فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري

فتح الرّحمن شرح ما يلتبس من القرآن

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن أحمد الأنصاري


المحقق: الدكتور يحيى مراد
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4012-4
الصفحات: ٣٦٠

وجه الاعتراف منهم بالذنب ، لا على وجه إعلام من لا يعلم ، أو أنهم لما عاينوا عظيم غضب الله ، قالوا ذلك رجاء أن يلزم الله الأصنام ذنوبهم فيخف عنهم العذاب.

٢٤ ـ قوله تعالى : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) [النحل : ٨٦]

(فَأَلْقَوْا) أي الشركاء كالأصنام (إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ) فسر القول بقوله : (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) أي في قولكم : إنكم عبدتمونا.!

فإن قلت : لم قالت الأصنام للمشركين ذلك ، مع أنهم كانوا صادقين فيه؟!.

قلت : قالوه لهم لتظهر فضيحتهم ، حيث عبدوا من لا يعلم بعبادتهم.

فإن قلت : كيف أثبت للأصنام نطقا هنا ، ونفاه عنها في قوله في الكهف : (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ؟!)

قلت : المثبت لهم هنا ، النطق بتكذيب المشركين ، في دعوى عبادتهم لها ، والمنفي عنها في الكهف النطق بالإجابة إلى الشفاعة لهم ، ودفع العذاب عنهم ، فلا تنافي.

٢٥ ـ قوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل : ٨٩].

إن قلت : إذا كان كذلك ، فكيف اختلفت الأئمة في كثير من الأحكام؟!

قلت : لأن أكثر الأحكام ليس منصوصا عليه فيه ، وبعضها مستنبط منه ، وطرق الاستنباط مختلفة ، فبعضها بالإحالة إما على السّنة ، بقوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] وقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم : ٣] أو على الإجماع بقوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢] والاعتبار : النظر والاستدلال اللذان يحصل بهما القياس.

٢٦ ـ قوله تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٦].

قاله هنا بلفظ ما وفي الزمر بلفظ" الذي" موافقة في كل منهما لما قبله ، إذ قبل ما هنا : (إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وقوله : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) وقبل ما هناك : (أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) وقوله : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ.)

٢٧ ـ قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ..) [النحل : ١١٠] الآية.

١٦١

كرر فيها وفي قوله بعد : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) الآية. (إِنَّ رَبَّكَ) لطول الكلام بين اللفظين ، قيل : ومثله : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) [المؤمنون : ٣٥].

٢٨ ـ قوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [النحل : ١١١] الآية.

إن قلت : ما معنى إضافة النفس إلى النفس ، مع أن النفس لا نفس لها؟

قلت : النفس تقال للروح ، وللجوهر القائم بذاته ، المتعلق بالجسم ، تعلق التدبير ، ولجملة الإنسان ، ولعين الشيء وذاته ، كما يقال : نفس الذهب والفضة محبوبة أي ذاتهما.

فالمراد بالنفس الأولى الإنسان ، وبالثانية ذاته ، فكأنه قال : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته ، لا يهمه شيء آخر غيره ، كل يقول : نفسي ، نفسي.

٢٩ ـ قوله تعالى : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) [النحل : ١٢٧].

قاله هنا بحذف النون ، وفي النمل بإثباتها ، تشبيها لها بحروف العلة ، وخص ما هنا بحذفها موافقة لقوله قبل : (قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ولسبب نزول هذه الآية ، لأنها نزلت تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قتل عمه" حمزة" ومثّل به ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : " لأفعلن بهم ولأصنعن" فأنزل الله تعالى : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) الآية ، فبالغ في الحذف ليكون ذلك مبالغة في التسلية ، وإثباتها في النمل ، جاء على القياس ، ولأن الحزن ثمّ ، دون الحزن هنا.

" تمت سورة النحل"

١٦٢

سورة الإسراء

١ ـ قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ..) [الإسراء : ١].

قال : (بِعَبْدِهِ) دون نبيه أو حبيبه ، لئلا تضل به أمته ، كما ضلّت أمة المسيح ، حيث دعته إلها.

أو لأن وصفه بالعبودية ، المضافة إلى الله تعالى أشرف المقامات ، وقال : (لَيْلاً) منكرا ، ليدل على قصر زمن الإسراء ، مع أن بين مكة وبيت المقدس ، مسيرة أربعين ليلة ، لأن التنكير يدل على البعضية.

والحكمة في إسرائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بيت المقدس ، دون مكة ، لأنه محشر الخلائق ، فيطؤه بقدمه ليسهل على أمته يوم القيامة ، وقوفهم ببركة أثر قدمه.

أو لأنه مجمع أرواح الأنبياء ، فأراد الله أن يشرفهم بزيارته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أو أسري به منه ، ليشاهد من أحواله وصفاته ، ما يخبر به كفار مكة ، صبيحة تلك الليلة ، فيكون إخباره بذلك مطابقا لما رأوا ، وشاهدا ودليلا على صدقه في الإسراء.

٢ ـ قوله تعالى : (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) [الإسراء : ١].

