محمّد بن إسحاق الخوارزمي
المحقق: دكتور مصطفى محمّد حسين الذّهبي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠
الفصل التاسع
فى ذكر هبوط آدم عليهالسلام إلى الأرض وبنائه الكعبة وحجه وطوافه بالبيت
اختلف فى المكان الذى أهبط فيه آدم (١) ، فقيل : أهبط بالهند وحواء بجدة.
وقيل : أهبط بسرنديب (٢).
وقيل : أهبط آدم وحواء على جبل بالهند اسمه واسم.
وقيل : آدم بسرنديب. وحواء بجدة ، وإبليس بالأبلة موضع بالبصرة ، والحيّة بأصفهان. كذا فى الكواشى فى تفسير القرآن عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : لما أهبط الله تعالى آدم عليهالسلام إلى الأرض من الجنة كان رأسه فى السماء ورجلاه فى الأرض ، وهو مثل الفلك (٣) من رعدته.
قال : فطأطأ الله ـ تعالى ـ منه إلى ستين ذراعا ، فقال : يا رب ، ما لى لا أسمع أصوات ملائكتك ولا حسهم؟ قال الله تعالى : خطيئتك يا آدم ، ولكن اذهب فابن لى بيتا وطف به واذكرنى حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشى. قال : فأقبل آدم ـ عليهالسلام ـ يتخطا ، فطويت له الأرض ، وقبضت له المفازة ، فصار كل مفازة يمر بها خطوة ، وقبض له ما كان من مخاض أو بحر ، فجعل له خطوة ، ولم يقع قدمه فى شىء من الأرض إلا صار عمرانا وبركة ، حتى انتهى إلى مكة ، فبنى البيت الحرام ، وإن جبريل ـ عليهالسلام ـ ضرب بجناحه الأرض ، فأبرز عن أسّ ثابت فى الأرض السفلى ، فقذفت فيه الملائكة الصخار كل صخرة منها ما تطيق ثلاثون رجلا ، وإنه بناه من خمسة أجبل : من لبنان ، وطور زينا ،
__________________
(١) ينظر عن ذلك : أخبار مكة للأزرقى ١ / ٣٥.
(٢) سرنديب : هى جزيرة سيلان حاليا.
(٣) الفلك : قيل : موج البحر المضطرب ، وقيل : أراد فلكة المغزل حال دورانها (سبل الهدى والرشاد ١ / ١٧٢).
وطور سيناء ، والجودى ، وجبل حراء ، حتى استوى على وجه الأرض (١).
وقيل : من ستة أجبل : من أبى قبيس ، ومن الطور ، ومن جبل القدس ، ومن ورقان ، ومن رضوى ، ومن أحد (٢).
وقيل : من خمسة أجبل : من حراء ، وثبير ، ولبنان ، والطور ، والجبل الأحمر ، والله أعلم.
قال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : وكان أول من أسس البيت وصلى فيه وطاف به آدم ـ عليهالسلام ـ حتى بعث الله ـ تعالى ـ الطوفان. قال : ولم يقرب الطوفان أرض الهند والسند (٣).
قال : فدرس موضع البيت فى الطوفان حتى بعث الله ـ تعالى ـ إبراهيم وإسماعيل ـ عليهماالسلام ـ فرفعا قواعده وأعلامه ، ثم بنته قريش بعد ذلك ، وهو بحذاء البيت المعمور ؛ لو سقط ما سقط إلا عليه.
وعن وهب بن منبّه قال : إن الله تبارك وتعالى لما تاب على آدم ـ عليهالسلام ـ أمره أن يسير إلى مكة ، فطوى له الأرض ، وقبض له المفاوز ، فصار كل مفازة يمر بها خطوة ، وقبض له ما كان من مخاض ماء أو بحر ، فجعل له خطوة ، فلم يضع قدمه فى شىء من الأرض إلا صار عمرانا وبركة ، حتى انتهى إلى مكة.
وكان قبل ذلك قد اشتد بكاؤه وحزنه لما كان فيه من عظم المصيبة ؛ حتى إن كانت الملائكة لتحزن لحزنه ولتبكى لبكائه ، فعزّاه الله ـ تعالى ـ بخيمة من خيام الجنة ، ووضعها له بمكة فى موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة ، وتلك الخيمة كانت من ياقوتة حمراء من يواقيت الجنة ، فيها ثلاث قناديل من ذهب من تبر الجنة
__________________
(١) أخرجه : عبد الرزاق (٩٠٩٣) ، والأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٣٧ ، وابن سعد فى الطبقات ١ / ٣٨ ، والصالحى فى سبل الهدى والرشاد ١ / ١٧١ ، وقال السهيلى فى الروض الأنف ١ / ١٢٩ : انتبه لحكمة الله تعالى كيف جعل بناءها من خمسة أجبل فشاكل ذلك معناها ؛ إذ هى قبلة الصلوات الخمس وعمود الإسلام الذى بنى على خمس.
(٢) انظر روايات : خمس أجبل فى أخبار مكة ١ / ٦٣ ، وسبعة أجبل ١ / ٥٣ ، أما رواية «ستة أجبل» فلم أعثر عليها إلا فى هداية السالك لابن جماعة ٣ / ١٣٢٤.
(٣) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٣٧ ، سبل الهدى والرشاد ١ / ١٧٢.
فيها نور يلتهب من نور الجنة ، ونزل معه الركن وهو يومئذ ياقوته بيضاء من ربض الجنة ، وقيل : من رياض الجنة ، وكان كرسيا لآدم ـ عليهالسلام ـ.
