تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ١

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي


المحقق: حسين درگاهى
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٩

وفيما أوصى به النبي عليا ـ عليهما السلام ـ (١) : يا علي! من أتى (٢) بما افترض الله عليه ، فهو من أعبد الناس) (٣).

(الَّذِي خَلَقَكُمْ) : صفة ، جرت عليه للتعظيم (٤).

(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) : منصوب معطوف ، على الضمير المنصوب ، في «خلقكم» (٥).

وقرئ من قبلكم ، على اقحام الموصول الثاني ، بين الأول وصلته ، تأكيدا.

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١)) : حال من الضمير ، في «اعبدوا». كأنه قال : اعبدوا ربكم ، راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح المستوجبين لجوار الله (٦). أو من مفعول «خلقكم». والمعطوف عليه ، على معنى ، أنه خلقكم ومن قبلكم ، في صورة من يرجى منه التقوى ، لترجح أمره باجتماع أسبابه وكثرة الدواعي اليه.

وقيل : تعليل للخلق ، أي : خلقكم ، لكي تتقوا (٧).

قال بعض الفضلاء : المنادى «بيا» ، أيها الناس ، هو الناس الناسي وطن الوحدة الأنس ، بأحكام الكثرة ، الواصل الى غاية الحركة النزولية. وذلك أبعد مسافة يكون في الوجود. ولذلك استعمل فيه ، ما وضع لنداء البعيد. وحيث

__________________

(١) نفس المصدر / ١٢٥ ، ح ١٢٢.

(٢) المصدر : أتى الله.

(٣) ما بين القوسين ليس في أ.

(٤) ر. أنوار التنزيل ١ / ٣٢.

(٥) ر. نفس المصدر.

(٦) ر. نفس المصدر.

(٧) ر. نفس المصدر.

٢٤١

كان المنادى ، الحصة الوجودية المتعينة ، من الحقيقة المطلقة الغالبة (١) عليها ، في مبدأ حالها الإطلاق والإبهام. ثم يتخصص (٢) ويتخصص بالمرور على المراتب والاتصاف بأحكامها ، حتى يصل الى المرتبة الانسانية الوجودية الشهادية العنصرية ، عبر عنه ـ أولا ـ بكلمة أي ، الدالة على الإبهام. ووصف ـ ثانيا ـ بالناس.

الدال على كمال تخصصها. ولما كان وصولها الى هذه المرتبة ، بتوسط مراتب كثيرة منبعثة من باطن الغيب الى أقصى مراتب الشهادة ، أشير اليها ، بحرفي التنبيه المنبعث ، أولهما من باطن القلب ، أعني : الهاء. وثانيهما من ساذج (٣) مار (٤) على المراتب كلها ، أعني : الألف. ومعنى قوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ، تحققوا بعبوديته (٥) المحضة التي لا يشوبها عبودية السوي ، بأن تتوهموا أن فيكم ربوبيته (٦) بالنسبة الى غيره سبحانه. (الَّذِي خَلَقَكُمْ) ، أي ظهر ظهوركم. فهو الظاهر فيكم. وأنتم المظاهر له. فما ظهر فيكم من خصائص الربوبية ، فهو من الرب ، الظاهر فيكم ، لا أنتم. «وخلق الذين من قبلكم» ، أي ظهر بصورة من تقدمكم بوصول آثار الربوبية منهم ، إليكم. فهو الظاهر فيهم. وهم المظاهر له. فما وصل منهم إليكم من آثار الربوبية ، فهو من الرب الظاهر. لا منهم. ما انقطعت نسبة عبوديتكم عنهم. وحيث وصلتم الى شهود هذا المعنى ، فأنتم عبيد ، متصفون بمحض العبودية. لم يبق فيكم عبودية ولا ربوبية ، بالنسبة الى غيره سبحانه.

__________________

(١) أ : الغالية.

(٢) أ : بتخصص.

(٣) أ : سارج.

(٤) أ : ماو.

(٥) أ : بعبودية.

(٦) ر : ربوبية.

٢٤٢

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، أي ، عما يخرجكم عن العبودية المحضة. ولما كان كلامه سبحانه ، بصورة الصوت والحرف ، المثاليين او الحسيّين ، لا يصدر الا بواسطة مظاهره المثالية أو الحسية. فلا يبعد أن يتحقق معنى الترجي ، بالنسبة الى بعض هذه المظاهر. ويكون إيراد كلمة «لعل» ، بالنظر اليه. فان نسبة مظاهر التكلم ، الى المتكلم ، أقوى مما سواه اليه. كما لا يخفى على ذوي البصائر. والله سبحانه ، يتولى السرائر.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) : منصوب المحل ، على الوصفية.

كالذي خلقكم. أو على المدح ، بتقدير «أعني» ، أو «أخص» أو «أمدح».

