فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري

فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري


المحقق: الدكتور يحيى مراد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4012-4
الصفحات: ٣٦٠

ذكر قصص الأنبياء ، فاسمعها وتدبّرها ، واستعمل النظر فيها ببصيرتك ، ومعناه في الكهف أنه تعالى له غيب السموات والأرض ، فاجعل بصيرتك في الفكر في مخلوقاته ، وتدبّرها بحيث تصل إلى معرفته ، واسمع لصفاته وحده ، فناسب تقدم السمع هنا ، والبصر ثمّ.

١٣ ـ قوله تعالى : (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) [مريم : ٤٧].

إن قلت : الاستغفار للكافر حرام ، فكيف وعد إبراهيم عليه‌السلام أباه ، بالاستغفار له مع أنه كافر؟

قلت : معناه سأسأل الله لك توبة ، تنال بها مغفرته يعني الإسلام ، والاستغفار للكافر بهذا الوجه جائز ، كأن يقول : اللهم وفّقه للإسلام ، أو تب عليه واهده.

أو أنه وعده ذلك قبل تحريم الاستغفار للكافر.

١٤ ـ قوله تعالى : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ ..) [مريم : ٥٢].

أي الذي : يلي يمين موسى ، حين أقبل من مدين.

١٥ ـ قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) [مريم : ٥٣].

إن قلت : هارون كان أكبر من موسى ، فما معنى هبته له؟.

قلت : معناه أن الله تعالى أنعم على موسى عليه‌السلام ، بإجابته دعوته فيه ، حيث قال : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي) [طه : ٢٩ ، ٣٠] الآية ، فمعنى هبته له ، جعله عضدا له وناصرا ومعينا.

١٦ ـ قوله تعالى (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) [مريم : ٦٠].

قاله هنا : وقال في الفرقان (وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) لأنه تعالى أوجز هنا في ذكر المعاصي ، فأوجز في التوبة ، وأطال ثمّ فأطال.

١٧ ـ قوله تعالى : (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) [مريم : ٩٤].

إن قلت : ما فائدة ذكر العدّ بعد الإحصاء ، مع أن الإحصاء هو العدّ أو الحصر ، والحصر لا يكون إلا بعد معرفة العدد؟

١٨١

قلت : له معنى ثالث ، وهو العلم كقوله تعالى : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) [الجن : ٢٨] أي علم عدد كل شيء ، فالمعنى هنا : لقد علّمهم ، وعدّهم عدّا.

" تمت سورة مريم"

١٨٢

سورة طه

١ ـ قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا ..) [طه : ٩] الآية.

إن قلت : كيف حكى الله تعالى قول موسى عليه‌السلام لأهله ، عند رؤية النّار هنا ، وفي النمل ، والقصص بعبارات مختلفة ، وهذه القصة لم تقع إلا مرة واحدة ، فكيف اختلفت عبارة موسى فيها؟!

قلت : قد مرّ في الأعراف في قصة موسى عليه‌السلام ، مثل هذا السؤال ، مع جوابه ، وجوابه ثمّ يأتي هنا.

٢ ـ قوله تعالى : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ..) [طه : ١٨] الآية.

قاله هنا وفي القصص بلفظ" أتى" وفي النمل بلفظ" جاء" لأنهما وإن كانا بمعنى واحد ، غاير بينهما لفظا ، توسعة في التعبير عن الشيء بمتساويين.

وخصّ" أتى" بهذه السورة لكثرة التعبير بالإتيان فيها ، و" جاء" بالنمل لكثرة التعبير بالمجيء فيها ، وألحق ما في القصص بما في" طه" لفور ما بينهما ، أي من حيث قوله هنا : (يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) وقوله في القصص : (يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) وإن اختلف محلها ، بخلاف ذلك في النمل ..

٣ ـ قوله تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) [طه : ١٥].

قاله هنا : وفي الحج بحذف لام التأكيد ، وقاله في غافر بإثباتها ، لأنها إنما تزاد لتأكيد الخبر ، وتأكيده إنما يحتاج إليه ، إذا كان المخبر به شاكا في الخبر ، والمخاطبون في غافر هم الكفار ، فأكد فيها باللام بخلاف تينك.

٤ ـ قوله تعالى : (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) [طه : ١٦].

ضمير" عنها" و" بها" للساعة ، والمنهي ظاهرا من لا يؤمن بها ، وحقيقة موسى عليه‌السلام ، إذ المقصود نهي موسى عن التكذيب بالساعة.