فلما صار آدم بمكة حرسها الله ـ تعالى ـ وحرس له تلك الخيمة بالملائكة ؛ كانوا يحرسونها ويزودون عنها ساكن الأرض ـ وسكانها يومئذ الجن والشياطين ـ فلا ينبغى لهم أن ينظروا إلى شىء من الجنة ؛ لأن من نظر إلى شىء من الجنة وجبت له ، والأرض يومئذ طاهرة نقية لم تتنجس ، ولم تسفك فيها الدماء ، ولم تعمل فيها الخطايا ؛ فلذلك جعلها الله تعالى مسكنا للملائكة ، وجعلهم فيها كما كانوا فى السماء يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، وكان وقوفهم على أعلام الحرم صفا واحدا مستدبرين بالحرم ، كل الحلّ من خلفهم والحرم كله من أمامهم ، فلا يجوزهم جنّىّ ولا شيطان ، ومن أجل مقام الملائكة حرم الحرم حتى اليوم ، ووضعت أعلامه حيث كان مقام الملائكة.
وحرّم الله ـ تعالى ـ على حواء دخول الحرم والنظر إلى خيمة آدم ، من أجل خطيئتها التى أخطأتها فى الجنة ؛ فلم تنظر إلى شىء من ذلك حتى قبضت ، وأن آدم ـ عليهالسلام كان إذا أراد لقاءها ليلمّ بها للولد خرج من الحرم كله حتى يلقاها ، فلم تزل خيمة آدم ـ عليهالسلام ـ مكانها حتى قبض الله ـ تعالى ـ آدم ـ عليهالسلام ـ ورفعها الله ـ تعالى ـ إلى السماء.
ثم بنى بنو آدم بها من بعدها مكانها بيتا بالطين والحجارة ، فلم يزل معمورا يعمرونه ومن بعدهم حتى كان زمن نوح ـ عليهالسلام ـ فنسفه الغرق وخفى مكانه ؛ فلما بعث الله ـ عز وجل ـ إبراهيم خليله ـ عليهالسلام ـ طلب الأساس ، فلما وصل إليه ظلل الله له مكان البيت بغمامة ، فكانت حفاف البيت الأول ، ثم لم تزل راكدة على حفافه تظلل إبراهيم وتهديه مكان القواعد ، حتى رفع إبراهيم القواعد قدر قامته ، ثم انكشفت الغمامة ؛ فذلك قول الله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ). أى : الغمامة التى ركدت على الحفاف لتهديه مكان القواعد ، فلم يزل بحمد الله منذ رفعه الله ـ تعالى ـ معمورا (١).
__________________
(١) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٥١ ـ ٥٢ ، سبل الهدى والرشاد ١ / ١٧١ ، ١٧٢.
قال وهب بن منبّه : وقرأت فى كتاب من الكتب الأولى ذكر فيه أمر الكعبة فوجدت فيه : أن ليس من ملك من الملائكة بعثه الله ـ تعالى ـ إلى الأرض إلا أمره بزيارة البيت ، فينقضّ من تحت العرش محرما ملبيا حتى يستلم الحجر ، ثم يطوف سبعا بالبيت ، ويركع فى جوفه ركعتين ، ثم يصعد (١).
وعن عبد الله بن لبيد ، قال : بلغنى أن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : لما أهبط الله ـ تعالى آدم ـ عليهالسلام ـ إلى الأرض ، أهبطه إلى موضع البيت الحرام وهو مثل الفلك من رعدته ، ثم أنزل عليه الحجر الأسود ـ يعنى : الركن ـ وهو يتلالأ من شدة بياضه ، فأخذه آدم فضمه إليه ؛ أنسا به ، ثم نزلت عليه العصا ، فقيل له : تخطّ يا آدم ، فتخطى ، فإذا هو بأرض الهند والسند ، فمكث بذلك ما شاء الله ، ثم استوحش إلى الركن ، فقيل له : احجج ، فحج ، فلقيته الملائكة ، فقالوا : برّ حجك يا آدم ؛ لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفى عام (٢).
وعن عثمان بن ساج ، قال : بلغنى أن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ قال لكعب : يا كعب ، أخبرنى عن البيت الحرام ، قال كعب : أنزله الله تعالى من السماء ياقوتة مجوفة مع آدم ، فقال : يا آدم إن هذا بيتى أنزلته معك ، يطاف حوله كما يطاف حول عرشى ، ويصلى حوله كما يصلى حول عرشى. ونزلت الملائكة فرفعوا قواعده من الحجارة ، ثم وضع البيت عليه ، فكان آدم ـ عليهالسلام ـ يطوف حوله كما كان يطوف حول العرش ، ويصلى عنده كما كان يصلى عند العرش. فلما أغرق الله ـ تعالى ـ قوم نوح ، رفعه الله ـ تعالى ـ إلى السماء ، وبقيت قواعده (٣).
وعن وهب بن منبّه ، قال : كان البيت الذى بوّأه الله ـ تعالى ـ لآدم ـ عليه
__________________
(١) أخرجه : البيهقى فى الشعب (٣٩٩٠) ، الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٣٥.
(٢) أخرجه : الأزرقى موقوفا على أبى هريرة (١ / ٤٣) ، وابن الجوزى فى العلل (٩٣٧) ، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور إلى الجندى (١ / ٢٤٥). الديلمى فى الفردوس (٤٨٥١) ، وفيه : محمد ابن زياد اليشكرى الجزرى صاحب ميمون بن مهران الفأفأ ، قال عنه الدارقطنى : كذاب. وقال ابن حبان : كان ممن يضع الحديث ولا يحل ذكره فى الكتب إلا على جهة القدح فيه. وقال عنه الترمذى : ضعيف جدا. وقال عنه النسائى : متروك الحديث.