وفي كلام بعض النحاة ، ما يشعر بأن القطع بالنصب ، انما يجوز فيما إذا كان الموصوف ، مرفوعا ، أو مجرورا. وهو الأظهر. لأن الاشعار بالمدح ، انما يكون حيث يكون في التابع ، مخالفة للمتبوع وفي الصورة المفروضة. وان كان مخالفة حكمية. لكنه لا يظهر بالنسبة الى المخاطب ، حتى يشعر بقصد المدح أو على (أنه مفعول «تتقون» ، أو مرفوع على الخبرية. وفيه ما في النصب ، من المدح ، أو على) (١) الابتداء ، بأن يكون خبره (فَلا تَجْعَلُوا)».

وجعل من الأفعال التامة ، يجيء على ثلاثة أوجه ، بمعنى ، طفق ، من أفعال القلوب. فلا يتعدى. وبمعنى ، أوجد ، فيتعدى الى مفعول واحد. كقوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (٢). وبمعنى صير فيتعدى الى مفعولين. كما في الاية.

و «التصيير» ، يكون بالفعل ، تارة وبالقول والعقد أخرى. «فالأرض» ، مفعوله الأول. و «فراشا» ، مفعوله الثاني.

ويحتمل أن يكون ، من قبيل الاستعمال الثاني. أي ، خلق الأرض ، حال كونه

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في أ.

(٢) الانعام / ١.

٢٤٣

مقدرا ـ بكسر الدال ـ إياها فراشا ، إذا كان «فراشا» ، حالا من الفاعل. أو حال كون «الأرض» ، مقدرة ـ بفتح الدال ـ «فراشا» ، إذا كان حالا (١) من المفعول.

و «لكم» ، متعلق «بالجعل».

واللام ، للانتفاع. أي ، لانتفاعكم.

وقد جاء ناقصة ، بمعنى ، صار ، في قول الشاعر (٢) :

فقد جعلت قلوص بني سهيل

من الأكوار مرتعها ، قريب (٣)

وقرئ «وجعلكم» ، بالإدغام ، لاجتماع حرفين ، من جنس واحد ، وكثرة الحركات.

و «الأرض» ، هي المفروشة. وقوائم الدابة. وعليه قول الشاعر :

وأحمر كالديباج اما سمائه

فريا وأما أرضه ، فتحول (٤)

والرعدة. وعليه في كلام ابن عباس : أنزلت (٥) الأرض ، أم بي أرض (٦).

و «الفراش» ، ما يفترش ويستقر عليه.

وقرأ يزيد الشامي : بساطا. وطلحة : مهادا.

قال الجوهري في الصحاح (٧) : المهد ، مهد الصبي. والمهاد ، الفراش.

__________________

(١) ليس في أ.

(٢) أ ، ر : الشاعرة.

(٣) ر. أنوار التنزيل ١ / ٣٣.

(٤) المصدر : فمحمول.

(٥) المصدر : أزلزلت.

(٦) مجمع البيان ١ / ٦٠.

(٧) صحاح اللغة ٢ / ٥٤١.

٢٤٤

ومعنى جعلها فراشا ، أو بساطا ، أو مهادا ، أنه جعل بعض جوانبها ، على خلاف طبعها ، بارزا من الماء ، متوسطا بين الصلابة واللطافة. حتى صارت (١) مهيأة لأن يقعدوا ، أو يناموا عليها ، كالفراش المبسوط.

ولا يدل الافتراش ، على التسطيح. لأن الكرة ، إذا عظم جرمها ، غير مانعة من الافتراش (عليها.

وفي نهج البلاغة (٢) : فسبحان من أمسكها ، بعد موجان مياهها. وأجمدها ، بعد رطوبة أكنافها. فجعلها لخلقه مهادا. وبسطها لهم ، فراشا. فوق بحر لجي راكد لا يجري. وقائم ، لا يسري. تكر كره الرياح العواصف. وتمخضه الغمام الزوارق.

ان في ذلك لعبرة لمن يخشى) (٣).

(وَالسَّماءَ بِناءً) : معطوفان على ما قبلهما ، بعاطف واحد. وان أبيت ، فقدر فعلا معطوفا على الفعل الذي قبله.

و «السماء» ، اسم جنس. أو جمع «سماءة».

و «البناء» ، مصدر ، بمعنى المفعول ، أي : جعل السماء ، قبة ، أو قبابا مبنية ، أي : مضروبة عليكم. فان المبني وان كان

أعم من القبة ولا دلالة للعام على الخاص (٤) لكنه أشبه بالسماء ، لاستدارتها. ومنه بنى على امرأته. لأنهم كانوا إذ تزوجوا ، ضربوا عليها خباء جديدا.

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) : عطف على «جعل».

أي ، أنزل من جهة العلو.

__________________

(١) ليس في أ.

(٢) نهج البلاغة ، ط / ٢١١.

