تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا

____________________________________

أغلق قلبه وطبع عليه فلا يؤمن وإن رأى الحجج والآيات (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي ثبتت (لا يُؤْمِنُونَ) بالله وما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٩٨] (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) خارقة تدل على صدق الأنبياء في الدعوة إلى التوحيد وسائر الأمور الدينية (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) المؤلم الموجع ، فهناك يتيقّنون بأنهم كانوا على ضلالة لكن إيمانهم حينذاك لا ينفعهم.

[٩٩] إن سنة الله لا بد وأن تجري بالنسبة إلى المكذبين بإهلاكهم ، وقد تقرّر أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم ، فهل هناك من خلاص من هذا العذاب والهلاك؟ هنا يذكر سبحانه أن الخلاص ممكن وهو أن يسلك المكذبون ـ حتى ولو شاهدوا العذاب ـ مسلك المؤمنين فيؤمنوا ويرجعوا عن غيّهم (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها) أي لماذا لم يؤمن أهل القرى التي أهلكناها ، حين شاهدوا العذاب؟ وفي «لو لا» معنى التأنيب نحو : «هلّا امتنعت عن النساء وقد دعيت إلى التعفف عنهن» (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) استثناء متصل فإن قوم يونس خارجون عن هذا التأنيب (لَمَّا آمَنُوا) بعد مشاهدة العذاب (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ) أي رفعنا عنهم العذاب الموجب لخزيهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)

٥٦١

وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً

____________________________________

أي في هذه الحياة القريبة فصرفنا عنهم العذاب (وَمَتَّعْناهُمْ) أبقيناهم متنعمين بنعم الدنيا (إِلى حِينٍ) جاء أجلهم فماتوا بالآجال المكتوبة.

فقد ورد أنه ما رد الله العذاب إلا عن قوم يونس عليه‌السلام فكان يدعوهم إلى الإسلام فأبوا ذلك ، فهمّ أن يدعو عليهم ، وكان فيهم رجلان عالم وعابد وكان اسم العالم «روبيل» واسم العابد «تنوخا» وكان العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم وكان العالم ينهاه ويقول : لا تدع فإن الله يستجيب لك ولا يحب هلاك عباده. فقبل يونس عليه‌السلام قول العابد ولم يقبل قول العالم حين يئس منهم بعد ما دعاهم ثلاثا وثلاثون سنة. فدعا عليهم ، فأوحى الله إليه يخبره بأنه يأتيهم العذاب في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا ، فلما قرب الوقت خرج يونس من بينهم مع العابد وبقي العالم فيهم. فلما كان في ذلك اليوم نزل العذاب ـ بأن رأوا في اليوم الموعود ريح صفراء مظلمة مسرعة لها صرير وحفيف ـ فقال العالم لهم : يا قوم أفزعوا إلى الله فلعله يرحمكم فيرد العذاب عنكم. فقالوا : كيف نصنع؟ فقال : اخرجوا إلى المغارة وفرقوا بين النساء والأولاد ، وبين الإبل وأولادها ، وبين البقر وأولادها ، وبين الغنم وأولادها ، ثم ابكوا. وفعلوا ذلك وضجّوا وبكوا ، فرحمهم‌الله ، وصرف عنهم العذاب ، وفرق العذاب على الجبال وقد نزل وقرب منهم (١).

[١٠٠] (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) يا رسول الله (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) من البشر (كُلُّهُمْ جَمِيعاً) بلا استثناء أحد. ولذا جيء بتأكيدين ، حتى لا يظن

__________________

(١) تفسير القمي : ج ١ ص ٣١٧.

٥٦٢

أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ

____________________________________

أن التأكيد الأول عرفي لا حقيقي ، فإنه سبحانه قادر على أن يلجئ الناس إلى الإيمان ، كما أنه قادر على أن يحف الإيمان بالمغريات التي ترغّب الناس في الإيمان تلقائيا بلا جبر ، لكنه لم يشأ الأمرين ، إذ تعدم فائدة الإيمان حينئذ لعدم حصول الاختبار بالإكراه والإغراء (أَفَأَنْتَ) يا رسول الله (تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي لا ينبغي لك إكراه الناس على الإيمان ، أو لا تقدر على ذلك ، فإن الإيمان أمر قلبي لا يدخل تحت طوقك.

