تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

قوله تعالى

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [الحشر : ٦ ، ٧]

النزول

قيل : لما خرج بنو النضير من ديارهم سأل المؤمنون قسمة أموالهم فنزلت ، وجعل ذلك لرسول الله يحكم فيها بما شاء.

المعنى : قول تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) الفيء : الرجوع والرد ، أي : ما رد من مال بني النضير. قيل : لأن أصلها حين خلق للمؤمنين.

وقوله تعالى : (عَلى رَسُولِهِ) أي : جعله له خاصة.

وقوله تعالى : (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) والإيجاف من الوجيف ، وهو السير السريع. ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإفاضة من عرفات : «ليس البر بإيجاف الخيل ولا إيضاع الإبل على هيئتكم» الإيجاف والإيضاع الإسراع ، والمعنى فما أوجفتم عليه أي على تحصيله وتغنيمه خيلا ولا ركابا ، يريد بالركاب الإبل تركب ، والمعنى : لم تتعبوا ولكن كان ذلك بتسليط الله.

وقيل : لم تركبوا بل مشيتم ؛ لأنه لم يركب إلا رسول الله ، فلذلك فوض إليه ، ولم يقسم قسمة الغنائم التي أخذت عنوة ، وقوتل عليها ، ثم قال تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) اختلف المفسرون هل هذا مغاير للأول أم لا؟ فقيل : ليس بمغاير للأول ، وهذا تفسير الزمخشري.

٣٤١

قال : ولهذا لم يأت بحرف العطف ، لكن بين حيث يسبقه رسول الله ، وذلك أنه يصرف في نفسه وأسبابه ، فإن استغنى ففي هذه الأصناف.

وقيل : المراد بالأول ما أخذ بغير حرب بل صلحا ، أو بالرعب.

والثاني : ما أخذ عنوة وقهرا وهو الغنيمة وكان مصرفها في هذه الأصناف في صدر الإسلام ، ثم نسخ ذلك بآية الأنفال ، وجعلت للمقاتلين إلا الخمس عن أبي علي ، ورجحه الحاكم ، وهذا مروي عن قتادة.

وقيل : ما فتح صلحا.

والثاني خمس الغنائم وهذا مروي عن أبي علي ، ورجحه الحاكم ، قال : لأن فيه تكثير الفوائد.

وثمرة الآية : أن ما أخذ بغير قتال كمال بني النضير وغيرهم يختص به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهذا قال تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) قال : (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينفق على نفسه وأسبابه وأهله ، وما بقي يجعله للكراع والسلاح ، هكذا في التهذيب ، قال : وقد ذكره الزهري ، وذكر أن فدك كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة ، وإذا كانت هذه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجب أن يثبت فيما كان نظيرها أنها للإمام كما كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا جلي وقد ذكره الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ.

وعند أبي حنيفة ، والشافعي : أنها للمصالح ، وأما الخلاف في فدك وما جرى فيها من الاختلاف فدلالته من غير هذه الآية ، وبيان ما يتعلق بهذه المصارف الستة ، تقدم في سورة الأنفال.

قوله تعالى :

(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) [الحشر : ٧]

أكثر القراء يقرءون بالياء المثناة من تحت ، أي لا يكون الفيء ، ودولة بالنصب ، وقراءة أبي جعفر (تكون) بالتاء المثناة من فوق ، أي لا تكون الغنيمة (دولة) بالرفع ، والدال في دولة المضموم ، وقرأ السلمي بالفتح.

٣٤٢

قال عيسى بن عمر : هما لغتان بمعنى واحد.

وقيل : الدّولة بالفتح الغلبة ، وبالضم اسم الشيء يتداوله الناس بينهم مثل العارية ، وقيل : بالفتح المرة من الاستيلاء ، وبالضم نقل النعمة من قوم إلى قوم ، وكانت الجاهلية تستأثر الرؤساء بالغنيمة ، ويقولون : من عزّبزّ ، ومن هذا قول الحسن ـ رضي الله عنه ـ : اتخذوا عباد الله خولا ومال الله دولا.