(٣) ما بين القوسين ليس في أ.

(٤) ر : لما الخاص. ولفظ «الخاص» ليس في أ.

٢٤٥

أو ، من أسباب سماوية ، تثير الأجزاء الرطبة ، الى جو الهواء. فتنعقد سحابا ماطرا.

أو ، من السحاب. فان ما علاك ، سماء.

ولفظة «من» ، لابتداء الغاية. فان ابتداء نزول المطر ، انما هو من السماء بكل واحد من هذه المعاني.

ووضع هنا «أنزل» ، مكان «نزل» ، للمناسبة مع ما عطف عليه.

(فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) :

«الباء» فيه للسببية. أي ، جعل الماء سببا في خروج الثمرات. ومادة لها.

وهو قادر على إيجاد الأشياء ـ كلها ـ بلا أسباب ومواد. كما أبدع نفس الأسباب والمواد. الا أن له تعالى في إنشاء الأشياء ، بأسبابها ، من موادها ، تدريجا ، حكما ليست في انشائها ، مبادهة وبغتة.

و «من» ، فيه ، تبعيضية ، بشهادة قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ) (١). فان تنكير «ثمرات» ، تدل على البعضية ، لتبادرها منه. سيما في جموع القلة. وبشهادة أن ما قبله وما بعده ، أعني : «ماء» و «رزقا» ، محمولان على البعض. فليكن هو موافقا لهما ، بشاهدة الواقع. فان الله سبحانه ، لم ينزل من السماء ، كل الماء.

بل بعضه. إذ رب ماء ، هو بعد ، في السماء. ولم يخرج بالماء المنزل منها ، كل الثمرات. بل بعضها. فكم من ثمرة ، هي غير مخرجة. ولم يجعل المخرج كل الرزق. بل بعضه. والثمرات المخرجة بماء السماء ، كثيرة.

فالتعبير عنها ، بجمع القلة ، اما بناء على أن «الثمرات» هنا ، جمع الثمرة التي يراد بها الكثرة ، كالثمار ، لا الوحدة. كما في قولك : أدركت ثمرة بستانه.

__________________

(١) فاطر / ٢٧.

٢٤٦

ويؤيده قراءة من قرأ «الثمرة» ، على التوحيد. فيكون أبلغ ولا أقل من المساواة.

أو على أنها جمع قلة ، وقعت موقع جمع الكثرة ، كجنات ، في قوله (١) : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ). على أن المشهور ، أن الفرق بين الجمعين في القلة والكثرة انما هو إذا كانا منكرين ، وإذا عرف بلام الجنس ، في مقام المبالغة ، فكل منهما للاستغراق ، بلا فرق.

و «الرزق» ، ان كان بمعناه المصدري ، فنصبه اما على أنه مفعول له. والمعنى أخرج شيئا من الثمرات ، لأن يرزقكم. أو على المصدرية. فان في إخراج الثمرات معنى الرزق.

وعلى التقديرين ، يكون قوله : «لكم» ، ظرفا لغوا مفعولا به لرزق. أو «اللام» اما زائدة أو للتقوية. وان كان بمعنى المرزوق ، فانتصابه ، على أنه حال من مفعول «أخرج» ، أي ، من الثمرات. أو على أنه مفعول به لأخرج. و «من الثمرات» بيان له. فقد عليه. فصار حالا منه. ولكن يكون «من» ، بيانية ، لا تبعيضية. وعلى هذين التقديرين ، يكون «لكم» ، ظرفا مستقرا صفة «لرزق». ويحتمل على التقادير ، أن يكون متعلقا «بأخرج».

وفي شرح الآيات الباهرة : «وفي تفسير الامام الحسن العسكري ـ عليه السلام ـ (٢)) (٣) قال الامام ـ عليه السلام ـ : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قوله ـ عز وجل ـ : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) ، تفرشونها لمنامكم ومقيلكم.

__________________

(١) الدخان / ٢٥.

(٢) تفسير العسكري / ٧٣.

(٣) ما بين القوسين يوجد في أ.

٢٤٧

و (السَّماءَ بِناءً) ، سقفا محفوظا ، ارتفع عن (١) الأرض (٢). تجري شمسها وقمرها وكواكبها ، مسخرة لمنافع عباده وامائه.

ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لأصحابه : لا تعجبوا لحفظه السماء أن تقع على الأرض. فان الله ـ عز وجل ـ يحفظ ما هو أعظم من ذلك.

قالوا : وما هو؟

قال : من ذلك ، ثواب طاعة (٣) المحبين لمحمد وآله.

ثم قال : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) ، يعني ، المطر. ينزل (٤) مع كل قطرة ، ملك ، يضعها (٥) في موضعها الذي (٦) يأمره (٧) به ربه ـ عز وجل ـ فعجبوا من ذلك.

فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : أو تستكثرون عدد هؤلاء؟ ان (٨) الملائكة المستغفرين لمحبي علي بن أبي طالب ، أكثر من عدد هؤلاء. وان (٩) الملائكة اللاعنين لمبغضيه ، أكثر من عدد هؤلاء. ثم قال ـ عز وجل ـ : (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ). ألا ترون كثرة هذه الأوراق والحبوب والحشائش؟

قالوا : بلى. يا رسول الله! ما أكثر عددها!

__________________

(١) المصدر : أن تقع على.

(٢) المصدر : الأرض بقدرته.

(٣) المصدر : طاعات.

(٤) ليس في أ.

(٥) أ : يصنعها.

(٦) المصدر : التي.

(٧) أ : يأمر.

(٨ و ٩) المصدر : ان عدد.

٢٤٨

فقال (١) رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : أكثر عددا (٢) منها ، ملائكة يبتذلون (٣) في حمل أطباق النور عليها التحف من عند ربهم. وفوقها مناديل النور.

ويخدمونهم في حمل ما يحمل على آل محمد منها ، الى شيعتهم ومحبيهم. وان طبقا من تلك الأطباق (٤) يشتمل (٥) من الخيرات على (٦) ما لا يفي بأقل جزء منه ، جميع أموال الدنيا.

(وفي كتاب علل الشرايع (٧) : بإسناده الى مسعدة بن صدقة ، عن جعفر بن محمد عن أبيه ـ عليهما السلام ـ قال : كان علي ـ عليه السلام ـ يقوم في المطر ـ أول مطر يمطر ـ حتى يبتل رأسه ولحيته وثيابه. فقيل له : يا أمير المؤمنين! الكنّ! الكنّ! قال : هذا ماء قريب العهد بالعرش. ثم أنشأ يحدث.

فقال : ان تحت العرش ، بحرا ، فيه ما ينبت به أرزاق الحيوانات (٨). وإذا أراد الله ـ عز وجل ـ أن ينبت ما يشاء لهم ، رحمة منه ، أوحى الله ـ عز وجل ـ فمطر منه ، ما شاء من سماء ، الى سماء. حتى يصير الى سماء الدنيا. فيلقيه الى السحاب. والسحاب بمنزلة الغربال ، ثم يوحي الله ـ عز وجل ـ الى السحاب

__________________

(١) المصدر : قال.

(٢) أ : عدد.

(٣) المصدر : يتبذلون لال محمد في خدمتهم أتدرون فيما يتبذلون لهم.

(٤) المصدر : الطبقات.

(٥) أ : يشمل.

(٦) ليس في المصدر.

(٧) علل الشرايع / ٤٦٣ ، ح ٨.

(٨) المصدر : الحيوان.

٢٤٩

أطحنيه وأذيبيه ذوبان الملح في الماء. ثم انطلقي به الى موضع كذا. عياب أو غير عياب (١). فتقطر عليهم ، على النحو الذي يأمرها الله (٢). فليس من قطرة تقطر الا ومعها ملك يضعها موضعها. ولم ينزل من السماء قطرة من مطر ، الا بقدر معدود ووزن معلوم. الا ما كان يوم الطوفان ، على عهد نوح. فانه نزل منها ، منهمر بلا عدد ولا وزن) (٣).

(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) : متفرع على الأمر ، بالعبادة.

والمعنى : إذا استحق ربكم الذي خلقكم ، العبادة. وكنتم مأمورين بها ، فلا تشركوا به أحدا ، لتكون عبادتكم مبنية على ما هو أصل العبادة وأساسها ، أعني (٤) : توحيده. وأن لا تجعلوا له ، ندا.

أو ، معطوف على الأمر قبله. وفيه أن الأولى حينئذ ، العطف بالواو. كقوله : (اعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) (٥).

أو ، منصوب بإضمار «ان» في جواب الامر. كما في : زرني ، فأكرمك.

وفيه «ان» الشرط. في ذلك ، كون الأول سببا للثاني. والعبادة ، لا يكون سببا للتوحيد ، الذي هو معناها.

أو ، منصوب بتقدير «ان» في جواب «لعل». نصب ، فأطلع في قوله تعالى : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ ، أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ) (٦). بناء ، على تشبيه «لعل» ،

__________________

(١) المصدر : عباب أو غير عباب.

(٢) المصدر : به.

(٣) ما بين القوسين ليس في أ.

(٤) أ : يعنى.

(٥) النساء / ٣٦.

(٦) غافر / ٣٦ ـ ٣٧.

٢٥٠

«بليت» (١) ، والحاقا لها ، بالأشياء الستة التي يحذف أن عن (٢) الفعل المضارع ، بعد الفاء الواقعة بعدها.