هو أعم من أن يقال : باركنا عليه ، أو فيه ، لإفادته شمول البركة ، لما أحاط بالمسجد من أرض الشام بالمنطوق ، وللمسجد بمفهوم الأولى.

٣ ـ قوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] الآية.

(فَلَها) اللام للاختصاص ، أو بمعنى" على" كما في قوله تعالى : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) [الإسراء : ١٧].

٤ ـ قوله تعالى : (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) [الإسراء : ٩].

قال ذلك هنا بلفظ (كَبِيراً ،) وقاله في الكهف بلفظ (حَسَناً ،) موافقة للفواصل قبلهما وبعدهما.

٥ ـ قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) [الإسراء : ١٢]

١٦٣

إن قلت : لم ثنى الآية هنا ، وأفردها في قوله (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً) [الأنبياء : ٩١]؟

قلت : لتباين الليل والنهار من كل وجه ، ولتكررهما ، فناسبهما التثنية ، بخلاف" عيسى" مع أمه ، فإنه جزء منها ، ولا تكرر فيهما ، فناسبهما الإفراد.

٦ ـ قوله تعالى : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ..) [الإسراء : ١٢].

أي مضيئة لأن النهار لا يبصر.

٧ ـ قوله تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء:١٤].

لا ينافي قوله تعالى : (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٧٧] لأن في يوم القيامة مواقف مختلفة ، ففي موقف يكل الله حسابهم إلى أنفسهم ، وعلمه محيط به ، وفي موقف يحاسبهم هو تعالى.

وقيل : هو الذي يحاسبهم لا غير ، وقوله : (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي يكفيك أنك شاهد على نفسك بذنوبها ، فهو توبيخ وتقريع ، لا تفويض حساب العبد إلى نفسه.

وقيل : من يريد مناقشته في الحساب ، يحاسبه بنفسه ، ومن يريد مسامحته يكل حسابه إليه.

٨ ـ قوله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ..) [الإسراء : ١٦] الآية.

(أَمَرْنا مُتْرَفِيها) أي أردنا منهم الفسق ، أو أمرناهم بالطاعة ، أو كثرناهم ففسقوا ، يقال : أمرته ، وآمرته ، بالقصر والمد بمعنى كثرته. وقيد بالمترفين وإن كان الأمر لا يختص بهم ، لأن صلاحهم أو فسادهم ، مستلزم لصلاح غيرهم أو فساده.

٩ ـ قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ..) [الإسراء : ١٨] الآية.

إن قلت : قضيته أن من لم يترك الدنيا يكون من أهل النار ، وليس كذلك؟!

قلت : المراد من لم يرد بإسلامه وعبادته إلا الدنيا ، وهذا لا يكون إلا كافرا ، أو منافقا.

١٦٤

١٠ ـ قوله تعالى : (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) [الإسراء : ٢٠].

أي ممنوعا.

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أنا نشاهد الواحد ، لا يقدر على دانق ، وآخر معه الألوف؟!

قلت : المراد بالعطاء هنا الرزق ، والله سوّى في ضمانه بين المطيع والعاصي من العباد ، فلا تفاوت بينهم في أصل الرزق ، وإنما التفاوت بينهم في مقادير الأملاك ، وإنما لم يمنع الكفار الرزق ، كما منعهم الهداية ، لأن في منعه له هلاكهم ، وقيام الحجة لهم ، بأن يقولوا : لو أمهلتنا ورزقتنا ، لبقينا أحياء فآمنا.

ولأنه لو منعهم الرزق لكان قد عاجلهم بالعقوبة ، ولكان ذلك من صفات البخلاء ، والله منزه عن ذلك ، لأنه حليم كريم.

ولأن إعطاء الرزق لجميع العباد عدل ، وعدل الله عام ، وهبة الهداية فضل ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.

١١ ـ قوله تعالى : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) [الإسراء : ٢٢].

قال ذلك هنا ، ثم قال : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) ثم قال : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً.)

ولا تكرار فيها ، لأن الأولى في الدنيا ، والثالثة في الآخرة. والخطاب فيهما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الراجح والمراد به غيره ، كما في آية (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما)

وأما الثانية فخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا ، وهو المراد به ، وذلك أن امرأة ، بعثت صبيا إليه مرة بعد أخرى ، سألته قميصا ، ولم يكن عليه ولا له قميص غيره ، فنزعه ودفعه إليه ، فدخل وقت الصلاة فلم يخرج في الحين ، فدخل عليه أصحابه فرأوه على تلك الصفة ، فلاموه على ذلك ، فأنزل الله (فَتَقْعُدَ مَلُوماً) أي يلومك الناس (مَحْسُوراً) أي مكشوفا ، وقيل : مقطوعا عن الخروج إلى الجماعة.

١٢ ـ قوله تعالى : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) الآية.

١٦٥

فائدة ذكر (عِنْدَكَ :) أنهما يكبران في بيته وكنفه ، ويكونان كلّا عليه ، لا كافل لهما غيره ، وربما ناله منهما من المشاق ، ما كان ينالهما منه في حال الصغر.

