تفسير الصراط المستقيم - ج ١

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٠

بسم الله الرحمن الرحيم

تبارك الّذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، وجعل في سماء الولاية بروجا ، وجعل فيها شمس النبوّة سراجا وقمر الإمامة منيرا ، ورشّح من إشراق أشعّة أنوارهم على الأكوان التائهة (١) في فيافي (٢) العدم كأسا قدّروها تقديرا ، (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) ، والصلاة على نبيّه المبعوث إلى أهل العالم كافّة في جميع العوالم شاهدا ومبشّرا ونذيرا ، وداعيا إلى أهل العالم كافّة في جميع العوالم شاهدا ومبشّرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله سبحانه باذنه وسراجا منيرا ، وعلى مهابط وحي الله وخزّان علمه وتراجمة كتابه الّذين أذهب الله عنهم الّرجس وطهّرهم تطهيرا.

امّا بعد فيقول المتعطّش إلى رشحات فيوض ربه الغنيّ ، الحسين بن الرّضا الحسيني الفاطميّ العلويّ البروجردي ـ عفى الله عن جرائمهما وحشرهما مع أئمّتهما ـ.

اعلموا يا إخواني المؤمنين هداكم الله بنور اليقين ، وأرشدكم الى ولاية الأئمة الطّاهرين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ : أنّ أنفس ما تنافست (٣) فيه النفوس

__________________

(١) التائهة فاعلة من تاه يتيه تيها وتيهانا : أي ذهب متحيرا ـ المنجد ص ٦٧.

(٢) الفيافي جمع الفيفاة والفيفى بمعنى المفازة التي لا ماء فيها ـ (المنجد ص ٦٠٣).

(٣) التنافس والمنافسة في الشيء الرغبة فيه على وجه المباراة في الكرم ومنه تنافسوا في زيارة

١٢١

والأرواح ، وأولى ما تسابقت في مضماره (١) خيول عقول الفحول للارتياح (٢) إنّما هو اقتباس الفضائل النفسانيّة ، واقتناص العلوم الإلهيّة الّتي هي الذّخيرة الأبديّة والسعادة السرمديّة ، وانّ للعلوم رياضا عامرة وحياضا غامرة وأفلاكا رفيعة وأسماكا منيفة ، وأقمارا طالعة ، وأنوارا ساطعة ، ولقد يسّر الله سبحانه وله الحمد والمجد في عنوان لبابي وعنفوان شبابي تسريح النظرة في معقولها ومنقولها ، وإمعان الفكر في فروعها وأصولها ، حتى وردت حياضها ، وأتيت رياضها ، فشربت من كلّ منهل منها جرعة بعد جرعة فما رويت وأخذت من كلّ بيدر (٣) حضنة بعد حضنة (٤) فما استغنيت.

فلمّا تفكّرت في ذلك ، وسرّحت النظر فيما هنالك ، رأيتها فاقدة اللبوب كالقشور ، ليس فيها نور ولا سرور ، فطفقت أجدّد النظر في المعارف الحقيقيّة والأسرار الربانيّة ، والعلوم اللدنيّة ، والفيوض القدسيّة وأسرار الدين ، وأنوار

__________________

الحسين (ع) ـ مجمع البحرين ص ٣١٤ ـ.

(١) المضمار بكسر الميم الموضع الذي تضمر فيه الخيل ويكون وقتا للأيّام التي تضمر فيها وتضمر الخيل أن يظاهر عليها بالعلف حتى تسمن ثم لا تعلف إلّا قوتا لتخفّ وذلك في مدة أربعين يوما ـ مجمع البحرين ص ٢٦٣ ـ.

(٢) الارتياح السرور والنشاط وأخذ الراحة والارتياح من الله الرحمة ومنه يا مرتاح ـ مجمع البحرين ص ١٧٠ ـ.

(٣) البيدر بفتح الباء والدال مجمع الطعام حيث يداس وفي الحديث قال ابن أبي العوجاء إلى كم تدوسون هذا البيدر يعني بذلك الكعبة المشرفة والطائفين بها استهزاء وشبههم بالحيوانات التي لا تعقل وتدوس بيدر الطعام ـ مجمع البحرين ص ٢٣١ ـ.

(٤) الحضن بكسر الحاء ما دون الإبط إلى الكشح ، وأعطاه حضنا من زرع أي قدر ما يحتمله في حضنه وهو مجاز كما في الأساس ـ تاج العروس في شرح القاموس ج ٩ ص ١٨٢ ـ.

١٢٢

شريعة سيّد المرسلين ، صلى‌الله‌عليه‌وآله أجمعين ، فرأيتها في القرآن الكريم والذّكر الحكيم ساطعة الأنوار ، عليّة المنار ، جارية الأنهار ، فإنّه هو الكتاب المبين ، والماء المعين ، والحقّ اليقين ، والحبل المتين ، نزل به الرّوح الأمين على قلب سيّد المرسلين ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين ، وهو المهيمن على زبر الأوّلين ، المشتمل على علم ما كان وما يكون الى يوم الدّين ، بل أبد الأبدين ، (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (١) ، (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢).

وهو المعجزة الباقية على مرّ الدهور والأعصار الكاشف عن خفيّات الحقائق والأسرار ، إلّا أنّ جهات علومه وفنونه ، ومراتب ظهوره وبطونه لا يطّلع عليها إلّا ـ الرّاسخون في العلم ، الّذين هم كانوا الأئمة المصطفين ، وثاني الثقلين الّذين لا يفترقان أبدا في الكونين ، لأنّهم ورثة الكتاب ، ومفاتيح هذا الباب ، وإليهم الإياب في المبدء والمآب ، وعندهم فصل الخطاب ومنهج الثواب.

