لكن التقريب قريب ممّا مرّ عن قريب.

والموعظة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٤) ، والمراد هو القرآن وإن قال القمي (٥) بعد ذكر الآية ، قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): والقرآن.

وأحسن الحديث : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) (٦) ، فإنّه أحسن الحديث إذ لا أحسن منه في عالم التدوين وهو المتشابه لا لأنّه في مقابل المحكم وإن كان ذلك أحد إطلاقاته بل لأنّ بعضه يشبه بعضا في الإعجاز.

والمثاني لأنّه تكرّرت فيه الآيات.

والقصص كما قال : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) (٧) ، أو لاشتماله على الثناء على الله سبحانه وأنبيائه وأوليائه أو اشتماله على المزدوجات أو لأنّه ثنّى نزوله مرّة في البيت المعمور نزولا دفعيّا جمليا ، وأخرى في هذا العالم منجّما مفرّقا في نيّف وعشرين سنة.

__________________

(١) آل عمران : ١٩٣.

(٢) ص : ٦٧.

(٣) النبأ : ٢.

(٤) يونس : ٥٧.

(٥) القمي هو علي بن إبراهيم بن هاشم أبو الحسن ثقة في الحديث ثبت معتمد صحيح المذهب وصنف كتبا منها تفسير القرآن ، روي عنه الكليني وكان حيا سنة ٣٠٧ ـ جامع الرواة ج ١ ص ٥٤٥ ـ.

(٦) الزمر : ٢٣.

(٧) الإسراء : ٨٩.

٣٢٨

والصراط المستقيم : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) (١) ، وإن فسّر بالولي وبالولاية.

وأحسن القصص : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) (٢). والقصص الحقّ : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) (٣).

وأصل القصّ والقصّة إتّباع الأثر ، فالقرآن يتبع أثر الماضين بل يتبع أثر جميع التكوين لأنّه مطابق معه في التدوين ويتبع أثره الأولون والآخرون لأنّ كلّ كتاب من الشرائع السابقة نسخة من بعضه.

والتبصرة : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٤). وقد سمعت الكلام في البصائر.

والبلاغ : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) (٥). فإنّه كاف في الاعلام وفي بيان الشرائع والأحكام ، وفي الإيصال الى خير مقصد ومرام.

والكوثر : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) (٦) ، وهو المفرط الخير كثير البركة ، وقد فسّر بالذريّة الطيّبة ، ونهر في الجنّة ، والنبوّة ، والقرآن والعلم والعمل ، وغيرها.

والوحي : (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) (٧).

والحجّة البالغة : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) (٨) ، على أحد الوجوه فيها الى غير ذلك من الألقاب الشريفة ، والأوصاف الكريمة الّتي ورد جملة منها في الأخبار

__________________

(١) الأنعام : ١٥٣.

(٢) يوسف : ٣.

(٣) آل عمران : ٦٢.

(٤) ق : ٨.

(٥) إبراهيم : ٥٣.

(٦) الكوثر : ١.

(٧) الأنبياء : ٤٥.

(٨) الانعام : ١٤٩.

٣٢٩

أيضا كالثقل الأكبر ، وحبل المتين ، والكهف الحصين ، وجوامع الكلم والشافع المشفّع ، والماحل المصدّق ، والذكر الحكيم ، والمنهج القويم.

وفي النبوي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إنّه هدى من الضّلالة ، وتبيان من العمى ، واستقالة من العثرة ، ونور من الظّلمة ، وضياء من الأجداث ، وعصمة من الهلكة ورشد من الغواية ، وبيان من الفتن ، وبلاغ من الدّنيا إلى الآخرة (١).

وفيه إنّ هذا القرآن هو النّور المبين ، والحبل المتين ، والعروة الوثقى والدّرجة العليا ، والشفاء الأشفى ، والفضيلة الكبرى ، والسّعادة العظمى (٢).

الى غير ذلك من الأخبار الّتي مرّت جملة منها وستسمع أخرى.

__________________

(١) الأصول من الكافي ج ٢ ص ٤٣٩ ط. الإسلامية بطهران.

(٢) تفسير الصافي ج ١ ص ١٠ ط. الإسلاميّة بطهران عن تفسير الإمام (عليه‌السلام).