٥ ـ قوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) [طه : ١٧]؟

١٨٣

إن قلت : ما فائدة سؤاله تعالى لموسى ، مع أنه أعلم بما في يده؟!

قلت : فائدته تأنيسه ، وتخفيف ما حصل عنده من دهشة الخطاب ، وهيبة الإجلال ، وقت التكلم معه ، أو اعترافه بكونها عصا ، وازدياد علمه بذلك ، فلا يعترضه شك إذا قلبها الله ثعبانا ، أنها كانت عصى ثم انقلبت ثعبانا بقدرة الله تعالى.

٦ ـ قوله تعالى : (قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) [طه : ١٨] الآية.

هو جواب موسى ـ عليه‌السلام.

فإن قلت : لم زاد عليه : (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى؟.)

قلت : قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنه سئل سؤالا ثانيا : ما تصنع بها؟ فأجاب بذلك.

أو ذكر ذلك خوفا من أن يؤمر بإلقائها ، كما أمر بإلقاء النّعلين.

أو لئلا ينسب إلى التّعب في حملها ، مع المقام مقام البسط ، للتلذّذ بالكلام مع الرب تعالى ، ولهذا بسط في نفس الجواب ، إذ يكفي فيه أن يقول : عصا.

٧ ـ قوله تعالى : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى) [طه : ٢٢].

جعل هنا الجناح مضموما إليه ، وفي القصص مضموما في قوله : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) لأن المراد به هنا ، ما بين العضد إلى الإبط من اليد اليسرى ، وبه ثمّ ذلك من اليد اليمنى ، فلا تنافي.

٨ ـ قوله تعالى : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [طه : ٢٤].

قال ذلك هنا ، وقال في الشعراء : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ) وفي القصص : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ.)

اقتصر في طه على فرعون ، لأنه الأصل بالنسبة إلى قومه ، مع سبق طه.

واكتفى في الشعراء بذكره في الإضافة ، عن ذكره مفردا.

وجمع بينهما : في القصص ليوافق قوله : (فَذانِكَ بُرْهانانِ) في التعدد.

١٨٤

٩ ـ قوله تعالى : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي) [طه : ٢٨].

قال ذلك هنا ، وقال في الشعراء : (وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي.) وفي القصص : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً.)

صرّح : بعقدة اللسان في طه لسبقها ، وكنى عنها في الشعراء بما يقرب من الصريح ، وفي القصص بكناية مبهمة ، لدلالة تلك الكناية عليها.

١٠ ـ قوله تعالى : (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) [طه : ٣٨].

إن قلت : هذا مجمل فما فائدته؟

قلت : فائدته الإشارة إلى أنه ليس كل الأمور ، مما يوحى إلى النساء ، كالنبوة ونحوها ، أو التعظيم والتفخيم أولا ، كما في قوله تعالى : (فَغَشَّاها ما غَشَّى) [النجم : ٥٤] والبيان ثانيا بقوله : (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ) [طه : ٣٩].

١١ ـ قوله تعالى : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) [طه : ٤٠] الآية.

قاله هنا بلفظ الرجع ، وقال في القصص : (فَرَدَدْناهُ) بلفظ الرد ، لأنهما وإن اتحدا معنى ، لكن خصّ الرجع بما هنا ، ليقاوم ثقل الرجع ، خفّة فتح الكاف ، والردّ بالقصص لتقاوم خفّة الردّ ثقل ضمّة الهاء ، وليوافق قوله : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ.)

١٢ ـ قوله تعالى : (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً ..) [طه : ٥٣].

قاله هنا بلفظ (وَسَلَكَ) وقاله في الزخرف بلفظ (جَعَلَ) لأن لفظ السلوك مع السبل أكثر استعمالا من (جَعَلَ) فخص به طه لتقدّمها ، وب (جَعَلَ) الزخرف ، ليوافق التعبير به قبله مرّة ، وبعده مرارا.

١٣ ـ قوله تعالى : (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) [طه : ٧٠].

أخر موسى عن هارون ، مع أنّ هارون كان وزيرا له ، لموافقة الفواصل.

١٤ ـ قوله تعالى : (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) [طه : ٧٤].

أي لا يموت فيها موتا متصلا ، ولا يحيا حياة متصلة ، بل كلما مات في مدة العذاب ، أعيد حيا ليدوم العذاب ، وإنما قدرنا ذلك ، لأن الموت والحياة لا يرتفعان عن الشخص.

١٨٥

١٥ ـ قوله تعالى : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) [طه : ٧٧].

أي لا تخاف إدراك فرعون ، ولا تخشى غرقا في البحر ، وإلا فالخوف والخشية مترادفان ، وغاير بينهما لفظا ، رعاية للبلاغة.