١٣ ـ قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٣٢].

هو أعم من أن يقال : ولا تزنوا ليفيد النهي عن مقدمات الزنا ، كاللمس والقبلة بالمنطوق ، وعن الزنا بمفهوم الأولى.

١٤ ـ قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) [الإسراء : ٤١].

قال ذلك هنا بحذف (لِلنَّاسِ) اكتفاء بذكره قبل ، بلفظ (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ.)

وقاله بعد بذكره ، ليتميز عن الجن ، لجريان ذكرهما معا قبل.

وقدم على (فِي هذَا الْقُرْآنِ) هنا في الآية الثانية ، اهتماما بالتمييز المذكور ، وبالناس لأنهم الأصل في التكليف ، ولهذا اقتصر عليهم في غالب الآيات كقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) وقوله : (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) وقوله : (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ) [الإسراء : ١٨٥].

وعكس في الكهف لمناسبة قوله قبل : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً)

١٥ ـ قوله تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) [الإسراء : ٤٥] الآية.

ضمير (فِيهِنَ) عائد إلى السموات والأرض ، والتسبيح ـ وهو التنزيه ـ شامل للتسبيح بلسان المقال ، كما في المؤمنين ، وبلسان الحال كما في سائر الموجودات ، إذ كل موجود يدل على قدرته تعالى ، وفي ذلك جمع بيّن الحقيقة والمجاز ، وهو جائز عند الشافعي رضي الله عنه.

فإن قلت : يمنع من شموله للثاني قوله : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤]. لأنه مفقوه لنا.

قلت : الخطاب فيه للكفار ، وهم لم يفقهوا تسبيح الموجودات ، لأنهم أثبتوا لله

١٦٦

شركا ، وزوجا ، وولدا ، بل هم غافلون عن أكثر دلائل التوحيد ، والنبوة ، والمعاد.

١٦ ـ قوله تعالى : (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) [الإسراء : ٤٩].

أعادها بعينها آخر السورة ، وليس تكررا ، لأن الأولى من كلامهم في الدنيا ، حين أنكروا البعث ، والثانية من كلام الله تعالى ، حين جازاهم على كفرهم وإنكارهم البعث فقال : (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : ٧٩] الآية.

وقال هنا : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا) وفي الكهف : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا) بزيادة (جَهَنَّمُ) اكتفى هنا بالإشارة ، ولتقدم ذكر جهنم وهي ـ وإن تقدمت في الكهف ـ لم يكتف بالإشارة ، بل جمع بينهما وبين العبارة ، لاقتران الوعيد بالوعد بالجنات في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف : ١٠٧] ليكون الوعد والوعيد ظاهرين للمستمعين.

١٧ ـ قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) [الإسراء : ٥٥].

إن قلت : لم خص (داوُدَ) بالذكر؟

قلت : لأنه اجتمع له ما لم يجتمع لغيره من الأنبياء ، وهو الرسالة ، والكتابة ، والخطابة ، والخلافة ، والملك ، والقضاء ، في زمن واحد ، قال تعالى : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) [ص : ٢٠] وقال : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ..) [ص : ٢٠].

فإن قلت : لم نكر الزبور هنا ، وعرفه في قوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) [الأنبياء : ١٠٥]؟

قلت : يجوز أن يكون الزبور من الأعلام التي يستعمل ب" أل" وبدونها ، كالعباس ، والفضل.

أو نكره هنا بمعنى آتيناه بعض الزبر وهي الكتب.

أو أراد به ما فيه ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الزبور ، فسمى بعض الزبور زبورا ، كما

١٦٧

سمى بعض القرآن قرآنا في قوله تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) [الإسراء : ١٠٦].

١٨ ـ قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) [الإسراء : ٥٦].

قاله هنا بالضمير لقرب مرجعه ، وهو الرب في قوله : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ.)

وقال في سبأ : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) بالاسم الظاهر ، لبعد مرجع الضمير لو أتي به ، والمراد فيهما : قل ادعوا الذين زعمتموهم آلهة من دون الله أي غيره لينفعوكم بزعمكم.

فإن قلت : كيف قال (مِنْ دُونِهِ) مع أن المشركين ما زعموا غير الله إلها دون الله ، بل مع الله على وجه الشركة؟

قلت : في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره : قل ادعوا الذين من دون الله زعمتم أنهم شركاء.

١٩ ـ قوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ..) [الإسراء : ٥٩].

أي وما منعنا أن نرسل رسولا ، بالآيات التي اقترحها أهل مكة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كجعل الصفا ذهبا ، وإزالة جبال مكة ليزرعوا ، إلا تكذيب الأولين بها أي بآيات اقترحوها على رسلهم لما أرسلناهم فأهلكناهم ، ولو أرسلناها إلى هؤلاء لكذبوا بها واستحقوا الإهلاك ، وقد حكمنا بإمهالهم ليتم أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأنا لا نعجل بالعقوبة.

