تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ١

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي


المحقق: حسين درگاهى
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٩

خالدين ناعمين. وان خالفوك ، فهو شر لهم. يصيرون في جهنم خالدين معذبين.

ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لتلك الجماعة : اعلموا! انكم ان أطعتم عليا ، سعدتم. وان خالفتموه ، شقيتم. وأغناه الله عنكم بمن سيريكموه (١).

ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : يا علي سل ربك بجاه محمد وآله الطيبين الذين أنت بعد محمد ، سيدهم أن يقلب لك هذه الجبال ما شئت.

فسأل ربه (٢). فانقلبت الجبال فضة. ونادته الجبال : يا علي! يا وصي رسول رب العالمين! ان الله قد أعدنا لك. فان أردت إنفاقنا في أمرك. فمتى دعوتنا ، أجبناك ، لتمضي فينا حكمك. وتنفذ (٣) فينا قضاؤك.

ثم انقلبت (٤) ذهبا (٥) كلها. فقالت مثل مقالة الفضة.

ثم انقلبت مسكا وعنبرا وعبيرا وجواهر ويواقيت.

وكل شيء ينقلب «منها ، يناديه» (٦) : يا أبا الحسن! يا أخا رسول الله! نحن المسخرات لك. ادعنا متى شئت ، لتنفقنا ، فيما شئت ، بحبك ، ونتحول لك الى ما شئت.

ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : يا علي! سل الله بمحمد وآله الطيبين الذين أنت سيدهم (٧) أن يقلب لك أشجارها ، رجالا شاكين الأسلحة ، وصخورها

__________________

(١) المصدر : عن سيريكموه وبما سيريكموه.

(٢) المصدر : ربه ذلك.

(٣) النسخ : أنفذ.

(٤) أ : أنقلب.

(٥) المصدر : ذهبا أحمر.

(٦) المصدر : ولكنها نادته.

(٧) المصدر : سيدهم بعد محمد رسول الله.

١٨١

أسودا ونمورا وأفاعي.

فدعى الله علي ـ عليه السلام ـ بذلك. فامتلأت الجبال والهضبات وقرار الأرض ، من الرجال الشاكين (١) الأسلحة. الذين لا يفي (٢) الواحد منهم ، عشرة آلاف من الناس المعنودين (٣).

ومن الأسود والنمور والأفاعي (٤) وكل ينادي : يا علي! يا وصي رسول الله ها (٥) نحن قد سخرنا الله لك. وأمرنا بإجابتك ، كلما دعوتنا الى اصطلام كل من سلطتنا (٦) عليه. فسمنا ما شئت. وادعنا (٧) ، نجبك وأمرنا (٨) ، نطعك.

يا علي : يا وصي رسول الله! ان لك عند الله من الشأن ، ان سألت الله أن يصير لك أطراف الأرض وجوانبها هذه ، صرة واحدة ، كصرة كيس ، لفعل. أو يحط لك السماء ، الى الأرض ، لفعل. ويرفع لك الأرض الى السماء ، لفعل. أو يقلب لك ما في بحارها ، أجاجا ماء عذبا ، أو زئبقا أو بانا ، أو ما شئت من أنواع الاشربة والادهان ، لفعل. ولو شئت أن يجمد البحار ويجعل سائر الأرض ، مثل البحار ، لفعل. ولا يحزنك تمرد هؤلاء المتمردين وخلاف هؤلاء المخالفين. فكأنهم بالدنيا وقد (٩) انقضت عنهم وكأن لم يكونوا فيها. وكأنهم بالاخرة إذا وردوا عليها (١٠) ،

__________________

(١) المصدر : الشاكي.

(٢) المصدر : لا يقي.

(٣) المصدر : المعهودين.

(٤) المصدر : والأفاعي حتى طبقت تلك الجبال والأراضي والهضبات بذلك.

(٥) ليس في المصدر.

(٦) المصدر : سلطنا.

(٧ و ٨) المصدر : فادعنا... فأمرنا به.

(٩) المصدر : فقد.

(١٠) المصدر : وردت عليهم.

١٨٢

لم يزالوا (١) فيها.

يا علي! ان الذي (٢) أمهلهم مع كفرهم وفسقهم في تمردهم ، عن طاعتك ، هو الذي أمهل فرعون ذا الأوتاد ونمرود وكنعان (٣) ومن ادعى الالهية من ذوي الطغيان. وأطغى الطغاة ، إبليس ، رأس الضلالات. وما خلقت أنت ولاهم لدار الفناء ، ولكن (٤) خلقتم لدار البقاء. ولكنكم تنقلون من دار الى دار. ولا حاجة لربك الى من يسوسهم ويرعاهم. ولكنه أراد تشريفك عليهم وابانتك بالفضل فيهم (٥).

ولو شاء لهداهم أجمعين (٦).

قال : فمرضت قلوب القوم ، لما شاهدوا من ذلك ، مضافا الى ما كان في قلوبهم من مرض (٧). فقال الله عند ذلك : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ)».

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) : معطوف على «يكذبون» ، أو على «يقول آمنا». ورجح الأول بقربه وبافادته تسبب الفساد. فيدل على وجوب الاحتراز عنه ، كالكذب.