١٦ ـ قوله تعالى : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) [طه : ٧٩].

إن قلت : صدره يغني عن عجزه ، فكيف ذكر العجز؟.

قلت : المعنى وما هداهم بعد ما أضلّهم ، فإن المضلّ قد يهدى بعد إضلاله.

أو ما هدى نفسه.

أو أضلهم عن الدّين ، وما هداهم طريقا في البحر.

١٧ ـ قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ ..) [طه : ٨٠].

إن قلت : المواعدة كانت لموسى ـ عليه‌السلام ـ لا لهم ، فكيف أضيفت إليهم؟.

قلت : لما كانت لإنزال كتاب لهم ، فيه صلاح دنياهم وأخراهم ، أضيفت إليهم لهذه الملابسة.

١٨ ـ قوله تعالى : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) [طه : ٨٣].

إن قلت : هذا سؤال عن سبب العجلة ، فإن موسى لمّا واعده الله تعالى ، حضور جانب الطور لأخذ التوراة ، اختار من قومه سبعين رجلا يصحبونه إلى ذلك ، ثم سبقهم شوقا إلى ربه تعالى ، وأمرهم بلحاقه ، فعوتب على ذلك ، فكيف طابق الجواب في الآية السؤال؟

قلت : السؤال تضمن شيئين : إنكار العجلة ، والسؤال عن سببها ، فبدأ موسى بالاعتذار عما أنكره تعالى عليه ، بأنه لم يوجد منه إلا تقدم يسير ، لا يعتدّ به عادة ، ثم عقّب العذر بجواب السؤال عن السبب بقوله : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى.)

١٩ ـ قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ١١٥] : (فَنَسِيَ) أي ترك ، ولهذا قال بعد ذلك : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى.)

٢٠ ـ قوله تعالى : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) [طه : ١١٧].

١٨٦

إن قلت : الخطاب لآدم وحواء ، فكيف قال : (فَتَشْقى) دون فتشقيا؟

قلت : قال ذلك لأن الرجل قيّم امرأته ، فشقاؤه يتضمن شقاءها ، كما أن سعادته تتضمن سعادتها.

أو قاله رعاية للفواصل.

أو لأنه أراد بالشّقاء : الشّقاء في طلب القوت ، وإصلاح المعاش ، وذلك وظيفة الرجل دون المرأة.

٢١ ـ قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١].

إن قلت : هل يجوز أن يقال : كان آدم عاصيا ، غاويا ، أخذا من ذلك؟

قلت : لا ، إذ لا يلزم من جواز إطلاق الفعل ، جواز إطلاق اسم الفاعل ، ألا ترى أنه يجوز أن يقال : تبارك الله ، دون متبارك ، ويجوز أن يقال : تاب الله على آدم دونتائب!!

٢٢ ـ قوله تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ..)

[طه : ١٢٤] الآية.

أي : حياة في ضيق وشدّة.

فإن قلت : نحن نرى المعرضين عن الإيمان ، في أخصب عيشة؟!

قلت : قال ابن عباس المراد بالعيشة الضّنك : الحياة في المعصية ، وإن كان في رخاء ونعمة .. وروى أنها عذاب القبر ، أو المراد بها عيشة في جهنم.

٢٣ ـ قوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) [طه : ١٢٩].

الكلمة : قوله تعالى : " سبقت رحمتي غضبي" (١).

أو قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ..) [الأنفال : ٣٣].

أو قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧]. يعنى لعالمي أمته ، بتأخير العذاب عنهم ، وفي الآية تقديم وتأخير أي ولو لا كلمة من ربك وأجل مسمى لكان العذاب لزاما أي لازما لهم كما لزم الأمم التي قبلهم.

__________________

(١) هذا جزء من حديث قدسي وليس بآية قرآنية.

١٨٧

٢٤ ـ قوله تعالى : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) [طه : ١٣٥].

إن قلت : كيف جمع بين هذين ، مع أن أحدهما يغني عن الآخر؟

قلت : المراد الأول : السالكون ، والثاني الواصلون.

أو بالأول الذين ما زالوا على الصراط المستقيم ، وبالثاني : الذين لم يكونوا على الصراط المستقيم ثم صاروا عليه.

أو بالأول : أهل دين الحق في الدنيا ، وبالثاني : المهتدون إلى طريق الجنة في العقبى ، فكأنه قيل : ستعلمون من الناجي في الدنيا ، والفائز في الآخرة.

" تمت سورة طه"

١٨٨

سورة الأنبياء

١ ـ قوله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ١].