فسرّحت كليل طرفيّ (٣) في طرف (٤) من أخبارهم ، وأجريت ظالع حرفي (٥) في حرف من آثارهم ، فرأيت أنّه لا سبيل الى العلم بالكتاب إلّا بالاستضائة من أنوارهم الّتي هي الطريق والمنهج ، وعلمت أنّ الكلمة من آل محمّد

__________________

(١) سورة الانعام : ٥٩.

(٢) سورة يوسف : ١١١.

(٣) الطرف بفتح الطاء وسكون الراء بمعنى العين وكليل طرفي أي ضعيف بصري من قبيل اضافة الصفة الى الموصوف.

(٤) الطرف بفتح الطاء والراء بمعنى الناحية ، وبضم الطاء وفتح الراء جمع الطرفة كغرفة وغرف بمعنى ما يستطرف ويستملح.

(٥) الحرف الأول بمعنى الناقة المزولة وضالع حرفي أي ناقتي المهزولة المثقلة السير.

١٢٣

صلّى الله عليهم لتصرف على سبعين وجها من كلّها المخرج.

ثمّ إنّي قد كنت برهة من الزّمان كثير التوقان إلى بيان شيء ممّا منّ الله الوهّاب المنّان على عبده من معاني هذا القرآن ، فرأيت أنّ الخطب جسيم ، والكتاب كريم والنّبأ عظيم ، فاعتصمت بعروة وثقى ولاية صراطه المستقيم وإنّه في أمّ الكتاب ، لدى الله لعليّ حكيم (١).

وشرعت فيه مع قلّة البضاعة وكثرة الإضاعة ، وقصور الباع (٢) في هذه الصناعة وبذلت جهدي (٣) في استقصاء الأخبار المتعلقة بكلّ آية من الآيات ، والرّجوع مهما أمكن في استيضاح المشكلات والمتشابهات منها الى الأخبار المأثورة عن حجج الله على البريّات ، مع بسط الكلام على حسب مقتضى المقام فيما يتعلّق بها من المعاني اللّغويّة ، والفنون الأدبيّة ، والمقاصد الحكميّة ، والمسائل الفقهيّة ، والاختلافات المذهبيّة ، والأصول الكلاميّة ، والحقائق الربانيّة ، والعلوم النبويّة والإماميّة ، وغير ذلك ممّا يمكن استفادته من الآيات بشيء من الإشارات والدلالات.

ولم أقتصر من ذلك على شيء دون شيء إذ فيه تفصيل كلّ شيء فليأخذ كلّ ناظر فيه بضاعته ، ولا يتعرّض فيما يخالف صناعته ، قد علم كلّ أناس مشربهم ، وفهم أهل كلّ فنّ مطلبهم ، فإنّ الأغراض مختلفة ، والمقاصد متفنّنة من غير

__________________

(١) اقتباس من سورة الزخرف : ٤.

(٢) الباع قد مدّ اليدين يقال طويل الباع ورحب الباع أي كريم مقتدر وقصير الباع وضيق الباع أي بخيل عاجز ـ المنجد ص ٥٤ ـ.

(٣) الجهد بضم الجيم وفتحها وسكون الهاء أي الطاقة والاستطاعة يقال بذل جهده أي طاقته ـ المنجد ص ١٠٦ ـ.

١٢٤

تأنيب (١) منّي في تقصير من قصّر أو طوّل ، ولا تعييب على من أجمل أو فصّل ، بل أقرّ على قريحتي القريحة الجامدة ، وفطنتي الجريحة الخامدة بالقصور والنقصان ، سيمّا في عداد حلبة (٢) فرسان هذا الميدان ، على أنّي أعلم أنّ من تصدّى لتصنيف شيء من الكلام فعليه أن يستعدّ لسهام النقض والإبرام ، بل قيل : قلّما سلم مكثار أو أقيل له عثار ، ومع كلّ ذلك (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (٣) إنّه مجمع لجوامع العلوم المتعلّقة بالكتاب الكريم ، إذ هو الكافي لتيسير إستبصار تهذيب تبيان مجمع بيانه ، الوافي للوسائل إلى بحار علومه ورياض جنانه ، الصّافي من عيون ينابيع الحكمة ، وبحر حقائق مصباح الشريعة ، الشّافي عن الشّرائع بمحاسن صفات الشّيعة ، الكشّاف عن وجوه عرائس معالم أنوار التنزيل ، الوصّاف لمفاتيح الغيب بلباب نفائس أسرار التأويل ، الجامع لفنون الإرشاد الى نهج البلاغة في إكمال الدّين وإتمام النعمة ، النافع لأصحاب البصائر والإختصاص في كشف الغمّة بمعرفة الأئمّة.

ولم آل جهدا في نقل ما ظفرت به من أخبار أهل البيت الّذين جعلهم الله تعالى خزنة العلم ومهابط الوحي ، ولم أقتصر غالبا على نقل موضع الحاجة حذرا من تقطيع الخبر ، ـ وتفويت الفائدة الّتي سيق لأجلها الأثر.

وسمّيته «الصراط المستقيم في تفسير الكتاب الكريم» والمرجوّ من فضله ورحمته سبحانه أن يمنّ عليّ بلطفه العميم وفيضه الجسيم ، ذلك فضل الله يؤتيه من

__________________

(١) التأنيب : الملامة.

(٢) الحلبة بفتح الحاء جمع حلبات وحلائب : الخيل تجمع للساق ـ المنجد ص ١٤٨ ـ.

(٣) سورة الواقعة : ٧٥ ـ ٧٦.