وفيه بحث ، لأنه يفيد تسبب هذا القول منهم ، في جواب «لا تفسدوا» للعذاب. لا تسبب الفساد له. والثاني يكون الآيات ، حينئذ ، على نمط تعديد

__________________

(١) أوالمصدر : وكان لم يزالوا.

(٢) أ : الذين.

(٣) المصدر : نمرود بن كنعان.

(٤) أوالمصدر : بل.

(٥) المصدر : منهم.

(٦) ليس في المصدر.

(٧) المصدر : مرض أجسامهم لعلى بن أبى طالب ـ عليه السلام.

١٨٣

قبائحهم وبافادتها ، اتصافهم بكل من تلك الأوصاف ، استقلالا. وبدلالتها على أن لحوق العذاب الأليم ، بسبب كذبهم. الذي هو أدنى أحوالهم في كفرهم ونفاقهم. فما ظنك بسائرها.

ويحتمل أن تكون معطوفة على قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ـ الى آخره. لكنه بعيد ، لعدم دلالته على اندراج هذه الصفة وما بعدها في قصة المنافقين وبيان أحوالهم. إذ لا يحسن حينئذ عود الضمائر التي فيها ، اليهم.

ويخطر بالبال ، احتمال أن يكون معطوفا على قوله (يُخادِعُونَ اللهَ) ـ الى آخره ـ.

و «إذا» ، ظرف زمان. ويلزمها معنى الشرط ، غالبا. ولا يكون الا في الأمر المحقق ، أو المرجح وقوعه. ويختص بالدخول على الجملة الفعلية. ويكون الفعل بعدها ماضيا كثيرا ومضارعا دون ذلك.

و «الفساد» ، خروج الشيء عن كونه منتفعا به. والصلاح ، ضده.

وكان من جملة فسادهم في الأرض ، هيج الحروب والفتن ، بمخادعة المسلمين ومعاونة الكفار عليهم ، بإفشاء أسرارهم اليهم.

ومنها : الإخلال بالشرائع التي برعايتها ، ينتظم العالم ، بإظهار المعاصي.

ومنها : الدعوة في السر الى تكذيب المسلمين. وجحد الإسلام. والغاء السنة.

والقائل ، هو الله سبحانه ، بلسان الرسول. أو الرسول. أو بعض المؤمنين.

(قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١)) : جواب «إذا». ورد للناصح ، على سبيل المبالغة. لأن «انما» هي كلمة «ان» التي لاثبات المسند ، للمسند اليه.

ثم اتصلت بها ، «ما» الكافة ، لزيادة التأكيد. فقصدوا بها ، قصر ما دخلته على ما بعده. فهذا من باب قصر المسند اليه ، على المسند. لكن قصر افراد. لأنهم لما سمعوا قول المسلمين لهم : (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) ، توهموا أنهم يجعلونهم

١٨٤

مصلحين ، تارة ومفسدين أخرى ، لاستبعادهم أن يجعلوهم مفسدين ، في جميع الأحوال.

فأجابوا بأنهم مقصرون على الإصلاح. لا يتجاوزونه الى الإفساد. فاصلاحهم غير مشوب بإفساد.

وكلمة «انما» دالة على أن ذلك أمر مكشوف ، لا ينبغي أن يشك فيه. فان الشرط فيها ، أن يدخل على حكم ، يكون بيّنا في نفس الأمر. أو بحسب الادعاء.

وانما قالوا ذلك ، لأنهم ممن زين له سوء عمله ، فرآه حسنا.

وروي «في تفسير أبي محمد العسكري ـ عليه السلام ـ» (١) : (٢) عن العالم موسى [بن جعفر] (٣) ـ عليه السلام ـ في تفسير الاية ـ «إذا قيل» لهؤلاء الناكثين للبيعة في يوم الغدير (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بإظهار نكث البيعة ، لعباد الله المستضعفين.

فتشوشون عليهم دينهم. وتحيرونهم في مذاهبهم. (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ)» ، لأنا لا نعتقد دين محمد ولا غير دين محمد. ونحن في الدين ، متحيرون. فنحن نرضى في الظاهر محمدا ، بإظهار قبول دينه وشريعته ونفضي في الباطن الى شهواتنا.

«فنمتنع ونتركه» (٤) ونعتق أنفسنا من رق محمد ونفكها من طاعة ابن عمه علي ، لكي لا (٥) نذل (٦) في الدنيا ، كنا (٧) قد توجهنا عنده. وان اضمحل أمره : كنا (٨) قد

__________________

(١) ليس في أ.

(٢) تفسير العسكري / ٥٧.

(٣) يوجد في المصدر.

(٤) المصدر : فنتمتع ونترفه. أ : فنمتنع ونسترقه.

(٥) ليس في المصدر وأ.

(٦) المصدر وأ : أديل.

(٧ و ٨) أ : لنا.

١٨٥

سلمنا على (١) أعدائه.

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢)) ألا وأما ، مركبتان من همزة الاستفهام وحرف النفي ، لاعطاء معنى التنبيه ، على تحقق ما بعدها. فان الاستفهام ، إذا كان للإنكار ودخل على النفي ، أفاد تحقيقا ، لأن نفي النفي اثبات وتحقيق ، كقوله : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ).

