تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ١

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي


المحقق: حسين درگاهى
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٩

ثم قال : أيها الناس! ألست أولى بكم من أنفسكم (١)؟ وأنا مولاكم وأولى (٢) بكم منكم بأنفسكم؟

قالوا : بلى ، يا رسول الله!.

فنظر الى السماء. وقال : اللهم! اشهد «يقول هو (٣) ذلك ثلاثا ويقولون ذلك ثلاثا» (٤).

ثم قال : ألا من (٥) كنت مولاه وأولى به ، فهذا علي مولاه وأولى به. اللهم! وال من والاه. وعاد من عاداه. وانصر من نصره. واخذل من خذله.

ثم قال : قم ، يا أبا بكر! فبايع له (٦) بإمرة المؤمنين.

«ثم قال : قم ، يا عمر! فبايع له بإمرة المؤمنين» (٧).

فقام ، فبايع له ، «بإمرة المؤمنين» (٨).

ثم قال بعد ذلك ، لتمام التسعة «من رؤساء» (٩) المهاجرين والأنصار. فبايعوه كلهم.

فقام من بين جماعتهم ، عمر بن الخطاب. فقال : بخ بخ يا بن أبي طالب! أصبحت (١٠) مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

__________________

(١) المصدر : ثم قال : أيها الناس! ألست أولى بكم من أنفسكم بأنفسكم ، قالوا : بلى. قال ـ صلى الله عليه وآله :

(٢) المصدر : مولاكم أولى.

(٣) ليس في أ.

(٤) المصدر : يقول هؤلاء ذلك وهو يقول.

(٥) المصدر : فمن.

(٦ و ٧ و ٨) ليس في أ.

(٩) أ : تم لرؤساء.

(١٠) ليس في أ.

١٦١

ثم تفرقوا عن ذلك. وقد أكدت (١) عليهم العهود والمواثيق.

ثم ان قوما من متمرديهم وجبابرتهم ، تواطئوا (٢) بينهم ، لئن كانت لمحمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كائنة لندفعن (٣) هذا الأمر عن (٤) علي. ولا نتركه (٥) له.

فعرف الله تعالى ذلك (٦) من قلبهم. وكانوا يأتون رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ويقولون : لقد أقمت علينا (٧) أحب الخلق (٨) الى الله واليك وإلينا. فكفيتنا به مؤنة الظلمة لنا والجبارين في سياستنا. وعلم الله تعالى من قلوبهم خلاف ذلك ، من مواطأة بعضهم لبعض ، أنهم على العداوة مقيمون ولدفع الأمر عن مستحقه مؤثرون. فأخبر الله ـ عز وجل ـ محمدا عنهم. فقال : يا محمد! (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) ، الذي (٩) أمرك بنصب علي ، اماما وسائسا (١٠) ولأمتك مدبّرا (١١) (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) بذلك. ولكنهم يتواطئون على اهلاكك وإهلاكه (١٢) ويوطّئون أنفسهم ، على التمرد على عليّ ، ان كانت بك كائنة.

__________________

(١) المصدر : وكدت.

(٢) أ : وطئو.

(٣) المصدر : ليدفعن.

(٤) المصدر : من.

(٥) المصدر : ولا يتركونه.

(٦) ليس في أ.

(٧) أ : عليا.

(٨) المصدر : خلق الله.

(٩) ليس في أ.

(١٠) ليس في المصدر.

(١١) المصدر : ومدبرا.

(١٢) ليس في المصدر.

١٦٢

(بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) : أي ، بالمبدأ والمعاد. اللذين هما المقصود الأعظم من الايمان. ولهذا اختصا بالذكر.

والمراد «باليوم» الذي هو اسم لبياض النهار ، زمان ممتد من وقت الحشر الى الأبد ، أو الى زمان استقرار كل في مستقره ، من الجنة والنار. وهذا أشبه باليوم الحقيقي ، في تحقق الحد من الطرفين.

وأما كونه «آخرا» ، فلتأخر (١) هذين الزمانين ، عن الأيام الدنيوية المنقضية.

وقيل في الثاني ، «لأنه آخر الأوقات المحدودة» (٢) الذي لا وقت بعده.

ورد بأنه : لا شك أن في كل ، من الجنة والنار ، أحوالا وحوادث ، كلية يمكن تحديد الأوقات بها. وقد شهدت الكلمات النبوية ، بوجودها. اللهم الا أن يقال المنفي ، هو الحد المشهور ، غاية الاشتهار.

وفي تكرير «الباء» ، ادعاء الايمان ، بكل واحد على الاصالة والاستحكام.

(وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٨) : نفي لما ادعوا. والأصل يقتضي أن يقول : وما آمنوا ، ليطابق قولهم. لكنه قدم المسند اليه وجعل المسند ، صفة. فصارت الجملة اسمية غير دالة ، على زمان (٣). لان في ذلك سلوكا ، لطريق الكناية ، في رد دعواهم الكاذبة. فان انخراطهم في سلك المؤمنين وكونهم طائفة من طوائفهم ، من لوازم ثبوت الايمان الحقيقي لهم. وانتفاء اللازم ، دل على انتفاء الملزوم. ففيه من التأكيد والمبالغة ما ليس في الملزوم ، ابتداء. وايضا ، فيه مبالغة في نفي اللازم ، بالدلالة على دوامه المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم ، مطلقا. وأكد ذلك النفي ، «بالباء» ايضا. وأطلق الايمان ، لزيادة التأكيد على معنى أنهم ليسوا من الايمان في شيء.