قوله تعالى

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧]

قيل : المراد ما أمر في أمر الفيء والغنيمة ، وما نهى في شأنهما من الأخذ والغلول ، وهذا يدل على النظر للإمام يفعل ما يراه صلاحا ، وهذا مذهب الأئمة وأبي حنيفة ومالك.

قال الحاكم : ولهذا قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيبر ، ومنّ على أهل مكة ، ومنّ عمر على أهل السواد ، ووظف عليهم الخراج ولم يقسمها لما رأى المصلحة ، وعرف أن التقدير للإمام ، ووافقه الصحابة على ذلك ، ولهذا أيضا سوّى أبو بكر في القسمة وفضّل عمر أهل السوابق.

وقال الشافعي في قسمة الأراضي : لا يفعل الإمام إلا ما طابت به نفوس الغانمين.

وقيل : هذا عام في أوامر الشرع ونواهيه.

وعن ابن مسعود أنه لقى رجلا محرما وعليه ثيابه فقال له : لو أنزع عنك هذا ، فقال الرجل : أقرا علي في هذه آية من كتاب الله ، قال : نعم ، فقرأها عليه.

٣٤٣

قوله تعالى

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) [الحشر : ٨ ، ١٠]

المعنى في ذكر الفقراء

المهاجرين بعد ذكر المصارف الستة : أنه تعالى أراد أن يبين أنه جعله لمصارف مخصوصة ، وأن لا يكون دولة بين الأغنياء.

قال في الشرح : إن عمر لما فتح السواد استشار الصحابة في أمرها فأشار عليّ عليه‌السلام ، وعبد الرحمن بن عوف أن لا يقسمها ، ويقرها في أيدي أهلها ، وطلب الزبير ، وعمار ، وبلال القسمة فحاجهم على ذلك فقال : وجدت أنه يفصل بيني وبينكم ، قال الله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) إلى قوله : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) ثم قال : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) وقال : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني : الأنصار ، ثم قال : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) فأثبت فيها حقا لهؤلاء ، فلو قسمتها بينكم لصارت دولة بين الأغنياء منكم ، وجاء آخر الناس ولا شيء لهم ، فيجب أن نثبت لهم فيها حقا يستوي فيه أول الأمة وآخرهم.

وقال الزمخشري : قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ) بدل من قوله تعالى :

٣٤٤

(وَلِذِي الْقُرْبى) وما بعده وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الفقراء ، فإنه أخرجه بقوله : (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ولأنه يترفع عن تسميته بالفقير ، هذا كلامه ، وفيه إشارة إلى التخيير في الصرف بين من تقدم ، وبين الفقراء من المهاجرين وغيرهم ، وفيما روي عن عمر أيضا أن الحق للأمة والنظر لهم.

وأما أهل المذهب فجعلوا اليتامى والمساكين وابن السبيل من بني هاشم في مصرف الخمس ؛ لأنه قد روي عن علي بن الحسين أنه قال : «هم يتامانا ، ومساكيننا ، وابن سبيلنا».

قالوا : فإن لم يوجدوا فيهم فمن المهاجرين ، فإن لم يوجدوا فمن الأنصار.

قال أبو طالب : ويجب الترتيب بين بني هاشم ، وبين غيرهم.

وقال المؤيد بالله : مسحب ، واستدلوا بأن قالوا لأن في سياق الآية ما يقتضي اختصاص المهاجرين والأنصار بعد القرابة ، ولأن العناية لها تأثير ، وعناية المهاجرين والأنصار أكثر من غيرهم ولأن غير بني هاشم قد جعل لهم الصدقات ، وأخذه من الآية خفي.

وقال في نهاية المجتهد : اختلف الناس في مصرف الفيء وهو الذي أخذ من غير أن يوجف بخيل أو ركاب. فقال قوم : الفيء لجميع المسلمين الغني والفقير ، وأن الإمام يعطي المقاتلة وسائر المصالح ولا خمس فيه ، قال : وهو قول الجمهور وهو الثابت عن أبي بكر ، وعمر.

وأحد قولي الشافعي أن فيه الخمس ، والباقي على رأي الإمام ، وأحد أقوال الشافعي لا خمس فيه ويقسم على الأصناف الخمسة ، وسبب الخلاف ما فهم من التعارض بين آية الأنفال فإنها أوجبت في جميع ما يغنم الخمس ، وآية الحشر.