والأكثرون على أنهما ، حرفان موضوعان لذلك المعنى ، لا تركيب فيهما.

ويدخلان على الجملتين. ويشاركهما ، في الدلالة على معنى التنبيه «الهاء».

لكنها تختص بالدخول على أسماء الاشارة والضمائر غالبا.

ولما بالغ المنافقون ، في اظهار الإصلاح ، بولغ في افسادهم ، من جهات متعددة الاستئناف. فانه يقصد به زيادة تمكّن الحكم ، في ذهن السامع ، لوروده عليه ، بعد (٢) السؤال والطلب وما في كل واحدة من كلمتي «ألا» و «ان» ، من تأكيد الحكم وتحقيقه وتعريف الخبر المفيد وحصر المسند ، على المسند اليه ، قصر قلب وتوسيط الفعل المؤكد لهذا الحصر.

وقوله «لا يشعرون» ، لدلالته على أن كونهم مفسدين ، قد ظهر ظهور المحسوس.

لكن لا حس لهم ، ليدركوه.

وقيل المبالغة في تعريف المفسدين ، على قياس ما مر في «المفلحين». انه ان حصلت صفة المفسدين وتحققوا وتصوروا ، بصورتهم الحقيقية ، فالمنافقون هم (٣) ، هم لا يعدون تلك الحقيقة ، فيكون الفصل مؤكدا لنسبة الاتحاد الذي هو أقوى من القصر في افادة المطلوب.

__________________

(١) المصدر : من سبى. أ : من بين.

(٢) أ : بعض.

(٣) ليس في أ.

١٨٦

وروي في تفسير «أبي محمد العسكري ـ عليه السلام ـ (١) عن موسى بن جعفر ، في تفسير» (٢) تلك الاية : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) بما يغفلون أمورا لنفسهم (٣).

لأن الله يعرّف نبيهم (٤) ، نفاقهم. فهو يلعنهم. ويأمر المسلمين بلعنهم. ولا يثق (٥) بهم ـ أيضا (٦) ـ أعداء المؤمنين. لأنهم يظنون أنهم ينافقونهم ـ أيضا (٧) ـ كما ينافقون أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فلا يرتفع (٨) لهم ، عندهم منزلة. ولا يحلّون (٩) عندهم محل أهل الثقة (١٠).

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) : هذا ، من تمام النصح والإرشاد.

فان الايمان مجموع أمرين ، الاعراض عما لا ينبغي. وهو المقصود بقول (لا تُفْسِدُوا). والإتيان بما ينبغي. وهو المطلوب بقوله «آمنوا».

وأمرهم بالايمان بعد نهيهم عن الإفساد : لأن التحلية ، لا يتيسر الا بعد التخليّة.

(كَما آمَنَ النَّاسُ) : «ما» في «كما» ، اما كافة ، كما في قوله (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) (١١) ، أو مصدرية كما في قوله تعالى (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) (١٢).

__________________

(١) تفسير العسكري / ٥٧.

(٢) ليس في أ.

(٣) المصدر : من أمور أنفسهم.

(٤) المصدر : نبيه. أ. بينهم.

(٥) أ : فهم.

(٦ و ٧) ليس في أ.

(٨) المصدر وأ : يرفع.

(٩) أ : يحل لهم. ر : يخلون.

(١٠) أ : أهل النعمة.

(١١) آل عمران / ١٥٩.

(١٢) البقرة / ١٩٨.

١٨٧

فان كانت كافة للكفّ عن العمل ، مصححة لدخولها على الجملة ، كان التشبيه بين مضموني الجملتين. أي ، حققوا ايمانكم ، كما حقق الناس ايمانهم. وان كانت مصدرية ، فالمعنى ، آمنوا ايمانا كايمانهم.

وعلى التقديرين ، قوله (كَما آمَنَ النَّاسُ) في موضع النصب ، على المصدرية.

و «اللام» ، للعهد. أي ، كما آمن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ومن معه. وهم ناس معهودون ، على الإطلاق ، عندهم. أو من آمن من أهل بلدتهم ، كابن سلام وأصحابه. وهم ناس معهودون عندهم. أو للجنس. والمراد به ، الكاملون في الانسانية ، العاملون بقضية العقل. فان اسم الجنس ، كما يستعمل لمسماه (١) ، مطلقا ، يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة منه. ولذلك يسلب عن غيره. فيقال : زيد ليس بإنسان. وقد جمع الاستعمالين [في] قول الشاعر :

إذا الناس ناس و

الزمان زمان

واستدل به على مطلبين : أحدهما أن توبة الزنديق مقبولة. وثانيهما أن الإقرار باللسان ، ايمان.

تقرير الأول : ان الكافرين مأمورون بالايمان. فلو لم يكن توبتهم مقبولة ، لم يكونوا مكلفين. ضرورة ، ان كونهم مكلفين مع عدم قبول توبتهم ، جبر. وهذا انما يتم لو كان دعوة بعض المؤمنين ، الى الايمان ، تكليفا. ولو سلم ، فإنما يدل على ذلك لو كان قولهم ذلك ، بطريق دعوة والحق ، أن توبة الزنديق ، عن غير فطرة ، مقبولة ، مطلقا (٢) ، وعن الفطرة ، غير مقبولة ، ظاهرا. لكن لا بدلالة الاية ، بل بدلالة الآيات الاخر والأحاديث المروية.