٣٣٠

الفصل الثاني

في حدوث القرآن والاشارة إلى كلامه سبحانه

اعلم أنّ المتكلمين بل كافة المسلمين وغيرهم من الملّيين (١) أجمعوا على إطلاق القول بأنّه تعالى متكلم كما دلّ عليه ظواهر الكتاب ومتواتر السنّة ، بل هو ضروري عند كافة الملّيين فضلا عن المسلمين فلا حاجة إلى الاستدلال له بالنقل المتواتر من الأنبياء كي يناقش مرّة بالمنع من تحقق شرائط التواتر التي من جملتها تحقق العدد ، في جميع مراتب السلسلة ، واخرى باشتماله على الدور الذي قد يدفع بجواز إرسال الرسل بأن يخلق الله فيهم علما ضروريا برسالتهم من الله تعالى في تبليغ أحكامه ، ويصدّقهم بأن يخلق المعجزة حال تحدّيهم فيثبت رسالتهم من غير توقف على ثبوت الكلام ، ثم يثبت منه الكلام بقولهم ، إنّما الكلام في تحقيق كلامه وحدوثه ، والمحكيّ عنهم في سبب اختلافهم على ما ذكره الدواني (٢) وغيره أنهم

__________________

(١) الملّيون هم غير المسلمين من المتألهين ، قال في مجمع البحرين : الملّة في الأصل ما شرع الله لعباده على السنة الأنبياء ليتوصّلو به إلى جوار الله ويستعمل في جملة الشرائع دون آحادها ولا يكاد يوجد مضافة إلى الله ولا إلى آحاد أمّة النبيّ (ص) بل يقال أمّة ـ محمّد (ص) ثم إنها اتسعت فاستعملت في الملل الباطلة.

(٢) الدواني محمّد بن سعد أو أسعد جلال الدين ينتهي نسبه إلى محمّد بن أبي بكر حكيم ، فاضل ، شاعر ، مدقق كان من أكابر القرن التاسع والعاشر ، له شروح وحواش على جملة من الكتب المنطقية والحكمية والكلامية ، اختلفوا في مذهبه ، قد يقال : إنه كان مخالفا ثم استبصر وصنف رسالة سماها «نور الهداية» وصّرح فيها بتشيّعه ، ونقلوا عنه أبيات تدل على تشيعه مثل هذين البيتين بالفارسية :

٣٣١

رأوا قياسين متعارضي النتيجة ، أحدهما أنّ كلام الله صفة له وكلما هي صفة له فقديم فكلام الله قديم ، والآخر أنّ كلام الله مؤلّف من حروف مترتبة متعاقبة في الوجود وكلّما هو كذلك فهو حادث فكلام الله حادث فاضطرّوا إلى القدم في أحد القياسين ضرورة امتناع حقّية النقيضين فمنع كل طائفة بعض المقدمات.

فالمحكي عن الحنابلة (١) أنّ كلام الله تعالى حروف وأصوات وهي قديمة ومنعوا من حدوث مأتي ألف من حروف وأصوات مترتّبة ، بل عن بعضهم القول بقدم الجلد ، والغلاف ، ولذا قيل : ما بالهم لم يقولوا بقدم الكتّاب والمجلّد وصانع الغلاف.

وربما يعتذر عنهم بأنهم إنّما منعوا من اطلاق لفظ الحادث على الكلام اللفظي رعاية للأدب واحترازا عن ذهاب الوهم إلى حدوث الكلام النفسي كما قال بعض الأشاعرة (٢) إنّ كلامه تعالى ليس قائما بلسان أو قلب ولا حالّا في مصحف أو لوح ومنع عن إطلاق القول بحدوث كلامه وإن كان المراد هو اللفظي رعاية للأدب واحترازا عن ذهاب الوهم إلى الكلام الأزلي.

__________________

خورشيد كمال است نبي ماه ولى

إسلام محمّد است وايمان على

گر بنيه اى بر اين سخن مى طلبى

بنگر كه زبيّنات اسما است جلى

توفى الدواني سنة ٩٠٧.

(١) الحنابلة اتباع أحمد بن حنبل رابع الأئمّة الأربعة عند العامة كان من خواص الشافعي وأخذ عنه الحديث البخاري ومسلم ودعا إلى القول بخلق القرآن فلم يجب فضرب وحبس ، توفى ببغداد سنة ٢٤١.