٣٤٥

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) يفهم منه أن جميع الناس سواء ، ولهذا قال عمر : ما أرى هذه الآية إلا قد عمت جميع الخلق ، حتى الراعي.

والأئمة ـ عليهم‌السلام ـ جعلوا ما فتح من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب للإمام ، وقالوا : إن فدك ونحوها كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) جعلهم داخلين في اسم الفقراء ، وإن كانت لهم ديار وأموال ، وفي ذلك دلالة على أن من غصب ماله جاز له أخذ الزكاة ، ودخل في اسم الفقراء ، وهذا على أصل المؤيد بالله والشافعي ، أن الكفار لا يملكون علينا ، ولكن قد صاروا كالفقراء بدليل أنه تعالى أضاف الديار والأموال إليهم.

وأما مذهب الهادي عليه‌السلام وأحد قولي المؤيد بالله فقد ملك الكفار أموالهم ؛ لأن الكافر يملك ما قهر على المسلمين.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) أراد التي كانت لهم قبل أن تملك بالقهر ، وتدل الآية على ثبوت الهجرة ، وأن للمهاجر مزية لكونه اختار ما عند الله على بيته وماله ، ورضي بالغربة والفقر ، وأن نصرة المسلمين من الأمور التي تثبت لصاحبها التقدم في الدنيا والآخرة ، ثم إنه تعالى عقب بذكر الأنصار فقال تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) أراد : بهم الأنصار ، وأراد وأخلصوا الإيمان ، أو : وجعلوا الإيمان مستقرا وموطنا ، وبين تعالى خلالهم في معرض الثناء فقال تعالى : (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) أي : طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره ، والمحتاج إليه يسمى حاجة ، يقال : أعطاه من ماله حاجته (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) والخصاصة : الإملاق ، والثلمة ، والفرجة ، ومنه خصاص البيت وهي الفروج في بيت القصب ، قال الشاعر :

٣٤٦

أنت (١) الربيع إذا يكون خصاصة

عاش السقيم به وعاش المقتر

وفي هذا دلالة على مدح الإيثار.

وأما حديث البيضة فمتأول أن الرسول عليه‌السلام عرف من حاله أنه يتكفف الناس ، ويتفرع على هذا لو نذر بماله كله فإنه يصح نذره عند المؤيد بالله ، لكن يتقي ما يسد جوعته ، ويستر عورته فمى استغنى عنه أخرجه ، وهذا قول للهادي ، والقاسم ـ عليهم‌السلام ـ وقواه الفقيه محمد بن يحيى ، والظاهر من قول الهادي ، والقاسم أنه لا يخرج من نذره إلا الثلث ؛ لأن الاستغراق منهي عنه لإجماع العقلاء على أن من تصدق بجميع ماله حتى لا يبقي ما يسد جوعته ، ويستر عورته أنه لا يحمد بل يذم ، وخصوا الثلث بما ورد فيه الوصية ، لكن يقال : كان يلزم بطلان ما عصى به وهو لا يتعين فيبطل الكل.

قالوا : إن الله تعالى قد أثنى على من توسط في إنفاقه فقال تعالى في سورة الفرقان : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان : ٦٧] وقال تعالى في سورة الإسراء : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) [الإسراء : ٢٩] وأدلة المؤيد بالله أظهر ؛ لأنه تعالى مدح المؤثرين مع الحاجة.

وقد روي في سبب نزول الآية أن الله تعالى لما فتح بني النضير جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأنصار وأثنى عليهم بحسن صنيعهم إلى المهاجرين ، ثم قال : «إن شئتم قسمت بينكم ، والمهاجرون في بيوتكم كما كانوا ، فإن شئتم خصصتهم بها ، ويخرجون من بيوتكم» فنادوا كلهم من كل جانب أن يقسمها بينهم ، ويكونون في بيوتنا ودورنا كما كانوا ، فأعطاهم الفيء فآثروا به المهاجرين فنزلت فيهم الآية.

__________________

(١) في (ب) أتى.