فإن قلت : كيف قال (وَما مَنَعَنا) إلخ مع أنه تعالى لا يمنعه عن إرادته مانع؟

قلت : المنع هنا مجاز عن الترك ، كأنه قال : وما كان سبب ترك الإرسال بالآيات ، إلا تكذيب الأولين.

٢٠ ـ قوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ..) [الإسراء : ٥٩].

أي دالة كما يقال : الدليل مرشد وهاد.

فإن قلت : ما وجه ارتباط هذا بما قبله؟

قلت : لمّا أخبر بأن الأولين كذبوا بالآيات المقترحة ، عيّن منها" ناقة صالح" لأن آثار ديارهم الهالكة باقية في بلاد العرب ، قريبة من حدودهم ، يبصرها صادرهم وواردهم.

١٦٨

٢١ ـ قوله تعالى : (فَظَلَمُوا بِها ..) أي الناقة.

الباء ليست للتعدية ، لأن الظلم يتعدى بنفسه ، فالمعنى : فظلموا أنفسهم بقتلها أي بسببه.

٢٢ ـ قوله تعالى : (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) [الإسراء : ٥٩].

إن قلت : هذا يدل على الإرسال بالآيات ، وقوله قبل : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ) يدل على عدمه؟!

قلت : المراد بالآيات هنا : العبر ، والدلالات ، وفيما قبل : الآيات المقترحة.

٢٣ ـ قوله تعالى : (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) [الإسراء : ٦٠].

إن قلت : ليس في القرآن لعن شجرة؟

قلت : فيه إضمار تقديره : والشجرة الملعونة المذكور في القرآن.

أو معناه : الملعون آكلوها وهم الكفرة ، أو الملعونة بمعنى المذمومة ، وهي مذمومة في القرآن بقوله تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) [الدخان : ٤٣ ـ ٤٤] وبقوله تعالى : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) [الصافات : ٦٥].

أو الملعونة بمعنى المبعدة ، لأن اللعن لغة : الطرد والإبعاد. وهذه الشجرة مبعدة عن مكان رحمة الله تعالى وهو الجنة ، لأنها في قعر جهنم ، وهذا الإبعاد مذكور في القرآن بقوله تعالى (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٦٤].

٢٤ ـ قوله تعالى : (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) [الإسراء : ٦٢].

قاله هنا بتكرير الخطاب ، كنظيره في (أَرَأَيْتَكُمْ) في الأنعام ، لدلالته على أن المخاطب به أمر عظيم ، وهو هنا كذلك ، لأنه ـ لعنه الله ـ ضمن بقوله : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٦٢] إغواء أكثرهم.

٢٥ ـ قوله تعالى : (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [الإسراء : ٧١].

إن قلت : لم خصهم بذلك ، مع أن أصحاب الشمال كذلك؟

قلت : لأن أصحاب الشمال ، إذا نظروا إلى ما في كتابهم من الفضائح والقبائح ، أخذهم من الحياء والخجل والخوف ، ما يوجب انقباض أنفسهم عن إقامة الحروف ، فتكون قراءتهم كلا قراءة ، وأمر أصحاب اليمين على العكس.

١٦٩

وأما قوله تعالى : (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) فعائد إلى الناس ، لا إلى أصحاب اليمين خاصة ، وإنما خصهم بذلك لأنهم يعلمون أنهم لا يظلمون ، ويعتقدون ذلك بخلاف أصحاب الشمال ، فإنهم يعتقدون أو يظنون أنهم يظلمون.

٢٦ ـ قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى ..) [الإسراء : ٩٤] الآية.

قال ذلك هنا. وقاله في الكهف بزيادة (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) لأن المعنى هنا : ما منعهم عن الإيمان بمحمد ، إلا قولهم : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] ، هلا بعث ملكا!! وجهلوا أن التجانس يورث التوانس ، والتغاير يورث التنافر.

والمعنى في الكهف : ما منعهم عن الإيمان والاستغفار ، إلا إتيان سنة الأولين ، فزاد فيها (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) لاتصاله بقوله : (سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) وهم قوم نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، حيث أمروا بالاستغفار.

فنوح قال : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) [نوح : ١٠]. وهود قال : (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) [هود : ٦١]. وشعيب قال : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) [هود : ٩٠].

٢٧ ـ قوله تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) [الإسراء : ٩٦].

قال ذلك هنا بتقديم (شَهِيداً) على (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) وقاله في العنكبوت بالعكس .. لأن ما هنا جاء على الأصل من تقديم المفعول ، وما في العنكبوت جاء على خلاف الأصل ، ليتصل وصف الشهيد به ، وهو قوله تعالى (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.)

٢٨ ـ قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ..) [الإسراء : ٩٩].

قال ذلك هنا بلفظ (قادِرٌ) وفي الأحقاف بلفظ (بِقادِرٍ) وفي يس (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ) .. لأن ما هنا خبر" إن" ، وما في يس خبر" ليس" وخبرها تدخله الباء ، وما في الأحقاف خبر" إنّ" وكان القياس عدم دخول الباء فيه ، لكنها دخلته تشبيها ل لم ب ليس في النفي.