وتقرير الثاني : انه لو لم يكن ايمانا ، لم يفد التقييد بقوله (كَما آمَنَ النَّاسُ).

__________________

(١) أ : المسماه.

(٢) ليس في أ.

١٨٨

والتالي باطل. فالمقدم مثله. والملازمة ممنوعة. والمستند أن ذلك مبني على أن يكون المراد من الناس ، المنافقين المذكورين سابقا وليس كذلك. بل المراد ، المؤمنون.

وفائدة التقييد ، التحريص. ونظيره قوله : أكرم أخاك ، كما أكرمه عمرو.

(وبعض استدل من قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) على أن الإقرار فقط ، ليس بإيمان. وهو أيضا ، باطل. لجواز أن يكون قولهم «آمنا» لأخبار الايمان ، لا إنشائه) (١).

(قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) :

«الهمزة» فيه للإنكار ، مجازا ، إذ الأصل فيها (٢) الاستفهام. استعملت فيه لعلاقة عدم اعتقاد الثبوت فيهما. وإذا كانت للاستفهام ، يطلب بها التصور والتصديق ، كما يطلب بهل ، التصديق وبباقي أدوات ، الاستفهام التصور. والحق أن الكل ، لطلب التصور ، في المآل. ومعنى الإنكار فيه ، أن ذلك لا يكون أصلا.

و «اللام» للعهد ، اشارة الى «الناس» المذكور سابقا. أو الجنس. وهم مندرجون تحت مفهومه ، على زعمهم وتسفيههم. اما لجعل الايمان سفها ، أو لجعل المؤمنين المشهورين به. أو ليجعلونهم مشهورين به. أو لاعتقادهم فساد رأيهم.

أو لتحقير شأنهم. فان أكثر المؤمنين كانوا فقراء. ومنهم موالي ، كصهيب وبلال.

أو للتجلد وعدم المبالاة لهم ، بمن آمن منهم ، ان فسر الناس بعبد الله بن سلام وأشياعه.

و «السفه» ، خفة العقل وقلته. ويقابله الحلم ، بالكسر. وهو الأناءة (٣). وكأن هذا الكلام مقولا فيما بينهم ، لا في وجوه المؤمنين. لأنهم كانوا منافقين ، يقولون

__________________

(١) ما بين القوسين مشطوب في المتن وليس في ر.

(٢) أ : فيه.

(٣) أ : الانارة.

١٨٩

بأفواههم ما ليس في قلوبهم. فأخبر سبحانه بذلك ، نبيه. ورد عليهم أبلغ رد. وقال : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)) : تفصيل هذه الاية «بلا يعلمون» والتي قبلها «بلا يشعرون». لأنه أكثر طباقا لذكر السفه. ولأن الوقوف على أمر الدين والتميز بين الحق والباطل ، مما يفتقر الى نظر وتفكر. وأما النفاق وما فيه من النقص والفساد ، فمما (١) يدرك بأدنى تفطن وتأمل ، فيما يشاهد من أقوالهم وأفعالهم.

وروي في تفسير تلك الاية (في تفسير أبي محمد العسكري عليه السلام) (٢) (٣) عن موسى ـ عليه السلام : إذا قيل لهؤلاء الناكثين للبيعة ، قال لهم خيار (٤) المؤمنين كسلمان والمقداد وأبي ذر وعمار : «آمنوا» برسول الله وعلي (٥) ـ عليهما السلام ـ الذي أوقفه موقفه. وأقامه مقامه. وأناط (٦) مصالح الدين والدنيا ، كلها به. و «آمنوا» بهذا النبي. وسلموا لهذا الامام. وسلموا له ظاهرة (٧) وباطنة ، (كَما آمَنَ النَّاسُ) المؤمنون (٨) ، قالوا في الجواب ، (لمن يفيضون اليهم (٩) لا لهؤلاء المؤمنين. فإنهم

__________________

(١) أ : فلما.

(٢) ما بين القوسين ليس في أ.

(٣) تفسير العسكري / ٥٨.

(٤) أ : خيارهم.

(٥) المصدر : بعلى.

(٦) النسخ : ناط.

(٧) المصدر : ظاهر الامر.

(٨) أ : المتقدمون ، المصدر : المؤمنون ، كسلمان والمقداد وأبي ذر وعمار.

(٩) المصدر ، اليه.