١٢٥

يشاء والله ذو الفضل العظيم ، وأسئله أن ينفعني به وسائر المؤمنين من شيعة مولانا أمير المؤمنين ـ صلّى الله عليه وعلى ذريّته المعصومين ـ.

ولنمهّد قبل الشروع في تفسير الآيات أربع عشر مقدّمة مهمّات في أبواب :

أحدهما : في الإشارة إلى حقيقة العلم وأنواع العلوم ومراتبها وشرفها وفضلها ، ومحلّ علم التفسير منها ، وتوقّفه عليها عموما أو خصوصا ، والتنبيه على تعريف هذا العلم وموضوعه وغايته وبيان الحاجة إليه.

ثانيهما : في بيان جملة ممّا يدلّ على شرف القرآن وفضله وتمثّله يوم القيامة لأهله والحثّ والترغيب على تعليمه ، وتعلّمه والتمسّك به ، وقراءته في الصلاة وغيرها وحفظه وحمله ، وإكرامه وتعظيم أهله والمواظبة عليه ، وغيرها من المباحث المتعلّقة بذلك.

ثالثها : في بيان حقيقة القرآن ومراتبه في الكون وظهوره عند التنزل في كسوة الحروف والكلمات والإشارة الى الصامت والنّاطق الّذين هما الثقلان وهما لا يفترقان بل لا يفارقان ليلة القدر ، والبيّنة على سرّ كونه الثقل الأكبر والعترة هم الثقل الأصغر.

رابعها : في الإشارة الى ما له من الأسماء الشريفة والألقاب المنيفة وتحقيق القول في حدوثه والإشارة الى كلامه سبحانه ومعنى الكلام النفسي ، وكيفيّة الوحي والإلهام ، والتحديث وأنّه هل للأئمّة وساير الأوصياء عليهم‌السلام حظّ من الوحي والإلهام أم لا ، ومعنى التلقّي وسرّ الغشوة ، وتحقيق الحقّ في أنواع المكاشفات والميزان المميّز للحقّ عن الباطل ، والبحث عن كيفيّة الخطابات الواردة فيه وشمولها للغائبين والمعدومين في زمن الخطاب.

خامسها : في أنّ فيه تبيان كلّ شيء ، وتفصيل كلّ علم من العلوم الإلهيّة

١٢٦

والحقائق الكلّية ، والأمور الجزئيّة ، وبيان كيفيّة انشعابها منه.

سادسها : في بيان معنى التفسير والتنزيل والتأويل ، والظاهر والباطن والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والكلام في حجيّة القرآن ، وصحّة الاستدلال بظواهره في الأصول والفروع ، والمنع عن التفسير بالرأي وضابط التأويل.

سابعها : في معنى الإنزال ، والفرق بينه وبين التنزيل ، ومعنى السّورة وأقسامها الأربعة ، والآية والكلمة والحروف وغيرها ، وفيه ضبط السور والآيات وحروف القرآن.

ثامنها : في أنّ علم القرآن مخزون عند أهل البيت عليهم الصّلاة والسلام وبيان انتهاء سلسلة القرآن ، وعلم التفسير إليهم ، وأنّ كلّ ما في أيدي النّاس من علم حقّ فهو منهم.

تاسعها : في أنّ جلّ القرآن بل كلّه إنّما نزل فيهم ، وفي شيعتهم ، وفي أعدائهم.

عاشرها : في وجوه إعجازه ، والفرق بينه وبين الحديث القدسي.

حادي عشرها : في بيان ما ورد من أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ، والإشارة الى منشأ اختلاف القرّاء في القراءة من حيث موادّ الحروف ، وهيأتها ، وتحقيق الكلام فيما ذكر الفقهاء من الإجماع على قراءة السّبع أو العشر ، وهل هي متواترة أم لا ، وفيه نبذ من أحوال القرّاء وطرقهم ، وجواز الأخذ بقرائتهم.

ثاني عشرها : في كيفية القراءة ، والبحث عن آدابها الظاهرة ، ووظائفها الباطنة ، وفيه تحقيق معنى الغناء ، وبيان حرمته ومعنى التّرتيل والإشارة الى الحجب القلبيّة المانعة عن القراءة ، وكيفيّة رفعها ، وغير ذلك من الوظائف.

ثالث عشرها : في أحكام القراءة من الوجوب والحرمة والكراهة

١٢٧

والاستحباب.

رابع عشرها : في جملة من الفوائد الّتي ينبغي التّنبيه عليها قبل الشروع في المقصود كالاستشفاء ، والاستكفاء بالآيات ، والإشارة الى سبب مخالفة القرآن لغيره في رسم الخطّ ، وما فيه من سجدات العزائم وغيرها وكيفيّة الإستخارة به.

وهذا أوان الشروع في الأبواب ومن الله التّيسير وحسن المعونة في كلّ باب.

الباب الأوّل : في الإشارة إلى حقيقة العلم وأقسام العلوم ومراتبها وشرفها ومحلّ علم التفسير منها وتوقفه عليها عموما أو خصوصا وفيه فصول :

الفصل الأوّل

في تعريف العلم

قيل : إنّه لا يحدّكما اختاره في التجريد وغيره ، وحكى العلّامة (أعلى الله مقامه) عن أكثر المحقّقين أنّه غنيّ عن التعريف لأنّه من الكيفيّات النّفسانيّة الّتي يجدها كلّ عاقل كالفرح والشبع وغيرهما (١) وقد يقال أنّه لا يمكن تحديده نظرا الى

__________________

(١) قال العلامة في شرحه على التجريد في شرح قول المتن : (ولا يحدّ) أقول : اختلف العقلاء في العلم فقال قوم لا يحدّ لظهوره فإنّ الكيفيات الوجدانيّة لظهورها لا يمكن تحديدها لعدم انفكاكه عن تحديد الشيء بالأخفى والعلم منها.