إن قلت : كيف وصف الحساب بالقرب ، وقد مضى من وقت هذا الإخبار ، أكثر من تسعمائة عام ولم يوجد؟

قلت : معناه إنه قريب عند الله ، وإن كان بعيدا عندنا كقوله تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) [المعارج : ٧] وقوله : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج : ٤٧].

أو أنه : قريب بالنسبة إلى ما مضى من الزمان.

أو إن المراد : قربه لكل واحد في قبره ، ويؤيده خبر : " من مات قام قيامته".

٢ ـ قوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأنبياء : ٢].

قاله هنا بلفظ (مِنْ رَبِّهِمْ) وفي الشعراء بلفظ (مِنَ الرَّحْمنِ.) لأن" الرّبّ" يأتي مضافا ، بخلاف" الرحمن" لم يأت مضافا غالبا.

ولموافقة ما هنا قوله بعد : (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ) وموافقة ما في الشعراء قوله بعد : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) إذ الرحمن والرحيم أخوان.

فإن قلت : كيف وصف الذكر بالحدوث ، مع أن الذكر الآتي هو القرآن ، وهو قديم؟

قلت : المراد أنه محدث إنزاله ، أو أنه ذكر غير القرآن ، وأضيف إلى الرب ، لأنه آمر به وهاد له.

٣ ـ قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ..) [الأنبياء : ٣.]

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن النجوى المسارّة؟!

قلت : معناه بالغوا في إخفاء المسارّة ، بحيث لم يفهم أحد تناجيهم ومسارتهم ، تفصيلا ولا إجمالا.

٤ ـ قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ..) [الأنبياء : ٧].

قاله هنا : بحذف" من" تبعا لحذفها من قوله قبل : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) وقاله بعد بذكرها ، جريا إلى الأصل.

١٨٩

٥ ـ قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [الأنبياء : ٧].

أمر مشركي مكة بأن يسألوا (أَهْلَ الذِّكْرِ) أي أهل الكتاب ، عمن مضى من الرسل ، هل كانوا بشرا أم ملائكة.

فإن قلت : كيف أمرهم بذلك ، مع أنهم قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) [سبأ : ٣١]

قلت : لا مانع من ذلك ، إذ الإخبار بعدم الإتيان بشيء ، لا يمنع أمره بالإتيان به ، ولو سلّم فهم وإن لم يؤمنوا بكتاب أهل الكتاب ، لكن النقل المتواتر من أهل الكتاب في أمر ، يفيد العلم لمن يؤمن بكتابهم ، ولمن يؤمن به.

٦ ـ قوله تعالى : (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي لا يعيون [الأنبياء : ١٩].

٧ ـ قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ..) [الأنبياء : ٣٠].

إن قلت : كيف قال ذلك ، الشامل لقوله في النور : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) مع أنّ لنا أشياء أحياء ، لم تخلق من الماء ، وهم : الملائكة ، والجنّ ، وآدم ، وناقة صالح!؟ إذ الملائكة خلقت من نور ، والجنّ من نار ، وآدم من تراب ، وناقة صالح من حجر لا من ماء؟!

قلت : المراد البعض كما في قوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ،) [النمل : ٢٣] وقوله : (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) [يونس : ٢٢].

أو الكلّ مخلوقون من الماء ، لأن الله خلق قبل خلق الإنسان جوهره ، ونظر إليها نظر هيبة فاستحالت ماء ، فخلق من ذلك الماء جميع المخلوقات.

أو خلقهم من الماء ، إمّا بواسطة أو بغيرها ، ولهذا قيل : إنه تعالى خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء ، والجن من نار خلقها من الماء ، وآدم من تراب خلقه من الماء.

٨ ـ قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء : ٣٥].

أي : إلى الجنة أو النار.

قال ذلك هنا بالواو ، موافقة للتعيين بها ، فيما زاده هنا بقوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً.) وقال في العنكبوت ب" ثمّ" لدلالتها على تراخي

١٩٠

الرجوع ، المذكور عن بلوى الدنيا ـ ولم يقع بينهما تعبير بواو ـ ثم ما زاده هنا ـ اختصارا.

٩ ـ قوله تعالى : (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء : ٦٣].

قاله استهزاء وتهكما بمن سفهوه ، وإلا ففاعله هو نفسه.

أو أنه لما كان الحامل له على الفعل ، تعظيمهم للأصنام ، وكان كبيرهم أبعث له على الفعل ، لمزيد تعظيمهم له ، أسند الفعل إليه لأنه السبب فيه.