فإن قيل : فلما ذا يكره الإسلام الناس على ترك المنكرات وفعل الواجبات؟

قلنا : إن ذلك بالنسبة إلى من قبل الدين كمن قبل القانون الذي يجبر على تطبيقه عليه ، أما من لم يقبل وهو مورد الآية فلا إكراه له.

فإن قيل : فكيف لا يقبل الإسلام من الكفار غير الكتابيين إلا الإسلام أو القتال؟

قلنا : إن ذلك إذا خرقوا العهود التي بينهم وبين المسلمين ، وذلك غير الإكراه الابتدائي.

[١٠١] إن الله سبحانه لم يكره الناس على الإيمان ، ولكنه بيّن لهم الطريق ، فإن أحدا لا يتمكن من الإيمان إلا بإذنه سبحانه ، بأن يهديه الطريق ، أما من هداه وأرشده ثم أعرض عنه وسلك طريقا آخر فالله سبحانه يجعل عليه الرجس الروحي ، إذ تنغلق منافذ عقله ، وتتردى نفسه في مهاوي الضلالة التي هي أبشع أنواع الرجس (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ

٥٦٣

إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

____________________________________

إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بأن يمكنها من الإيمان ويدعوها إليه ويرشدها إلى طريقه (وَيَجْعَلُ) الله (الرِّجْسَ) الدنس الروحي الذي هو أسوأ أقسام الدنس ، فإن القذارات الظاهرية تذهب بالغسل ونحوه ، أما القذارة الروحية فلا تذهب بألف غسل وغسل (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أي لا يعملون عقولهم للاستضاءة والاستنارة.

[١٠٢] (قُلِ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الآيات الدالة على توحيد الله سبحانه وصفاته ، فإن في كل شيء آية.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنما العلم ثلاثة : آية محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سنة قائمة ، وما خلاهن فهو فضل» (١).

فالآية المحكمة : هي الآيات الكونية الدالة بإحكامها وإتقانها على التوحيد وسائر صفاته سبحانه من العلم والقدرة والحياة والإرادة ، وأنه لا يفعل العبث .. وغيرها.

والفريضة العادلة : هي الأخلاق التي هي فرائض بأن يسير البشر في عدلها ووسطها ، فلا جبن ولا تهوّر بل شجاعة ، ولا بخل ولا سرف بل جود ، ولا شره ولا تزهد بل عفة ... وهكذا.

والسنة القائمة : هي الأحكام الإسلامية التي هي سنن الحياة السعيدة ومناهجها القائمة إلى الأبد ، لا تزول ولا تتغير.

__________________

(١) عوالي اللآلي : ج ٤ ص ٧٩.

٥٦٤

وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)

____________________________________

(وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ) أي لا تفيد هذه الدلالات والبراهين الجلية ، ولا يفيد الإنذار والوعظ (عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) إذ أنهم أغلقوا قلوبهم وغمضوا أبصارهم. وإنما عدي ب «عن» لأنه أشرب معنى «الدفع» ، أي لا تدفع الآيات والعضلات العذاب عن قوم لا يؤمنون ، فقد كان السياق حول عذاب المكذبين وأنه سبحانه يجعل الرجس عليهم.

[١٠٣] (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ) أي ينتظر هؤلاء الكفار الذين لا تفيدهم الآيات والنذر ، والاستفهام إنكاري (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي إلا العذاب والهلاك ، والمراد بأيامهم : وقائعهم المؤلمة ، ومعنى «خلوا» مضوا. والحاصل أنهم إن لم يؤمنوا فلينتظروا العذاب كما نزل بقوم عاد وثمود وغيرهم (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (فَانْتَظِرُوا) مثل تلك الأيام بعد ما أعرضتم عن الإيمان (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) فلننتظر جميعا حتى يأتيكم العذاب.