٣٤٧

وقيل : نزلت في أهل بيت من الأنصار أهدوا رأس شاة مشويا إلى غيرهم وقالوا : هو أحوج منا ، فبعثه الثاني إلى الثالث ، والثالث إلى الرابع حتى دار على سبعة أنفس ، ورجع إلى الأول فنزلت.

وقيل : في سبعة عطشوا يوم أحد ، فجيء بماء لا يكفي إلا أحدهم فقال : ناول فلانا حتى طيف على سبعة ، وماتوا ولم يشربوا فأثنى الله عليهم.

وقيل : نزلت في أمر رحل جاء إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : أطعمني فإني جائع فبعث إلى أهله فلم يكن عندهم شيء ، فقال : «من يضيفه هذه الليلة»؟ فأضافه رجل من الأنصار فأتى به منزله ولم يكن عنده إلا قوت صبيانه فأتوا به إليه وكان قد أمر امرأته أن تنوّمهم ، وأن تطفي السراج إذا أحضر ، لينفرد الضيف بذلك الطعام ، وجعل هو وامرأته يلوكان نبتا ، فغدا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «لقد عجب أهل السماء من فعلكما» وفي هذا دلالة على حسن الإيثار ، ونصرة لقول المؤيد بالله ، ولكن إنما يحسن الإيثار مع ثقته من نفسه بالصبر.

وفي عين المعاني عن أبي مرثد البسطامي قال : قال لي شاب من أهل بلخ : ما حد الزهد عندكم؟ قلت : إذا وجدنا أكلنا ، وإذا فقدنا صبرنا ، فقال : هكذا عند كلاب بلخ ، بل إذا فقدنا شكرنا ، وإذا وجدنا آثرنا.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) قيل : أراد الذين أسلموا من بعدهم في وقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، عن الحسن وهو الذي تأول عمر الآية عليه : (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) دلت على أن الأدب في الدعاء أن يبدأ بنفسه ، وأن الاستغفار مشروع من غير وصية ، وقد تقدم ذلك.

٣٤٨

قال الحاكم ـ رحمه‌الله ـ : وفي الآية دلالة على فضل الصحابة ، ووجوب موالاتهم ، والاقتداء بطرائقهم ، وأن البراءة منهم من أعظم الكبائر.

قوله تعالى

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ) [الحشر : ١٦]

قيل : أراد جنس الشياطين ، وجنس الإنسان ؛ لأنه لا يزال يوسوس ، وقيل : أراد ما كان يوم بدر ؛ لأنه استغوى قريشا بكندة ، وقال : (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) إلى قوله : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ).

وقيل : عن ابن عباس وابن مسعود أراد ما كان من حديث برصيصا الراهب.

قال في عين المعاني : كان راهبا في بني إسرائيل عبد الله سبعين سنة فخيل له الشيطان بنت ملك زمانه ، وكانت من أجمل النساء ، قيل : إنها أصابتها علة فأمرهم الشيطان في صورة إنسان أن يتركوها عند برصيصا ليرقيها وقد علمه كلمة تشفى بها ، ففعلوا ، فلما رأى محاسنها واقعها ، ثم قتلها خيفة أن تخبر بذلك ، فأخبر به الشيطان قومها وقد كان جذب بطرف إزارها حين دفنها فاستدلوا به فقال له الشيطان : اسجد لي أنجك من القتل فسجد له وصلب ، وقال الشيطان : إني أخاف الله.

قيل : قال ذلك تصنعا ، قال الحاكم : القتل جائز ، والسجود جائز ، وتغيير الصورة وإزالة العقل لا تصح ؛ لأنه قد يروي هذا.

ولهذه القصة ثمرة وهي مطابقة ما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من النهي عن الخلوة بالامرأة.

٣٤٩

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهم الشيطان».

قال تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [الحشر : ١٨]

قال الحاكم : هذا دليل على وجوب التفكر ، ومحاسبة النفس ، وقد تقدم طرف من ذلك.

وعن مالك بن دينار ـ رحمه‌الله ـ مكتوب على باب الجنة : وجدنا ما عملنا ، ربحنا ما قدّمنا ، خسرنا ما خلّفنا.

قوله تعالى

(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر : ٢٠]

المعنى لا يستوي حالهما في الآخرة ؛ لأن أحدهما في النعيم والآخر في الجحيم.