١٠ ـ قوله تعالى : (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) [الأنبياء:٦٩].

إن قلت : كيف خاطب النار مع أنها لا تعقل؟!

قلت : خطاب التحويل والتكوين ، لا يختص بمن يعقل كما مر ، قال تعالى : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ : ١٠] وقال : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) [فصلت : ١١] وقال : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) [هود : ٤٤].

١١ ـ قوله تعالى : (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [الأنبياء : ٧٠].

قاله هنا : بلفظ (الْأَخْسَرِينَ) وفي الصافات بلفظ (الْأَسْفَلِينَ.) لأن ما هنا تقدمه أن إبراهيم كادهم ، وأنهم كادوه ، وأنه غلبهم في الكيد ، فخسرت تجارتهم حيث كسر أصنامهم ، ولم يبلغوا من إحراقه مرادهم ، فناسب ذكر (الْأَخْسَرِينَ.)

وما في الصافات : تقدمه (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) فأججوا نارا عظيمة ، وبنوا بنيانا عظيما ، ورفعوا إبراهيم إليه ورموه منه إلى أسفل ، فرفعه الله إليه ، وجعلهم في الدنيا من الأسفلين ، وردّهم في العقبى أسفل سافلين ، فناسب ذكر الأسفلين.

١٢ ـ قوله تعالى : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء : ٨٣] ختم القصّة هنا بقوله (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) وختمها في" ص" بقوله : (رَحْمَةً مِنَّا) لأنّ أيوب بالغ هنا في التضرّع بقوله : (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فبالغ تعالى في الإجابة ، فناسب ذكر (" مِنْ عِنْدِنا") لأنّ عندنا يدلّ على أنه تعالى ، تولّى ذلك بنفسه ، ولا مبالغة في" ص" فناسب ذكر (مِنَّا) لعدم دلالته

١٩١

على ما دلّ عليه (عِنْدِنا.)

١٣ ـ قوله تعالى : (فَنَفَخْنا فِيها ..) [الأنبياء : ٩١].

أي في جيب درعها ، بحذف مضافين ، ولهذا ذكّر الضمير في التحريم فقال : (فَنَفَخْنا فِيها.)

١٤ ـ قوله تعالى : (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ. وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٣].

قال ذلك هنا ، وقال في المؤمنون : (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ. فَتَقَطَّعُوا) لأن الخطاب هنا للكفار ، فأمرهم بالعبادة التي هي التوحيد ، ثم قال : (وَتَقَطَّعُوا) بالواو لا بالفاء ، لأن مدخولها ليس مرتبا على ما قبلها ، بل هو واقع قبله ، ومن قال : الخطاب مع المؤمنين ، فمعناه : دوموا على العبادة.

والخطاب ثمّ للنبيّ وأمته ، بدليل قوله قبل : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ ..) الآية. والأنبياء وأمّتهم مأمورون بالتقوى .. ثم قال : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) بالفاء ، أي ظهر منهم التقطّع بعد هذا القول ، والمراد أمتهم.

١٥ ـ قوله تعالى : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٥].

أي : ممتنع عليهم الرجوع.

فإن قلت : كيف قال ذلك ، مع أنه لا بدّ من رجوعهم إلى الله؟!

قلت : معناه لا يرجعون عن الكفر إلى الإيمان ، أو لا يرجعون بعد إهلاكهم إلى الدنيا.

وقيل : معنى" حرام" واجب ، ف" لا" حينئذ زائدة ، أي واجب رجوعهم.

١٦ ـ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠١].

أي : عن جهنم.

فإن قلت : كيف يكونون مبعدين عنها ، وقد قال تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] وورودها يقتضي القرب منها؟!

قلت : معناه : مبعدون عن ألمها ، وعناها ، مع ورودهم لها.

١٩٢

أو معناه : مبعدون عنها بعد ورودها ، بالإنجاء المذكور بعد الورود.

١٧ ـ قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧].

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن رحمة للكافرين بل نقمة ، إذ لو لا إرساله إليهم ما عذّبوا بكفرهم لقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً؟!)

قلت : بل كان رحمة للكافرين أيضا ، من حيث إنّ عذاب الاستئصال أخّر عنهم بسببه.

أو كان رحمة عامة ، من حيث إنه جاء بما يسعدهم إن اتّبعوه ، ومن لم يتّبعه فهو المقصّر. أو المراد ب" الرحمة" : الرحيم ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان رحيما للكفّار أيضا ، ألا ترى أنهم لما شجّوه ، وكسروا رباعيته ، حتى خرّ مغشيّا عليه ، قال بعد إفاقته : " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون".