__________________

(١) ر : فلتأخره من.

(٢) ر. الكشاف ١ / ٥٦ ، أنوار التنزيل ١ / ٢٢.

(٣) أ : على ذات زمان.

١٦٣

أو أرادوا ما هم بمؤمنين بالله وباليوم الاخر ، بقرينة ما أجيب به عنه. ولما اعتبر التأكيد والاستمرار ، بعد ورود النفي ، لم يفد الا تأكيد النفي.

واستدل من ذهب الى أن الايمان ، ليس هو الإقرار فقط بالاية.

وأقول : الاية تدل على أن من ادعى الايمان وخالف قلبه ، لسانه بالاعتقاد ، لم يكن مؤمنا. ولا تدل على أن من تكلم بالشهادتين ، بدون الاعتقاد ، لم يكن مؤمنا. وهو المتنازع فيه.

«وأيضا ، يجوز أن يكون قولهم «آمنا» لأخبار الايمان ، لا لانشائه» (١).

وقوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) ، جملة متعلق ، خبره محذوف. والتقدير و «ما هم بمؤمنين بالله واليوم الاخر ، أو بشيء من الأشياء».

فعلى الأول ، وجهه ظاهر.

وعلى الثاني ، توجيهه ، أن نفي الايمان منهم ، مطلقا مع أن منافقي أهل الكتاب ، كانوا مؤمنين بالله واليوم الاخر ، بناء على أن ايمانهم «كلا ايمانهم» (٢) لاعتقاد التشبيه واتخاذ الولد وأن الجنة لا يدخلها غيرهم وأن النار لا تمسهم ، الا أياما معدودة ، فلو قالوا ما قالوه ، لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم هذه ، لم يكن ايمانا.

كيف وقد قالوه تمويها على المسلمين وتهكما بهم. فظهر من ذلك أن اطلاق رفع الإيجاب الكلي والسلب الكلي ، في هذه الحملية ، مسامحة ، ارتكبها العلامة السبزواري ، حيث قال في توجيه التقدير الثاني : ان قولهم هذا ، كناية عن تصديقهم بجميع الشرائع. فإذا لم يؤمنوا ببعض ، صدق رفع الإيجاب الكلي.

مع أنه يمكن أن يقال : عدم الايمان بالبعض ، كاشف عن عدم الايمان بالكل.

فيصح السلب الكلي ، على أنه يرد احتمال أن لا يكون قولهم هذا ، كناية عن الايمان بالجميع.

__________________

(١ و ٢) ليس في أ.

١٦٤

وأيضا ، لو قدر المتعلق خاصا ، بقرينة سابقة ، كان رفعا ، للإيجاب الكلي.

فلا حاجة حينئذ ، الى تقدير عمومه. فليتأمل.

وأقول : يحتمل أن يكون قوله «بمؤمنين» ، غير متعد الى شيء ، أصلا.

والمعنى ، ليس لهم وجد حقيقة الايمان. (بل ما وجد لهم ، من النفاق.

وفي كتاب الخصال (١) : عن الأصبغ بن نباتة ، قال : قال أمير المؤمنين ـ في حديث طويل : والنفاق على أربع دعائم : على الهوى ، والهوينا ، والحفيظة ، والطمع.

فالهوى (٢) على أربع شعب : على البغي ، والعدوان ، والشهوة ، والطغيان. فمن بغى كثرت غوائله وعلاته. ومن اعتدى ، لم تؤمن بوائقه ، ولم يسلم قلبه. ومن لم يعزل نفسه عن الشهوات ، خاض في الخبيثات. ومن طغى ، ضل على غير يقين. ولا حجة له.

وشعب الهوينا : الهيبة والغرة ، والمماطلة والأمل. وذلك لأن الهيبة ترد على دين الحق ، وتفرط المماطلة في العمل ، حتى يقدم الأجل. ولو لا الأمل ، علم الإنسان ، حسب ما هو فيه. ولو علم حسب ما هو فيه ، مات من الهول والوجل.

وشعب الحفيظة : الكبر ، والفخر ، والحمية ، والعصبية. فمن استكبر ، أدبر ، ومن فخر فجر ، ومن حمى ، أضر. ومن أخذته العصبية جار ، فبئس الأمر ، أمر بين الاستكبار والأدبار ، وفجور وجور.

وشعب الطمع ، أربع : الفرح ، والمرح ، واللجاجة ، والتكاثر. والفرح ، مكروه عند الله ـ عز وجل. والمرح ، خيلاء. واللجاجة ، بلاء لمن اضطرته الى حبائل الاثام. والتكاثر ، لهو وشغل واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ،

__________________

(١) الخصال ١ / ٢٣٤.

(٢) المصدر : والهوى.

١٦٥

فذلك النفاق ودعائمه وشعبه.