قال في الكشاف : واستدل أصحاب الشافعي بهذه الآية على أن المؤمن لا يقتل بالكافر ، وعلى أن الكافر لا يملك على المسلم بالقهر والدلالة محتملة ؛ لأن قد استويا في صحة أحكام الدنيا في أحكام مخصوصة.

أما أنه لا يقتل المؤمن بالكافر فهذا مذهب الأئمة ، ومالك ، والشافعي ، واحتجوا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يقتل مؤمن بكافر».

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إنه يقتل به إذا كان ذميا ، لا معاهدا ولا حربيا.

وأما ما قهره الحربي فقد تقدم : أنه يملك عندنا وأبي حنيفة.

٣٥٠

وأحد قولي المؤيد بالله ، والشافعي : لا يملك ، وتقدم الاستدلال بقوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ).

قوله تعالى

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الحشر : ٢١]

قال جار الله ـ رحمه‌الله تعالى ـ : هذا تمثيل تخييل ، كقوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) ولهذا قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر : ٢١].

وثمرات ذلك : وجوب الخشوع عند قراءة القرآن والتفكر فيه ، ذكر ذلك الحاكم ، ولعل المراد بالوجوب تأكد الاستحباب كالخضوع في الصلاة ، لا أنه يكون يتركه عاصيا ، وهاهنا نكتة وهي بيان فضيلة هذه الآيات.

قال في الكشاف : عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ سألت حبيبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الاسم الأعظم؟ فقال : «عليك بآخر سورة الحشر ، فاكثر من قراءته» فأعدت عليه فأعاد عليّ ، فأعدت عليه فأعاد عليّ.

وفي التهذيب عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ آخر سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ آخر سورة الحشر (لَوْ أَنْزَلْنا) إلى آخره فمات من ليلته مات شهيدا».

وفي كتاب حواشي الكشاف للسيد العلوي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر ، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة».

٣٥١

وفي عين المعاني عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ آخر سورة الحشر فمات من يومه وجبت له الجنة» وجاء في الحديث الرباني أن من قرأ الحشر من قوله : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) وهو واضع ليده على رأسه كان ذلك شفاء من كل شيء إلا السام».

وروى المقرئ الفاضل أحمد بن مسعود العنسي قال : قرأت القرآن كله على المقرئ سليمان بن أبي بكر الحرازي فلما انتهيت لآخر سورة الحشر قال : ضع يدك على رأسك ، قال : قلت : ولم هذا؟ قال : قرأت على المقرئ الفاضل فخر اليمن محمد بن إدريس فقال لي كذلك ، فقلت : ولم هذا؟ قال : أخبرنا المقرئ أبو عبد الله محمد بن يوسف المعروف بالعيني قال : أخبرنا الفقيه أحمد بن محمد الزناتي ، قال : أخبرنا الفقيه عمر بن محمد الرمادي ، قال : أخبرنا الفقيه علي بن حاتم بن سالم قال : قرأت على الفقيه أبي عبد الله سالم بن محمد بن سالم الصوفي فلما انتهيت إلى آخر الحشر قال لي كذلك ، وقال : قرأت على الفقيه الفاضل محمد بن عبد الله بن حاج ، فقال لي كذلك ، وقال : قرأت على أبي علي حسن بن علي التبريزي فقال لي كذلك ، وقال : قرأت على علي بن محمد القطري فقال لي كذلك وقال : قرأت على محمد بن سهل فقال لي كذلك ، وقال : قرأت على أبي الموفق الخرفي فقال لي كذلك ، وقال : قرأت على عبد القدوس الدامغاني فقال لي كذلك ، وقال : قرأت على أبي عثمان الجبري فقال لي كذلك ، وقال : قرأت على علي بن حمزة فقال لي كذلك ، وقال : قرأت على ابن محمد السنحاني فقال لي كذلك ، وقال : قرأت على عبد الرحمن بن محمد السهمي فقال لي كذلك ، وقال : قرأت على خلاد بن خالد فقال لي كذلك ، وقال : قرأت على حمزة بن حبيب فقال لي كذلك ، وقال : قرأت على المنهال ، فقال لي كذلك ، وقال : قرأت على ابن أبي ليلى فقال لي كذلك ، وقال : قرأت على ابن أم عبد فقال لي كذلك ،