[١٠٤] (ثُمَ) عند نزول العذاب (نُنَجِّي رُسُلَنا) فلا يصيبهم مكروه (وَالَّذِينَ آمَنُوا) من بين أولئك الكفار ، فلا يحرق الرطب مع اليابس ـ كما اشتهر على ألسنة الناس ـ (كَذلِكَ) أي كما ننجي الرسل (حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) أي نجاة المؤمنين لازم علينا في الحكمة.

٥٦٥

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً

____________________________________

ويحتمل أن يكون «كذلك» للمؤخر ـ لا المقدم ـ أي نجاة المؤمنين الآن كنجاة المؤمنين سابقا.

[١٠٥] (قُلْ) يا رسول الله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب للناس بصورة عامة (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) وطريقتي التي جئت بها ، أحق هي أم باطل؟ فلا تدرون ذلك ، فإن شككم لا يزحزحني من عقيدتي ودعوتي ، بل أبقى صامدا للدعوة (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ولا يثنيني إلى عبادة تلك الآلهة كثرة عبّادها وشككم في ديني ، كما هو الغالب في الأفراد الذين يدعون إلى طريقة فلا يجدون مؤيدين لها فيعدلون عنها (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) فهو الذي يميتكم وتكون ناصيتكم في قبضته ومصيركم إليه. وهذا تهديد لهم ، وتذكير بأن الموت بيد الله سبحانه وليس للأصنام شيء (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بالله وكتبه ورسله وشرائعه.

[١٠٦] وكأن المقام صار مقام مخاطبة الله لنبيه ، وأن الشاكين حاضرين في محضر الرسول حين يتلقى الوحي ، من باب الإلفات الذي هو نوع من البلاغة ، ولذا قال : (وَأَنْ أَقِمْ) يا رسول الله (وَجْهَكَ) واتجاهك فإن «الوجه» لمّا كان المحل الذي يتوجه الناس به إلى غيرهم ، أمر بإقامته ، وعدم صرفه إلى هنا وهناك (لِلدِّينِ) أي طريقة الإسلام (حَنِيفاً) أي في حال كونك مائلا عن سائر الأديان ، أو مستقيما في

٥٦٦

وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ

____________________________________

طريقتك ودعوتك (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يشركون بالله غيره ، وكأن عطف «أن أقم» على تقدير : «قيل لي» أن أقم.

[١٠٧] (وَلا تَدْعُ) يا رسول الله (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غير الله سبحانه (ما لا يَنْفَعُكَ) إن أطعته (وَلا يَضُرُّكَ) ضرر معتد به إن عصيته. وإنما قيدنا بذلك لأنه المفهوم ، فإن الله سبحانه هو المستقل بالنفع والضرر أما غيره من الآلهة المزعومة فمنها ما لا ينفع ولا يضر إطلاقا ، كالأصنام ، ومنها ما لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله سبحانه ، كفرعون ونمرود وغيرهما من الأصنام البشرية (فَإِنْ فَعَلْتَ) تلك العبادة والدعوة لغير الله (فَإِنَّكَ إِذاً) في ذلك الحين (مِنَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بإيجاب العذاب عليها وعلى سائر الناس فيما لو صاروا سببا للضلال والغواية. ولا ينافي كون الخطاب متوجها إلى النبي مع مقام عصمته ، لأنه تعليمي ، بالإضافة إلى إمكان استحالة المقدم في الشرط ، وإنما صدق الجملة بصدق الملازمة.

[١٠٨] الأصنام والآلهة المزعومة لا تنفع ولا تضر ، أما الله سبحانه فهو وحده المالك للنفع والضرر ولكل شيء ، فمن اللازم أن يدعوه الإنسان وحده (وَإِنْ يَمْسَسْكَ) يا رسول الله (اللهُ بِضُرٍّ) أي إن أحلّ ضرا. وكأن الإتيان بلفظ «المس» لإفادة أن أقل مقدار من الضر الذي يمس الإنسان مسا ، لا كاشف له سوى الله ، فكيف بالمقدار الكبير منه؟ (فَلا كاشِفَ لَهُ) لا دافع له (إِلَّا هُوَ) إلا الله وحده ، فهو القادر

٥٦٧

وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي

____________________________________

على دفع الضر (وَإِنْ يُرِدْكَ) من «أراد يريد» (بِخَيْرٍ) يقال : «يريدك بالخير» و «يريد بك الخير» بمعنى واحد (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) أي لا يقدر أحد على منعه.