وفي أصول الكافي (١) : محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين ابن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن يحيى الحلبي ، عن معلى بن عثمان ، عن أبي بصير ، قال : قال لي : ان الحكم بن عيينة (٢) ممن قال الله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) فليشرّق (٣) الحكم وليغرّب ، أما والله! لا يصيب العلم ، الا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل ـ عليه السلام) (٤).

(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) : «الخدع» ، أن توهم صاحبك ، خلاف ما تريد به ، من المكروه. وتصيبه به ، مع خوف واستحياء من المجاهرة به ، وقيل : للاصابة ، لأن مجرد الارادة ، لا يكفي في تحقق الخدع.

وقوله «مع خوف أو استحياء» ، ليخرج الاستدراج الذي هو من أفعال الله تعالى ، لعدم جواز الخوف (٥) والحياء عليه سبحانه.

وهو من قولهم : ضب خادع أو خدع إذا أحس بالحارش ، أي : الصائد على باب جحره وأوهمه إقباله عليه ، من هذا الباب ، ثم خرج من باب آخر.

وأصله ، الإخفاء. ومنه المخدع على صيغة المفعول ، للخزانة. والأخدعان لعرقين خفيين في العنق.

وصيغة المخادعة ، يقتضي صدور الفعل ، من كل واحد من الجانبين ، متعلقا بالآخر. وخداعهم مع الله ، ليس على ظاهره ، لأنه لا يخفى عليه ، خافية. ولأنهم لم يقصدوا ، خديعته. بل المراد اما مخادعة رسوله ، على حذف المضاف. أو

__________________

(١) الكافي ١ / ٣٩٩ ، ح ٤.

(٢) المصدر : عتيبة.

(٣) المتن ور : فليتزق.

(٤) ما بين القوسين ليس في أ.

(٥) أ : أو.

١٦٦

على أن معاملة الرسول ، معاملة الله من حيث أنه خليفته. كما قال تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (١). (الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) (٢).

يدل على ذلك ما روي «في شرح الآيات الباهرة ، عن أبي محمد العسكري ـ عليه السلام ـ» (٣) (٤) عن موسى بن جعفر عليهما السلام : لما اتصل ذلك من مواطأتهم وقيلهم (٥) في علي وسوء تدبيرهم عليه برسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ دعاهم (٦) وعاتبهم ، فاجتهدوا في الأيمان.

فقال (٧) أوّلهم : يا رسول الله! والله ما اعتددت بشيء كاعتدادي بهذه البيعة.

ولقد رجوت أن يفسح الله بها لي ، في قصور الجنان ، ويجعلني فيها من أفضل النزّال والسّكان.

وقال ثانيهم : بأبي أنت وأمي ، يا رسول الله! ما وثقت بدخول الجنة والنجاة من النار ، الا بهذه البيعة. والله ما يسرني أن نقضتها ، أو نكثت بعد ما أعطيت من نفسي ، ما أعطيت. ولو أن لي (٨) طلاع ، ما بين الثرى ، الى العرش. لآليء رطبة وجواهر فاخرة.

وقال ثالثهم : والله (٩) يا رسول الله لقد صرت من الفرح بهذه البيعة والسرور (١٠)

__________________

(١) النساء / ٨٠.

(٢) الفتح / ١٠.

(٣) تفسير العسكري / ٥٥

(٤) ليس في أ.

(٥) المصدر وأ : قبلهم.

(٦) المصدر : فدعاهم.

(٧) المصدر : وقال.

(٨) وان لي.

(٩ و ١٠) ليس في المصدر.

١٦٧

والفسح من الآمال ، في رضوان الله (١). وأيقنت أنه لو كانت ذنوب أهل الأرض كلها عليّ ، لمحقت (٢) عني ، بهذه البيعة. وحلف (٣) على ما قال ، من ذلك.

ولعن من بلّغ عنه ، رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ خلاف ما حلف عليه.

ثم تتابع بمثل هذا الاعتذار ، من بعدهم من الجبابرة والمتمردين. قال (٤) الله ـ عز وجل ـ لمحمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : (يُخادِعُونَ اللهَ) يعني : يخادعون رسول الله ، بأيمانهم. خلاف ما في جوانحهم. (وَالَّذِينَ آمَنُوا) لذلك ، أيضا. الذين سيدهم وفاضلهم علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ.

ويحتمل أن يقال : المقصود ، أن بينهما حالة ، شبيهة بالمخادعة ، لا حقيقة المخادعة. فان صورة صنعهم مع الله ، من اظهار الايمان واستبطان الكفر ، وضع الله معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم ، وهم عنده أخبث الكفار ، واستدراجا لهم ، وامتثال الرسول والمؤمنين ، أمر الله في إخفاء حالهم ، واجراء حكم الإسلام عليهم ، صورة صنع المخادعين (٥). فشبهت تلك الصورة بهذه الصورة. فاستعمال لفظ هذه فيها ، ان وقع كان استعارة تصريحية واشتقاق يخادعون منه ، استعارة تبعية.