٣٥٢

وقال : قرأت القرآن كله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما انتهيت إلى آخر سورة الحشر قال لي : «ضع يدك على رأسك ، وقال : قرأت القرآن على جبريل عليه‌السلام فقال لي كذلك ، وقال : قرأت القرآن على إسرافيل عليه‌السلام فقال لي كذلك ، وقال : إن الملائكة قرءوا القرآن كله حتى انتهوا إلى آخر سورة الحشر فقال لهم الله تبارك وتعالى : ضعوا أيديكم على رءوسكم ، فقالوا : يا ربنا ولم هذا؟ فقال لهم رب العزة : هذه آية شفاء من كل شيء إلا السام».

سورة الممتحنة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [الممتحنة : ١]

وقوله تعالى

(تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [الممتحنة : ١]

وقوله تعالى

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الممتحنة : ٤]

٣٥٣

النزول

قال في الكشاف : روي أن مولاة لأبي عمرو بن صيفي يقال لها سارة أتت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة وهو يتجهز للفتح فقال لها : «أمسلمة جئت» قالت : لا ، قال : «أفمهاجرة» قالت : لا ، قال : «فما جاء بك»؟ فقالت : كنتم الأهل والموالي والعشيرة ، وقد قتلت الموالي ـ تعني قتلوا يوم بدر ـ فاحتجت حاجة شديدة فحث عليها بني عبد المطلب فكسوها وحملوها ، وزودوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة ، وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردا ، واستحملها كتابا إلى أهل مكة نسخته : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ، اعلموا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريدكم فخذوا حذركم ، فخرجت سارة ، ونزل جبريل بالخبر فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا وعمارا ، وعمر ، وطلحة ، والزبير ، والمقداد ، وأبا مزيد ، وكانوا فرسانا وقال : «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة ، فخذوه منها وخلوها فإن أبت فاضربوا عنقها ، فأدركوها فجحدت وحلفت فهموا بالرجوع فقال علي ـ رضي الله عنه ـ : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسل سيفه وقال : أخرجي الكتاب أو يضيع رأسك ، فأخرجته من عقاص شعرها.

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر جميع النساء يوم فتح مكة إلا أربعة هي أحدهم فاستحضر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاطبا وقال : ما حملك عليه ، فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غشيتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكني كنت امرأ ملصقا في قريش ، وروي عريرا فيهم ـ يعني غريبا ـ فخشيت على أهلي فأردت أن اتخذ عندهم يدا ، وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه ، وإن كتابي لا يغني عنهم شيئا ، فصدقه وقبل عذره ، وقال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : «وما يدريك يا عمر ، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ففاضت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم.

٣٥٤

ثمرة هذه الآية : النهي عن موالاة الكفار ؛ لأنه تعالى نهى عن ذلك ، ومن ذلك إلقاء السر إليهم مما كان يحجب عنه ، ولأنه تعالى قال : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) يعني : في كونهم تبرءوا من الكفار ، وقد تكررت الآيات في النهي عن الموالاة في نيف وأربعين موضعا من كتاب الله تعالى ، وقد تقدم طرف من الكلام على ذلك في سورة آل عمران في قوله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ٢٨] والموالاة المنهي عنها هي الموادة والمحبة له لما هو عليه ، فيكون ذلك رضاء بالكفر والفسق ، فيصير الموالي على هذه الصفة كالفاعل ، ويطلق على المناصرة ، وتطلق على المحالفة ، والمنهي عنه أن يكون ذلك على ما لا يجوز ، وتطلق على المباطنة والمصاحبة ، فالأول والثاني والثالث لا يستثني منه شيء ، والرابع هو المباطنة والمخالطة لا تجوز إلا تقية لقوله تعالى في سورة آل عمران : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) [آل عمران : ٢٨] ودلت الآية على تحريم التقرب إلى الكفار لمضارة المسلمين.