١٩٠

لا يجرءون على مكاشفتهم بهذا الجواب) (١) ولكنهم يذكرون لمن يفيضون اليهم (٢) من أهليهم (٣) الذين يثقون بهم [من المنافقين ومن المستضعفين ، أو المؤمنين الذين هم بالستر عليهم واثقون بهم ،] (٤) يقولون لهم : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) ، يعنون سلمان وأصحابه ، لما أعطوا عليا خالص دينهم وودهم. ومحض طاعتهم. وكشفوا رؤوسهم لموالاة (٥) أوليائه ومعاداة أعدائه. (حتى ان اضمحل أمر محمد ، طحطحهم أعداؤه وأهلكهم بسائر الملوك والمخالفين لمحمد ، أي : فهم بهذا التعرض ، لأعداء محمد جاهلون سفهاء. قال الله تعالى : ألا انهم هم السفهاء الإخفاء العقول والآراء.) (٦) (فرد الله عليهم) (٧) «الذين لم ينظروا في أمر محمد» (٨) ، حق النظر ، فيعرفوا نبوته ويعرفوا به صحة ما ناطه بعلي ـ عليه السلام ـ من أمر الدين والدنيا ، حتى بقوا لتركهم تأمل حجج الله جاهلين. وصاروا خائفين وجلين من محمد وذريته (٩) (ومن مخالفيهم ، لا يؤمنون انهم يغلبون (١٠) فيهلكون معه (١١) ، فهم السفهاء حيث لا يسلم لهم بنفاقهم هذا جنبة (١٢) جنبة محمد والمؤمنين ولا جنبة اليهود وسائر الكافرين

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في أ.

(٢) المصدر : اليه.

(٣) المصدر : أهلهم.

(٤) يوجد في المصدر.

(٥) أوالمصدر : بموالاة.

(٦) ما بين القوسين ليس في أ.

(٧) ما بين القوسين ، مشطوب في المتن وموجود في أ.

(٨) ر : الذين ينظرون أوامر محمد.

(٩) ليس في أ.

(١٠) المصدر : أيهم يتغلب.

(١١) المصدر : منه.

(١٢) المصدر : لا جنبنه.

١٩١

لأنهم (١) يظهرون لمحمد ـ صلى الله عليه وآله ـ من موالاته وموالاة أخيه علي ومعاداة أعدائهم اليهود والنصارى (٢) والنواصب كما (٣) يظهرون لهم ، من معاداة محمد وعلي ـ صلى الله عليهما وآلهما ـ وموالاة أعدائهم. فهم يقدّرون (٤) أن نفاقهم معهم كنفاقهم مع محمد وعلي ـ عليهما السلام ـ.) (٥) (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) أن الأمر كذلك وأن الله يطلّع نبيه ـ صلى الله عليه وآله ـ على أسرارهم. فيخسئهم (٦) ويلعنهم ويسفههم (٧).

قال بعض الفضلاء : وإذا سمعت شطرا من الأحكام اللفظية ، فاسمع نبذا من المعاني البطنية. فنقول : «وإذا قيل» لهؤلاء المتوسمين بالايمان الرسمي ، المدعين التوحيد الحقيقي لا تفسدوا في أرض (٨) استعدادكم ، لذلك التوحيد. ولا تبذروا فيها ، بذر فساد الشرك ، باضافة الأفعال الى أنفسكم. (قالُوا : إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) لها ، بارتكاب الأعمال الصالحة واكتساب الأفعال الحسنة. ليترتب عليها الأجزية (٩) الأخروية ، من الجنات وما فيها ، من أنواع النعيم المقيم. فقيل في ردهم : ألا انهم هم المفسدون لها. فان ترتب تلك الأجزية ، لا يتوقف الا على نفس الأعمال ، لا على اضافتها

__________________

(١) المصدر : لأنه به وبهم.

(٢) ليس في المصدر.

(٣) المصدر : وهو كما.

(٤) المصدر : يقدرون فيهم.

(٥) ما بين القوسين ليس في أ.

(٦) المصدر : فيخسهم.

(٧) المصدر : يسقطهم.

(٨) النسخ : ارض.

(٩) أ : الاجرية.

١٩٢

الى أنفسهم. بل بهذه الاضافة ، يبقون محرومين عن التوحيد. ولا يتحققون به أصلا. وكيف يتحققون وهم لا يصلون الى توحيد الأفعال ، فكيف بتوحيد الصفات والذات. فلا يحظون بما يترتب عليه ، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ولكنهم لا يشعرون بذلك الإفساد. لأنه من قبيل الشرك الخفي ، الذي هو أخفى من دبيب النمل ، وإذا قيل لهم آمنوا ايمانا حقيقيا (كَما آمَنَ النَّاسُ) المتحققون بحقائق ، الحقيقة الانسانية الكمالية ، الباذلون وجودهم بالفناء في الله.

(قالُوا : أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ)؟ فان من السفه ، بذل الوجود الذي ، هو رأس مال الحظوظ (١) العاجلة والاجلة. فقيل في ردهم : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ). فان من يبذل وجوده الفاني ، يبقى ببقاء الحق سبحانه. وأين الوجود الفاني ، من البقاء بالحق. ولكنهم لا يعلمون ذلك. لأن هذا العلم ، لا يحصل بالحجة والبرهان. بل بالذوق والوجدان.

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) : وقرئ «ولاقوا».

هذه الجملة ، مع ما عطفت عليها ، في حكم كلام واحد ، مساقة لبيان معاملتهم مع المؤمنين وأهل دينهم. وتنافي قوليهم لهما ، بخلاف صدر قصتهم. فانه مسوق (٢) ، لبيان أصل نفاقهم ، من غير تعرض ، للقائهم المؤمنين.