١٨ ـ قوله تعالى : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) [الأنبياء : ١١٢].

فإن قلت : ما فائدة قوله : (بِالْحَقِّ؟)

قلت : ليس المراد (بِالْحَقِ) هنا نقيض الباطل ، بل المراد : ما وعده الله تعالى إيّاه ، من نصر المؤمنين ، وخذلان الكافرين ، ووعده لا يكون إلا حقا ، ونظيره قوله تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٨٩].

أو أنّ قوله : (بِالْحَقِ) تأكيد لما في التصريح بالصّفة من المبالغة وإن كانت لازمة للفعل ، ونظيره في عكسه من صفة الذمّ قوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) [آل عمران : ١١٢].

" تمت سورة الأنبياء"

١٩٣

سورة الحجّ

١ ـ قوله تعالى : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) [الحج : ٢].

إن قلت : كيف جمع هنا ، وأفرد بعد في قوله : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى؟)

قلت : لأن الرؤية الأولى متعلّقة بالزلزلة ، وكلّ الناس يرونها.

والثانية متعلّقة بكون النّاس سكارى ، فلا بدّ من جعل كل واحد رائيا فيهم.

٢ ـ قوله تعالى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) [الحج : ٢٢] الآية.

قال ذلك : هنا بذكر (مِنْ غَمٍ) وفي السجدة بدونه ، موافقة لما قبلهما. إذ ما هنا تقدّمه قوله تعالى : (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) الآية. وما هناك لم يتقدّمه إلا قوله (فَمَأْواهُمُ النَّارُ.)

٣ ـ قوله تعالى : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) [آل عمران : ٨١]. تقديره : وقيل لهم ذوقوا ، كما في السجدة ، وخص ما هنا بالحذف لطول الكلام ، وما في السجدة بالذّكر لقصره ، وموافقة لذكر القول قبله كقوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) وقوله : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا) و (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ.)

٤ ـ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ..) [الحج : ٢٣] الآية.

كرّره لأنه لما ذكر حكم أحد الخصمين ، وهو (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) لم يكن بدّ من ذكر حكم الخصم الآخر ، لمقارنته له ، وإن تقدّم ذكره.

٥ ـ قوله تعالى : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج : ٢٨].

كرّره لأن الأول مرتّب على ذبح بهيمة الأنعام ، الشاملة للبدن ، والبقر ، والغنم ، والثاني مرتّب على ذبح البدن خاصّة ، وإن وافقه في حكم ذبح الآخرين.

٦ ـ قوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ..) [الحج : ٣٩].

أي أذن للذين يريدون أن يقاتلوا في القتال.

٧ ـ قوله تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ ..) [الحج : ٤٠].

١٩٤

الاستثناء فيه منقطع بمعنى لكن أخرجوا بقولهم ربّنا الله ، أو هو من باب تعقيب المدح بما يشبه الذّم ، كقول الشاعر :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

أي : إن كان فيهم عيب فهو هذا ، وهذا ليس بعيب ، فلا عيب فيهم.

٨ ـ قوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ) [الحج : ٤٠] الآية.

فإن قلت : أيّ منّه على المؤمنين ، في حفظ الصّوامع والبيع والصّلوات أي الكنائس عن الهدم ، حتّى امتنّ عليهم بذلك؟!

قلت : المنّة عليهم فيها أن الصوّامع ، والبيع ، في حرسهم وحفظهم ، لأن أهلهما محترمون.

أو المراد لهدّمت صوامع وبيع في زمن عيسى عليه‌السلام ، وكنائس في زمن موسى عليه‌السلام ، ومساجد في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالامتنان على أهل الأديان الثلاثة ، لا على المؤمنين خاصّة.

٩ ـ قوله تعالى : (وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) [الحج : ٤٤].

إنما لم يقل : " وبنو إسرائيل" في قوم موسى ، عطفا على" قوم نوح" ؛ لأن قوم موسى لم يكذّبوه ، بل غيرهم وهم القبط.

أو الإبهام في بناء الفعل للمفعول ، للتفخيم والتعظيم ، أي وكذّب موسى أيضا مع وضوح آياته ، وعظم معجزاته ، فما ظنّك بغيره؟

١٠ ـ قوله تعالى : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ ..) [الحج : ٤٥].

قال ذلك هنا ، وقال بعد : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) موافقة لما قبلهما ، إذ ما هنا تقدّمه معنى الإهلاك بقوله : (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) أي أهلكتكم.

وما بعد تقدّمه : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) وهو يدلّ على أن العذاب لم يأتهم في الوقت ، فحسن ذكر الإهلاك في الأول ، والإملاء ـ أي التأخير ـ في الثاني.