(٣) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٤٠.
السلام ـ يومئذ من ياقوت الجنة ، وكان من ياقوتة حمراء تلتهب إلتهابا ، لها بابان : أحدهما شرقى ، والآخر غربى ، وكان فيه قناديل من نور آنيتها ذهب من تبر الجنة ، وهو منظوم بنجوم من ياقوت أبيض ، والركن يومئذ نجم من نجومه ، وهو يومئذ ياقوته بيضاء (١).
وعن عطاء بن أبى رباح ، قال : لما بنى ابن الزّبير الكعبة أمر العمال أن يبلغوا إلى الأرض ، فبلغوا صخارا مثل الإبل الخلف. قال : فقالوا : إنا بلغنا صخارا معمولة مثل الإبل الخلف ، قال : زيدوا فاحفروا ، فلما زادوا بلغوا هواء من نار تلقاهم. فقال : ما بالكم؟ قالوا : لسنا نستطيع أن نزيد ؛ رأينا أمرا عظيما. فقال لهم : ابنوا عليه. قال : فسمعت عطاء يقول : يرون أن ذلك الصخر مما بنى آدم عليه الصلاة والسلام (٢) ، والله أعلم.
__________________
(١) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٤٠ ، ٤١ ، ابن جماعة فى هداية السالك ٣ / ١٣٢١.
(٢) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٤١ ، ابن الجوزى فى العلل (٩٣٧) وتراجع تفاصيل هبوط آدم ووحشته وبناؤه للبيت فى : سبل الهدى والرشاد ١ / ١٧٠ ، شفاء الغرام ١ / ١٤٧ ـ ١٦١ ، أخبار مكة للأزرقى ١ / ٣٥ ، الروض الأنف ١ / ٢٢١ ، عيون الأثر ١ / ١٢١.
الفصل العاشر
فى ذكر ما جاء فى حج آدم عليهالسلام ودعائه لذريته
عن عثمان بن ساج ، قال : حدّثت أن آدم ـ عليهالسلام ـ خرج حتى قدم مكة ، فبنى البيت ، وأعانت له الملائكة ، فلما فرغ من بنائه ، قال : أى رب ، إن لكل عامل أجرا ، وإن لى أجرا؟ قال : نعم ، فاسألنى ، قال : أى رب ، تردنى من من حيث أخرجتنى. قال : نعم ، لك ذلك. قال : يا رب ، ومن خرج إلى هذا البيت من ذريتى يقر على نفسه بمثل الذى أقررت من ذنوبى أن تغفر له ، قال : نعم ، لك ذلك (١).
وعن أبى المليح أنه قال : كان أبو هريرة ـ رضى الله عنه يقول : حج آدم ـ عليهالسلام ـ فقضى المناسك ، فلما فرغ من نسكه وقف فى الملتزم ، وقال : يا رب ، إن لكل عامل أجرا ، قال : يا رب ، ولى أجر فبين لى أجرى. قال الله تعالى : نعم ، أما أنت يا آدم فقد غفرت لك ، وأما ذريتك : فمن جاء منهم هذا البيت فباء بذنبه فقد غفرت له على ما كان فيه ولا أبالى. فقال آدم : قد رضيت يا رب. فحج آدم ، فاستقبلته الملائكة بالردم (٢) ، فقالوا : برّ حجك يا آدم ؛ إنا قد حججنا هذا البيت قبلك بألفى عام. قال : فما كنتم تقولون حوله؟ قالوا : كنا نقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. فكان آدم إذا طاف يقول هذه الكلمات ، وكان طواف آدم سبعة أسابيع بالليل ، وخمسة أسابيع بالنهار (٣).
قال نافع : كان ابن عمر يفعل ذلك ؛ يعنى : طواف آدم.
__________________
(١) أورده ابن الجوزى فى مثير الغرام (ص : ٢٤٩) ولم يعزه.
(٢) يقع هذا الردم فى الجهة الشمالية الغربية من الحرم ، وكان بين باب بنى سهم (باب العمرة حاليا) ، وباب إبراهيم ، وهذه المنطقة منطقة مرتفعة لا يعلوها السيل ؛ فهى عنه بمعزل ، ولا أثر لهذا الردم فى الوقت الحاضر ؛ فكأنه دخل فى توسعات الحرم.
(٣) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٣٥.
وعن عبد الله بن أبى سليمان ـ مولى بنى مخزوم ـ أنه قال : طاف آدم ـ عليهالسلام ـ بالبيت سبعا بالليل حين أنزل من الجنة ، وأنزل بين الركن والمقام ، ثم صلى تجاه باب الكعبة ركعتين ، ثم أتى الملتزم ، فقال : اللهم إنك تعلم سرى وعلانيتى فاقبل معذرتى ، وتعلم ما فى نفسى وما عندى فاغفر لى ذنوبى ، وتعلم حاجتى فاعطنى سؤلى ، اللهم إنى أسألك إيمانا يباشر قلبى ، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبنى إلا ما كتبت لى ، والرضا بما قضيت علىّ.
فأوحى الله إليه : يا آدم قد دعوتنى بدعوات فاستجبت لك ، ولن يدعونى بها أحد من أولادك إلا كشفت عنه غمومه ، وكففت عليه ضيعته ، ونزعت الفقر من قلبه ، وجعلت الغنى بين عينيه ، وتجرّت له من وراء تجارة كل تاجر ، وأتته الدنيا وهى راغمة ، وإن كان لا يريدها (١).