أو (٦) يقال : المخادعة ، محمول على حقيقتها. لكنها ترجمة ، عن معتقدهم الباطل وظنهم الفاسد. كأنه قيل : يزعمون أنهم يخدعون. وأنه يخدعهم. وكذلك المؤمنون

__________________

(١) المصدر : وما.

(٢) أ : لمحضت.

(٣) أ : خلف.

(٤) المصدر : فقال.

(٥) أ : الخادعين.

(٦) أ : و.

١٦٨

يخدعونهم.

أو يقال : المراد ، يخدعون الذين آمنوا.

وذكر الله ليس لتعليق الخدع به ، بل لمجرد التوطئة. وفائدتها ، التنبيه على قوة اختصاص المؤمنين ، بالله وقربهم منه. حتى كان الفعل (١) ، المتعلق بهم دونه يصح أن يعلق به أيضا. وكذلك الحال في «أعجبني زيد وكرمه». فان ذكر زيد توطئة وتنبيه ، على أن الكرم قد شاع فيه. وتمكن بحيث يصح أن يسند اليه ، أيضا ، الاعجاب الذي لكرمه. ومثل هذا العطف ، يسمى جاريا مجرى التفسير.

ووجه العدول عن خدع ، الى خادع ، قصد المبالغة. لان المفاعلة في الأصل للمغالبة (٢) وهي أن يفعل كل من الجانبين ، مثل صاحبه ، ليغلبه. وحينئذ يقوى الداعي الى الفعل. ويجيء ابلغ وأحكم.

«ويخادعون» ، بدل أو بيان «ليقول» لأنه وان كان واضحا في نفسه ، ففيه خفاء بالنسبة الى الغرض. ولما كان خفاؤه باعتبار الغرض منه ، اكتفى في بيانه بذكره وهو الخداع.

ويجوز أن يكون مستأنفا. كأنه قيل : ولم يدعون الايمان كاذبين. فقيل : يخادعون. وكان غرضهم من المخادعة ، اما دفع المضرة عن أنفسهم ، كالقتل والأسر ، أو جذب المنفعة ، كأخذ الغنائم ، أو إيصال (٣) المضرة الى المؤمنين ، كافشاء أسرارهم ، الى أعدائهم من الكفار.

أقول : ويحتمل أن يكون معنى يخادعون ، يريدون أن يخدعوا. اما لدلالة جوهر الصيغة عليه. واما باعتبار أن الأفعال التي من شأنها أن تصدر بالارادة

__________________

(١) أ : العقل.

(٢) أ : المبالغة.

(٣) أ : ابصار.

١٦٩

والاختيار ، إذا نسبت الى ذوي الاختيار. فهم ارادتها.

(وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) : قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو (١).

والمعنى ، ان دائرة المخادعة التي سبقت ، وهي المخادعة المستعارة للمعاملة الجارية بينهم وبين الله والمؤمنين ، المشبهة بمعاملة المخادعين.

أو المخادعة المحمولة على حقيقتها. لكن في ظنهم الفاسد.

أو المخادعة الواقعة بينهم وبين الرسول.

أو بينهم وبين المؤمنين راجعة اليهم. وضررها يحيق بهم لا يعدوهم.

أو أنهم في ذلك خدعوا أنفسهم لما غرّوها بذلك. وخدعتهم أنفسهم حيث حدّثتهم بالأماني الفارغة. وحملتهم على مخادعة من لا يخفى عليه خافية.

فعلى الأول ، يكون العبارة الدالة على قصة المخادعة ، مجازا أو كناية ، عن انحصار ضررها فيهم. ويحتمل أن يجعل لفظ الخداع ، مجازا مرسلا ، عن ضرره في المرتبة الأولى أو الثانية.

وعلى الثاني ، يكون المخادعة مستعملا في معناه حقيقة.

وقرأ الباقون : وما يخدعون.

قيل (٢) : لأن المخادعة لا يتصور الا بين اثنين.

أقول : نعم. لكن الاثنين أعم من أن يكون اثنين حقيقة أو اعتبارا. اللهم الا أن يقال : الاثنينية الحقيقية ، مشروطة لحسن (٣) المخادعة.

وقرئ ، يخدعون ، من خدع. ويخدعون ، بفتح الياء. والأصل يختدعون ، بمعنى ، يخدعون. كيقتدرون. بمعنى ، يقدرون. فأدغم. ويخدعون ويخادعون على

__________________

(١) أور : ابو عمر.

(٢) أنوار التنزيل ١ / ٢٣.

(٣) أ : بحسن.

١٧٠

لفظ ما لم يسم فاعله. وحينئذ يكون (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) ، معناه ، الّا عن أنفسهم ، على حذف حرف الجر. يقال : خدعت زيدا نفسه. أي عن نفسه : نحو : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) (١). ويحتمل النصب على التميّز ، عند من يجوز كونه معرفة.

واستعمال الخدع ، بناء على تضمينه ، معنى الصدور ، أي : ما يخدعون الا خدعا صادرا ، عن أنفسهم ، منشئا عنهما.