١٧٠

٢٩ ـ قوله تعالى : (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ ..) [الإسراء : ١٠٢].

إن قلت : كيف قال موسى عليه‌السلام لفرعون ذلك ، مع أن فرعون لم يعلم ذلك ، لأنه لو علم ذلك لم يقل لموسى عليه‌السلام : (مَسْحُوراً) بل كان يؤمن به؟!

قلت : معناه لقد علمت لو نظرت نظرا صحيحا ، ولكنك معاند مكابر ، تخشى فوات دعوى الألوهية لو صدّقتني.!

٣٠ ـ قوله تعالى : (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) [الإسراء : ١٠٢].

أي هالكا ، أو ملعونا ، أو خاسرا.

فإن قلت : كيف قال له : (لَأَظُنُّكَ) مع أنه يعلم أنه مثبور؟!

قلت : الظنّ هنا بمعنى العلم ، كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦].

وإنما عبر بالظن ، ليقابل قول فرعون له : (لَأَظُنُّكَ مَسْحُوراً) كأنه قال : إذا ظننتني مسحورا ، فأنا أظنّك مثبورا.

٣١ ـ قوله تعالى : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ..) [الإسراء : ١٠٢] الآية.

كرره لأن الأول واقع في حال السجود ، والثاني في حال البكاء ، أو الأول واقع في قراءة القرآن ، أو سماعه ، والثاني في غير ذلك.

" تمت سورة الإسراء"

١٧١

سورة الكهف

١ ـ قوله تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً ..) [الكهف : ١ ، ٢].

إن قلت : ما فائدة ذكره (قَيِّماً) بعد قوله : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) لأنّ نفي العوج يستلزم الإقامة؟!

قلت : فائدته التأكيد في وصف كتاب الله العظيم ، أو معنى (قَيِّماً :) أنه قائم إلى الكتب السماوية كلها ، مصدّقا لها ، ناسخا لبعض شرائعها.

ونصب" قيّما" بمقدّر تقديره : لكن جعله قيّما.

٢ ـ قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) [الكهف : ١٢].

أي لنعلمه علم ظهور ومشاهدة.

٣ ـ قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ..) [الكهف : ٢٢].

(وَثامِنُهُمْ) الواو فيه زائدة ، وقيل : مستأنفة ، وقيل : واو الثمانية كما في قوله تعالى : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] وقال الزمخشري وغيره : هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة ، كما تدخل على الصفة الواقعة حالا في المعرفة ، تقول : جاءني رجل ومعه آخر ، ومررت بزيد وبيده سيف ، ومنه قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر : ٤].

وفائدتها توكيد اتّصال الصفة بالموصوف ، والدلالة على أن اتّصالها أمر ثابت مستقرّ.

٤ ـ قوله تعالى : (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ..) [الكهف : ٣٧].

أي من البشر ، وإلا فالله يبدلها ، قال تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) [البقرة : ١٠٦].

وقال : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النحل : ١٠١] الآية.

٥ ـ قوله تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ..) [الكهف : ٢٩].

إن قلت : في هذا إباحة الكفر!

١٧٢

قلت : لا ، لأن هذا إنما ذكر تهديدا لهم ، بناء على أن الضمير في (شاءَ) ل (مِنْ) وعليه الجمهور.

أو المعنى : فمن شاء الله إيمانه آمن ، ومن شاء كفره كفر ، بناء على أن الضمير فيه" لله" كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما.

٦ ـ قوله تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ..) [الكهف : ٣١] الآية.

إن قلت : لبسها في الدنيا حرام على الرجال ، فكيف وعد الله بها المؤمنين في الجنة؟

قلت : عادة ملوك الفرس والروم ، لبس الأساور والتيجان ، دون من عداهم ، فذلك وعد الله المؤمنين بها لأنهم ملوك الآخرة.

٧ ـ قوله تعالى : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ..) [الكهف : ٣٥] الآية.

أفردها بعد تثنيتها ليدل على الحصر ، أي لا جنة له غيرها ، ولا نصيب له في جنة غيره ، ولم يقصد جنة معيّنة من الجنتين ، بل جنس ما كان له في الدنيا.

٨ ـ قوله تعالى : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) [الكهف : ٣٦].

إن قلت : كيف قال الكافر ذلك وهو ينكر البعث؟

قلت : معناه : ولئن رددت إلى ربي على زعمك ، ليعطيني هناك خيرا منها ، ونظيره قوله تعالى في فصلت : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) وعبر هنا ب (رُدِدْتُ) وثمّ ب (رُجِعْتُ) توسعة في التعبير عن الشيء بمتساويين.

٩ ـ قوله تعالى : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) [الكهف : ٣٩].

فائدة ذكر" أنا" في مثل ذلك ، حصر الخبر في المبتدأ ، كما في قوله تعالى : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) [طه : ١٢] وقوله : (إِنِّي أَنَا اللهُ) [القصص : ٣٠].

١٠ ـ قوله تعالى : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) [الكهف : ٤٤].