قال الحاكم : ولم يكن ما فعله حاطب كفرا ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينسبه إلى الكفر ، ولما ظن عمر أنه منافق وهم بقتله نهاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ، وهو يستخرج من الآية الكريمة أنه ينبغي قطع ما يؤدي إلى مداراة الكفار ونحوهم ، وأن لا يجعل المؤمن له سببا يداري أعداء الله ، وأنه لا يجوز الاستغفار للكفار ؛ لأن قوله تعالى : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) المعنى : فلا تقتدوا به.

وقيل : إن أباه كان يري إبراهيم أنه يسلم ويعده إظهار الإسلام ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. وقيل : وعده أن يستغفر له إن أسلم.

٣٥٥

قوله تعالى

(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) [الممتحنة : ٧]

قيل : نزلت الآية حين عادى المؤمنون أقربائهم لنزول قوله تعالى : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) [الممتحنة : ٣] فأنزل الله : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) وذلك الإسلام ، فتكون ثمرتها أن صلة الرحم من الكفار ساقطة.

قوله تعالى

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة : ٨ ، ٩]

النزول

قيل : نزلت في قوم من خزاعة عاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يقاتلوه ، ولا يعينوا عليه عدوا.

وقيل : نزلت في حديث أسماء بنت أبي بكر لما قدمت عليها أمها من البادية ، وكان قد طلقها أبو بكر وهي قتيلة بنت عبد العزى وهي مشركة ومعها هدية ، فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول ، فنزلت فأمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تدخلها ، وتقبل منها ، وتكرمها ، وتحسن إليها.

وقيل : نزلت في قوم من قريش منهم العباس.

وثمرة الآية : جواز الإحسان إلى أهل الذمة دون أهل الحرب ، وذلك بالعطاء.

قال في (الروضة والغدير) : وذلك إجماع ، أما عطاء الذمي بصدقة

٣٥٦

النفل فجائز وظاهر الآية أنه قربة ؛ لأنه تعالى جعله برا ، والحديث يطابقه ، وهو قوله عليه‌السلام : «في كل كبد حرّا أجر» وهذا أيضا يطابق قوله تعالى في سورة الدهر : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً).

وقال قتادة : هذه منسوخة بآية القتال.

وعن مجاهد : هم الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا ، وقيل : المراد النساء والصبيان ، وعموم الآية خلاف ذلك ، فكذلك ما ورد في سببها في حديث أم أسماء بنت أبا بكر.

وأما عطا المحارب حال حربه فمفهوم الآية عدم جوازه ، وقد قال في (الروضة والغدير) : ذلك إجماع إلا لمصلحة.

وهاهنا فروع : الأول : دفع الواجب في فقراء أهل الذمة ، فلا يجوز في غير الفطرة ، وخلاف العنبري قد انقرض ، ويخرج هذا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أمرت أن أخذها من أغنيائكم ، وأضعها في فقرائكم».

وأما الفطرة فلا تجوز عند الأئمة والشافعي وجوز ذلك لهذه الآية.

قلنا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اغنوهم في هذا اليوم» إشارة إلى الفقراء الذين جرت العادة بدفع الواجبات إليهم ، وأيضا فالمنع من الفطرة مقيس إلى دفع الزكاة.

الفرع الثاني : إذا وقف على أهل الذمة جاز ، ذكره أبو طالب والمنصور بالله والشافعي ، احتجاجا بهذه الآية ، لكن يؤول بأن المراد إذا وقف على الفقراء منهم.

الثالث (١) : في الوصية للذمي. فنص الهادي عليه‌السلام على جوازها ، وقد ورد في الحديث أن صفية زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصت لأخيها وهو يهودي بثلاثين ألفا وجوزها المسلمون.

__________________

(١) في الأصل الثالثة.

٣٥٧

الرابع (١) : جواز صلة الرحم من أهل الذمة.

الخامس (٢) : أنه لا يجوز أن يمن على الحربي بغير حربه ؛ لأن هذا من البر المنهي عنه ، وهذا قول أبي حنيفة ، وأحد كلامي أبي طالب والقاضي زيد.

قلنا : يجوز ذلك لقوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد : ٤] وبما ورد أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منّ على أبي غزة الجمحي في المرة الأولى. وعلى أبي ثمامة الحنفي وعلى أبي العاص بن الربيع.