أو ، متعلق بالذي ، جعل إذا كان مرفوعا ، على أنه خبر مبتدأ محذوف فيكون نهيا مترتبا على ما يتضمنه هذه الجملة ، أي ، هو الذي حفكم بدلائل التوحيد. فلا تشركوا به شيئا.

أو ، على أنه ، مبتدأ. و «لا تجعلوا» ، نهي. وقع خبرا عنه ، على تأويل مقول فيه لا تجعلوا.

و «الفاء» ، للسببية. أدخلت عليه ، لتضمن المبتدأ ، معنى الشرط.

والمعنى : ان من حفّكم بهذه النعم الجسام ، ينبغي أن لا يشرك (٣) به.

و «الجعل» هنا ، بمعنى التصيير (٤). فيتعدى الى مفعولين : أولهما ، أندادا.

وثانيهما ، الجار والمجرور قبله.

أو ، بمعنى الخلق والإيجاد.

والمعنى : لا توجدوا له في اعتقادكم وقولكم ، أندادا.

والفائدة في تقديم المفعول الثاني أو الجار والمجرور ، افادة الحصر ، والاشارة الى أن المنهي عنه ، جعل الند لله تعالى. وأما بالنسبة الى سائر (٥) الفاعلين ، فجعل الند والشريك ، واجب. لئلا يلزم التفويض.

كما قال ـ عليه السلام (٦) ـ : لا جبر

__________________

(١) أ : يلتب.

(٢) ر : من.

(٣) أ : تشرك.

(٤) أ : التبصير.

(٥) ليس في أ.

(٦) في عيون الاخبار ج ١ ص ١٢٤ ضمن ح ١٧.

٢٥١

ولا تفويض ، بل أمر بين أمرين (١).

وقرئ : فلا تجعلوا لله ندا.

و «الند» ، المثل المناوئ ، أي ، المخالف. من ند ندودا. إذا نفر.

وفي تسميته ما يعبدونه ، «ندا» لما عظموه وسموه إلها. وان لم يزعموا أنه يماثله ، أو يخالفه ، تهكّم بهم.

وفي إيراد صيغة الجمع ، حيث دلت على أنهم جعلوا أندادا ، لمن يمتنع أن يكون له ند واحد ، زيادة تهكّم.

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)) : حال من فاعل فلا تجعلوا.

والمقصود منه ، التوبيخ ، لا تقييد الحكم به. فان العالم والجاهل المتمكن من العلم ، سواء في التكاليف.

ومفعول «تعلمون» ، متروك لتنزيله منزلة اللازم مبالغة ، أي ، وحالكم وصفتكم أنكم من أهل العلم والتمييز ، بين الصحيح والفاسد. ثم ان ما أنتم عليه ، من أمر دينكم ، من جعل الأصنام لله أندادا ، هو غاية الجهل ونهاية سخافة العقل.

أو ، مقدر بوجود القرينة المقالية ، أو الحالية ، أي ، وأنتم تعلمون أنه تعالى لا مثل له ولا ضد.

أو ، وأنتم تعلمون ما بينه تعالى وما بينها (٢) ، من التفاوت.

أو ، وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله ـ الى غير ذلك ـ مما يناسب المقام.

وفي كتاب التوحيد (٣) ، في باب ان الله تعالى ، لا يفعل بعباده الا الأصلح ،

__________________

(١) أ : الامرين.

(٢) أ : بينهما.

(٣) التوحيد / ٤٠٤.

٢٥٢

روى بإسناده ، عن أبي محمد العسكري ، عن آبائه ، عن علي بن الحسين ـ عليهم السلام ـ في قول الله ـ عز وجل ـ : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) ، قال : جعلها ملائمة لطبائعكم ، موافقة لأجسادكم. لم يجعلها شديدة الحمى والحرارة ، فتحرقكم.

ولا شديدة البرودة (١) ، فتجمدكم. ولا شديدة (٢) طيب الريح ، فتصدع هاماتكم.

ولا شديدة النتن ، فتعطبكم (٣). ولا شديدة اللين ، كالماء ، فتغرقكم. ولا شديدة الصلابة ، فيمتنع (٤) عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم. (ولكنه ـ عز وجل ـ جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به. وتتماسكون. وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم.

وجعل فيها ما تنقاد به لدوركم وقبوركم) (٥) وكثير من منافعكم. فلذلك جعل الأرض فراشا لكم.

ثم قال ـ عز وجل ـ : (وَالسَّماءَ بِناءً) [أي] (٦) ، سقفا من فوقكم ، محفوظا.

يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها ، لمنافعكم.

ثم قال ـ عز وجل ـ : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) ، يعني : المطر. ينزله (٧) من علو (٨) ، ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم وأوهادكم. ثم فرقه رذاذا وابلا وهطلا وطلّا لتنشفه أرضوكم. ولم يجعل ذلك المطر ، نازلا عليكم ، قطعة واحدة

__________________

(١) المصدر : البرد.