(٢) الأشاعرة فرقة معروفة مرجعهم في العلم على ما نقل إلى أبي الحسن الأشعري علي بن إسماعيل البصري المولد البغدادي المنشأ والدار ولد سنة ٢٦٠ وتوفى سنة ٣٢٤ له تصانيف كثيرة.

٣٣٢

وفيه أن رعاية الأدب هو إحقاق الحقّ والقول بحدوث الحادث لا الالتزام بقدمه كذبا واختلافا وجعله شريكا للخالق في قدمه تعالى عن ذلك وعمّا يقول الظالمون الجاهلون علوا كبيرا.

وتوهّم أنّهم إنّما يمنعون إطلاق الحدوث ، وهو لا يستلزم بإطلاق القدم مدفوع بأنّ صريح كلامهم ذلك ، والمعتذر إن كان مقصوده ذلك فلا يجديهم كما لا يخفى ، وعلى كلّ حال فللمنتحلين بالإسلام في هذه المسئلة أقوال :

أحدها ما سمعت عن الحنابلة.

ثانيها مذهب الكرّامية (١) والموافقين للحنابلة في أنّ كلامه حروف وأصوات لكنّها حادثة قائمة بذاته تعالى لتجويزهم قيام الحوادث بذاته فقدحوا في كبري الأوّل بعد قولهم بصحة الثاني.

ثالثها ما ذهب اليه المعتزلة (٢) وهو أنّ كلامه تعالى أصوات وحروف كما

__________________

(١) الكرّامية أتباع محمّد بن كراّم بن عراق بن حزابة ، كان يقول بأن الله تعالى مستقر على العرش وأنه جوهر.

ولد ابن كرام في سجستان وجاور بمكة خمس سنين وورد نيسابور فحبسه طاهر بن عبد الله ثم انصرف إلى الشام وعاد على نيسابور فحبسه محمّد بن طاهر وخرج منها سنة ٢٥١ ه‍ إلى القدس فمات فيها سنة (٢٥٥) ـ تذكرة الحفّاظ ج ٢ ص ١٠٦ ـ لسان الميزان ج ٥ ص ٣٥٣.

(٢) المعتزلة من فرق الإسلام اتباع واصل بن عطاء العزال ، أبي حذيفة وهو من البلغاء المتكلمين وسمّي بالمعتزلي لاعتزاله حلقة درس الحسن البصري ، ولد بالمدينة سنة (٨٠ ه‍) ونشأ بالبصرة ، وكان يلثغ بالراء فيجعلها غينا ، فتجنب الراء في خطابه ومن أقوال الشعراء في ذلك قول أبي محمّد الخازن في مدح صاحب بن عباد :

«نعم تجنّب لا ، يوم العطاء ، كما

تجّنب ابن عطاء لفظة الراء»

توفّي واصل سنة ١٣١ ـ كتب ابن حجة في ثمرات الأوراق ما موجزه :

٣٣٣

ذهب اليه الفريقان لكنها ليست قائمة بذاته تعالى ، بل خلقها الله تعالى في غيره ، ومعنى كونه تعالى متكلّما عندهم أنّه موجد لتلك الحروف والأصوات في جسم كاللوح المحفوظ أو جبرئيل أو النبيّ ـ عليه‌السلام ـ أو غيرها كشجرة موسى عليه‌السلام.

رابعها ما ذهب الأشاعرة اليه من ثبوت الكلام النفسي حيث قالوا : كلامه تعالى ليس من جنس الأصوات والحروف بل هو معنى قائم بذاته يسمى الكلام النفسي وهو مدلول الكلام اللفظي المركّب من الحروف وهو قديم.

إلى غير ذلك من الأقوال التي تأتي إليها الأشاعرة ، إلّا أنّ هذه الأقوال هي المشهورة بين أهل السنة ، وقد طال التشاجر بينهم في حدوث القرآن وقدمه ، والأكثر منهم على الثاني ، بل مذهب كافّتهم بل وخلفائهم كانوا في أول الأمر مستقرّين عليه ، حتى قيل : إنّه كان سبب تدوين علم الكلام واشتقوا منه اسمه.