١١ ـ قوله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي

١٩٥

الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦].

إن قلت : ما فائدة ذلك ، مع أن القلوب لا تكون إلا في الصدور؟!

قلت : فائدته المبالغة في التأكيد ، كما في قوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) [آل عمران : ٦٧].

أو القلب هنا بمعنى العقل ، كما قيل به في قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٢٧] أي : عقل ، ففائدة التقييد الاحتراز عن القول الضعيف ، بأن العقل في الدماغ.

١٢ ـ قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) [الحج : ٥٢] الآية.

الرسول : إنسان أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه.

والنبيّ : إنسان أوحي إليه بشرع وإن لم يؤمر بتبليغه ، فهو أعمّ من الرسول.

١٣ ـ قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) [الحج : ٦٢] الآية.

قاله هنا بتأكيده ب" هو" وقاله في لقمان بدونه ، لموافقة كلّ منهما ما قبله وما بعده ، لأن ما هنا تقدّمه تأكيدات ، بعضها ب" أنّ" وبعضها باللّام ، وبعضها بهما ، بخلافه ثمّ ولهذا قال هنا : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وقال ثمّ : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.)

١٤ ـ قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ..) [الحج : ٧٨].

إن قلت : كيف لا حرج فيه مع أنّ في قطع يد بسرقة ربع دينار ، ورجم محصن بزنى مرّة ، ووجوب صوم شهرين متتابعين ، بإفساد يوم من رمضان بوطء ، ونحو ذلك حرجا؟! قلت : المراد بالدين : التوحيد ، ولا حرج فيه بل فيه تخفيف ، فإنه يكفّر ما قبله من الشرك وإن امتدّ ، ولا يتوقف الإتيان به على زمان أو مكان معيّن.

أو أن كلّ ما يقع الإنسان فيه من المعاصي ، يجد له مخرجا في الشرع ، بتوبة ، أو كفارة ، أو رخصة. أو المراد نفي الحرج الذي كان في بني إسرائيل.

" تمت سورة الحج"

١٩٦

سورة المؤمنون

١ ـ قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) [المؤمنون : ١٥].

إن قلت : لم أكّده باللّام ، دون قوله بعده : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) مع أن المذكورين ينكرون البعث دون الموت؟

قلت : لما كان العطف ب (ثُمَّ ،) المحتاج إليه هنا يقتضي الاشتراك في الحكم ، اغتنى به عن التأكيد باللام.

٢ ـ قوله تعالى : (لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) [المؤمنون : ٢١].

قاله هنا بالجمع وبالواو ، وقال في الزخرف (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) بالإفراد وحذف الواو ، موافقة لما قبلهما ، إذ ما هنا تقدمت" جنّات" بالجمع ، وما بعد الواو ومعطوف على مقدّر تقديره : منها تدخرون ، ومنها تأكلون ، وما في الزخرف تقدّمت جنّة بالتوحيد في قوله (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ) وليس في فاكهة الجنة الأكل ، فناسب الجمع والواو هنا ، والإفراد وحذف الواو ثمّ.

٣ ـ قوله تعالى : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ ..) [المؤمنون : ٢٠].

المراد بها : شجرة الزيتون.

فإن قلت : لم خصّها بطور سيناء ، مع أنها تخرج من غيره أيضا؟!

قلت : أصلها منه ثمّ نقلت إلى غيره.

٤ ـ قوله تعالى : (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ..) [المؤمنون : ٢٤] الآية.

قال ذلك هنا بتقديم الصّلة على قومه ، وقال بعد بالعكس. لأنه اقتصر هنا في صلة الموصول على الفعل والفاعل ، وفيما بعد طالت فيه الصّلة ، بزيادة العطف على الصّلة مرّة بعد أخرى ، فقدّم عليها (مِنْ قَوْمِهِ) ؛ لأن تأخيره عن المفعول ملبس ، وتوسيطه بينه وبين ما قبله ركيك.

٥ ـ قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ..) [المؤمنون : ٢٤] الآية.

قاله هنا بلفظ (اللهُ) وفي فصّلت بلفظ (رَبُّنا ،) موافقة لما قبلهما ، إذ ما هنا تقدّمه لفظ" الله" دون" ربنا" وما في فصّلت تقدّمه لفظ الربّ في (رَبُّ الْعالَمِينَ) سابقا على لفظ" الله" فناسب ذكر" الله" هنا ، وذكر الرّبّ ثمّ.

١٩٧

٦ ـ قوله تعالى : (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [المؤمنون : ٤١].