وقال صدر المتألّهين في الأسفار في الجزء الثالث في المرحلة العاشرة في الفصل الأوّل : لا شيء أعرف من العلم لأنّه حالة وجدانيّة نفسانيّة يجدها الحيّ العليم من ذاته ابتداء من غير لبس ولا اشتباه وما هذا شأنه يتعذّر أن يعرف بما هو أجلى وأظهر.

١٢٨

أنّ غير العلم لا يعلم إلّا به فلو علم بغيره لدار (١) وهو مدفوع باختلاف الحيثيّة فإنّ غير العلم متوقّف عليه من جهة كونه إدراكا له وهو متوقّف على غيره من جهة كونه صفة مميّزة له عمّا سواه.

وأمّا ما يقال من أنّ المطلوب من حدّ العلم هو العلم بالعلم وما عدى العلم ينكشف بالعلم لا بالعلم بالعلم فغير حاسم لمادّة الإشكال فإنّ العلم بالعلم من جزئيّات العلم أو من متعلّقاته والمطلوب من الحدّ معرفة ماهيّة العلم.

ثمّ المعرّفون قد اختلفوا في تعريفه فقد يقال : إنّه معرفة الشيء على ما هو عليه مع طمأنينة النّفس ، أو أنّه صفة يحصل بها لنفس المتّصف بها التمييز بين حقايق المعاني الكلّية حصولا لا يتطرّق إليه احتمال ، أو إنّه صورة مطابقة للمعلوم حاصلة في قوى النّفس ، أو أنّه الإعتقاد المقتضى لسكون النّفس (٢) أو انّه استبانة الحق ، أو أنّه حضور إشراقيّ للمعلوم عند النفس المدركة ، أو أنّه حصول صورة المعلوم في الذهن.

__________________

(١) قال العلّامة في كشف المراد بعد قوله المذكور سابقا : ولان غير العلم انما يعلم بالعلم فلو علم العلم بغيره لزم الدور.

وقال الصدر بعد كلامه المذكور آنفا : ولان كل شيء يظهر عند العقل بالعلم به فكيف يظهر العلم بشيء غير العلم.

وقال السبزواري الحاج ملّا هادي في تعليقته على الأسفار ذيل هذا الدليل : والحاصل أنه يلزم الدور ودفعه بأن ظهور غير العلم انما هو بوجود العلم لا بمفهومه فلا بأس بأن يتوقف ظهور مفهومه على مفهوم غيره.

(٢) قال العلّامة في كشف المراد بعد نقل قول المنكرين لتحديد العلم : وقال آخرون : يحدّ ، فقال بعضهم أنهم اعتقاد أن الشيء كذا مع إعتقاد أنه لا يكون إلّا كذا وقال آخرون : إنّه إعتقاد يقتضي سكون النفس وكلاهما غير مانعين.

١٢٩

أو انّه إدراك جازم ، أو أنّه نور شعشعاني يتجلّى به الأشياء ، أو انّه كشف الحجب الغاسقة الّتي على النفس الإنسانيّة ، أو انّه اتّحاد القوى الدرّاكة بالمعلوم ، أو أنّه ما لا يعلم الشيء إلّا به ، أو أنّه الواسطة بين العالم والمعلوم ، أو أنّه انطباع صورة الأشياء في مرايا النفوس ، الى غير ذلك من التعاريف الكثيرة الّتي ليس في التعرض لها فضلا عن المناقشة فيها ودفع ما ربما يورد أو يرد عليها شيء من الفائدة بعد وضوح كون أمثال هذه المباحث فاقدة الفائدة ، سيمّا بعد حصول معرفة إجماليّة مقنعة إن لم تكن أوّلا بالتأمّل في كلّ من هذه التعاريف فضلا عن جميعها مع أنّ كثيرا من مباحثهم في المقام مناقشات لفظيّة لا تسمن ولا تغني من جوع كما يظهر بالرجوع. بل وكذا حال مناقشاتهم المعنويّة الّتي منها الإيراد على تعريفه بالصورة الحاصلة في النفس المطابقة للمعلوم كما هو الموروث من الحكماء في تعريفه بلزوم اجتماع الضدّين فيها عند تصوّرها لهما وكون النّفس عند تصوّرها الحرارة والبياض والاستقامة والوحدة حارّة مبيّضة مستقيمة وكذا أضدادها بل وغيرها.

وبأنّا نتصوّر الأجسام الجسيمة العظيمة كالجبال والبراري والبحار والبلاد بل الكواكب والأفلاك العظيمة على الوجه الجزئي المانع من الشركة فوجب أن يحصل تلك الأمور في القوى النفسانيّة الّتي ليست جسما ولا جسمانيّا ، وفي القوى الخياليّة الّتي لا حظّ لها من المقدار طبعا وانطباعا فضلا عن مثل هذه المقادير العظيمة.

وبأنّ جوهريّة الجوهر ذاتيّة فكيف تفارقه بحصوله في الذهن بل وكذا غيرها من المقولات المتباينة الذوات الّتي ترجع جميعها عند العلم بها الى قسم من الكيف.

وهم قد أجابوا عن الأوّل بأنّ المحال اجتماع المتناقضين بحسب الوجود

١٣٠

الخارجي لا الظلّي الذهني (١) مع أنّ من شروط التناقض اتّحاد الموضوع وحدة حسّية وضعيّة ووحدة القوّة العاقلة ليست وضعيّة تضيق عن المتقابلات بل عقليّة تجامعها كوحدة الطبائع النوعيّة والجنسيّة فإنّها عقليّة لا تمنع اتّصافها بالفصول والمشخّصات المتقابلة.

