تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ١

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي


المحقق: حسين درگاهى
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٩

وأضيعت ، كانت كالشيء الكاسد. الذي لا يرغب فيه.

وأن يجعل من قولهم : قام بالأمر ، أي : تجلد وتشمر له. فإقامة الصلاة ، على هذا ، جعلها متجلدة متشمرة (١) لإخراج المصلي ، عن عهدة أدائها ، أو انقاذها ، عن تبعة تركها. ولا يتيسر ذلك الا بتجلد المصلي وتشمره لها. فجعل كناية عنه.

وبالجملة ، فالمراد بإقامتها ، تحصيلها. الذي هو أداؤها ـ مطلقا. أو تعديل أركانها الظاهرة ، وتقديم حقائقها الباطنة. أو الدوام والمحافظة عليها. أو التجلد والتشمر ، لأدائها.

و «الصلاة» ، فعلة ، من «صلى». كالزكاة ، من زكى ، كتبت بالواو على لفظ المفخم اسم الفاعل. والتفخيم هنا ، امالتها نحو الواو.

وقيل : للدلالة على أنها واوية. والمشهور أنها في اللغة ، بمعنى «دعا».

وورود «الصلاة» ، بمعنى «الدعاء» ، في كلام العرب ، قبل شرعية الصلاة ، المشتملة على الأركان المخصوصة. وفي كلام من لا يعرفها ، دليل على ذلك. ثم نقلت الى ذات الأركان ، لاشتمالها على الدعاء.

أو لأنها دعاء بتمامها ، بالألسنة الثلاثة ، القول والفعل والحال. ووجه اطلاق المصلي على الداعي ، ظاهر.

«وقيل : انها من «صلى» بمعنى حرك الصلوين» (٢) ، أي : طرفي الأليتين.

وذلك لأن أول ما يشاهد من أحوال الصلاة ، انما هو تحريك الصلوين ، للركوع.

فان القيام ، لا يختص بالصلاة. وانما سمي الداعي ، مصليا ، تشبيها له ، في تخضعه بالراكع والساجد واقامة الصلاة ، أعم من المفروضات والمسنونات.

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣) :

«الرزق» ، في الأصل ، الإخراج. لأن التركيب وقلبه ، أعني زرق. يدلان

__________________

(١) المتشمرة.

(٢) ر. أنوار التنزيل ١ / ١٧.

١٢١

عليه. وشاع في اللغة ، أو لا على إخراج حظ الى آخر ، ينتفع به. وهذا يلائم ما يذهب اليه بعضهم. حيث يجعلون الرزق عاما ، بحيث يتناول كل غذاء جسماني ، كالأطعمة والأشربة وغيرهما ، وروحاني كالعلوم والمعارف. ثم شاع ـ استعمالا وشرعا ـ على إعطاء الحيوان ، ما ينتفع به. ويستعمل بمعنى المرزوق كثيرا.

والمعتزلة ، لما استحالوا من الله أن يمكّن من الحرام ، لأنه منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه ، قالوا : الحرام ليس برزق.

وأسند الرزق هنا ، الى نفسه إيذانا. بأنهم ينفقون الحلال [المطلق] (١) فان انفاق الحرام لا يوجب المدح. وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله ، بقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) (٢) (٣).

والأشعرية جعلوا الاسناد ، للتعظيم والتحريص ، على الإنفاق. والذم ، لتحريم ، ما لم يحرم. واختصاص ما رزقناهم بالحلال ، للقرينة. وتمسكوا في شمول الرزق له

، بقوله ـ عليه السلام ـ في حديث عمرو بن قرة : لقد رزقك الله طيبا ، فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه ، مكان ما أحل الله لك من حلاله.

وبأنه لو لم يكن رزقا ، لم يكن المغتذي به طول عمره ، مرزوقا. وليس كذلك لقوله تعالى (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) (٤). وأنفق الشيء وأنفده اخوان. وكذا كل ما كان فاؤه ، نونا وعينه ، فاء ، يدل على معنى الذهاب والخروج.

والمراد من «انفاق ما رزقهم الله» ، صرف المال في سبيل الخير ، من الفرض والنفل (٥). ومن فسر بالزكاة ، ذكر أفضل أنواعه. والأصل فيه أو خصصه

__________________

(١) يوجد في المصدر.

(٢) يونس / ٥٩.

(٣) ر. أنوار التنزيل ١ / ١٧.

(٤) هود / ٦.

(٥) أ : النقل.

١٢٢

بها ، لاقترانه بما هو شقيقها.