قال في شرح المواقف : إنما سمى الكلام كلاما إمّا لأنّه بإزاء المنطق للفلاسفة أو لأنّ أبوابه عنونت بالكلام في كذا أو لأنّ مسئلة الكلام يعني قدم القرآن وحدوثه

__________________

المعتزلة من فرق الإسلام يرون أنّ أفعال الخير من الله ، وأفعال الشر من الإنسان ، وأن القرآن مخلوق محدث ليس بقديم ، وأن الله تعالى غير مرئي يوم القيامة ، وأن المؤمن إذا ارتكب الذنب ، كشرب الخمر وغيره يكون في منزلة بين المنزلتين ، لا مؤمنا ولا كافرا ويرون أن اعجاز القرآن من «الصرفة» لا أنه في نفسه معجز ، أي إنّ الله لو لم يصرف العرب عن معارضة لأتوا بما يعارضه ، وأنّ من دخل النار لم يخرج منها ، وسمّوا معتزلة لأنّ واصل بن عطاء كان ممن يحضر درس الحسن البصري ، لمّا قالت الخوارج بكفر مرتكب الكبائر وقالت الجماعة بأنّ مرتكب الكبائر مؤمن غير كافر وإن كان فاسقا ، خرج واصل عن الفرقتين ، وقال : إن الفاسق ليس بمؤمن ولا كافر ـ الاعلام ج ٩ : ص ١٢١.

٣٣٤

أشهر أجزائه ، وسبب أيضا لتدوينه حتى كثر في الحكم بقدمه أو حدوثه التشاجر والتقابل والسفك.

وقد روى أنّ بعض الخلفاء العباسية كان على الاعتزال فقتل جماعة من علماء الأمّة طلبا منهم الاعتراف بحدوث القرآن ، وقد يقال : إنّ علي بن إسماعيل بن أبي بشر أبا الحسن الأشعري المنسوب إلى جدّه أبي موسى الأشعري (١) ، أو الى أشعر بن سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان ، كان أوّلا على طريقة المعتزلة قائلا بحدوث القرآن ثمّ خطب وهو قاض بالبصرة ، وعدل من مذهب محمّد بن عبد الوهاب

__________________

(١) ابو موسى الأشعري عبد الله بن قيس بن سليم بن بني الأشعر من قحطان ، ولد في زبيد باليمن سنة «٢١ ق ه» وقدم مكة عند ظهور الإسلام فأسلم وهاجر الى أرض الحبشة ثم استعمله رسول الله (ص) على زبيد وعدن ، وولّاه عمر بن الخطاب البصرة سنة ١٧ ه‍ فافتتح اصبهان والأهواز ، ولما ولى عثمان أقرّه عليها ثم عزله فانتقل إلى الكوفة وصار واليا عليها فأقام بها إلى أن قتل عثمان فعزله علي عليه‌السلام بعد التحكيم ، قال ابن أبي الحديد : إنّ أبا موسى الأشعري ذكر عند حذيفة بالدين فقال : أمّا أنتم فتقولون ذلك ، وأمّا أنا فأشهد أنّه عدو لله ولرسوله وحرب لهما في الحيوة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ، وكان حذيفة عارفا بالمنافقين آسرّ اليه النبيّ (ص) أمرهم وأعلمه أسمائهم.

روى عن النبيّ (ص) أنّه قال : شر الأولين والآخرين اثنا عشر ـ إلى ان قال ـ والسامري وهو عبد الله ابن قيس أبو موسى ، قيل وما السامري؟ قال (ع) قال لا مساس وهو يقول لا قتال.

في التاريخ : إنّ أبا موسى صار من جانب أصحاب علي بن أبي طالب عليه‌السلام حكما في صفّين وخدعه عمرو بن العاص وقال له أبو موسى يا عمرو إنما مثلك مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فأجاب عمرو إنمّا مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا إلخ ، توفى بالكوفة سنة ٤٤ ه‍.

٣٣٥

الجبائي (١) فقال بقوله من هذه العظائم التي أحدها القول بقدم كلام الله سبحانه لأنه صفة القديم ، وحيث لزمهم بذلك أمور شنيعة ذهبوا إلى أن الكلام حقيقة كلام النفس ، وهذه الألفاظ ترجمة له بل ذكر صاحب «هداية» الأبرار» في سبب حدوث تلك المذاهب بين العامّة أنّ القدماء منهم بين جبرية وقدرية ومرجئة ومجّسمة

__________________

(١) كان أبو علي الجبائي محمّد بن عبد الوهاب شيخ المعتزلة ، ورئيس علماء الكلام في عصره ولد في سنة ٢٣٥ وتوفى في شعبان سنة ٣٠٣ في جبي من قرى البصرة.