قال : فمذ طاف آدم ـ عليهالسلام ـ كانت سنّة.
وعن عثمان بن ساج ، قال : أخبرنى سعيد : أن آدم ـ عليهالسلام ـ حج على رجليه سبعين حجة ماشيا ، وأن الملائكة لقيته بالمأزمين ، فقالوا : برّ حجك يا آدم ، إنا قد حججنا قبلك بألفى عام (٢).
وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ مثله ، وزاد : قال : ما كنتم تقولون فى الطواف؟. قالوا : كنا نقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، فأعلمناه ذلك ، فقال آدم عليهالسلام : زيدوا فيها : ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فقال إبراهيم ـ عليهالسلام ـ : زيدوا فيها : العلى العظيم. ففعلت الملائكة ـ عليهمالسلام ـ ذلك (٣).
وعن عثمان بن ساج ، عن أبى إسحاق ، قال : بلغنى أن آدم ـ عليهالسلام ـ لما أهبطه الله تعالى ـ إلى الأرض حزن على ما فاته مما كان يرى ويسمع فى الجنة من
__________________
(١) أخرجه ابن عساكر «مختصر تاريخ دمشق ٤ / ٢٢٣» ، أخبار مكة للأزرقى ١ / ٤٤ موقوفا على عبد الله بن أبى سليمان ، وفيه سليمان بن قسيم ، وقيل : ابن يسير ، أبو الصباح قال عنه ابن حجر فى التقريب (٢٦٢٨) : ضعيف. ومثير الغرام الساكن (ص : ٣٧٤).
(٢) مثير الغرام الساكن (ص : ١١٧).
(٣) أخرجه : المحب الطبرى فى القرى (ص : ٤٦) وعزاه للأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٤٥.
عبادة الله تعالى ، فبوأ الله ـ تعالى ـ البيت الحرام ، وأمره بالمسير إليه ، فصار لا ينزل منزلا إلا فجر الله به ماء معينا حتى انتهى إلى مكة ، فأقام بها ، فعبد الله ـ سبحانه وتعالى ـ عند البيت ، وطاف به ، ثم لم تزل مكة داره حتى مات ودفن فى أبى قبيس. ووقت الطوفان حمله نوح معه فى السفينة فى تابوت صنعه من الساج ، فلما رفع الطوفان رده إلى مكانه ، ودفنه فيه.
وقيل : إن سام بن نوح أخرج جسده من السفينة وحمله إلى منى ، ودفنه عند منارة مسجد الخيف.
وكان طوله : ستون ذراعا ، وعرضه : سبعة فى سبعة بذراعه ، وكان أمرد بلا لحية ، وولد له أربعون ولدا فى عشرين بطن ، منهم عشرون ذكرا ، وعشرون أنثى.
وأنزل الله عليه عشر صحائف ، ومات وعمره ألف سنة ، وقيل : ألف إلا تسعين سنة.
واختلف فى المكان الذى أهبط فيه ؛ فقيل : أهبط فى الهند وحواء بجدة ، وقيل : أهبط بسرنديب ، وقيل : أهبط آدم وحواء على جبل بالهند ، والله أعلم.
* * *
الفصل الحادى عشر
فى ذكر وحشة آدم عليهالسلام فى الأرض
حين نزل بها ، وفضل البيت الحرام والحرم
عن وهب بن منبّه أنه قال : إن آدم ـ عليهالسلام ـ لما أهبط إلى الأرض استوحش فيها لما رأى من شعثها ، ولم ير فيها أحدا غيره. قال : يا رب ، أما لأرضك هذه عامر يسبحك فيها ويقدس لك غيرى؟ قال الله : إنى سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدى ويقدس لى ، وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكرى ويسبحنى فيها خلقى ، وسأبؤك فيها بيتا أختاره لنفسى وأختصه بكراماتى ، وأؤثره على بيوت الأرض كلها باسمى ، فأسميه بيتى ، وأنطقه بعظمتى ، وأحوزه بحرماتى ، وأجعله أحق بيوت الأرض كلها وأولاها لذكرى ، وأضعه فى البقعة التى اخترتها لنفسى ؛ فإنى اخترت مكانه يوم خلقت السموات والأرض وقبل ذلك ، وقد كان بعينى ، فهو صفوتى من البيوت ، ولست أسكنه ، ولا ينبغى لها أن تسعنى ، ولكنى على كرسى الكبرياء والجبروت ، وهو الذى استقل بعزتى ، وعليه وضعت عظمتى وجلالى ، وهنالك استقر قرارى ، ثم هو بعد ضعيف عنى لو لا قوتى ، ثم أنا ملء كل شىء ، وفوق كل شىء ، ومع كل شىء ، ومحيط بكل شىء ، وأمام كل شىء ، وخلف كل شىء ، ليس ينبغى لشىء أن يعلم علمى ، ولا يقدر قدرتى ، ولا يبلغ كنه شأنى ، أجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرما وأمنا ، أحرّم بحرماتى ما فوقه وما تحته وما حوله ، فمن حرّمه بحرمتى فقد عظم حرماتى ، ومن أخافهم فقد أخفرنى فى ذمتى ، ومن عظّم شأنه عظم فى عينى ، ومن تهاون به صغر فى عينى. ولكل ملك حيازة مما حواليه ، وبطن مكة حوزتى وحيازتى ، وأهلها جيران بيتى ، وعمارها وزوارها وفدى وأضيافى ، فى كنفى وأفنيتى آمنون علىّ ، فى ذمتى وجوارى ، فأجعله أول بيت وضع للناس ، وأعمره بأهل السماء وأهل الأرض ، يأتونه أفواجا شعثا غبرا على كل ضامر يأتين من كل
فج عميق ، يعجون بالتكبير عجيجا ، ويضجون بالتلبية ضجيجا ، وينتحبون بالبكاء نحيبا ، فمن اعتمده لا يريد غيره فقد زارنى ووفد إلىّ ونزل بى ، ومن نزل بى فحقيق علىّ أن ألحقه بكرامتى ، وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه ، وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته ، تعمره أنت يا آدم ما كنت حيا ، ثم تعمره من بعدك الأمم والقرون والأنبياء أمة بعد أمة ، وقرنا بعد قرن ، ونبى بعد نبى ؛ حتى ينتهى ذلك إلى نبى من ولدك وهو خاتم النبيين ، فأجعله من عمّاره وسكّانه وحماته وولاته وسقاته ، يكون أمينى عليه ؛ ما كان حيا ، فإذا انقلب إلىّ وجدنى قد دخرت له من أجره وفضيلته ما يمكن القربى منى والوسيلة إلىّ ، وأفضل المنازل فى دار المقام.