(٢) ر : شديد.

(٣) أ : تعطبكم.

(٤) المصدر : فتمتنع.

(٥) ما بين القوسين ليس في أ.

(٦) يوجد في المصدر.

(٧) المصدر : نزله.

(٨) العلى.

٢٥٣

فيفسد أرضيكم وأشجاركم وزروعكم وثماركم.

ثم قال ـ عز وجل ـ : (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً) ، (يعني : مما يخرجه من الأرض رزقا.) (١) لكم.

(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) ، أي : أشباها وأمثالا من الأصنام التي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تقدر على شيء. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنها لا تقدر على شيء من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ، ربكم ـ تبارك وتعالى ـ انتهى.

وذكر هذا الحديث ، بعينه في عيون أخبار الرضا ، في باب ما جاء عن الرضا ـ عليه السلام ـ من الأخبار في التوحيد (٢).

وقد ذكر بعض المفسرين هذا الحديث في تفسيره (٣)

. ثم قال : ففي التفسير المنسوب الى مولانا العسكري ـ عليه السلام ـ (٤) قال : قال : علي بن الحسين ـ عليهما السلام ـ في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا) (٥) ، يعني ، سائر المكلفين ، من ولد آدم ـ عليه السلام ـ. (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ، أطيعوا ربكم ، من حيث أمركم ، ان تعتقدوا أن لا اله الا هو. وحده لا شريك له. ولا شبيه له. ولا مثل له (٦). عدل لا يجور (٧). جواد لا يبخل. حليم لا يعجل. وأن محمدا عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وآله الطيبين ـ. وأن آل محمد ، أفضل آل النبيين. وأن عليا أفضل

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في أوالمصدر.

(٢) عيون أخبار الرضا ١ / ١٣٧.

(٣) تفسير البرهان ١ / ٦٧.

(٤) تفسير العسكري / ٦٧.

(٥) ليس في المصدر ، والظاهر هو الصواب.

(٦) ليس في المصدر.

(٧) أ : يجوز.

٢٥٤

آل محمد. وأن أصحاب محمد ، المؤمنين منهم ، أفضل صحابة المرسلين. وأن أمة محمد ، أفضل أمم المرسلين. انتهى.

ثم قال : ويفهم من هذا الكلام ، أن الأمم الماضية ، كانوا مأمورين بتلك الاعتقادات. وهذا هو الحق. كما هو مذكور ، في كثير من الروايات.

أقول : كان (١) العلامة ـ رحمه الله ـ فهم ذلك ، من تفسيره ـ عليه السلام ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ، بسائر المكلفين ، يعني : جميع المكلفين. وهو غلط فاحش.

فان السائر ، بمعنى ، الباقي ، مبتذل في اللغة. متعارف في العرف. قال بعض أهل اللغة : «السائر» ، مشتق من السؤر. وهو بقية ما يشرب. ولا يستعمل بمعنى الجميع. لا في اللغة. ولا في العرف. وقد وقع ذلك في كلام بعض المفسرين.

قال بعض الفضلاء : وتأويل الاية ، في بعض بطونها ، أن يقال : هو ، أي ، ربكم الذي أمرتم أن تعبدوه. وتتحققوا بعبوديته المحضة. هو الذي جعل لكم أرض العبودية ، فراشا. تقلبون فيها أنواع العبادات. وسماء الأسماء الربوبية فيه ، مضروبة عليكم ، محيطة بكم ، بحيث لا يمكنكم الخروج ، عن احاطتها وشمول آثارها وأنزل من هذه السماء ، ماء العلوم والمعارف ، على تلك الأرض. فأخرج ثمرات الأحوال والأذواق والمواجيد ، رزقا لكم. تغتذون وتتقون به بقلوبكم وأرواحكم.

فلا تجعلوا لله ، أندادا ، تعبدونها. كما تعبدونه. والحال ، انكم تعلمون أنه لا معبود سواه. ولا ينبغي أن يجعل أحد قبلة عبادته ، الا إياه.

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) :

لما كانت العبادة المأمور بها ، موقوفة على أمرين : أحدهما ، اثبات الوحدانية وإبطال الاشراك. وقد أشير اليه بالأوصاف المجراة على ربهم الذي أمروا بعبادته.

__________________

(١) أ : لو كان.

٢٥٥

والثاني ، اثبات النبوة التي يقع بها الترغيب والترهيب وتعريف طرق العبادة وتعيينها ، فلذلك أشار اليه بازاحة الشبهة ، عن كون القرآن ، معجزا دالا على نبوة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وهو معطوف على قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ). والظرف مستقر في موضع خبر كان.

والمعنى : وان كنتم في ريب ، يحيط بكم احاطة الظرف بالمظروف.

(مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) : أي : من شيء. أو من الذي نزلناه.

ويحتمل مرجوحا أن يكون المعنى ، من تنزيلنا.