(خَيْرٌ) هنا ليست على بابها ، إذ غير الله لا يثيب ، ولا تحمد طاعته في العاقبة ، ليكون الله خيرا منه ثوابا وعقبا ، أو ذلك على سبيل الفرض والتقدير.

١١ ـ قوله تعالى : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) [الكهف : ٤٧].

١٧٣

أتى به ماضيا ، مع أن ما قبله مضارعين وهما : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) ليدلّ على أنّ حشرهم ، كان قبل السير والبروز ، ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم ، كأنه قال : وحشرناهم قبل ذلك.

١٢ ـ قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩].

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن الصغائر تكفّر باجتناب الكبائر ، لقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١]؟!

قلت : الآية الأولى في حقّ الكافرين ، بدليل قوله (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) والثانية في حقّ المؤمنين ، لأن اجتناب الكبائر لا يتحقّق مع الكفر.

أو يقال : الأولى في حقّ المؤمنين أيضا ، لكن يجوز أن يكتب الصغائر ، ليشاهدها العبد يوم القيامة ، ثم يكفّر عنه فيعلم قدر نعمة العفو عليه.

١٣ ـ قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ ..) [الكهف : ٥٠].

إن قلت : هذا يدل على أن (إِبْلِيسَ) من الجنّ ، وهو مناف لقوله تعالى في البقرة : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) فإنه يدل على أنه من الملائكة؟

قلت : في ذلك قولان :

أحدهما : أنه من الجنّ لظاهر هذه الآية ، ولأن له ذرية كفرة ، بل أكفر الكفرة. بخلاف الملائكة لا ذرية لهم ، ولا يعصون الله ما أمرهم ، لأنهم عقول مجردة لا شهوة لهم ، ولا معصية إلا عن شهوة ، فالاستثناء في تلك الآية منقطع.

وثانيهما ـ وهو المختار : أنه من الملائكة ، قبل أن يعصي الله تعالى ، فلمّا عصاه مسخه شيطانا ، وروي ذلك عن ابن عباس ، كما روي عنه أيضا أنه كان من خزّان الجنة ، وهم جماعة من الملائكة يسمّون الجنّ ، ف" كان" بمعنى صار.

أو المعنى : كان في سابق علمه تعالى ، أو من الجنّ الذين هم من الملائكة ، فالاستثناء متّصل ، ولا منافاة بين الآيتين.

١٤ ـ قوله تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ..) [الكهف : ٥٠] الآية.

١٧٤

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن الشيطان وذريته ، ليسوا أولياء بل أعداء ، لأن الأولياء هم الأصدقاء؟!

قلت : المراد بالولاية هنا ، اتباع النّاس لهم فيما يأمرونهم به من المعاصي ، فالموالاة مجاز عن هذا ، لأنه من لوازمها.

١٥ ـ قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها) [الكهف : ٥٧].

قاله هنا بالفاء ، الدالة على التعقيب ، لأن ما هنا في الأحياء من الكفّار ، فإنهم ذكروا فأعرضوا عقب ما ذكروا ، وقاله في السجدة ب (ثُمَ) الدالة على التراخي ، لأن ما هناك في الأموات من الكفار ، فإنهم ذكّروا مرّة بعد أخرى ، ثم أعرضوا بالموت فلم يؤمنوا.

١٦ ـ قوله تعالى : (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما ..) [الكهف : ٦١] الآية.

إن قلت : كيف قال ذلك ، مع أن الناسي" يوشع" وحده؟

قلت : نسبة النسيان إليهما مجاز.

أو المراد أحدهما ، كنظيره في قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢].

وقيل : نسي" موسى" بفقده الحوت ، و" يوشع" أن يخبره بخبره.

١٧ ـ قوله تعالى : (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها ..) [الكهف : ٧١] الآية.

قاله بغير فاء ، وقال بعد : (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) بالفاء ، لأنه جعل خرقها جزاء الشرط ، فلم يحتج للفاء ، وجعل قتل الغلام من جملة الشرط ، فعطفه عليه بالفاء ، وجزاء الشرط قوله : (قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ.)

١٨ ـ قوله تعالى : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) [الكهف : ٧١].

قاله بلفظ" الإمر" لأنه للعجب ، والعجب كما يكون في الخير ، يكون في الشرّ ، وقاله بعد في قتل الغلام بلفظ (نُكْراً) لأنه لا يكون إلا في الشر ، وقتل النفس أعظم من مجرّد خرق السفينة ، فناسب كلّ ما هو فيه ، ولذلك قال في خرق السفينة (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ) بحذف (لَكَ) وفي قتل الغلام (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ) بذكره ، ولأن في

١٧٥

ذكره ، قصد زيادة المواجهة ، بالعتاب على ترك الوصية مرة ثانية.

١٩ ـ قوله تعالى : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف : ٧٨].