قال الصفدي في الوافي بالوفيات ج ٤ ص ٣٩٨ ط مصر : أبو علي الجبائي كان إماما في علم الكلام ، وله مقالات مشهورة وتصانيف ـ أخذ عنه أبو هاشم عبد السّلام والشيخ أبو الحسن الاشعري كان الجبائي زوج امه ثم اعرض عنه الأشعري لما ظهر له فساد مذهبه وتاب منه.

قال ابن خلكان في وفيات الأعيان ج ٣ ص ٣٩٨ ط مصر : أبو علي الجبائي كان إماما في علم الكلام ، وعنه أخذ ابو الحسن الأشعري وله معه مناظرة روتها العلماء ، فيقال : ان أبا الحسن الاشعري شيخ الأشاعرة سأل يومأ استاذه أبا علي الجبائي عن ثلاثة إخوة : أحدهم كان مؤمنا برّا تقيا ، والثاني : كان كافرا فاسقا شقيا ، والثالث : كان صغيرا ، فماتوا ، فكيف حالهم؟ فقال الجبائي : أمّا الزاهد ففي الدرجات ، وأمّا الكافر ففي الدركات ، وأمّا الصغير ففي السلامة ، فقال الاشعري :

إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له؟ فقال الجبائي : لا ، لأنه يقال له : إنّ أخاك إنّما وصل إلى هذه الدرجات بسبب الطاعات وأنت فاقد لها ، فقال الأشعري : فان قال ذلك الصغير : إنّك ما أبقيتني وإلّا كانت لي تلك الطاعات أيضا ، فقال الأستاذ يقول الباري : كنت أعلم أنّك لو بقيت لعصيت ، فراعيت مصلحتك ، فقال التلميذ : فلو قال الكافر : يا إله العالمين ، كما علمت حاله فقد علمت حالي ، فلم راعيت مصلحته دوني؟ فقال الجبائي للاشعري : إنّك مجنون فقال الأشعري : بل وقف حمار الشيخ في العقبة ، وهذه المناظرة صارت سببا لعدوله عن مذهب الأستاد ، الوافي بالوفيات ، وفيات الأعيان ، والبداية والنهاية والاعلام لخير الدين الزركلي ج ٧ ص ١٣٦.

٣٣٦

وحشوية ، وكانت الدولة للمعتزلة لميل أوائل بني العباس كالرشيد والمأمون والمعتصم والمتوكل إلى الاعتزال ودام ذلك إلى أن ظهر أبو الحسن علي بن إسماعيل الاشعري البصري ، وكان أوّل أمره معتزليا من تلامذة أبي علي الجبائي ، وأراد الانفراد طلبا للرياسة فخالف شيخة وكفّره واتبعه على ذلك قوم من العامة في زمانه ، ومال اليه صلاح الدين يوسف بن أيوب سلطان مصر (١) وأمر بقتل من خالفه حتى شاع في بلاد الإسلام فلم يوّل القضاء والتدريس إلّا من كان أشعريا في الأصول ومقلّدا لأحد المذاهب الأربعة في الفروع ودام الأمر عليه إلى يومنا هذا.

ومن هنا يظهر سرّ ميل مشاهير أهل السنّة كالباقلاني (٢) ، وإمام

__________________

(١) صلاح الدين الأيوبي يوسف بن أيوب بن شادي أبو المظفر من أشهر ملوك الإسلام كان أبوه وأهله من قرية دوين (في شرقي آذربيجان) وولد بها صلاح الدين ، ونشأ في دمشق ، ودخل مع أبيه (نجم الدين) وعمه (شير كوه) في خدمة نور الدين محمود (صاحب دمشق وحلب وموصل) واشترك صلاح الدين مع عمه في حملة وجهها نور الدين لاستيلاء على مصر سنة ٥٥٩ ه‍ فكانت وقائع ظهرت فيها مزايا صلاح الدين ، وتم الظفر باسم السلطان نور الدين ، فاستولى على زمام الأمور بمصر ، واستوكده خليفته العاضد الفاطمي ، ولكن شير كوه ما لبث ان مات ، فاختار العاضد للوزارة وقيادة الجيش صلاح الدين ، ولقبه بالملك الناصر ، ومرض العاضد مرض موته فقطع صلاح الدين خطبته وخطب للعباسيين ، وانتهى بذلك أمر الفاطميين ، ومات نور الدين سنة ٥٦٩ فاضطربت البلاد الشامية والجزيرة ، ودعا صلاح الدين لضبطها ، فاقبل على دمشق سنة ٥٧٠ واستولى على بعلبك وحمص وحماة وحلب ودانت له البلاد من آخر حدود النوبة جنوبا وبرقه غربا إلى بلاد الأرمن شمالا ، وبلاد الجزيرة والموصل شرقا ، وكانت مده حكمه بمصر ٢٤ سنة ، وبسورية ١٩ سنة توفى سنة ٥٨٩ وعمره ٥٧ سنه ، أعلام زركلي ج ٩ ص ٢٩١ ـ مرآة الزمان ج ٨ : ٣٢٥.