وانما أتى بكلمة «ان» الدالة على عدم الجزم بالوقوع ، و «الريب» متحقق من هؤلاء الكفار ، تنبيها على أنه لا ينبغي حصول هذا الريب ، من العقلاء.

فكيف يجزم به؟ بل لو جوزه مجوز ، فإنما يكون بمحض الاحتمال العقلي.

ولهذا السبب ، بعينه قال : «في ريب». وان كان أكثرهم ، ينكرون.

وانما أتى «بالتنزيل» المنبئ عن التدريج. لأن النزول التدريجي ، كان أحد أسباب طعنهم وارتيابهم ، في القرآن. فإنهم كانوا يطعنون في القرآن. ويرتابون فيه ، من حيث أنه كان مدرجا على قانون الخطابة والشعر. فان الناثر ، لا يرمي بمجموع خطبه ، أو رسائله (١) ، دفعة. والناظم لا يلقي ديوان شعره ، ضربة. بل (٢) مفرقا ، حينا فحينا. وشيئا فشيئا. فكانوا يقولون : لو لا أنزل عليه القرآن ، خلاف هذه العادة ، جملة واحدة. فقيل لهم : ان ارتبتم في هذا الذي أنزل تدريجا ، فهاتوا أنتم بنجم من نجومه ، وسورة من سوره. فانه أيسر عليكم ، من أن تنزل الجملة ، دفعة واحدة (ويتحدى بمجموعه) (٣).

__________________

(١) أ : وسائله.

(٢ و ٣) ليس في أ.

٢٥٦

قيل : التدريج ، هو الذي يعبر عنه بالتكثير ، أي : يفعل مرة بعد مرة. والتضعيف الدال على ذلك ، من شرطه أن يكون في الأفعال المتعدية ، قبل التضعيف ، غالبا نحو ، فتحت الباب. ولا يقال : جلس زيد ، لارادة التدريج والتكثير. لأنه لم يكن متعديا ، قبل التضعيف. وانما (١) جعله تضعيفه ، متعديا. وقولنا : «غالبا» ، لأنه قد جاء التضعيف ، دالا على الكثرة ، في اللازم ، نحو ، موّت المال. ويعلم من ذلك أن التضعيف الدال على الكثرة ، لا يجعل اللازم متعديا. فظهر من ذلك ، أن تضعيف ، نزل للتعدية ، دون التدريج. وأيضا. يحتاج قوله تعالى (٢) : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً). وقوله (٣) : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ). وقوله (٤) : (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) الى تأويل.

وفي «نزلنا» ، التفات من الغيبة ، الى التكلم. لأن قبله (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ).

فلو جاء الكلام عليه ، لقيل : «مما نزل (٥) على عبده». لكنه التفت للتفخيم.

وعبر عنه بالعبد. لأن أعلى المقامات ، مقام العبدية. (وأضافه الى نفسه ، تشريفا له. ولم يصرح باسمه ـ عليه السلام ـ كما في قوله (٦) : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ).

للدلالة على كماله في العبدية.) (٧) فان المطلق ، لا ينصرف ، الا الى الكامل.

وقرئ «على عبادنا». والمراد به نبينا ـ صلى الله عليه وآله ـ وأمته. فانه

__________________

(١) ليس في أ.

(٢) الفرقان / ٣٢.

(٣) الانعام / ٣٧.

(٤) الاسراء / ٩٥.

(٥) أ : نزلنا.

(٦) ص / ٤١.

(٧) ما بين القوسين ليس في أ.

٢٥٧

كما نزل عليه بواسطة جبرئيل ، نزل على بعض أمته ، بواسطته ، وينزل على بعضهم بواسطة البعض ، الى يوم القيامة. أو جميع الأنبياء ـ عليهم السلام ـ.

(وفي مصباح الشريعة (١) ، قال الصادق ـ عليه السلام ـ : وحروف العبد ، ثلاثة : العين والباء والدال. فالعين علمه بالله تعالى ، والباء ، بونه عما (٢) سواه. والدال ، دنوه من الله ، بلاكم وكيف (٣).) (٤).

(فَأْتُوا بِسُورَةٍ) : جزاء للشرط.

والأمر تعجيزي ، ليظهر عجزهم ويزول ريبهم.

و «السورة» ، طائفة من القرآن ، مترجمة. لا يكون أقل من ثلاث آيات.

فخرج بقولنا : «مترجمة» ، الآيات المتعددة ، من سورة واحدة ، أو متفرقة ، وما هو أكثر من سورة (٥) واحدة ، كمجموع سورتين.

وبقولنا : «لا يكون أقل من ثلاث آيات» ، يخرج آية الكرسي وآية المداينة ، من غير حاجة الى أن يتكلف.

ويقال : هذا مجرد اضافة. لم يصل الى حد التسمية.