وتقديم المفعول ، للاهتمام ، أو لتخصيص الإنفاق ، ببعض المال الحلال ـ تأكيدا ـ لما يقيده (١) «من» التبعيضية ، أو للمحافظة على رؤوس الآي.

«وما» المجرورة ، موصولة ، أو موصوفة. والعائد ، محذوف. والتقدير ، رزقناهموه ، أو رزقناهم إياه. وانما حذف العائد ، الذي هو كناية عن الرزق.

لا العائد الى المرزوقين. ليكون الوجود اللفظي ، على طبق الوجود العيني ، لانطواء الرزق في المرزوق واختفائه فيه.

ويحتمل أن يكون «ما» ، مصدرية. ويكون المصدر ، بمعنى المفعول. وأن يكون من لابتداء الغاية. لا للتبعيض.

أقول : انما كنى بضمير الجمع ، عن نفسه. وهو واحد لا شريك له. لأنه خطاب الملوك. وهو مالك الملوك.

ووجه ذلك عند بعضهم ، أن ما يصدر عن الله سبحانه ، من الأفعال ، انما «هو بوساطة» (٢) الأسماء. وللأسماء جهتان : وحدة حقيقية من حيث الذات ، وجهة كثرة.

نسبيته (٣) من حيث النسب والاعتبارات. فإذا اقتضى المقام ، اعتبار الجهة الاولى أتى بما يدل على الوحدة (٤) (وإذا اقتضى المقام ، اعتبار الجهة الثانية أتى بما يدل على الكثرة) (٥) ولما اعتبر هنا ، جانب المرزوقين ، روعيت الجهة الثانية.

فان لكل مرزوق ، استعدادا خاصا ، يطلب رزقه من اسم خاص ، يناسبه.

__________________

(١) أ : يقيده.

(٢) أ : بواسطة.

(٣) أ : نسية.

(٤) أ : الكثرة.

(٥) ما بين القوسين غير موجود في أ.

١٢٣

قيل : ولا يبعد أن يقال : المراد «بالاتفاق» ، أنهم يتصدقون للفطر ، حين يصومون ، ولأداء الزكاة ، عند وجود النصاب ، وحولان الحول. وينفقون لأداء الحج ، للزاد والراحلة ، لأنفسهم ولرفقائهم. فيكون قوله تعالى «بالغيب» ، اشارة الى أول ركن من أركان الإسلام. وقوله «ويقيمون» ، الى ثانيها. وقوله (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) ، الى الثلاثة الباقية.

وقد (١) روي (٢) في معنى الاية ، ان المتقين ، هم الشيعة ، الذين يؤمنون بالغيب.

وهو ، البعث والنشور وقيام القائم والرجعة. و (مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، مما علمناهم من القرآن يتلون.

(وفي مجمع البيان (٣) : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، روى محمد بن مسلم ، عن الصادق ـ عليه السلام ـ أن معناه ، ومما علمناهم يبثّون) (٤).

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) : مرفوع أو منصوب. عطفا على (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ). أو مجرور ، عطفا عليه ، أو على «المتقين».

فعلى الاول ، يكون دخوله ، تحت «المتقين» ، دخول أخصين ، تحت أعم.

إذ المراد «بأولئك» ، «الذين آمنوا» عن شرك وانكار. وبهؤلاء ، مقابلوهم. فيكون الآيتان ، تفصيلا للمتقين.

وعلى الثاني ، لا يكون مندرجا تحت «المتقين». والمعنى «هدى للمتقين» ، عن الشرك. و «الذين آمنوا» من أهل الملل.

فعلى هذا ، يكون المراد بالأولين ، المؤمنين عن الشرك وبالأخيرين ، المؤمنين

__________________

(١) ليس في أ.

(٢) تفسير العياشي ١ / ٢٦.

(٣) مجمع البيان ١ / ٣٩.

(٤) ما بين القوسين ليس في أ.

١٢٤

من أهل الكتاب. كعبد الله بن سلام وأضرابه.

وعلى التقديرين ، يحتمل أن يراد بهم ، الأولون بأعيانهم. ووسط العاطف كما وسط في قوله :

الى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وقوله :

يا كهف (١) زيابة للحارث

الصالح والغانم (٢) فالايب

والمعنى ، أنهم الجامعون بين الايمان بما يدركه العقل ـ جملة ـ والإتيان بما يصدقه من العبادات البدنية والمالية ، وبين الايمان بما لا طريق اليه غير السمع.

وكرر الموصول ، تنبيها على تباين السبيلين. أو طائفة منهم. وهم مؤمنوا أهل الكتاب. ذكرهم مخصصين عن الجملة ـ كذكر جبرئيل وميكائيل بعد الملائكة ، تعظيما لشأنهم وترغيبا لأمثالهم (٣).