وقولهم معهم ، ولخلوهم مع شياطينهم ، وقولهم لهم ، فيما يتوهم في أجزاء الشرطية الأولى ، من التكرر ، مضمحل ، بالكلية.

تقول : لقيته ولاقيته ، إذا استقبلته ، قريبا منه. ومنه ، ألقيته ، إذا طرحته. لأنك بطرحه ، جعلته بحيث يلقى.

__________________

(١) أ : الخطوط.

(٢) أ : مسبوق.

١٩٣

(وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) :

من خلوت بفلان واليه ، إذا انفردت معه ، أي : إذا انفردوا مع شياطينهم. أو من خلاك ذم ، أي : عداك ومضى عنك. ومنه ، القرون الخالية ، أي : الماضية.

أي ، إذا مضوا عن المؤمنين ، الى شياطينهم.

واستعمال «خلا» ، «بالي» ، على هذين المعنيين ظاهر. أو ، خلوت به ، إذا سخرت منه (١). وحينئذ يحتاج في استعماله «بالي» الى تضمين معنى الإنهاء ، أي : إذا سخروا من المؤمنين ، منهين (٢) هذه السخرية ، الى شياطينهم. وهذا كما تقول : أحمد اليك فلانا ، أي : أحمده منهيا ذلك الحمد ، اليك.

و «شياطينهم» ، أصحابهم. الذين ماثلوا الشياطين ، في تمردهم ، منافقين كانوا ، أو مشركين. فيكون من قبيل الاستعارة. وجعل سيبويه ، تارة ، نونه أصلية ، على أنه من شطن ، إذا بعد. فهو بعيد عن الصلاح. ويشهد له قولهم : «تشيطن».

وأخرى زائدة ، على أنه من «شاط» ، إذا بطل. ومن أسمائه الباطل.

(قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) : في عدم الايمان بمحمد ـ صلى الله عليه وآله ـ.

وخاطبوا المؤمنين المنكرين بالفعلية ، مجردة عن التأكيد ، وشياطينهم الذين لا ينكرون (٣) ، بالاسمية ، مؤكدة. والقياس العكس. لأنهم كانوا مع المؤمنين ، بصدد (٤) الاخبار ، بحدوث الايمان منهم.

وتركوا التأكيد ، لعدم الباعث عليه (٥) ، من بواطنهم ، من صدق رغبة (٦) ووفور

__________________

(١) أ : ومنه.

(٢) أ : فنهين.

(٣) أ : يذكرون.

(٤) أ : بصدر.

(٥) أ : اليه.

(٦) أ : وفيه.

١٩٤

اعتقاد ، أو لعدم رواجه عنهم ، عند المخاطبين. الذين هم ارباب فهم وكياسة ، بلفظ التأكيد. بخلاف مخاطبتهم ، مع شياطينهم. فإنهم فيما أخبروهم (١) به ، على صدق رغبة ووفور نشاط. وهو رائج عنهم ، متقبل منهم ، على لفظ التأكيد.

(إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤)) : تأكيد لسابقه ، إذ معنى (إِنَّا مَعَكُمْ) ، هو الثبات على اليهودية.

وقوله (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) وان لم يكن بظاهره ، تأكيدا لهذا المعنى ، لكن له لازم. وهو أنه ، رد ونفي للإسلام ، يؤكده. لأن دفع نقيض الشيء ، تأكيد لثباته.

أو بدل. وتقريره ، أنه لما كان قصدهم الى اظهار تصلبهم (٢) في دينهم ، وكان في الكلام الأول ، قصور عن افادته ، إذ كانوا يوافقون المؤمنين ، في بعض الأحوال فاستأنفوا القصد ، الى ذلك ، بأنهم يعظمون كفرهم ، بتحقير الإسلام وأهله. فهم أرسخ قدما من شياطينهم.

أو استئناف كأن الشياطين قالوا : ان صح ذلك ، فما بالكم توافقون المؤمنين.

فأجابوا بذلك. وهو ، أوجه لزيادة الفائدة ، وقوة المحرك للسؤال.

وهذه الوجوه الثلاثة ، بيان لترك العاطف في كلامهم. وأما تركه في حكايته فللموافقة فيما هو بمنزلة كلام واحد (٣).

و «الاستهزاء» ، السخرية والاستخفاف. يقال : هزأت واستهزأت ، بمعنى.

كأجبت واستجبت.

وأصله ، الخفة ، من الهزء ـ بالفتح. وهو القتل السريع. وهزأ يهزأ ـ بالفتح فيهما ـ مات على المكان. وناقته تهزأ به ، أي ، تسرع وتخف.

__________________

(١) أ : جزائهم.

(٢) أ : تصليهم.

(٣) أ : وواحد.

١٩٥

(وفي مجمع البيان (١) : وروى عن أبي جعفر الباقر ـ عليه السلام ـ : انهم قالوا : (إِنَّا مَعَكُمْ) ، أي ، على دينكم. (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) ، أي ، نستهزئ بأصحاب محمد ونسخر بهم ، في قولنا «آمنا») (٢).