وأجعل اسم ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وثناءه ومكرمته لنبى من ولدك يكون فيها من قبل هذا النبى وهو أبوه ، يقال له : إبراهيم ، أرفع له قواعده ، وأقضى على يديه عمارته ، وأنيط له سقايته ، وأريه حلّه وحرمه وموقفه ، وأعلمه مشاعره ومناسكه ، وأجعله أمة واحدا قانتا لى ، قائما بأمرى داعيا إلى سبيلى ، أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم ، ابتليه فيصبر ، وأعافيه فيشكر ، وينذر لى فيفى ، ويعدنى فينجز ، وأستجيب له فى ولده وذريته من بعده ، وأشفعه فيهم ؛ فأجعل لهم ذلك البيت ، وولاته وحماته وسقاته وخدّامه وخزّانه وحجابه ؛ حتى يبتدعوا ويغيروا ؛ فإذا فعلوا ذلك : فأنا الله أقدر القادرين على أن أستبدل من أشاء بمن أشاء ؛ أجعل إبراهيم إمام ذلك البيت ، وأهل تلك الشريعة ؛ يأتم به من حضر تلك المواطن من جميع الإنس والجن ، يطأون فيها آثاره ، ويتبعون فيها سنته ، ويقتدون فيها بهديه. فمن فعل ذلك منهم : أوفى بنذره ، واستكمل نسكه ، ومن لم يفعل ذلك منهم : ضيع نسكه ، وأخطأ بغيته. فمن سأل عنى يومئذ فى تلك المواطن أين أنا ، فأنا مع الشعث الغبر الموفين بنذورهم ، المستكملين مناسكهم ، المبتهلين إلى ربهم الذى يعلم ما يبدون وما يكتمون ، وليس هذا الخلق ولا هذا الأمر الذى قصصت عليك شأنه يا آدم بزائد فى ملكى وعظمتى ولا سلطانى ولا شىء مما عندى ؛ إلا كما زادت قطرة من رشاش وقعت فى سبعة أبحر تمدها من بعدها سبعة أبحر ، لا يحصى بلّ القطرة أزيد فى البحر من هذا الأمر فى شىء مما
عندى ، ولو لم أخلقه لم ينتقص شىء من ملكى ولا عظمتى ولا مما عندى من الغنا والسعة إلا كما نقصت الأرض ذرة وقعت من جميع ترابها وجبالها وحصائها ورمالها وأشجارها ونباتها ؛ بل الذرة فى الأرض أنقص فى هذا الأمر لو لم أخلقه لشىء مما عندى (١).
وروى وهب بن منبّه بنحوه أيضا.
__________________
(١) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٤٦ ـ ٤٨.
الفصل الثانى عشر
فى ذكر ما جاء فى البيت المعمور ورفعه من الغرق
عن مقاتل ، يرفع الحديث إلى النبى صلىاللهعليهوسلم فى حديث حدث به : أن آدم ـ عليهالسلام ـ قال : أى رب ، إنى أعرف شقوتى ، وإنى لا أرى شيئا من نورك أتعبد فيه ، فأنزل الله تعالى عليه البيت المعمور على عرض البيت فى موضعه من ياقوتة حمراء ؛ ولكن طوله كما بين السماء والأرض ، وأمره أن يطوف به ، فأذهب الله عنه الهم الذى كان يجده قبل ذلك. ثم رفع فى عهد نوح عليهالسلام (١).
وقال جويبر : كان البيت المعمور بمكة فرفع زمن الغرق فهو فى السماء.
وعن مجاهد ، قال : بلغنى أنه لما خلق الله تعالى السموات والأرض كان أول شىء وضعه فيه البيت الحرام ؛ وهو يومئذ ياقوتة حمراء مجوفة ، لها بابان : أحدهما شرقى ، والآخر غربى ، وجعل مستقبل البيت المعمور ، فلما كان زمن الغرق رفع فى ديباجتين ، فهو فيها إلى يوم القيامة ، واستودع الله الركن أبا قبيس (٢).
وعن مقاتل ـ فى حديث رفعه إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ أنه قال : «إنما سمى البيت المعمور ؛ لأنه يصلى فيه كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم ينزلون ، ثم ينصرفون فلا تأتيهم النوبة إلى يوم القيامة» (٣).