جاء بالأول بالتاء (تَسْتَطِعْ) على الأصل ، وفي الثاني (تَسْطِعْ) بحذفها تخفيفا لأنه الفرع ، وعكس ذلك في قوله : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) لأن مفعول الأول اشتمل على حرف ، وفعل ، وفاعل ، ومفعول ، فناسبه الحذف تخفيفا ، بخلاف مفعول الثاني فإنه اسم واحد ، وهو قوله" نقبا" فناسبه البقاء على الأصل.

٢٠ ـ قوله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها ..) [الكهف : ٧٩].

قاله الخضر في خرق السفينة ، وقال في قتل الغلام : (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ) وفي إقامة جدار اليتيمين : (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما.)

لأن الأول في الظاهر إفساد محض ، فأسنده إلى نفسه.

وفي الثالث إنعام محض ، فأسنده إلى ربه تعالى.

وفي الثاني إفساد من حيث القتل ، وإنعام من حيث التبديل ، فأسنده إلى ربه ونفسه ، كذا قيل في الأخيرة.

والأوجه فيه ما قيل : إنه عبر عن نفسه فيه بلفظ الجمع ، تنبيها على أنه من العظام (١) في علوم الحكمة ، فلم يقدم على القتل إلا لحكمة عالية.

٢١ ـ قوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ..) [الكهف : ٨٦].

إن قلت : الشمس في السماء الرابعة (٢) ، وهي بقدر كرة الأرض مائة وستين ، أو وخمسين ، أو وعشرين مرّة ، فكيف تسعها عين في الأرض تغرب فيها؟

__________________

(١) أي : العظماء جمع عظيم يقال : عظام وعظماء.

(٢) هذا ما بلغه علم المؤلف في زمانه ، والنصوص تدل على أن جميع الشموس والأقمار والكواكب دون السماء الأولى لقوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [الملك : ٥] والعلم الحديث يؤيد النص القرآني.

١٧٦

قلت : المراد وجدها في ظنّه ، كما يرى راكب البحر ، الشمس طالعة وغاربة فيه ، " فذو القرنين" انتهى إلى آخر البنيان في وجهة الغرب ، فوجد عينا واسعة ، فظن أن الشمس تغرب فيها.

فإن قلت : " ذو القرنين" كان نبيا ، أو تقيا حكيما ، فكيف خفي عليه هذا حتى وقع في ظن ما يستحيل وقوعه.

قلت : الأنبياء والحكماء لا يبعد أن يقع منهم مثل ذلك ، ألا ترى إلى ظن موسى فيما أنكره على الخضر ، وأيضا فالله قادر على تصغير جرم الشمس ، وتوسيع العين وكرة الأرض بحيث تسع عين الماء عين الشمس ، فلم لا يجوز ذلك ، ولم يعلم به لقصور عقولنا عن الإحاطة بذلك!!

٢٢ ـ قوله تعالى : (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [الكهف : ١٠٥].

أي قدرا لحقارتهم ، وليس المراد فلا ننصب لهم ميزانا لأن الميزان إنما ينصب ليوزن به الحسنات ، في مقابلته السيئات ، والكافر لا حسنة له ، وأما قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) [القارعة : ٨ ـ ٩] فهو فيمن غلبت سيئاته على حسناته من المؤمنين ، فإنه يدخل النار لكن لا يخلّد فيها.

" تمت سورة الكهف"

١٧٧

سورة مريم

١ ـ قوله تعالى : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ..) [مريم : ٦].

أي يرث العلم والنبوة لا المال ، لخبر (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) (١). وورث يتعدى بنفسه وب" من" وقد جمع بينهما في الآية ، وقيل : (مِنْ) للتبعيض لا للتعدية ، لأن آل يعقوب لم يكونوا كلهم أنبياء ولا علماء ، وعلى الأول المراد من" آل يعقوب" : الأنبياء ، لأنهم الذين لا يورثون إلا العلم والنبوة.

٢ ـ قوله تعالى : (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً ..) [مريم : ٨] الآية.

إن قلت : كيف استبعد زكريا ذلك وأنكره؟

قلت : لم يفعله إنكارا ، بل ليجاب بما أجيب به عن طلبه الولد ، وهو قوله تعالى : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) فيزداد الموقنون إيقانا ، ويرتدع المبطلون.

أو قاله : تعجّب فرح وسرور ، لا تعجّب إنكار واستبعاد ، ويعقوب المذكور هو أبو" يوسف" وقيل : هو أخو زكريا ، وقيل : هو أخو عمران أبي مريم ـ عليه‌السلام ـ.

٣ ـ قوله تعالى : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ..) [مريم : ١٠].

أي : علامة.

فإن قلت : كيف طلب العلامة على وجود الولد ، بعد ما بشره الله تعالى؟

قلت : ليبادر إلى الشكر ، ويتعجل السرور ، إذ الحمل لا يظهر في أول العلوق ، فأراد معرفته أول وجوده ، فجعل الله آية وجوده عجزه عن كلام الناس.

٤ ـ قوله تعالى : (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) [مريم : ١٤].

قال ذلك هنا ، وقال بعده : (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) لأن الأول في حق" يحيى" والثاني في حق" عيسى" عليهما‌السلام.

٥ ـ قوله تعالى : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) [مريم : ١٥].