قاله هنا بالتعريف ، وقال بعد : (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) بالتنكير ، لأن الأول لقوم" صالح" بقرينة قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) فعرّفهم تعريف عهد ، ونكّر الثاني لخلوّه عن قرينة تقتضي تعريفه ، وموافقة لتنكير ما قبله ، وهو : (قُرُوناً آخَرِينَ.)

٧ ـ قوله تعالى : (وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون : ٥١].

قاله هنا بلفظ : (عَلِيمٌ) وفي سبأ ، بلفظ : (بَصِيرٌ) مناسبة لما قبلهما ، إذ ما هنا تقدّمه آيتا الكتاب ، وجعل" مريم" وابنها آية ، والعلم بهما أنسب من بصرهما ، وما هناك تقدّمه قوله : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) والبصر بإلانة الحديد أنسب من العلم بها.

٨ ـ قوله تعالى : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [المؤمنون : ٧٠].

نزل في كفار مكة ، والمراد بالحقّ التوحيد.

فإن قلت : كيف قال ذلك ، مع أنهم كلّهم كانوا كارهين للتوحيد؟

قلت : كان منهم من ترك الإيمان به ، أنفة وتكبّرا من توبيخ قومهم ، لئلا يقولوا : ترك دين آبائه ، لا كراهة للحقّ ، كما يحكى عن أبي طالب وغيره.

٩ ـ قوله تعالى : (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون : ٨٣].

أي : من قبل البعث ، قاله هنا بتأخير (هذا) عمّا قبله. وقاله في النمل بالعكس ، جريا على القياس هنا ، من تقويم المرفوع على المنصوب ، وعكس ثمّ بيانا لجواز تقديم المنصوب على المرفوع ، وخصّ ما هنا بتأخير (هذا) جريا على الأصل بلا مقتض لخلافه ، وما هناك بتقديمه اهتماما به من منكري البعث ، ولهذا قالوا بعد : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.)

١٠ ـ قوله تعالى : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ..) [المؤمنون : ٨٥].

قاله هنا بلفظ (لِلَّهِ ،) وبعد بلفظ الله مرتين ، لأنه في الأول وقع في جواب مجرور باللام في قوله : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ) فطابقه بجرّه باللام ، بخلاف ذلك في الأخيرين ، فإنهما إنما وقعا في جواب مجرد عن اللام.

١١ ـ قوله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [المؤمنون : ١٠٥].

١٩٨

ذكره بعد قوله (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) لأن ذلك في الدنيا عند نزول العذاب ، وهو" الجدب" عند بعضهم ، ويوم بدر عند بعضهم.

وهذا في الآخرة وهم في الجحيم ، بدليل قوله : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) [المؤمنون : ١٠٧].

" تمت سورة المؤمنون"

١٩٩

سورة النّور

١ ـ قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور : ٢] الآية.

إن قلت : لم قدّم المرأة في آية" حدّ الزنى" وأخّرت في آية" حدّ السرقة"؟

قلت : لأن الزّنى يتولد من شهوة الوقاع ، وهي في المرأة أقوى وأكثر ، والسّرقة إنما تتولّد من الجسارة ، والقوّة ، والجرأة وهي من الرجل أقوى وأكثر.

فإن قلت : فلم قدّم الرجل في قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً)

قلت : لأن تلك الآية في الحدّ ، والمرأة هي الأصل فيه لما مرّ ، وهذه الآية في حكم النكاح ، والرجل هو الأصل فيه ، لأنه الراغب والبادر في الطلب ، بخلاف الزّنى فإن الأمر فيه بالعكس غالبا.

٢ ـ قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) [النور : ١٠].

كرّره لاختلاف الأجوبة فيه.

إذ جواب الأول محذوف تقديره ، لفضحكم.

وجواب الثاني قوله : (لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) [النور : ١٤].

وجواب الثالث محذوف تقديره : لعجّل لكم العذاب.

وجواب الرابع : (ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) [النور : ٢١].

٣ ـ قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور : ٣٠] الآية.

إن قلت : ما فائدة ذكر (مِنْ) في غضّ البصر ، دون حفظ الفرج؟

قلت : فائدته الدلالة على أن حكم النظر أخفّ من حكم الفرج ، إذ يحلّ النظر إلى بعض أعضاء المحارم ، ولا يحلّ شيء من فروجهنّ.

٤ ـ قوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ ..) [النور : ٣١] الآية.

إن قلت : لم ترك ذكر الأعمام والأخوال ، مع أنّ حكمهما حكم من استثني؟

٢٠٠