قال بعض المفسرين : إن ذكر الإرادة مع الخير ، والمس مع الضر ، لتلازم بين الأمرين ، للتنبيه على أن الخير مراد بالذات ، وأن الضر إنما يمسّ البشر لا بالقصد الأول ، ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد بهم من الخير لا استحقاقا لهم عليه ، ولم يستثني لأن مراد الله لا يمكن رده (١).

(يُصِيبُ بِهِ) أي بالخير (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) فيعطيه كما تقتضي حكمته البالغة (وَهُوَ الْغَفُورُ) لذنوبهم (الرَّحِيمُ) بهم يرحمهم ويتفضل عليهم.

[١٠٩] وأخيرا جاء الحق إلى الناس ، والرسول مأمور بالتبليغ ، وبعد ذلك كل امرئ وما اختار (قُلْ) يا رسول الله للناس : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) على نحو العموم (قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُ) هو دين الإسلام المشتمل على كل شيء مما يحتاجه الإنسان في مختلف مجالات الحياة (مِنْ رَبِّكُمْ) إلهكم الحقيقي ومربّيكم (فَمَنِ اهْتَدى) إلى الحق (فَإِنَّما يَهْتَدِي

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦٨ ص ١١٠.

٥٦٨

لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)

____________________________________

لِنَفْسِهِ) فإن فائدة هدايته عائدة إليه (وَمَنْ ضَلَ) عنه وعدل إلى سائر السبل (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي على نفسه ، فإن ضرر الضلال يعود إلى الإنسان نفسه (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) فلست أنا مسئولا عمن ضل بعد إراءته الطريق وإرشاده السبيل ، فأنتم موكلون إلى أنفسكم وليس عليّ إلا البلاغ.

[١١٠] (وَاتَّبِعْ) يا رسول الله (ما يُوحى إِلَيْكَ) من قبل الله سبحانه ، بتنفيذ أوامره (وَاصْبِرْ) على إيذاء الكافرين والمشركين (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بينك وبينهم بالغلبة والثواب لك هنا ، والعقاب لهم هناك (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) فإنه يحكم بالعدل ، ولا يغمط أحدا حقه ويشهد كل شيء فلا يزيغ به حكم ، ولا يميل به باطل ، فهو الحاكم بالعدل والصواب.

٥٦٩

(١١)

سورة هود

مكية / آياتها (١٢٤)

سميت السورة بهذا الاسم ، لاشتمالها على قصة هود النبي عليه‌السلام وحيث أن سورة يونس اختتمت باتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للوحي ، ابتدأت هذه السورة بالوحي.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الله ، فإن للاسم خواصا ، ولذا نرى أن سماع اسم المحبوب يزيد الإنسان نشاطا ، كما أن سماع اسم المكروه يزيد الإنسان انقباضا ، بالإضافة إلى أن اسم الله يطرد الشياطين ويوجب عناية الله للذي ذكره ، وتركيز لصفة الرحمة في نفوس الناس ، إنه هو الرحمن الرحيم ، فليتخلّق الإنسان بأخلاقه سبحانه.

٥٧٠

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢)

____________________________________

[٢] (الر) رموز بين الله والخلق ، أو أن من جنس «أ ، ل ، ر» (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) فكل آية من آياته محكمة متينة ليست رخوة لا تلائم الواقع والحياة ، وتكون غير صالحة لكل زمان أو مكان ، بل إنها كالأحجار الكريمة المستحكمة التي لا يدخلها نقص ورخاوة وتفكك ، (ثُمَّ فُصِّلَتْ) كل آية قد وضعت موضعها المناسب لها ، كما يفصل الكتاب إلى أبواب وفصول ، فليس نظمها مهلهلا غير منظم ، كالبناء المحكم ذي الأحجار والأدوات القديمة والذي ينظم ويفصّل تفصيلا منسجما صحيحا دقيقا ، فالآية محكمة بذاتها ، منظمة في مكانها.