والنفس ، الذات. ويقال للقلب ، بمعنى العضو الصنوبري ، نفس. لأن قوام النفس ، بمعنى الذات ، بذلك. ولهذا المعنى ـ أيضا ـ يقال للروح وللدم نفس. وللماء ، لفرط حاجتها اليه. وللرأي ، في قولهم فلان يؤامر نفسه ، أي : يشاورها. لأنه ينبعث عنها ، تسمية للمسبب ، باسم السبب. أو يشبه ذاتا تأمره وتشير عليه. فيكون استعارة مبنية على التشبيه.

والمراد بالأنفس ، هنا ، ذواتهم. ويحتمل حملها على أرواحهم وآرائهم.

قيل : أن المختار عند المحققين من الفلاسفة وأهل الإسلام ، من الصوفية وغيرهم ، أنها ، أي النفس ، جوهر مجرد في ذاته ، متعلق بالبدن ، تعلق التدبير والتصرف. ومتعلقه ، أولا ، هو الروح الحيواني القلبي ، المتكون في جوفه الأيسر ، من بخار الغذاء ولطيفه. ويفيد قوة لها يسري ، في جميع البدن. فيفيد كل عضو قوة بها ، يتم نفعه. وقد يطلق على هذا الجوهر المجرد ، القلب والروح أيضا. فعلى هذا يمكن أن يراد بالأنفس ، النفوس المتعلقة بأبدانهم ، على سبيل الحقيقة. بأن يكون موضوعا لهذا الجوهر المجرد. كما للذات ، على تقدير وضعه للذات ، فقط ، إطلاقه عليه ، اما بالحقيقة ، أو المجاز. فان الذات ، لو كانت عبارة من مجموع الجثة (٢) والروح المجرد ، فإطلاق النفس عليه من اطلاق اسم الكل

__________________

(١) الاعراف / ١٥٥.

(٢) أ : الجنة.

١٧١

على الجزء. وان كانت عبارة عن الجثة (١) فقط ، فاطلاقه عليه ، لعلاقة واقعة بينهما.

وان كانت عبارة عن الروح المجرد ، فقط ، وهو الظاهر ، فان الذات في الحقيقة ما يعبّر عنه بلفظ «أنا». وهو الباقي من أول العمر الى آخره ، وما عداه كالعوارض بالنسبة اليه. ولا شك أن هذا الأمر ، هو الروح المجرد ، لا الجثة. فإنها كل يوم تتبدل. فعلى هذا اطلاق النفس ، بمعنى ، الذات عليه ، حقيقة. وفيما عداه مجاز.

وإذا أريد «بأنفسهم» ، النفوس الناطقة المتعلقة بأبدانهم ، أو القلوب ، أو الأرواح بمعناه ، فلا شك أن ضرر المخادعة الواقعة بينهم وبين الله والمؤمنين ، راجع اليها ، مقصور عليها. لكن قصرا إضافيا. فان ذلك الضرر ، يعود الى جثتهم وقلوبهم الصنوبرية وأرواحهم الحيوانية ، أيضا. فان عذابهم ، لا يكون روحانيا ، فقط.

(وَما يَشْعُرُونَ) (٩) : معطوف على قوله : (وَما يَخْدَعُونَ) ، أو على قوله : (يُخادِعُونَ).

وقيل : معترضة من الشعور. وهو ادراك الشيء بالحاسة. مشتق من الشعار.

وهو ثوب يلي شعر الجسد. ومنه مشاعر الإنسان ، أي : حواسه الخمسة التي يشعر بها. لأنها متلبسة بجسده. كالشعار. أو من الشعر. وهو ادراك الشيء من وجه يدق ويخفى.

والأول ، أبلغ وأنسب بالمقام. لان فيه أشعارا بانحطاطهم ، عن مرتبة البهائم حيث لا يدركون أجلى المعلومات. أعني ، المحسوسات التي تدركه (٢) البهائم.

ولذلك اختاره على ما يعلمون.

ومفعوله ، محذوف. فاما أن يقدر للعلم به. والمعنى ، وما يشعرون أن وبال

__________________

(١) أ : الجنة.

(٢) أ : تركه.

١٧٢

خداعهم راجع الى أنفسهم. أو اطلاع الله عليهم. أو ينزل منزلة اللازم. ولا يقدر له مفعول. وحينئذ ، اما أن لا يجعل ، كناية عنه ، متعلقا بمفعول خاص. أو يجعل.

والثاني أبلغ (١) من الاول. والثالث أبلغ منه.

(وفي شرح الآيات الباهرة (٢) ـ في الحديث السابق ـ : عن موسى بن جعفر ـ عليهما السلام ـ ثم قال : (وَما «يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) (٣) ، وما يضرون بتلك الخديعة ، الا أنفسهم. فان الله غني (٤) عن نصرتهم. ولو لا إمهاله لهم (٥) ، لما قدروا على شيء من فجورهم وطغيانهم. وما يشعرون أن الأمر كذلك. وان الله يطلع نبيه على نفاقهم وكفرهم وكذبهم. ويأمره بلعنهم في لعنة الظالمين الناكثين. وذلك اللعن لا يفارقهم في الدنيا ، يلعنهم خيار عباد الله. وفي الاخرة يبتلون بشدائد عذاب (٦) الله.