وقوله تعالى : (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) قيل : المراد تعطوهم قسطا من أموالكم ، ونصيبا.

وقيل : تعدلوا في معاملتهم فلا تظلموهم.

قال جار الله : وناهيك بهذه زاجرا عن ظلم المسلم (٣) لأخيه المسلم.

قوله تعالى

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) [الممتحنة : ٩]

هذه من آيات النهي عن تولي الحربي.

__________________

(١) في الأصل الرابعة.

(٢) في الأصل الخامسة.

(٣) لأخيه المسلم صح نسخة. أما لفظ جار الله في الكشاف : وناهيك بتوصية الله المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين به ويتحاموا ظلمهم ، مترجمة عن حال المسلم يجترئ على ظلم أخيه المسلم. الكشاف ج ٤ ص ٥١٦.

٣٥٨

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الممتحنة : ١٠]

النزول : قيل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما صالح المشركين عام الحديبية كان الصلح أن من أتى إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل مكة رد إليهم ، ومن أتى إلى أهل مكة لم يرد إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكتبوا كتابا وختموا ، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديبية فأقبل زوجها مسافر المخزومي ، وقيل : صيفي بن الراهب فقال : يا محمد اردد إلي امرأتي ، فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طية الكتاب لم تجف فنزلت ، بيانا أن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء ، هكذا في الكشاف.

قال الحاكم : وذكر شيخنا أبو علي أنه لم يدخل في شرط الحديبية إلا رد الرجال دون النساء ، أو لم يجر للنساء ذكر ، وأن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت مسلمة مهاجرة من مكة فجاء أخواها إلى المدينة وسألا ردها عليهما فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الشرط بيننا في الرجال لا في النساء» فلم يردها عليهم ، وإنما لم يجر هذا الشرط لئلا يطأها زوجها الكافر ، وقد وقعت الفرقة بينهما.

وذكر علي بن موسى القمي عن ابن عباس أن الصلاح أن من خرجت رغبة في الإسلام أمسكها ، ورد على زوجها ما أنفق ، وإن خرجت هربا من زوجها ردت ، وهكذا في الكشاف عن الضحاك أن

٣٥٩

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من الشرط مثل ذلك» فعلى هذا لا تكون الآية ناسخة لرد النساء.

وقيل : إن هذه الآية ناسخة لرد النساء الذي وقع الصلح عليه ،

وهذه الجملة لها ثمرات ، وقد انطوت على أمر ، ونهي ، وإباحة ، وبعض الثمرات ثابتة ، وبعضها منسوخ ، ونحن نذكر الثمرات على المفهوم من الآية.

قوله تعالى : (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) سماهن الله مؤمنات لنطقهن بكلمة الشهادة ، ولم يظهر منهن ما ينافي ذلك ، أو لأنهن مشارفات لثبات الإيمان بالامتحان ، وقد أمر تعالى بامتحانهن وهو اختبارهن لئلا يكون مجيئها لمكر بالمسلمين ، وغدر ، وتجسس لأحوالهم ، وهذا يمكن أن يخرج من هذا امتحان الشهود عند التهمة بالتفريق أو التحليف ، وكذلك إذا ادعت الامرأة أن لا ولي لها ، وأرادت النكاح ، وهذا الامتحان باختيارها بالأمارات وبالتخليف ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول للممتحنة : «بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوجك ، بالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، بالله ما خرجت التماس دنيا ، بالله ما خرجت إلا حبا لله ولرسوله».

وعن عائشة : امتحانها ما ذكر الله تعالى في الآية بعد هذا وهي : (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ).

وقيل : امتحانها أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وان محمدا عبده ورسوله ، وقد ذكر المنصور بالله ، والإمام يحيى بن حمزة : أن الباطني إذا أسلم فإنه يمتحن ، فإن أظهر ما يخفونه من التأويلات الباطلة ، قبلت توبته ، وإلا فلا ، وهو يقرب من هذا ، وهذا الامتحان لا يفيد إلا الظن ؛ لأن الإيمان يتعلق بالاعتقاد ، ولهذا قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ).

٣٦٠