وهو (مِنْ لَدُنْ) أي من عند إله (حَكِيمٍ) في أفعاله يضع الأشياء في مواضعها ، فلا يفعل شيئا اعتباطا وعبثا وإنما بالحكمة والصلاح (خَبِيرٍ) عليم بالأشياء ، فإن الحكمة غير العلم ، إذ ربما حكيم غير عالم ، كما أنه ربما عالم غير حكيم.

[٣] (أَلَّا تَعْبُدُوا) تقديره «لأن لا تعبدوا» ، فهو متعلق ب «أحكمت» أي أنزل الكتاب المحكم المفصل لعلّة أن لا تعبدوا ، فهو منصوب محلا ، كما تقول : «كتبت إليك أن تتعلم» (إِلَّا اللهَ) فهو وحده المستحق للعبادة والطاعة لا إله سواه (إِنَّنِي لَكُمْ) أيها الناس (مِنْهُ) من طرفه سبحانه (نَذِيرٌ) أنذر العاصين بالعقاب (وَبَشِيرٌ) أبشر المطيعين بالثواب. وكان ذكر الإنذار قبل التبشير ، للزوم تطهير النفس عن الكفر والمعاصي أولا ثم تحليتها بالفضائل ، قالوا : ولذا قدم النفي على الإثبات في «لا إله إلّا الله».

٥٧١

وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣)

____________________________________

[٤] (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) اطلبوا غفرانه فيما سلف من ذنوبكم (ثُمَّ تُوبُوا) ارجعوا (إِلَيْهِ) في أموركم ، فإن الاستغفار والتوبة أمران ، فإن الأول تطهير ، يمكن أن يرجع الإنسان ـ بعده ـ إلى الله ويمكن أن يرتكس في الذنوب ، وإن كان الغالب استعمال كل واحد منهما ويراد به الاثنان. والحاصل أن الإنسان يحتاج إلى تطهير ما سبق ، وطهارة المستقبل ، فالاستغفار وضع للأول ، والتوبة للثاني ، وإن استلزم كل واحد الآخر (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) فإنه إن استغفرتم وتبتم تفضّل عليكم بالمتاع الحسن من رزق وأثاث ورياش ، وحسنه بجماله الذاتي وأن لا يكدّره قلق ومرض وما أشبههما (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وقت مسمى عنده ، وهو منتهى عمركم (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) فمن أوتي بالفضل عن الاستغفار والتوبة آتاه الله سبحانه فضلا وزيادة على المتاع الحسن ، فالمطيع له المتاع الحسن والمطيع الذي يزيد في طاعته على أصل الواجب بالمندوبات ونحوها يعطى أزيد على قدر فضله (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي تعرضوا وأصله «تتولوا» بحذف إحدى التاءين ـ على القاعدة ـ و «التولي» بعدم الإيمان أو عدم الاستغفار والتوبة (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) هو يوم القيامة ، الذي تعظم الأهوال فيه وتكبر ، فإن كان التولي بالمعصية كان الخوف بمعناه ، فإن العاصي يخاف عليه ، لا إنه يقطع بعذابه ، لاحتمال خلاصه بالعفو والشفاعة ، وإن كان التولي بالكفر كان لفظة «الخوف» من التواضع في الكلام لمن لا يعتقد.

٥٧٢

إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥)

____________________________________

[٥] (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) رجوعكم ، ومعناه إلى حسابه وجزائه رجوعكم بعد الموت (وَهُوَ) سبحانه (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقدر على إحياء الأموات ، ومحاسبتهم وجزائهم وقد اشتملت هذه الآيات على التوحيد والنبوة والمعاد ، وتعديل السلوك في الحياة.