وفي كتاب ثواب الأعمال (٧) : بإسناده الى مسعدة بن زياد ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ـ عليهما السلام ـ : ان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ سئل فما (٨) النجاة غدا؟

قال : انما النجاة في أن لا تخادعوا الله ، فيخدعكم. فانه من يخادع الله ،

__________________

(١) أ : والثاني أبلغ والثالث أبلغ منه.

(٢) تفسير العسكري / ٥٥.

(٣) ليس في المصدر.

(٤) المصدر : غنى عنهم.

(٥) النسخ : إمهالهم.

(٦) المصدر : عقاب.

(٧) ثواب الاعمال / ٣٠١.

(٨) المصدر ، فبما.

١٧٣

يخدعه. ويخلع (١) منه الايمان. ونفسه يخدع لو يشعر.

قيل له : وكيف (٢) يخادع الله؟

قال : يعمل ما أمره الله ـ عز وجل ـ ثم يريد به غيره. فاتقوا الله والرياء. فانه شرك بالله.

وفي مصباح الشريعة (٣) : قال الصادق ـ عليه السلام ـ : واعلم! انك لا تقدر على إخفاء شيء من باطنك عليه (٤). وتصير مخدوعا بنفسك. قال الله تعالى (يُخادِعُونَ اللهَ) ورسوله (٥) (وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٦).

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : جملة مستأنفة ، لبيان الموجب لخداعهم ، وما هم فيه من النفاق. ويحتمل أن يكون مقدرة ، لعدم شعورهم.

وقرئ مرض ، بسكون الراء. وهو صفة توجب وقوع الخلل ، في الافعال الصادرة ، عن موضع تلك الصفة. ويمكن اتصاف القلب به. وذلك لأن الإنسان إذا صار مبتليا بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه ، فإذا دام به ذلك ، صار سببا لتغير مزاج القلب وتألمه. واتصاف قلوب المنافقين ، بهذا التغير (٧) ، غير معلوم. فالمراد به هنا المعنى المجازي ، الذي هو آفته ، كسوء الاعتقاد والكفر ، أو هيئة باعثة على ارتكاب الرذائل ، كالغل والحسد والبغض ، أو مانعة عن اكتساب الفضائل ، كالضعف

__________________

(١) المصدر : ينزع.

(٢) المصدر : فكيف.

(٣) مصباح الشريعة / ٢٨١ ـ ٢٨٢.

(٤) المصدر : عليك.

(٥) ليس في المصدر.

(٦) ما بين القوسين ليس في أ.

(٧) أ : التفسير.

١٧٤

أو الجبن والخور ، لان قلوبهم كانت متصفة بهذه الاعراض كلها.

وفي تقديم الخبر فائدتان : تخصيص المبتدأ النكرة وافادة الحصر ، ادعاء.

(فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) : معطوف على الجملة السابقة.

والمعنى أنه لما كان في قلوبهم ، مرض واستعداد للمرض ، فزيد مرضهم.

والمراد «بالزيادة» ، الختم على قلوبهم ، حتى لا يخرج شيء من هذه النقائص ولا يدخل شيء ممّا لها ، من النقائض. وانما أتى بالجملة الفعلية ، في المعطوف ، دون المعطوف عليه ، لتجدد ذلك التزايد ، يوما فيوما. بخلاف أصل المرض. فانه كان ثابتا مستقرا في قلوبهم.

ويمكن أن يراد «بالزيادة» ، زيادته بحسب زيادة التكاليف وتكرير الوحي وتضاعف النصر. فحينئذ يكون اسناد الزيادة الى الله ، من حيث أنه مسبب من فعله أو دعائية. والمتعين حينئذ ، هو المعنى الاول.

و «الزيادة» يجيء لازما ومتعديا الى مفعولين ، كما في الاية أيضا. فحينئذ يكون مفعوله الثاني ، «مرضا» ، أو محذوفا ، أي : فزادهم الله مرضهم. وقيل : الاول محذوف. وهو تكلف.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) : قال البيضاوي (١) : أي مؤلم. يقال : ألم فهو أليم ، كوجع فهو وجيع (٢). وصف به العذاب للمبالغة ، كقوله : تحية بينهم ، ضرب وجيع ورد بأن : فعيل بمعنى مفعل. اسم فاعل غير ثابت ، على ما سيجيء في قوله (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٣) فهو بمعنى المؤلم ، اسم مفعول ، كوجع فهو وجيع بمعنى الموجع. وانما أسند الى العذاب ، لأنه من ملابسات فاعله الذي هو المعذب

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ٢٤.

(٢) أ : كرجع فهو رجيع.

(٣) البقرة / ١١٧ ، الانعام / ١٠١.

١٧٥

كما أسند الربح الى التجارة في قوله تعالى (١) (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) ، لأنها من ملابسات التاجر. وفيه مبالغة وتنبيه على أن الألم ، بلغ الغاية (٢). بحيث عرض لصفة المعذب ، كما عرض له. وعلى هذا يكون المجاز في الاسناد.