ويحتمل أن يكون مع ما عطف عليه ، مبتدأ. «وأولئك» ، خبره.

والانزال ، تحريك الشيء من العلو الى السفل. فالمراد بالمنزل ، ان كان الكلام ، الذي هو صفته ، فانزاله ، تحريكه بالحركة المعنوية الى مظاهره السفلية بعد ظهوره في المظاهر العلوية. فانه يظهر أولا في المظاهر العقلية ، ثم النفسية ، ثم المثالية ثم الحسية.

(وان كان كلامه الذي هو القرآن المنتظم من الحروف والكلمات ، وانزاله تحريكه من المعاني العلمية الالهية العقلية النفسية ، ثم الى صور الحروف والكلمات

__________________

(١) المصدر : يا لهف.

(٢) المصدر : فالغانم.

(٣) ر. أنوار التنزيل ١ / ١٨.

١٢٥

المثالية ، ثم الحسية) (١).

وعلى هذا ، يكون الانزال مستعملا في معناه المجازي. فيكون من قبيل المجاز في المفرد. ولك أن تجعله من قبيل المجاز في الاسناد ، بأن يكون الانزال مستعملا في معناه الحقيقي. ويسند الى القرآن ، باعتبار حامله الذي هو جبرئيل ـ صلوات الله عليه ـ وانما جاء بصيغة الماضي وان كان بعضه مترقبا تغليبا (٢) للموجود ، على ما لم يوجد. أو تنزيلا للمنتظر ، منزلة الواقع. ونظيره قوله تعالى (٣) : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى). فان الجن ، لم يسمعوا جميعه. ولم يكن الكتاب ، كله حينئذ ، منزلا. والمعنى «الذين يؤمنون بالقرآن الذي أنزل اليك بعد ظهورك» بالوجود الجسماني الشهادي. وانما قيدنا بذلك ، لأنه بحسب الوجود الروحاني العيني مقدم على الكل.

قال ـ صلى الله عليه وآله ـ (٤) : كنت نبيا ، مبعوثا من عند الله ، في العالم الروحاني الى الأرواح البشريين والملكيين. وآدم بين الماء والطين.

أي ، لم يكمل بدنه الجسماني الشهادي بعد ، فكيف من دونه من أنبياء أولاده؟

والايمان به ، جملة ، فرض عين وتفصيلا ، من حيث إنا متعبدون بتفاصيله ، فرض ، لكن على الكفاية. لأن وجوبه ، على كل أحد ، يوجب الحرج وفساد المعاش.

(وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) : مجرور ، معطوف على «ما أنزل قبله» ، أي : قبل وجودك الجسماني الشهادي. والمراد به ، التوراة والإنجيل وغيرهما.

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في أ.

(٢) أ : تقليبا.

(٣) الأحقاف / ٤٦.

(٤) مناقب ابن شهر آشوب ١ / ٢١٤.

١٢٦

والايمان به جملة ، فرض عين.

وقرأ يزيد بن قطيب ، بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك ، على لفظ ما سمي فاعله.

أقول : ومن جملة ما أنزل الى النبي والى الأنبياء قبله ـ عليهم السلام ـ بل العمدة والأصل ، خلافة علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ عنه ، بلا وساطة (١) أحد غيره.

يدل على ذلك ما روي (في التفسير المنسوب الى الحسن العسكري (٢) ـ عليه السلام :) أنه قد حضر رجل عند علي بن الحسين ـ عليهما السلام ـ فقال : ما تقول في رجل يؤمن بما أنزل على محمد. وما أنزل [على] (٣) من قبل. ويؤمن بالاخرة ويصلي ويزكي. ويصل الرحم. ويعمل الصالحات. لكنه «يقول مع ذلك» (٤) :لا أدري الحق لعلي أو لفلان؟

فقال [له] (٥) علي بن الحسين ـ عليهما السلام ـ : ما تقول أنت في رجل يفعل هذه الخيرات كلها الا (٦) أنه يقول : لا أدري النبي محمد أو مسيلمة؟ هل ينتفع بشيء من هذه الافعال؟

فقال : لا.

__________________

(١) أ : واسطة.

(٢) تفسير العسكري / ٤٣.

(٣) يوجد في المصدر.

(٤) المصدر : مع ذلك يقول.

(٥) يوجد في المصدر.

(٦) أ : على.