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) :

المراد باستهزاء الله ، مجازاته إياهم ، على استهزائهم بالمؤمنين ، لما بين الفعل وجزائه ، ملابسة قوية ، ونوع سببية ، مع المشاكلة المحسنة ، من مقابلة اللفظ باللفظ والمماثلة في القدر. فيكون من قبيل المجاز المرسل.

وقد روى رئيس المحدثين ، في كتاب التوحيد (٣) ، بإسناده عن علي بن الحسين ابن فضال ، عن أبيه ، عن الرضا ، علي بن موسى ـ عليهما السلام ـ قال : سألته عن قول الله ـ عز وجل ـ : (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) ، وعن قوله ـ عز وجل ـ : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ، وعن قوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) ، وعن قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ).

فقال : ان الله ـ تبارك وتعالى ـ لا يسخر ولا يستهزئ ولا يمكر ولا يخادع ولكنه ـ عز وجل ـ يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر والخديعة ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

(وفي عيون الأخبار (٤) ، بإسناده عن الحسن بن علي بن فضال ، قال : سألت الرضا ـ عليه السلام ـ الى أن قال : فقال : ان الله تعالى لا يسخر ولا يستهزئ ولا يمكر ولا يخادع. لكنه تعالى يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر والخديعة ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا) (٥) انتهى.

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ٥١.

(٢) ما بين القوسين ليس في أ.

(٣) التوحيد / ١٦٣.

(٤) عيون الاخبار ١ / ١٢٦.

(٥) ما بين القوسين ليس في أ.

١٩٦

أو انزال الهوان والحقارة بهم ، لأنه الغرض من (١) الاستهزاء. فهذا ، أيضا ، من المجاز المرسل ، لعلاقة السببية في التصور والمسببية في الوجود. وفي هذا التوجيه ، تنبيه على أن مذهبهم ، حقيق بأن يسخر منه ويستهزئ به ، لأجله ، أو معاملته سبحانه ، معاملة المستهزأ بمن يستهزئ به. واستعمل لفظ المشبه به ، في المشبه ، فيكون استعارة. وهي ، في الدنيا ، فبإجراء أحكام المسلمين عليهم واستدراجهم بالامهال والزيادة في النعمة ، مع تماديهم في الطغيان ، وفي الآخرة ، فبأن يفتح وهم في النار ، باب الى الجنة ، فيسرعون اليه. فإذا قربوا منه ، سدّ عليهم.

أو إرجاع وبال الاستهزاء اليهم ، فيكون كالمستهزئ بهم. فيكون استعارة ، أيضا.

أو لازم معناه. وهي اظهار خفة عقل المستهزأ به وقلته. فيكون سبحانه ، مستهزئ بهم ، في عين استهزائهم بالمؤمنين. فان من استهزائهم بهم ، مع ظهور أمرهم يظهر خفة عقولهم وقلتها. وهو استئناف. فإنهم لما بالغوا في استهزاء المؤمنين ، مبالغة تامة ، ظهر بها ، شناعة ما ارتكبوه. وتعاظمه على الأسماع ، على وجه ، يحرك السامع أن يقول : هؤلاء الذين هذا شأنهم ، ما مصير أمرهم وعقبى حالهم؟

وكيف معاملة الله والمؤمنين إياهم؟

وفي تصدير الاستئناف بذكر الله ، دلالة ، أولا ، على أن الاستهزاء بالمنافقين هو الاستهزاء الأبلغ. الذي لا اعتداد معه ، باستهزائهم. وذلك لصدوره ، عمن يضمحل علمهم وقدرتهم ، في جنب علمه وقدرته. وثانيا ، على أنه تعالى ، يكفي مؤنة عباده المؤمنين وينتقم (٢) لهم ، ولا يحوجهم الى معارضة المنافقين ، تعظيما لشأنهم. وانما قال : «يستهزئ». ولم يوافق لقولهم ، ليفيد حدوث الاستهزاء

__________________

(١) ليس في أ.

(٢) أ : ولا ينتقم.

١٩٧

وتجدده وقتا بعد وقت.

أما افادته الحدوث ، فلكونه فعلا. وأما افادة تجدده وقتا بعد وقت ، فلأن المضارع لما كان دالّا على الزمان المستقبل الذي يحدث شيئا بعد شيء ، على الاستمرار ، ناسب (١) أن يقصد به ، إذا وقع موقع غيره أن معنى مصدره المقارن لذلك الزمان ، يحدث مستمرا استمرارا تجدديا لا ثبوتيا. كما في الجملة الاسمية.

وانما أفيد ذلك ، ليكون على طبق نكايات الله فيهم وبلاياه النازلة. أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين؟

(وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)) : من مدّ الجيش وأمدّه ، إذا زاده وقوّاه. ومددت السراج والأرض ، إذا استصلحتهما ، بالزيت والسماد. ومنه مدّ الدوات وأمدّها ، إذا أراد أن يصلحها. لا من مد العمر ، بمعنى الاملاء والامهال.

فانه يعدى باللام ، كأملى له. والحذف والإيصال ، خلاف الأصل. فلا يصار اليه الا بدليل. ويؤيده قراءة ابن كثير. ويمدهم ـ بضم الياء ـ من الامداد ، بمعنى إعطاء المدد. وليس من المد في العمر والامهال في شيء.