ولو جعل المؤلم (٣) بمعنى ما يلابسه الألم ، لأنهما متلاقيان في موصوف واحد فيكون المجاز في المفرد. لكن يفوت (٤) المبالغة. ووجه أنه تعالى قال في حق المصرين على الكفر : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ، ولم يذكر له سببا وفي حق المنافقين : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) ، وبين أن سببه الكذب ، أن الكافرين المصرين هم المطرودون. فينبغي أن يكون عذابهم عظيما. لكنهم لا يجدون شدة ألمه ، لعدم صفاء قلوبهم ، كحال العضو الميت أو المفلوج ، إذا وقع عليه القطع.

والمنافقين لثبوت استعدادهم في الأصل وبقاء ادراكهم في الجملة ، يجدون شدة الألم ، فيكون عذابهم مؤلما مسببا عن الكذب ولواحقه. بخلاف عذاب المصرين.

فانه ذاتي لهم. لا لأمر عارض.

وفي تقديم الخبر هاهنا ـ أيضا ـ فائدتان : زيادة تخصيص المبتدأ النكرة وافادة الحصر ، ادعاء.

(بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)) : «قراءة عاصم وحمزة والكسائي» (٥).

«والكذب» ، الاخبار عن الشيء ، بغير ما هو عليه.

وقرئ يكذبون ، من كذبه ، نقيض صدقه ، أو من كذب الذي هو للمبالغة والتكثير أو من كذب الوحشي ، إذا جرى شوطا. ووقف لينظر ما ورائه. فان المنافق ،

__________________

(١) البقرة / ١٦.

(٢) ر : العناية.

(٣) ليس في أ.

(٤) أ : بقوة.

(٥) ر. أنوار التنزيل ١ / ٢٤.

١٧٦

متحير متردد.

«والباء» للسببية ، أو البدلية المتعلقة بالظرف ، في قوله (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)» و «ما» مصدرية. ويحتمل الموصولية والموصوفية.

واستدل الذاهبون الى قبح الكذب ، مطلقا ، بالاية ، بأنه جعل عذابهم الأليم سببا لكذبهم. وتخصيصه بالذكر ، من بين جهات استحقاقهم إياها ، مع كثرتها ، مبالغة في قبح الكذب ، لينزجر السامعون عنه. وقيل : نمنع قبحه ، مطلقا. فانه قد يمكن أن يتضمن عصمة دم مسلم ، بل نبي ولا يتيسر التعريض ، فيحسن.

ورد ، بأن الحسن العارضي ، لا ينفي القبح الذاتي ، وهو المراد بالقبح ، هاهنا. فعلى هذا يحرم الكذب. سواء تعلق به غرض ، أو لم يتعلق. أما إذا لم يتعلق فظاهر. واما إذا تعلق فلأن في المعاريض لمندوحة عنه والتعريض ، ليس بكذب إذا كان المعرض به مطابقا للواقع. فان مرجع الصدق والكذب ، الى المراد من الكلام الخبري ، لا الى مطلق مدلوله. وما ينسب الى ابراهيم من الكذبات الثلاث من قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) (١) ، سأسقم. وقد علمه : بأمارة من النجوم. أو اني سقيم الآن بسبب غيظي وحنقي ، من اتخاذكم الآلهة.

وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) (٢). والمراد به أنه إذا لم يقدر على دفع المضرة عن نفسه وغيره فكيف يصلح إلها. أو أن تعظيمه كان هو الحامل له على كسرها.

وقوله لملك الشام : «ان سارة اختي». ومراده الاخوة في الدين.

وقيل كذباته الثلاث (٣) ، قوله في الكواكب : (هذا رَبِّي) (٤) ، ثلاث مرات.

__________________

(١) الصافات / ٨٩.

(٢) الأنبياء / ٦٣.

(٣) ر. الكشاف ١ / ٦١ ، أنوار التنزيل ١ / ٢٤.

(٤) الانعام / ٧٨.

١٧٧

وقصد به الحكاية أو الفرض ليرشدهم ، الى عدم صلاحية الألوهية ، فمحمول على التعريض. ولكن لما كان صورته ، صورة الكذب ، سمي به. ووجه إيراد كان الدالة على المضي. و «يقولون» و «يخادعون» و «يخدعون» ، للحال.

ووقوع كلام المنافقين ، قبلها ، ليس بمعلوم أن كذبهم ، سبب لثبوت العذاب لهم في الاستقبال أو للحكم به في الحال ، فينبغي أن يكون متقدما على ما هو سبب له.

فالمراد بالمضي ، هذا التقدم ، سواء كان بالزمان ، أو بالذات.

قال بعض الفضلاء : وإذ قد أوقعنا المباحث اللفظية ، في وادي التفرقة ، فلا بد أن نستريح باستشمام روائح رياض الجمعية. فنقول :