وعن الثاني بأنّ الحارّة مثلا ما تقوم به الحرارة في الخارج أن ما يمكن إدراك حرارتها بالمشاعر الظاهرة ، وكذا الكلام في غيره ، أو أنّه المتّصف بالحرارة لكنّها كيفيّة محسوسة.

وعن الثالث بأنّ القوّة الخياليّة لمّا لم تكن في نفسها مقدارا يجوز اتصافها بجميع المقادير والكمّيّات.

وفيه أنّ فقدها للمقدار إن كان لعدم صلاحيّة اتّصافها به أصلا فكيف يتّصف بجميعها وإن كان لعدم فعليّة شيء منها فبعد اتّصافها بالأوّل لا يتّصف بالثاني إلّا مع زوال الصورة الأولى مع إنّا نتصوّر في آن واحد مقادير عظيمة متخالفة الأوضاع والأشكال والجهات اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ للانطباق الحاصل في القوى النفسانيّة أحكاما مغايرة لأحكام الانطباق في الأجسام الكثيفة الخارجيّة ولذا حكى في المواقف (٢).

__________________

(١) قال الحكيم القدوسي نصير الدين الطوسي (قدس‌سره) في التجريد : وحلول المثال مغايرة وقال الشارح العلّامة في شرح كلام الماتن : أقول : هذا إشارة إلى كيفية حصول الصورة في العاقل وتقريره أنّ الحالّ في العاقل إنّما هو مثال المعقول وصورته لا ذاته ونفسه ولهذا جوّزنا حصول صورة الأضداد في النفس ولم نجوّز حصول الأضداد في الخارج فعلم أنّ حلول المثال والصورة مغاير لحلول ذات الشيء.

(٢) المواقف في علم الكلام لعضد الدين عبد الرحمن المتوفى سنة ٧٥٦ ق ألفه لغياث الدين وزير

١٣١

وشرحه (١) عن الحكماء أنّهم قالوا : الصّور العقليّة تمتاز عن الخارجيّة بوجوه :

الأوّل : أنّها غير متمانعة في الحلول إذ يجوز حلولها معا في محلّ واحد بخلاف الخارجيّة فإنّ المتشكّل بشكل مخصوص مثلا يمتنع أن يتشكّل بشكل آخر مع بقاء الشكل الأوّل بل الصور العقليّة متعاونة في الحلول فإنّ النّفس إذا كانت خالية عن العلوم كان تصورّها لشيء من الحقائق عسرا جدّا ، وإذا اتّصف ببعض العلوم زاد استعدادها للباقي وسهل انتقاشها.

الثاني : تحلّ الكبيرة من الصّور العقليّة في محلّ الصغيرة منها معا ولذا تقدر النفس على تخيّل السماوات والأرض والأمور الصغيرة معا بخلاف الصور المادّيّة فإنّ العظيمة منها لا تحلّ في محلّ الصغيرة مجتمعة معها.

الثالث : لا تنمحي الضعيف بالقويّ في العقليّة دون الخارجيّة.

الرابع : أنّ الصورة العقليّة إذا حصلت في العاقلة لا تجب زوالها وإذا زالت سهل استرجاعها من غير حاجة إلى تجشّم كسب جديد بخلاف الصورة ، الخارجيّة فإنّها واجبة الزوال عن المادّة العنصريّة لإستحالة بقاء قواها أبدا وإذا زالت احتيج

__________________

خدا بنده وهو كتاب اعتنى به الفضلاء وشرحوه بشروح وحواش وتعليقات كشرح السيد الشريف الجرجاني وشرح شمس الدين الكرماني المتوفى سنة ٧٨٦ ق وشرح سيف الدين أحمد الأبهري ـ كشف الظنون ج ٢ ـ.

(١) أشهر شروح المواقف شرح ألّفه السيّد شريف علي بن محمّد الجرجاني المتوفى سنة ٨١٦ ق فرغ منه في أوائل شوال سنة ٨٠٧ ق بسمرقند وكتب على شرح الشريف جماعة تعرّض كل منهم لحلّ مغلقاته مثل المولى حسن چلبي المتوفى سنة ٨٨٦ ق والمولى أحمد بن سليمان المتوفى سنة ٩٤٠ ق ـ كشف الظنون ج ٢ ـ.

١٣٢

في استرجاعها إلى مثل السبب الأوّل.

الخامس : أنّ الخارجيّة قد تكون محسوسة بالحواسّ الظّاهرة بخلاف العقليّة.

السادس : أنّ العقليّة كليّة بخلاف الخارجيّة.

أقول : ومن جميع ما مرّ يظهر الجواب عن الرابع أيضا ولذا قال ابن سينا (١) وغيره ممّن اقتفى أثره : أنّ الجوهر والعرض متباينان في الوجود الخارجي ، وأمّا في الوجود العلمي فالجوهر الموجود في النفس جوهر وعرض معا لأنّ معنى الجوهر ما يكون وجوده الخارجي لا في موضوع ، وهذا لا ينافي كون وجوده الذهني في موضوع ، وهذا لا ينافي كون وجوده الذهني في موضوع هو الذهن ، ثمّ لا يخفى أنّ الجواب المذكور بل أصل التعريف مبنيّ على أحد الأقوال في كيفيّة الإدراك وهو انطباع صورة المعلومات في النّفس فإنّ القوّة العاقلة كالمرآة المصقولة فمتى حصل بينها وبين المعقولات مقابلة انطبعت صورها فيها فيحصل إدراكها بواسطة استعداد