[٦] ويواجه هذا الكتاب الحكيم وهذا الرسول البشير النذير جماعة من الناس بالإعراض بحني رؤوسهم وثني صدورهم كما يفعل كل من يريد أن يخفي نفسه منك ولا يعتني بك وبكلامك (أَلا) فلينتبه السامع (إِنَّهُمْ) أي الكفار (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) يطوونها ويدخلون بعض أجزائها في بعض كالمطرق الشديد الإطراق (لِيَسْتَخْفُوا) يطلبون بذلك تخفيهم (مِنْهُ) من الله أو من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَلا) فلينتبه السامع (حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) يتغطون بثيابهم ، فإن الإنسان المعرض يتلفّح بثوبه ، إما بأن يضعه على رأسه ، أو يخفي به بعض جسده ، ولعل بعضهم كان يفعل ذلك إظهارا لإعراضه حين يقرأ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن. (يَعْلَمُ) الله (ما يُسِرُّونَ) يخفون (وَ) يعلم الله (ما يُعْلِنُونَ) عند ما يستغشون ثيابهم (إِنَّهُ) سبحانه (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي الصفات والأسرار الكامنة فيها ، فلا ينفعهم ثني الصدور واستغشاء الثياب في تخفيهم عليه سبحانه ، فإنه العالم بكل شيء.

٥٧٣
٥٧٤

تقريب القران الى الأذهان

الجزء الثّانى عشر

من آية ٧ من سورة هود

إلى آية ٥٣ من سورة يوسف

٥٧٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين.

٥٧٦

وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ

____________________________________

[٧] إنه سبحانه عالم بكل شيء ، ولو لم يعلم كل شيء لم يقدر على إيصال الرزق لكل دابة صغيرة أو كبيرة (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) «الدابة» كل حيوان يدبّ على وجه الأرض ، وهذا من باب المثال ، وإلا فمن الحيوانات ما لا يدب ، كما أن منها ما ليس في الأرض (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) ولعلّ تخصيص الرزق بالذكر ، للزومه عدة أمور من علم وحكمة وقدرة وغيرها ، ولتكرره كل يوم ـ غالبا ـ (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) مستقر تلك الدواب (وَمُسْتَوْدَعَها) ولعلّ الأول عبارة عن كل محل تقرّ فيه ، ولو لم يكن مكانها ، والثاني محلها الذي هو عيشها ومنزلها. وقيل في ذلك أقوال أخرى (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي إن جميع ذلك بالإضافة إلى أنها معلومة لله سبحانه مدرجة في كتاب واضح ، ولعله هو اللوح المحفوظ.

[٨] (وَهُوَ) سبحانه (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) لا أكثر ولا أقل ، وقد جرت حكمة الله سبحانه على الخلق التدريجي كما نشاهده في النبات والحيوان والإنسان ، وكذلك كان خلق السماء والأرض ، وخصوصية ستة أيام كخصوصية الآماد المعينة في سائر الأشياء كتسعة أشهر مثلا للجنين. والظاهر أن المراد : مقدار ستة أيام ، إذ لم يكن في ذلك الوقت يوم بمعناه الحالي (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) فقد كان سلطانه سبحانه وتصرفه ـ وهو المتبادر من العرش كما يقال : عرش الملك الفلاني من البلاد الكذائية إلى البلاد الكذائية ـ على

٥٧٧

لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ

____________________________________

الماء ، قبل خلق السماوات والأرض ، فإن الله قبل خلق السماوات والأرض خلق ماء ثم كوّن الكون ، وأما لم ذلك؟ فعلمه لدى علّام الغيوب (لِيَبْلُوَكُمْ) يختبركم ويمتحنكم (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) إن خلق السماوات والأرض كان استعدادا لإمكان خلق الإنسان ليمتحن ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خلق الأشياء لأجلك».

أما خصوصية «الستة» وكون العرش على الماء ، فهو من توابع الخلق لأجل الامتحان ، لا من صميمه ـ كما يظهر لنا من السياق ـ كأن تقول : «هيأت لولدي الدار الفلانية في سنة ، لأسكنه فيها». ثم إن ذلك كان لأجل امتحان البشر وليظهر أيهم أحسن عملا ، حتى يكون الجزاء وفق الامتحان ، ومن الغريب ـ إذن ـ أن ينكر أحد الجزاء (وَلَئِنْ قُلْتَ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) للحساب والجزاء (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسله (إِنْ هذا) أي : ما هذا القول حول البعث (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي تمويه واضح ، لا حقيقة له.