وعن عثمان بن ساج ، عن وهب : أنه وجد فى التوراة : أن بيتا فى السماء بحيال الكعبة فوق قبتها اسمه الضراح ؛ وهو البيت المعمور ، يرده كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يعودون فيه أبدا (٤).
__________________
(١) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٥١.
(٢) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٥٠.
(٣) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٤٩.
(٤) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٤٩ ، والديلمى فى الفردوس (٢٠٤٩).
وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «البيت المعمور الذى فى السماء يقال له الضراح ، وهو مثل بناء البيت الحرام ، ولو سقط لسقط عليه ، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يعودون فيه أبدا» (١).
وعن أبى الطفيل ، قال : سأل ابن الكوّاء عليّا ـ رضى الله عنه ـ ما البيت المعمور؟ قال : هو الضراح ، وهو حذاء هذا البيت ، وهو فى السماء السادسة ، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يعودون فيه أبدا (٢).
وعن سفيان بن عيينة : نحوه ، إلا أنه زاد : فى السماء السابعة ، وقال : لا يعودون إليه إلى يوم القيامة (٣) ، والله أعلم.
__________________
(١) أخرجه : عبد الرزاق فى مصنفه مرسلا عن كريب (٨٨٧٤) ، البيهقى فى الشعب موقوفا (٣٩٩٧) ، والأزرقى أخبار مكة ١ / ٤٩.
وسمى الضراح ؛ لأنه ضرح عن الأرض زمن الطوفان ، وقيل : من المضارحة وهى المقابلة. (النهاية ٣ / ٨١).
(٢) أخرجه : الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٤٩ ، وعزاه السيوطى فى الدر المنثور ٦ / ١٤٤ إلى ابن جرير ، وابن المنذر عن الضحاك ، وعبد الرزاق فى مسنده (٨٨٧٥).
(٣) السيوطى فى الدر المنثور ٦ / ١٤٤ ، وعزاه إلى ابن المنذر ، والعقيلى ، وابن أبى حاتم ، وابن مردويه ، وضعفه.
الفصل الثالث عشر
فى ذكر أمر الكعبة بين نوح وإبراهيم عليهماالسلام
عن مجاهد ، أنه قال : كان موضع البيت قد خفى ودرس من الغرق بين نوح وإبراهيم عليهماالسلام. قال : وكان موضعه أكمة حمراء ، مدرة لا تعلوها السيول ؛ غير أن الناس يعلمون أن موضع البيت فيما هنالك ولا ينبت موضعه ، وكان يأتيه المظلوم والمتعوذ من أقطار الأرض ، ويدعو عنده المكروب ؛ فقلّ من دعا هنالك إلا استجيب له ، وكان الناس يحجون إلى مكة إلى موضع البيت يطوفون بذلك حتى بوأ الله ـ تعالى ـ مكانه لإبراهيم ـ عليهالسلام ـ لما أراد عمارة بيته وإظهار دينه وشعائره ، فلم يزل منذ أهبط الله آدم إلى الأرض معظما محرّما يتناسخه الأمم والملل ، أمة بعد أمة ، وملة بعد ملة. وقد كانت الملائكة تحجه قبل آدم ـ عليهالسلام ـ كما مر من قبل (١) ، والله أعلم.
__________________
(١) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٥٢ ، ٥٣.
الفصل الرابع عشر
فى ذكر تخيّر إبراهيم عليهالسلام موضع البيت الحرام من الأرض
عن عثمان بن ساج قال : بلغنا ـ والله أعلم ـ أن إبراهيم الخليل ـ عليهالسلام ـ عرج به إلى السماء ، فنظر إلى الأرض ؛ مشارقها ومغاربها ؛ وذلك قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)(١) فاختار موضع الكعبة ، فقالت له الملائكة : يا خليل الله ، اخترت حرم الله فى الأرض.
قال : فبناه من حجارة سبعة أجبل. قال : ويقول : من خمسة أجبل. وكانت الملائكة تأتى بالحجارة إلى إبراهيم ـ عليهالسلام ـ من تلك الجبال (٢).
بيت بناه بإذن من رفع العلى |
|
بانى المكارم والعلى وجداء |
نقل المليك بعد قلع رضامه |
|
من أجبل طالت على الخضراء |
هذاك بيت الله ما من خائف |
|
ومثابة للناس فى العوصاء |
وعن مجاهد : أن الله ـ تعالى ـ لما بوأ لإبراهيم ـ عليهالسلام ـ مكان البيت خرج إليه من الشام ، وخرج معه ابنه إسماعيل وهو طفل يرضع ، وأمه هاجر ، وجاءوا ـ فيما يحدثنى ـ على البراق (٣).
وعن الحسن البصرى ، أنه كان يقول فى صفة البراق ، عن النبى صلىاللهعليهوسلم قال : «إنه أتانى جبريل ـ عليهالسلام ـ بدابة بين الحمار والبغل ، لها جناحان فى فخذيها يحفرانها ، تضع حافرها فى منتهى طرفها» (٤).
قال محمد بن إسحاق : ومعه جبريل يدلّه على موضع البيت ومعالم الحرم.
__________________
(١) سورة الأنعام : آية ٧٥.
(٢) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٥٣.
(٣) سبل الهدى والرشاد ٣ / ١٤٤.
(٤) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٥٤.
قال : فخرج وخرج معه جبريل ، فلا يمر إبراهيم بقرية من القرى ، إلا قال : يا جبريل ، أبهذا أمرت؟ فيقول له جبريل : امض ، حتى قدم مكة ؛ وهى إذا ذاك عضاة من معلم وسمر ، وبها ناس يقال لهم العماليق خارجا من مكة فيما حولها ، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة. فقال إبراهيم لجبريل ـ عليهالسلام ـ : أها هنا أمرت أن أضعهما؟ قال : نعم. قال : فعمد بهما إلى موضع الحجر ، فأنزلهما فيه ، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا. ثم قال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)(١) الآية ، ثم انصرف إلى الشام وتركهما عند البيت الحرام (٢).