__________________

(١) ابن سيناء هو الحسين بن عبد الله بن سيناء الفيلسوف الرئيس صاحب التصانيف في الطب والمنطق والطبيعيات والإلهيات ، أصله من بلخ ومولده في إحدى قرى بخارى ، نشأ وتعلم في بخارى وطاف البلاد وناظر العلماء ، وتقلد الوزارة في همدان ، وثار عليه عسكرها ونهبوا بيته فتوارى ثم صار الى اصفهان وصنف بها أكثر كتبه وعاد في أواخر أيامه إلى همذان فمرض في الطريق ومات سنة ٤٤٧ ق. ودفن في همذان وعلى لوح قبره بيتان فيهما تاريخ ميلاده ووفاته وعمره بالفارسية :

حجة الحق أبو علي سينا

در شجع آمد از عدم بوجود

در شصا كرد كسب جمله علوم

در تكز كرد از اين جهان بدرود

١٣٣

القوّة بالأفكار المعدّة لذلك وهذا المذهب هو المحكي عن الأكثر بل قال صاحب المجلي (١) انّ الاتّفاق واقع على انطباع صور المعقولات في القوّة العاقلة على هيئة انطباع الصور المرئيّة في المرآة المحسوسة إلّا أنّ ما ينطبع في القوة العاقلة أقوى وأتمّ وأشمل لأنّه لا يزول عنها ولوصولها بذلك الانطباع الى معرفة ذاتياته وعوارضه اللّازمة والفارقة وكون المنطبع فيها صور المرئيّات وغيرها من المحسوسات بالحواسّ الخمس والمعقولات الّتي لها في الخارج ما يطابقها المسماّة بالمعقولات الأولى بل وما لا يكون كذلك من المعقولات الثانية (٢) بل والمعدومات والممتنعات ، بخلاف المرآة الحسّيّة ، ثم بعد دعوى الاتّفاق حرّر نزاعا آخر قال : وحينئذ يكون هناك ثلاثة أمور : نفس الصورة وقبول النفس لها بالانفعال ، والنسبة الحاصلة بينهما من جهة الحال والمحلّ أعني الاتّصاف : فاسم العلم هل هو موضوع لنفس الصورة أو لذلك القبول والانفعال أو لتلك النسبة ومجرّد الاتّصاف.

ثمّ حكى الأوّل عن محقّقي الفلاسفة وأكثر المنطقيّين والمتكلّمين حيث جعلوه نفس الصورة وان تكلّموا في كيفيّة كون الصورة الشخصيّة القائمة بالقوّة العاقلة متعلّقة بالمعقولات الكلّية مع كونها جزئيّة متشخّصة.

والثاني عن شذوذ من الحكماء حيث جعلوه نفس ذلك الانفعال ، ولذا قالوا :

__________________

(١) المجلي مرآت المنجي كتاب كلامي في أصول الإعتقاد بطريق العرفان تأليف ابن أبي جمهور الأحسائي شمس الدين محمّد بن زين الدين علي بن الفقهاء والمتكلمين والعرفاء والمحدّثين ، ولد في الأحساء وتعلم من علمائها الفنون الأدبية والعلوم الرسميّة ثمّ ارتحل الى النجف واشتغل بكسب الفضائل. وفي العاقبة أقام في المشهد المقدّس الرضوي وناظر مع أكبر علماء الهرات وغلبه والمناظرة مطبوعة في آخر كتاب نامه دانشوران ج ١ ص ٧٣٣.

(٢) ص ١٤ في المعقول الثاني اصطلاحان .. الى آخره ج ذكر في ذيل الصفحة.

١٣٤

إنّه قبول القوّة العاقلة للمعقول وانفعالها عنه واتّحادها به نوعا من الاتّحاد كما هو المحكيّ عن ابن سيناء في المبدأ والمعاد (١).

والثالث عن بعض المتكلّمين الّذين جعلوه نفس النسبة ولذا عرّفوه بأنّه إضافة بين العالم والمعلوم فهو على الأوّل من مقولة الكيف لعرضية الصورة واحتياجها في القيام الى العاقلة وعلى الثاني من مقولة الانفعال ، وعلى الثالث ، من مقولة الإضافة.

أقول : وهذه الأقوال كلّها على فرض القول بارتسام صور المدركات في القوى ، النفسانيّة وانطباعها فيها ، وهذا القول (٢) وإن ذهب إليه جمهور الحكماء والمتكلّمين إلّا أنّ الّذي يقتضيه التحقيق هو خلافه ، وجملة الكلام في المقام أنّه قد اختصّ الإنسان بأنواع الإدراكات الأربعة الّتي هي الإحساس والتخيّل والتوهّم والتعقّل والمراد بالإحساس إدراك الشيء الموجود في المادّة الحاضرة عند المدرك على هيئات مخصوصة من الأين والمتى والوضع ، وسائر المشخّصات ، والتخيّل إدراكه مع الهيئات المذكورة في حالي حضوره وغيبته ، والتوهّم إدراك لمعان غير محسوسة من الكيفيّات والإضافات مخصوصة بالشيء الجزئي الموجود في المادة ،

__________________

(١) المبدأ والمعاد كتاب نفيس من مصنّفات الشيخ الرئيس حسين بن عبد الله ابن سيناء في التوحيد والمعاد على طريق الحكمة المشائية.

(٢) أشار الحاج السبزواري في منظومته الحكمية الى هذه الأقوال في العلم حيث قال :

من تلك أن في جنسه أقوال

كيف إضافة أو انفعال

فليدر بعد ما تشكّك علم

أنّ هنا نقشا بعقلنا رسم

ففينا الانفعال من مرسوم

له إضافة إلى المعلوم

فتخرج النسبة والانفعال

عمّا له علما وكيفا قالوا

١٣٥

والتعقّل إدراك الشيء من حيث هو هو فقط لا من حيث هو شيء آخر سواء أخذ وحده أو مع غيره من الصفات فهذه إدراكات مترتبة في التجريد.