والأصل في الطغيان ـ بالضم والكسر ، كلقيان ولقيان ـ تجاوز الشيء عن مكانه.

والمراد ، تجاوز الحد في الكفر والغلوّ في العصيان. والمراد ، زيادة طغيانهم ، بسبب تمكين الشيطان ، من اغوائهم.

أو أنه لما منعهم ألطافه التي يمنحها المؤمنين وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم وسدهم (٢) طرق التوفيق ، على أنفسهم ، فتزايدت بسببه قلوبهم رينا وظلمة ، تزايد قلوب المؤمنين ، انشراحا ونورا.

فاسناد الفعل الى الله ، اسناد الى المسبب. واضافة الطغيان اليهم ، لئلا يتوهم

__________________

(١) أ : ناصب.

(٢) ر : صدهم.

١٩٨

أن اسناد الفعل اليه ، على الحقيقة. والعمه. قيل : مثل العمى. الا أن العمى ، عام في البصر والرأي. والعمه في الرأي ، خاصة. وقيل : العمى في العين والعمه في القلب ، وهو التحير والتردد ، لا يدري أين يتوجه. يقال : رجل عامه وعمه.

وأرض عمهاء. لا مارّ بها.

ولعل التخصيص ، يكون «حيث يكون» (١) المقابلة.

و «في طغيانهم» ، اما متعلق بيمدهم ، وحينئذ يكون «يعمهون» ، حالا من مفعول «يمدهم». أو فاعل «الطغيان». واما متعلق «بيعمهون» ، قدم عليه ، لرعاية الفاصلة. وحينئذ يتعين أن يكون حالا من الأول.

(وفي كتاب الاحتجاج (٢) ، للطبرسي ـ رحمه الله ـ عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ حديث طويل وفيه : ولو علم المنافقون ـ لعنهم الله ـ ما عليهم من ترك هذه الآيات التي ، بينت لك تأويلها ، لأسقطوها ، مع ما أسقطوا منه. ولكن الله ـ تبارك اسمه ـ ماض حكمه ، بإيجاب الحجة على خلقه. كما (٣) قال (٤) : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ). أغشى أبصارهم. وجعل على قلوبهم ، أكنة عن تأمل ذلك. فتركوه بحاله وحجبوا عن تأكيد الملتبس بابطاله. فالسعداء يتنبهون (٥) عليه. والأشقياء يعمهون (٦) عنه) (٧).

قال بعض الفضلاء : وإذ قد وقع الفراغ ، من حل ظاهر عباراته ، فاسمع

__________________

(١) ليس في أ.

(٢) الاحتجاج ١ / ٣٧٦.

(٣) المصدر : كما قال الله تعالى.

(٤) الانعام / ١٤٩.

(٥) المصدر : ينهون.

(٦) المصدر : يعمون.

(٧) ما بين القوسين ليس في أ.

١٩٩

بطنا من بطون إشاراته. فنقول :

إذا لاقى المتوسمون بالايمان الرسمي ، الذين آمنوا ايمانا حقيقيا وتحققوا بحقيقة التوحيد. وانعكست اليهم ، أنوارهم الايمانية ، فتوهموا أنها من أنفسهم وملك لهم ، قالوا بلسان حالهم : «آمنا» ايمانا كايمانهم. «وإذا» فارقوا و (خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) المبعدين. وانفصلت منهم ، تلك الأنوار. ورجعوا الى ظلمتهم الأصلية الحجابية. وتضاعفت به (١) ظلمتهم ، لاجتماعهم مع هؤلاء الشياطين ، «قالوا» لهم : انا معكم متفقون بكم ، فيما آمنتم فيه ، من اثبات ذواتكم ، واسناد الصفات والأفعال اليها مستهزئون بالذين لا يثبتون الا وجودا واحدا. ويسندون اليه الأفعال والصفات ، كلها. فان ذلك شيء (٢) ، لا يحكم بصحته العقل. (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ، في عين استهزائهم بهم. ذلك الاستهزاء ، فعل الحق فيهم. انصبغ بصبغ الاستهزاء.

لالحاق الهوان والحقارة بهم (٣) ، في عيون أرباب البصيرة. فيكون استهزاء بهم (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) ، أي ، غلوهم في نفي التوحيد الحقيقي ، مترددين متحيرين بين المؤمنين ، ايمانا حقيقيا وبين شياطينهم الجاحدين ذلك الايمان ، مذبذبين بين ذلك ، لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) :

معللة للجملة الدالة على استحقاقهم الاستهزاء ، على سبيل الاستئناف. أو مقررة لقوله (يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) على سبيل التوكيد.

وأصل الاشتراء ، بذل الثمن ، لتحصيل ما يطلب من الأعيان. فان كان أحد العوضين ، ناضّا ، تعين من حيث أنه لا يطلب لعينه ، أن يكون ثمنا. وبذله ، اشتراء.

وأخذه ، بيع. ولذلك عدت الكلمتان ، من الاضداد. والنض والناض الدنانير

__________________

(١) أ : به في.

(٢ و ٣) ليس في أ.

٢٠٠