وعن محمد بن إسحاق ، أنه قال : بلغنى أن ملكا أتى إلى هاجر أم إسماعيل ؛ حين أنزلها إبراهيم بمكة قبل أن يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت ، فأشار لها إلى البيت ؛ وهى ربوة حمراء مدرة ، فقال لها : هذا أول بيت وضع للناس فى الأرض ، وهو بيت الله العتيق ، واعلمى أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه للناس (٣).
وقال ابن جريج : وبلغنى أن جبريل ـ عليهالسلام ـ هزم بعقبه فى موضع زمزم ، وقال لأم إسماعيل ـ وأشار لها إلى موضع البيت ـ : هذا أول بيت وضع للناس ، وهو بيت الله العتيق ، واعلمى أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه ويعمرانه ، فلا يزال معمورا محرما مكرما إلى يوم القيامة (٤).
وعن ابن جريج ـ أيضا ـ قال : فماتت أم إسماعيل قبل أن يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد ، ودفنت فى موضع الحجر ، وإسماعيل ـ عليهالسلام ـ لما حضرته الوفاة أوصى إلى أخيه إسحاق أن يدفنه فى الحجر إلى جنب أمه هاجر.
وعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أن الملك الذى أخرج زمزم لهاجر قال لها : وسيأتى أبو هذا الغلام فيبنى بيتا وهذا مكانه ـ وأشار إلى موضع البيت ـ ثم انطلق الملك (٥). وقال ابن عباس : هذا الملك كان غير جبريل عليهالسلام ، والله أعلم.
__________________
(١) سورة إبراهيم : آية ٣٧.
(٢) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٥٤ ، سبل الهدى والرشاد ١ / ١٧٣ ، الاكتفا ١ / ٥٢.
(٣) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٥٦.
(٤) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٥٦.
(٥) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٥٦.
الفصل الخامس عشر
فى ذكر بناء إبراهيم عليهالسلام الكعبة
عن سعيد بن جبير ، قال : حدثنا عبد الله بن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال :لبث إبراهيم ـ عليهالسلام ـ فى الشام ما شاء الله أن يلبث ، ثم جاء فى المرة الثالثة فوجد إسماعيل قاعدا تحت الدوحة التى فى ناحية البئر يبرى نبلا له ـ أو نباله ـ وعمره عشرون سنة ، فسلم عليه ونزل إليه فقعد معه ، فقال إبراهيم له : يا إسماعيل إن الله قد أمرنى بأمر. فقال له إسماعيل : فأطع ربك فيما أمرك. فقال إبراهيم : أمرنى ربى أن أبنى له بيتا. فقال له إسماعيل : وأين؟ يقول ابن عباس : فأشار إلى أكمة (١) مرتفعة على ما حولها رضراض (٢) من حصباء ، يأتيها السيل من نواحيها ، ولا يركبها.
يقول ابن عباس : فقاما يحفران عن القواعد ، ويقولان : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.)(٣)
ويحمل له إسماعيل الحجارة على رقبته ، ويبنى إبراهيم ـ عليهالسلام ـ فلما ارتفع البنيان وشق على إبراهيم تناول الحجر منه قرّب له إسماعيل هذا الحجر ـ يعنى : المقام ـ فكان يقوم عليه ويبنى ويحوله فى نواحى البيت حتى انتهى وجه البيت (٤). يقول ابن عباس : فلذلك سمى مقام إبراهيم لقيامه عليه.
وعن وهب بن منبّه ، أنه أخبر ، قال : لما أن بعث الله ـ تعالى ـ إبراهيم خليله ليبنى البيت ؛ طلب الأساس الأول الذى وضعه بنو آدم فى موضع الخيمة التى
__________________
(١) الأكمة : التل ، والجمع : أكم وإكام ، وآكام : (المعجم الوسيط ١ / ٢٣).
(٢) الرضراض : الحصى الصغار فى مجارى الماء ، والقطر الصغار من المطر (المعجم الوسيط ١ / ٣٦٣).
(٣) سورة البقرة : آية ١٢٧.
(٤) أخرجه : البيهقى فى دلائل النبوة ٢ / ٥٢ ، الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٥٩ ، السيوطى فى الخصائص الكبرى ١ / ٧٨ ، الصالحى فى سبل الهدى والرشاد ١ / ١٨٠ ـ ١٨٢.
عزّى الله بها آدم ـ عليهالسلام ـ من خيام الجنة حين وضعت له بمكة فى موضع البيت ، فلم يزل إبراهيم يحفر حتى وصل إلى القواعد التى أسست الملائكة عليها الخيمة ، وأسسه بعده بنو آدم فى زمانهم فى موضع الخيمة ، فلما وصل إليها : أظل الله ـ تعالى ـ له مكان البيت بغمامة ، فكانت حفاف البيت الأول ، ثم لم تزل راكدة على حفافه تظلل إبراهيم وتهديه مكان القواعد حتى رفع القواعد قدر قامته ، ثم انكشطت الغمامة ؛ فذلك قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ)(١) ، أى : الغمامة التى ركدت على الحفاف ؛ ليهتدى بها مكان القواعد ، فلم يزل والحمد لله منذ رفعه الله معمورا (٢).