و «من الناس» ، الناسي اعترافهم ، في معهد (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) ، بربوبية ربهم ، بتجلّيه العلمي ـ أولا ـ بصور أعيانهم الثابتة على نفسه ، وتجلّيه الوجودي ـ ثانيا ـ بصور أعيانهم الخارجية ، وتربيته (١) إياهم ، طورا بعد طور ومرتبة بعد مرتبة ، الى أن وصلوا الى هذه النشأة الجسمانية العنصرية ، «من يقولون» بألسنة أقوالهم «آمنا بالله» أحدية جمع الأسماء الالهية السارية ، بالكل في الكل. فلا فاعل ، بل لا موجود في الوجود ، الا هو. فهو الفاعل في كل عين ، إذ لا فعل للعين. بل الفعل له. ولكن فيها «وباليوم الاخر» ، أي بتجلّيه النوري الوجودي آخرا بالاسم المجازي لجزاء الأعمال. فلا مجازي الا هو. فهو العامل وهو المجازي على العمل فهم وان كانوا مؤمنين بالقول ، صورة ، فما هم بمؤمنين بالحال حقيقة. إذ حقيقة الايمان بالله سبحانه ، يقتضي أن لا يسند الآثار ، الا اليه. بل لا يرى في الوجود ، الا هو. فحيث قالوا «آمنا» ، وما قالوا بتجلي (٢) الحق في صورة ، منوطة باسمه

__________________

(١) أ : ترتيبه.

(٢) أ : تجلى.

١٧٨

المؤمن ، اشتقوا الايمان ، لأنفسهم. وهذا شركه (١) في التوحيد. (يُخادِعُونَ اللهَ) أي يظهرون بألسنة أقوالهم الظاهرة ، ما لم يتحققوا به في بواطنهم ، وهو الايمان بالله.

فلا يوافق ظاهرهم ، باطنهم ، وكذلك يخادعون الذين آمنوا ، أي : الذين تجلى عليهم بالاسم المؤمن. فسوى هذا التجلي في ظاهرهم وباطنهم. فآمنوا صورة وحقيقة (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ). إذ الأشياء في حقيقة الوحدة الجمعية إلاهية ، متحدة ، بعضها مع بعض. ومع تلك الحقيقة ، ايضا ، فكل شيء نفس الأشياء الاخر. ونفس تلك الحقيقة ، ايضا من هذه الحيثية. «و» لكنهم «ما يشعرون» بذلك الاتحاد ، لاغتشاء مشاعرهم ، بصورة التعينات الحجابية والتعددات المظهرية ، في قلوبهم التي من صفتها ، صحة التقلب مع الشؤون الالهية ، بحيث لا يحجبها شأنا (٢) من شهوده تعالى «مرض» (٣) يضاد هذه الصحة. ويمنعها عن الظهور.

(فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) على مرض ، بازدياد أضداد تلك الصحة. وتتابعها. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بسبب كذبهم في قولهم «آمنا» وتكذيبهم إياه ، بحسب حالهم.

والغرض من نقل أمثال هذه المباحث ، الاطلاع على الآراء الكاسدة والاهواء المضلة. فان الحق يعرف بضده.

و «في شرح الآيات الباهرة» : (٤) وقد جاء في هذه الاية ، منقبة عظيمة وفضيلة جسيمة ، لمولانا أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ في تفسير الامام العسكري ـ عليه السلام ـ (٥) : قال : قال موسى بن جعفر عليهما السلام : ان رسول الله ـ صلى الله

__________________

(١) ر : شركة.

(٢) النسخ : شأن.

(٣) النسخ : مرضا.

(٤) ليس في أ.

(٥) تفسير العسكري / ٥٧.

١٧٩

عليه وآله ـ لما اعتذر اليه هؤلاء المنافقون (١). بما اعتذروا وتكرم عليهم ، بأن قبل ظواهرهم. و «أما» (٢) بواطنهم الى ربهم. لكن جبرئيل ـ عليه السلام ـ أتاه فقال [يا محمد] (٣) ان العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ، ويقول : أخرج هؤلاء (٤) المردة الذين اتصل بك عنهم ، في علي ونكثهم لبيعته. وتوطينهم نفوسهم على مخالفته (٥) «ما اتصل حتى» (٦) ليظهر من عجائب ما أكرمه الله به ، من طاعة (٧) الأرض والجبال والسماء له وسائر ما خلق الله ، لما أوقفه موقفك ، واقامه مقامك. ليعلموا أن ولي الله علي غني عنهم ، وأنه لا يكف عنهم ، انتقامه (٨) ، الا بأمر الله الذي له فيه وفيهم التدبير. الذي هو بالغه والحكمة التي هو عامل بها. وممض لما يوجبها.

فأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ الجماعة [من الذين اتصل به عنهم ما اتصل في أمر علي ـ عليه السلام ـ والمواطاة على مخالفته] (٩) بالخروج.

«ثم قال» (١٠) لعلي ـ عليه السلام ـ لما استقر عند سفح بعض جبال المدينة : يا علي! ان الله ـ عز وجل ـ أمر هؤلاء بنصرتك ومساعدتك والمواظبة على خدمتك والجد في طاعتك. فان أطاعوك ، فهو خير لهم. يصيرون في جنان الله ، ملوكا

__________________

(١) المصدر : لما اعتذر هؤلاء المنافقون اليه.

(٢) المصدر : وكل.

(٣) يوجد في المصدر.

(٤) المصدر : بهؤلاء.

(٥) المصدر : في نعتهم عليا.

(٦) ليس في المصدر.

(٧) المصدر : طواعية.

(٨) المصدر : انتقامه منهم.

(٩) يوجد في المصدر.

(١٠) المصدر : عليه فقال.

١٨٠