الأوّل : مشروط بثلاثة أشياء حضور المادّة ، واكتناف الهيئات ، وكون المدرك جزئيّا.

والثاني : تجرّد عن الشرط الأوّل.

والثالث : عن الأوّلين.

والرابع : عن الجميع على ما حقّقه المحقّق الطوسي طاب ثراه (١).

ثمّ إنّ إنّية الإدراك بأقسامه وإن كانت في غاية الوضوح والظهور بحيث يقضي به الضرورة الوجدانيّة إلّا انّه قد صعب عليهم إدراك حقيقة وكيفيّته فاختلفوا فيه على أقوال :

أحدها : القول بالانطباع حسب ما مرّت إليه الإشارة ، واستدلّوا له بأنّا إذا تصوّرنا شيئا فإمّا أن يحدث في أذهاننا أثر ، أو لا يحدث شيء بل حالنا قبل التصوّر وبعده سواء.

والثاني : باطل بالضرورة الوجدانيّة ، وعلى الأوّل فذلك الأمر الحاصل إن لم يكن مطابقا لذلك الشيء لم يكن متصوّرا له وإن كان مطابقا له فهو إمّا عينه أو مثله ،

__________________

(١) في شرح الإشارات (ج ٢ ص ٣٢٣) قال وأنواع الإدراك أربعة إلخ وقال القطب الرازي في شرحه على الشرح : قوله (وأنواع الإدراك أربعة) : إمّا جزئية مادية أو غير مادية أمّا الجزئيات المادية فإمّا محسوسة أو غير محسوسة. والمحسوسات إمّا أن يتوقّف إدراكها على حضورها وهو الإحساس أو لا يتوقف وهو التخيل وإدراك غير المحسوسات هو التوهم. وأمّا غير الجزئيات المادية فإمّا أن لا يكون جزئية بل كلية ، أو تكون جزئيات غير مادية وأيا ما كان فإدراكها التعقل.

١٣٦

والأوّل باطل إذ كثيرا ما نتصوّر أمورا لا وجود لها في العين مع أنّ الشيء الواحد لا يكون موجودا في موضعين : خارج النّفس وداخلها.

فتعيّن أن يكون الموجود في النفس صورة مطابقة للموجود في الخارج وهو المطلوب.

وبأنّ حسن الإدراك والحفظ وضدّهما تابعان للكيفيّات الأربعة الموجبة لسهولة التشكّل وعدمها ولذا قال الأنطاكي (١) في نزهته (٢) : العلم حصول صورة المعلوم انتقاشا في قوى العقل والنفس المعبّر عنها بالذهن فهي كالمرآة والانتقاش فيها كانطباع المرئيّات في تلك ، فعليه قد يسهل النقش وزواله إذ أفرطت عليه الرطوبة أو يسهل الأوّل دون الثّاني إذا أفرطت الحرارة والعكس ، فالمراتب أربعة ضرورة وهذه القاعدة أصل يتفرّع عليها الحفظ والنسيان وما يغلب على الدماغ من الأخلاط وعلاج ذلك.

أقول : والوجهان ضعيفان.

أمّا الأوّل فلأنّ المراد بالأثر الحادث إن كان هو خصوص الصورة فنحن نمنع من حدوثها والضّرورة الوجدانيّة غير قاضية بإثباته كيف وهو أوّل الكلام وإن كان المراد منه الأعمّ من انطباع الصورة ومن مشاهدة ذي الصورة فدعوى الضّرورة ، حينئذ وإن كانت في محلّها إلّا أنّه لا ينبغي التكلّم حينئذ في المطابقة

__________________

(١) الأنطاكي هو داود بن عمر الطبيب نزيل القاهرة : صنف كتبا كثيرة في الطلب وتوفي سنة ١٠٠٨ ق.

(٢) نزهة الأذهان في طب الأبدان للأنطاكي وهو مختصرة على مقدمة وسبعة فصول وخاتمة جمع فيها الأهم من قواعد الطب.

١٣٧

وعدمها بعد احتمال كون الأمر الحاصل هو المشاهدة الحضورية حسب ما تسمع ، سلّمنا لكنّ المراد بالمطابقة حينئذ إنّما هي مطابقة الإدراك للمدرك لا الصّورة لديها.

وأمّا الثّاني فلأنّ لتلك الكيفيّات مدخلا تامّا في كلا الأمرين كما لا يخفى.

ثانيهما : ما ذهب إليه صدر المحققين ناسبا له إلى إلهام الله سبحانه وهو أنّ هذه الصورة المقداريّة لنا إنّما هي موجودة بإيجاد النّفس لها لا لقبول النّفس إيّاها وليست هي قائمة بالنّفس قيام الأعراض والصّور لموضوعاتها ، وموادّها بل قيام الأشياء الموجودة بمقيمها وفاعلها ، وذلك سرّ إلهي في النّفس حيث أبدعها الله تعالى مثالا له تعالى ذاتا وصفة وأفعالا. فللنّفس عالم جسماني مخصوص موجود في صقع من ذاتها وليست النفس داخلة في عالمها ولا خارجة عنه ولها معيّة بكلّ جزء من أجزاء عالمها أين ما كان ويكون وحيثما كان ويكون شبه المعيّة القيّوميّة الواجبة بكلّ ذرّة من ذرّات السماوات والأرضين من جهة أنّها ليست كمعيّة جسم بجسم ولا جوهر بجوهر ولا حال بحال ولا عكسه ولا معيّة حالّين بمحلّ واحد ، ولا شيء من سائر المعيّات بل معيّة قيوميّة وجوديّة يعجز عن دركها أكثر الأنام بل لا يدركها إلّا الفاضل الأوحديّ التامّ.