قاله هنا : في قصة" يحيى" منكرا ، وقال بعد في قصة" عيسى" : (وَالسَّلامُ عَلَيَ

__________________

(١) الحديث أخرجه البخاري.

١٧٨

يَوْمَ وُلِدْتُ) معرفا ، لأن الأول من الله ، والقليل منه كثير ، والثاني من عيسى و" أل" للاستغراق ، أو للعهد كما في قوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً. فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل : ١٥ ـ ١٦] أي ذلك السلام الموجه إلى يحيى موجه إليّ.

٦ ـ قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا ..) [مريم : ١٧].

أي : جبريل.

فإن قلت : كيف قال ذلك ، مع اتفاق العلماء على أن الوحي لم ينزل على امرأة ، ولهذا قالوا في قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) [القصص : ٧] إنه وحي إلهام ، وقيل : وحي منام.

قلت : لا نسلم أن الوحي لم ينزل على امرأة ، فقد قال مقاتل في قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) إنه كان وحيا بواسطة جبريل ، والمتفق عليه : إنما هو وحي الرسالة ، لا مطلق الوحي ، والوحي هنا إنما هو ببشارة الولد لا بالرسالة.

٧ ـ قوله تعالى : (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) [مريم : ١٨].

إن قلت : كيف قالت مريم ذلك ، مع أنه إنما يتعوّذ من الفاسق لا من التقيّ؟.

قلت : معناه إن كنت ممن يتّقي الله ، فأنت تنتهي عني بتعوذي بالله منك.

وقيل : ظنّته رجلا اسمه" تقيّ" ـ وكان فاجرا ـ فتعوّذت منه (١).

٨ ـ قوله تعالى : (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) [مريم : ١٩].

بتقدير إنما أنا رسول ربك ، يقول لك : أرسلت رسولا إليك لأهب لك ، فيكون حكاية عن الله ، لا من قول جبريل. وقرىء ليهب لك أي ليهب ربّك لك غلاما ، أو بإسناد الهبة إلى جبريل مجازا ، أي لأكون سببا في هبة الولد ، بواسطة نفخي في درعها ، فهو من قول جبريل.

٩ ـ قوله تعالى : (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) [مريم : ٢٠].

لم تقل : بغيّة ، لما قاله ابن الأنباري من أنّ (بَغِيًّا) غالب في النساء ، وقلّ ما يقول العرب : رجل بغيّ ، فتركوا التاء فيه إجراء له مجرى حائض ، وعاقر.

__________________

(١) الصحيح أن المعنى : كنت تقيا فاتركني ولا تؤذني ، فهو شرط حذف جوابه.

١٧٩

أو هو : " فعيل" بمعنى فاعل ، فتركوا التاء فيه كما في قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] أو لموافقة الفواصل.

١٠ ـ قوله تعالى : (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مريم : ٢٦].

مرتّب على مقدّر بينه وبين الشرط تقديره : فإما ترينّ من البشر أحدا ، فيسألك الكلام ، فقولي إني نذرت الآية ، وبهذا سقط ما قيل من أن قولها (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) كلام بعد النذر ، إذ هو بهذا التقدير من تمام النذر لا بعده.

١١ ـ قوله تعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) [مريم : ٣١].

إن قلت : كيف أمر بذلك مع أنه كان طفلا ، وخطاب التكليف إنما يكون بعد البلوغ والتمييز؟

قلت : ذلك لا يدلّ على أنه أوصاه بأداء ذلك في الحال ، بل أوصاه في الحال بالأداء بعد البلوغ والتمييز ، أو أن الله صيّره عقب ولادته بالغا مميّزا ، بدليل قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران : ٥٩] فكما أنه تعالى خلق آدم تاما كاملا دفعة ، فكذا القول في" عيسى" عليهما‌السلام ، وهو أقرب إلى ظاهر قوله : (ما دُمْتُ حَيًّا ،) فما أوصاه بذلك إلا بعد بلوغه وتمييزه.

فإن قلت : الزكاة إنما تجب على الأغنياء ، وعيسى لم يزل فقيرا ، لابسا كساء مدة مكثه في الأرض ، مع علمه تعالى بحاله ، فكيف أوصاه بها؟!

قلت : المراد بالزكاة هنا تزكية النفس وتطهيرها من المعاصي ، لا زكاة المال.

١٢ ـ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [مريم : ٣٦] الآية.

قال ذلك هنا ، وقال في الزخرف : (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) بزيادة (هُوَ) لأنه تعالى ذكر قصة عيسى عليه‌السلام هنا مستوفاة ، فأغنى ذلك عن التأكيد ، بخلافه ثمّ ، ولذلك قال هنا : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) وفي الزخرف : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) إذ الكفر أشدّ قبحا من الظلم ، فكان وصف من ذكر بالكفر ، في المحلّ الذي استوفى فيه قصة عيسى ، أنسب بالمحل الذي أجمل فيه قصته.

وقال هنا : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) وعكس في الكهف ، لأن معناه هنا أنه تعالى

١٨٠