وواوها ، ان كانت أصلية ، فهي اما منقولة من «سورة المدينة». وهي حائطها على وجهين :

أحدهما ، أن يجعل السورة بمعنى المسوّرة. كما يراد بالحائط المحوّطة.

وهو البستان. ثم ينقل الى طائفة محدودة من القرآن. وهو نقل مرتب على تجوّز.

__________________

(١) مصباح الشريعة / ٥٤١.

(٢) المصدر : عمن.

(٣) المصدر : بلا كيف ولا حجاب.

(٤) ما بين القوسين ليس في أ.

(٥) أ : منها.

٢٥٨

وثانيهما ، أن ينقل من «سورة المدينة» اليها ، بغير واسطة. لأنها تحيط بطائفة من القرآن ، مفرزة محوزة ، على انفرادها. أو محتوية على أنواع من العلم ، احاطة سورة المدينة ، بما فيها واحتوائها عليه.

وجمع سورة القرآن ، السور ـ بفتح الواو ـ وجمع سورة المدينة ، على سور ـ بسكونها ـ.

أو من السورة ، بمعنى المرتبة. قال النابغة :

الم تر أن الله أعطاك سورة

ترى كل ملك دونها ، يتذبذب (١)

ثم ان المرتبة ، ان جعلت حسية ، فلأن السور ، كالمراتب ، والمنازل.

ينقلب (٢) فيها القارئ. ويقف عند بعضها. أو لأنها في أنفسها منازل مفصلة. بعضها من بعض. متفاوتة في الطول والقصر والتوسط.

وان جعلت معنوية ، فلتفاوتها في الفضل والشرف والبلاغة.

وان كانت واوها ، مبدلة عن الهمزة ، فمن السورة التي هي البقية والقطعة من الشيء. وضعف هذا الوجه ، اما من حيث اللفظ ، إذ لم يستعمل مهموزة.

في السعة (٣) ولا في الشاذة المنقولة ، في كتاب مشهور. وان أشعر به كلام الأزهري ، حيث قال : وأكثر القراء ، على ترك الهمزة ، في لفظ السورة.

وأما من حيث المعنى ، فلأنها أسم ينبئ عن قلة وحقارة. وأيضا ، استعماله فيما فضل ، بعد ذهاب الأكثر. ولا ذهاب هنا ، الا تقديرا ، باعتبار النظر اليها ، نفسها. فكأنها قد ذهب ما عداها.

__________________

(١) أ : يذبذب.

(٢) المتن وأ : تنقلب.

(٣) ر : السبعة.

٢٥٩

(مِنْ مِثْلِهِ) : اما ظرف مستقر ، صفة لسورة. أو ظرف لغو ، «لفأتوا».

والضمير على كل من التقديرين ، اما عائد الى «ما نزلنا» ، أو الى «عبدنا».

فهذه أربع صور :

أولها : أن يكون الظرف صفة «لسورة». والضمير ، عائد الى «ما نزلنا».

وكلمة «من» ، بيانية. لأن السورة المفروضة التي بها الأمر التعجيزي ، مثل المنزل في حسن النظم ، والغرابة في البيان. والعجز ، انما هو ، عن الإتيان بالمثل الذي هو المأمور به. وان جعلت تبعيضية ، أو همت أن للمنزل ، مثلا ، عجزوا عن الإتيان (١) (ببعضه. كأنه قيل : فأتوا ببعض ما هو مثل للمنزل.) (٢) فالمماثلة المصرح بها ، ليست من تتمة المعجوز عنه ، حتى (٣) يفهم أنها منشأ العجز.

وكذا الحال ، ان جعلت ، ابتدائية. فإنها توهم أن للمنزل ، مثلا ، عجزوا عن الإتيان ، بسورة مبتدئة منه. فالمماثلة ليست من تتمة المعجوز عنه ، مع أن في مبدئية الكل للجزء ، خفاء. وذهب الأخفش ، الى أنها زائدة.

وثانيتها : أن يكون الظرف ، صفة لسورة. والضمير ، عائدا الى «عبدنا».

وحينئذ ، يتعين أن يكون «من» ابتدائية. فان السورة ، مبتدئة ناشئة من مثل العبد.

ولا وجه لسائر المعاني. ولا يذهب عليك أن الإتيان بسورة من مثل هذا العبد ، ليس بمعجوز عنه ، ما لم يعتبر مثلية سورة ، للسور القرآنية ، في حسن النظم وغرابة البيان.

وثالثتها (٤) : أن يكون الظرف ، متعلقا «بفأتوا». والضمير عائدا الى «ما نزلنا».

__________________

(١) أ : الإتيان بسورة مبتدة منه.

(٢) ما بين القوسين ليس في أ.

(٣) أ : مع أن في مبدئية الكل للجزء خفاء حتى.

(٤) أ : ثالثها.

٢٦٠