وقال في عرشيته (١) : إنّ الصور المقداريّة والأشكال وهيئاتها كما تحصل من الفاعل لأجل استعداد الموادّ ومشاركة القوابل فهي قد تحصل أيضا بالإبداع بمجرّد تصوّرات المبادي وجهات الفاعليّة من غير مشاركة قابل ووصفه واستعداده ، ومن هذا القبيل وجود الأفلاك والكواكب من تصوّرات المبادئ والجهات الفاعليّة ، وعلمه

__________________

(١) العرشية أو الحكمة العرشية كتاب حكمي في معرفة المبدأ والمعاد محتو على مشرقين ، الأوّل في العلم بالله وصفاته وأسمائه وآياته ، والثاني في علم المعاد.

١٣٨

تعالى بالنظام الأتمّ من غير سابقة قابليّة واستحقاق ، ومن هذا القبيل أيضا إنشاء الصّور الخياليّة القائمة لا في محلّ بمحض الإرادة من القوّة الخياليّة الّتي قد علمت أنّها مجرّدة من هذا العالم.

وهذا القول وإن شارك القول الأوّل من حيث إثبات الصورة الذهنيّة ، للمدركات إلّا أنّه يقابله ويضادّه من جهة ابتنائه على القول بالفعل دون الانفعال وهو وإن التجأ إلى ذلك القول فرارا عمّا ربّما يرد على القول بالصّور من الاعتراضات الكثيرة وحسبما تصدّوا لذكرها في محلّه إلّا أنّه لا يغني عنه شيئا من ذلك حسبما تسمع.

الفصل الثاني

في الإشارة الى أنواع العلوم وأصنافها

اعلم أنّ مطلق العلم الّذي هو انكشاف الشيء على ما هو عليه قد يسمّى حكمة ولذا عرّفوها بأنّها العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليها بحسب الطّاقة البشريّة الّتي لا إحاطة لها بالحقائق من حيث هي بل من حيث بعض الآثار واللّوازم والمبادئ والترتّبات ونحوها كما صرّح به غير واحد ممّن يظنّ رسوخهم في الحكمة المتعالية وهي تنقسم الى عقليّة وشرعيّة ، وإن كان كلّها عقليّة شرعيّة كما أنّها تنقسم الى نظريّة وعمليّة ، وإن كان كلّها نظريّة عمليّة ، فالحكمة النظريّة الّتي يعبّر عنها بالعلوم العقليّة ما كان المقصود من معرفتها نفس تلك المعرفة قصدا أوّليّا وإن قصد بها العمل أيضا كمعرفة الواجب والعلم بحدوث النفس وبقائها وعودها فإنّ هذه العلوم مقصودة في أنفسها وإن ترتّب عليها التعبّد بالشرعيّات أيضا ، ولذا

١٣٩

تراهم يعدّون الطبيعيّات والرياضيّات من الحكمة النظريّة وإن ترتّب على كثير من مسائلها مزاولة الأعمال بل ربما تكون هي المقصودة منها ، ومن هنا قسّم كثير منهم الهندسة الى العلميّة والعمليّة ، وكذا الطبّ وغيره كما أنّ الحكمة العمليّة ما يتعلّق بكيفيّة العمل فهو علم بشيء يكون المقصود إدخاله في الوجود أو منعه عنه كالعلم بالفضائل النفسانيّة ورذائلها بل وكذا العلم بالمسائل الفقهيّة فإنّه على الأصحّ عندي معدود من الحكمة العمليّة حسب ما تسمع.

وبالجملة فالعلوم إمّا عقليّة أو شرعيّة ، وكلّ منهما إمّا نظريّة أو عمليّة ، فالأقسام أربعة.

الأوّل : العقليّة النظريّة وتنقسم الى إلهيّة ورياضيّة وطبيعيّة لأنّها إن كانت متعلّقة بأمور مستغنية في نحوي الوجود العيني والذهني عن المادّة والمدّة فهي الحكمة الإلهيّة تسمية لها بأشرف ما يبحث فيها عنه ولو على وجه التّنزيه والتقديس وإن كان يبحث فيها أيضا عن مبادئ الموجودات وعن الأكوان الجبروتيّة والملكوتيّة من العقل والنفس والرّوح وغيرها من المجرّدات العالية عن الموادّ الخالية عن القوّة والاستعداد وإن كان شيء منها ليس مجرّدا على سبيل الإطلاق لأنّ كلّ ممكن زوج تركيبي ، وعن الأمور العامّة الّتي هي الوجود والماهيّة ، والعلّة والمعلول والكلّي والجزئي ، والوحدة والكثرة ، وغيرها ، وعن الصفات الجلاليّة والجماليّة من الذاتيّة والفعليّة مع التنزيه التّام من التّشبيه والتعطيل ، وانثلام الوحدة وتعدد القدماء ، وغير ذلك من المفاسد الّتي منها الفاعليّة بالعليّة والإيجاب بإثبات العقول العشرة ونحوها ، وعن خصوص العدل الّذى تفرّدت به العدليّة ، وعن أحوال النفس بعد مفارقة البدن وبقائها وتنعّمها وعودها ، وغير ذلك ممّا يتبعها فهذه هي الفنون الستّة الّتي للعلم الإلهي ، وزاد أهل الإسلام على ما دوّنه الفلاسفة فنّا سابعا وهو مباحث

١٤٠