وعن خالد بن عرعرة ، عن على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ فى قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ* فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً)(٣). قال : إنه ليس بأول بيت مطلقا ؛ بل كان نوح ـ عليهالسلام ـ فى البيوت قبل إبراهيم ، وكان إبراهيم فى البيوت ؛ ولكنه أول بيت وضع للناس فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا بهذه الآيات. قال : إن إبراهيم لما أمر ببناء البيت فضاق به ذرعا ، فلم يدر كيف يبنى ، فأرسل الله ـ تعالى ـ إليه السكينة ؛ وهى ريح خجوج لها رأس ، حتى تطوقت مثل الحجفة (٤) ، فقالت السكينة : ابن علىّ ، فبنى عليها ، وكان يبنى كل يوم ساقا ، ومكة يومئذ شديدة الحر ، فلما بلغ موضع الحجر قال لإسماعيل : اذهب فالتمس لى حجرا أضعه هاهنا ، ليبتدئ الناس به ، فذهب إسماعيل يطوف فى الجبال.
وجاء جبريل ـ عليهالسلام بالحجر الأسود ، فجاء إسماعيل فقال : من أين لك هذا الحجر؟ قال : من عند من لم يتكل على بنائى وبنائك (٥).
__________________
(١) سورة الحج : آية ٢٦.
(٢) سبل الهدى والرشاد ١ / ١٨١.
(٣) سورة آل عمران : آية ٩٦ ، وانظر : هداية السالك ٣ / ١٣٢٣.
(٤) الحجفة : الترس من جلود بلا خشب ولا رباط من عصب (المعجم الوسيط ١ / ١٦٥).
(٥) أخرجه : البيهقى فى دلائل النبوه ٢ / ٥٦ ، والأزرقى فى أخبار مكة للأزرقى ١ / ٦٠ ـ ٦٣ ، الكلاعى فى الاكتفا ١ / ٤٩ عن الواقدى عن أبى بكر بن سليمان بن خيثمة العدوى ؛ الطبرى فى التفسير ٣ / ٦٩.
ويروى عن الشعبى أنه لما بنى ساقا قال لإسماعيل : ائتنى بحجر ، فذهب إسماعيل إلى الوادى يطلب الحجر ، فنزل جبريل ـ عليهالسلام ـ بالحجر الأسود ـ وقد كان رفع إلى السماء وقت الطوفان ـ وجاء إسماعيل بحجر من الوادى ، فوجد إبراهيم قد وضع الحجر الأسود ، فقال : من جاءك به؟ قال : من لم يكلنى إلى حجرك (١).
ويروى أنه لما غرقت الأرض استودع الله ـ تعالى ـ الحجر الأسود بأبى قبيس ، وقال له : إذا رأيت خليلى يبنى لى بيتا فأعطه إياه ، فلما ابتغى إبراهيم الحجر ، ناداه من أبى قبيس ، فوفى إليه إبراهيم فأخذه ووضعه فى هذا الموضع الذى هو فيه اليوم.
ويروى : أن إبراهيم ـ عليهالسلام ـ كان يبنى وإسماعيل يناوله الحجر ، حتى إذا بلغ موضع الركن ؛ فإذا النداء من جبل أبى قبيس : يا إبراهيم ، إن لك عندى وديعة فأت فخذها ، فعمد إلى الجبل فبرز له هذا الحجر الأسود ، فوضعه إبراهيم فى هذا الموضع الذى هو فيه اليوم ؛ فلأجل ذلك سمى هذا الجبل أبا قبيس ؛ لأن الحجر الأسود اقتبس منه بعد الطوفان. وقيل : سمى به ؛ لأنه كان فيه رجل يقال له : أبو قبيس بنى فيه البناء ، فلما صعد إليه سمى جبل أبى قبيس (٢).
ثم انهدم البيت فبنته العمالقة ، ثم انهدم فبنته قبيلة من جرهم ، ثم انهدم فبنته قريش. فلما أرادوا أن يضعوا الحجر الأسود تنازعوا فيه ، فقالوا : أول رجل يدخل علينا من هذا الباب فهو يضعه ، فدخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأمر بثوب فبسط ، ثم وضعه فيه ، ثم قال : ليأخذ من كل قبيلة رجل من ناحية الثوب ، ثم رفعوه إلى
__________________
(١) أخرجه : الحاكم فى المستدرك ٢ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ؛ وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبى ، والصالحى فى سبل الهدى والرشاد ١ / ١٨٢ ، الاكتفا ١ / ٤٢.
(٢) أخرجه : السيوطى فى الدر المنثور ٤ / ٣٥٤ ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن أبى حاتم من قول مجاهد ، والفاكهى فى أخبار مكة ٤ / ٤٧ ، وابن جماعة فى هداية السالك ٣ / ١٣٢٤ ، والأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٥١ ، ٥٦ ، ٢ / ٢٦٦.
وأبو قبيس : أحد أخشبى مكة ، وهو الجبل المشرف على الصفا ، وهو ما بين حرف أجياد الصغير إلى السويداء التى تلى الخندمة.
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخذه فوضعه بيده المباركة (١).
وقال قتادة فى قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ)(٢) قال : التى كانت قواعد البيت قبل ذلك ، والله أعلم.
__________________
(١) أخرجه : عبد الرزاق فى مصنفه (٩١٠٤) ، البيهقى فى الدلائل ١ / ٥٧ ، الفاسى فى شفاء الغرام ١ / ١٥٤ ، الأزرقى فى أخبار مكة ١ / ٦٢.
(٢) سورة البقرة : آية ١٢٧.