[٩] إنهم يكذبون بكل شيء لم يروه ، وقد وعدناهم بالعذاب لكنه تأخر عنهم ، فيستعجلونه استهزاء ، وينكرونه كما ينكرون البعث (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) الذي يستحقونه بتكذيبهم للرسول وإنكارهم لله سبحانه (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) «الأمة» بمعنى «الحين» أي إلى أجل مسمّى

٥٧٨

لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩)

____________________________________

ووقت معين عدّت أيامه في علم الله سبحانه لمصالح خاصة (لَيَقُولُنَ) على وجه الاستهزاء : (ما يَحْبِسُهُ)؟ أي : أيّ شيء يؤخر هذا العذاب الموعود عنّا إن كان الوعد حقا ، فتأخيره دليل على كذبه (أَلا) فلينتبه السامع (يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) العذاب (لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) لا يقدر أحد على صرفه عنهم ، بل يأخذهم ويهلكهم (وَ) حينذاك (حاقَ بِهِمْ) أحاط بهؤلاء المكذبين (ما) أي العذاب الذي (كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فلا منجي لهم ولا مهرب. أما تأخير العذاب فلأجل إيمان من يؤمن ، ممن يعلم الله إيمانه منهم ، ولينشأ بعض الذراري من أصلاب الكفار ، وإنما يأخذ الله سبحانه بعذاب الاستئصال من لم يجد منه خيرا إلى الأبد.

[١٠] إن الإنسان عجول في حكمه وتقلبه فهو يستعجل العذاب ، كما أنه ييأس لمجرد نزول البلية ، والفخر بمجرد نزول النعمة (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) أنزلنا إليه رحمة ذاقها ، من صحة أو مال أو ولد أو نحوها. والمراد ب «الذوق» هنا مطلق الإدراك ، فإنه يستعمل فيما يتذوق باللسان ، وفيما يدرك بالحواس الظاهرة ، وفيما يدرك ولو بالحواس الباطنة ، كما أن الرؤية كذلك ، تقول : رأيت وجه زيد ، ورأيت خشونة الحصير ، ورأيت الله أكبر كل شيء (ثُمَّ نَزَعْناها) أي سلبنا تلك النعمة (مِنْهُ) من الإنسان لمصلحة اقتضته (إِنَّهُ) أي الإنسان (لَيَؤُسٌ) ذو يأس وقنوط (كَفُورٌ) يكفر بالله وييأس من روحه ورحمته.

٥٧٩

وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)

____________________________________

[١١] (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ) جعلناه يتذوق ويدرك ، (نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) أي بعد بلاء أصابه (لَيَقُولَنَ) الإنسان عند نزول النعماء به : (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ) أي الأمور التي تسوء صاحبها من فقر ومرض وعقم وما أشبه (عَنِّي) فكأنه أمر عادي طبيعي لا يشكر الله على ذهابها ، ولا يرى أنه هو الذي أذاقه النعمة (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) يفرح ويفخر على الناس فلا يصبر عند البلية ولا يشكر عند النعمة ، إنه عجول في جميع أحواله في نعمة كان أم في نقمة.

[١٢] (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) على الشدة فلم يكفروا ، وعلى النعمة فلم يبطروا ، فإن النعمة تحتاج إلى الصبر ، كما أن البلية تحتاج إليها ، ورب إنسان أنعم الله عليه فلم يصبر على النعمة حتى بدّلها كفرا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فلم يعملوا بالسيئات عند النعمة أو البلية (أُولئِكَ) الصابرون (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) غفران ذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) في الدنيا بالسعادة ، وفي الآخرة بالجنة والرحمة والرضوان.

[١٣] ما هو موقف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمام هؤلاء الكفار الذين يقولون عن البعث أنه سحر مبين ، ويكفرون عند الشدة ، ويبطرون عند النعمة؟ إنه لا بد وأن يضيق صدره ، خصوصا وأنهم يطلبون منه ما لا يرتبط بالرسالة تعنّتا.

وقد روي أن رؤساء مكة من قريش أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا :

٥٨٠