(٢) الباقلاني محمّد بن الطيب البصري القاضي المتكلم الأشعري سكن بغداد وتوفى بها سنة

٣٣٧

الحرمين (١) ، والغزالي (٢) ، والرازي (٣) ، والدواني (٤) ، والجرجاني (٥) ، والعضدي (٦) ، والبيضاوي (٧) ، وغيرهم إلى مذهب الأشعري مع ظهور فساد أكثر عقائد وذلك لميل الحكام وتولية القضاء والحكومات.

وبالجملة فالقائلون بقدمه أطلقوا القول به أولا ثم لما رأى المتأخرون منهم شناعة مقالهم ووضوح فساده ضرورة أن الأصوات والحروف الملفوظة والمكتوبة أمور حادثة مترتبة في الوجود فكيف يعقل قدمها مع انها أعراض قائمة بغيرها مفتقرة في تحققها وفي بقائها إلى السبب وإلى المحلّ إلى غير ذلك من المفاسد التي ينثلم معها التوحيد اضطرّوا إلى القول بالكلام النفسي بل ربما تبرّء أصحاب

__________________

٤٠٣ ه‍.

(١) عبد الملك بن عبد الله امام الحرمين من أصحاب الشافعي ولد في جوين من نواحي نيسابور ورحل إلى بغداد وجاور بمكة أربع سنين وذهب إلى المدينة ودرس جامعا طرف المذاهب توفي سنة ٤٧٨ ه‍.

(٢) الغزالي حجة الإسلام أبو حامد محمّد بن محمّد الشافعي من أكابر العامة والمتصوفة توفي سنة ٥٠٥ ه‍.

(٣) الرازي فخر الدين محمّد بن عمر رئيس المشككين من أعاظم العامة في القرن السادس توفي سنة ٦٠٦ ه‍.

(٤) الدواني جلال الدين مرت ترجمته.

(٥) الجرجاني عبد القاهر أبو بكر بن عبد الرحمن أديب ، نحوي ، لغوي ، مؤلف اسرار البلاغة توفي سنة ٤٧١ ه‍.

(٦) العضدي قد مرت ترجمته.

(٧) البيضاوي ناصر الدين عبد الله بن عمر الأشعري الشافعي ، المفسر ، توفي في تبريز سنة ٦٨٥ ه

٣٣٨

أحمد (١) ، عن نسبة القول بقدم الأصوات والحروف اليه ولذا حكى عن اليافعي (٢) حكاية القول بحدوثها عنه إلّا أنه لا يخفى على من له خبرة بمذاهبهم في الأصول والفروع أن مثل هذه المقالة ليس ببدع منهم فإنهم خبطوا فيها خبط عشواء (٣) وركبوا ما يتبّرأ عنهم فيه الجاهلية الجهلاء كالقول بالجبر والتجسّم والتشبيه ، وأنه تعالى جسم له طول وعرض وعمق ، بل عن داود الظاهري (٤) أنه قال اعفوني عن الفرج واللحية وأسئلوني عمّا وراء ذلك.

والقول بجواز الرؤية ونفي الغرض وإنكار المصالح واستناد المفاسد كلها اليه على جميع الوجوه ، وإثبات المعاني القديمة التي ليست للّذات كمال ، إلّا معها حتى اعترض شيخهم فخر الدين الرازي عليهم ، بأن قال : إنّ النصارى ، كفروا لأنهم قالوا : إنّ القدماء ثلثة والأشاعرة أثبتوا قدماء ثمانية بل تسعة إلى غير ذلك من

__________________

(١) أحمد بن حنبل ابو عبد الله الشيباني ، أصله من مرو ، وكان أبوه والي سرخس ، ولد ببغداد سنة ١٦٤ ه‍ ، سافر في طلب العلم أسفارا كبيرة وصنّف المسند ستة مجلّدات يحتوي على ثلثين الف حديث ، وله كتب أخر ، سجن بأمر المعتصم ٢٨ شهرا لامتناعه عن القول بخلق القرآن ، وأطلق سنة ٢٢٠ ه‍ ، ولم يصبه شر في زمن الواثق بالله بعد المعتصم وبعد الواثق في عصر تولي المتوكل أكرم ابن حنبل ولا يولي المتوكل أحدا الا بمشورته ، توفى سنة ٢٤١ ه‍ ـ ابن عساكر ج ٢ ص ٢٨.

(٢) اليافعي عبد الله بن أسعد عفيف الدين ، مؤرخ ، متصوف ، من شافعية اليمن ولد في اليمن سنة ٦٩٨ ه‍ ، وتوفي بمكة سنة ٧٦٨ ه‍ ـ الدرر الكامنة ج ٢ ص ٢٤٧ ـ.

(٣) خبط عشواء ، يقال : انه يخبط عشواء يتصرف في الأمور على غير بصيرة ـ المنجد ص ١٦٧.

(٤) داود الظاهري بن علي بن خلف الاصبهاني تنسب اليه الطائفة الظاهرية وسميت بذلك لاخذها بظاهر الكتاب والسنة واعراضها عن التأويل والرأي والقياس ، ولد داود في الكوفة سنة ٢٠١ ه‍ ، وسكن بغداد ، وانتهت اليه الرياسة ، قيل : كان يحضر مجلسه كل يوم أربعمائة ، وقال ثعلب : كان عقل داود أكبر من علمه ، توفّى ببغداد سنة ٢٧٠ ه‍.

٣٣٩

فضائحهم التي ستسمع في هذا التفسير شطرا منها.

وحاصل الكلام في المقام أنّ القائلين بقدم القرآن فرقتان : منهم يقول بقدم الأصوات والألفاظ والحروف كما سمعت حكايته عن الحنابلة وعرفت ضعفه ، ومنهم من يقول بكلام النفسي الذي فسّروه بالمعنى القائم بالنفس الذي هو مدلول الكلام اللفظي المؤلف من الحروف كما ذهب اليه الأشاعرة واستدلوا لإثباته بقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ) (١).

وقوله (عليه‌السلام): رفع عن أمتي ما حدّثت به أنفسهم (٢).

وعن الثاني أنه قال في يوم السقيفة : قد كنت زوّرت (٣) في نفسي مقالة فسبقني اليه أبو بكر ، وعن الأخطل (٤).

__________________

(١) المجادلة : ٨.

(٢) في سفينة البحار ج ١ ص ٢٣٤ : قد صح عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قوله : وضع عن أمتي ما حدّثت به نفسها ما لم يعمل به أو يتكلم.

(٣) قال الطبري في تاريخه المسمى بالأمم والملوك ج ٢ ص ٤٤٦ في حديث السقيفة عن عمر بن الخطاب أنه قال : أتينا الأنصار وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة وإذا بين أظهرهم رجل مزمّل قال : قلت : من هذا قالوا سعد بن عبادة ، فقلت : ما شأنه؟ قالوا : وجع ، فقام رجل منهم فحمد الله وقال أما بعد فنحن الأنصار وكتبة الإسلام وأنتم يا معشر قريش رهط نبينا وقد دفّت إلينا من قومكم دافّة ، قال فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويغصبون الأمر وقد كنت زورّت في نفسي مقالة إلخ.

قال : الزبيدي في تاج العروس ج ٣ ص ٢٤٧ في لغة زور : كلام مزوّر أي محسن وقيل هو المثقف قبل أن يتكلم به ، ومنه قول عمر : ما زوّرت كلاما إلّا سبقني به أبو بكر ، اي هيئت وأصلحت ، والتزوير إصلاح الشيء.

(٤) الأخطل غياث بن غيوث من نبي تغلب ، شاعر مصقول الألفاظ ، نصراني اشتهر في عهد

٣٤٠