١٢٧

فقال (١) : فكذلك (٢) صاحبك هذا. كيف يكون مؤمنا بهذه الكتب (وبالاخرة؟ أو منتفعا بشيء) (٣) لا يدري (٤) أمحمد النبي أو (٥) مسيلمة [الكذاب] (٦)؟ فكذلك كيف يكون مؤمنا بهذه الكتب وبالاخرة (٧) أو منتفعا بشيء (٨) (من أفعاله) (٩) من لا يدري أعلي المحق أم فلان؟

(وفي شرح الآيات الباهرة (١٠) ، منقول عن التفسير المذكور قال الامام ـ عليه السلام : قال الحسن بن علي ـ عليهما السلام : من دفع فضل أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ فقد كذب بالتوراة والإنجيل والزبور وصحف ابراهيم وبسائر كتب الله المنزلة. فانه ما (نزل) (١١) شيء منها ، الا وأهم ما فيه بعد الأمر بتوحيد الله والإقرار بالنبوة ، الاعتراف بولاية علي والطيبين من آله) (١٢).

(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٤) : معطوفة على «يؤمنون» ، أي : يوقنون إيقانا.

__________________

(١) ليس في المصدر.

(٢) المصدر : وكذلك.

(٣) ما بين القوسين مشطوب في المتن وغير موجود في ر ويوجد في المصدر.

(٤) المصدر : من لا يدرى.

(٥) المصدر وأ : أم.

(٦) يوجد في المصدر.

(٧) ليس في المصدر.

(٨) المصدر : به بشيء.

(٩) ليس في المصدر.

(١٠) تأويل الآيات الباهرة / ٧.

(١١) المصدر : أنزل.

(١٢) ما بين القوسين ليس في أ.

١٢٨

زال معه ما كانوا عليه ، من أن الجنة لا يدخلها الا من كان هودا أو نصارى.

وأن النار لم تمسهم الا أياما معدودة.

واختلافهم في نعيم الجنة ، أهو من جنس نعيم الدنيا ، أو غيره ، وفي دوامه وانقطاعه.

و «الاخر» ، اسم فاعل ، من آخر بالتخفيف ، بمعنى تأخر. الا أنه لم يستعمل.

والاخرة ، تأنيثها. وهي صفة الدار. أو النشأة. بدليل قوله : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) (١) وتنشئ (٢) النشأة الاخرة. وهي صفة غالبة على تلك الدار. أو النشأة ، كالدنيا. على هذه حتى قلّما يستعملان (٣) في غيرهما. وقد جرتا مع تلك الغلبة ، مجرى الأسماء ، بترك موصوفيهما. حتى كأنهما ليستا من قبيل الصفات.

وانما سميت «آخرة» ، لتأخرها عن الدنيا. كما سميت «الدنيا» دنيا ، لكونها أدنى وأقرب إلينا من الاخرة. أو لكونها أقرب النشآت الى الاخرة. وذلك لأن للنفس الناطقة ، حالتين ، حالة تعلقها بالبدن. واشتغالها (٤) بتدبيره. والإتيان بواسطته بالأعمال الحسنة والسيئة ، وحالة انقطاعها عن البدن ، وعدم التمكن من الاشتغال بتدبيره ، وترتب الاجزية على أعمالها من اللذات والآلام.

ولا شك أن الانتقال من الحالة الأولى ، التي هي الدنيا ، الى الثانية ، التي هي الاخرة ، آني دفعي. لا زماني تدريجي. بخلاف سائر النشآت. فانه يتخلل بينها وبين الاخرة ، النشأة الدنيوية.

وعن نافع ، أنه خففها بحذف الهمزة ، وإلقاء حركتها على اللام.

__________________

(١) القصص / ٨٣.

(٢) أ : ينشئ.

(٣) أ : يستعلمون.

(٤) أ : اشغالها.

١٢٩

و «الإيقان» ، إتقان العلم بنفي الشك والشبهة عنه ، بالاستدلال. ولذلك لا يوصف به علم الباري تعالى والعلوم الضرورية.

لا يقال : أيقنت أن السماء فوقي.

يقال : يقنت ـ بالكسر ـ يقينا. وأيقنت واستيقنت وتيقنت ـ كله ـ بمعنى.

وهو في أصل اللغة ينبئ (١) عن السكون والظهور.

يقال : يقن الماء ، إذا سكن. فظهر ما تحته.

وقرئ «يوقنون» ، بقلب الواو ، همزة ، لضم ما قبلها ، اجراء لها مجرى المضمونة في وجوه ووقتت (٢) ونظيره :

لحب الموقدان (٣) الي موسى

وجعدة إذ اضاءهما الوقود

وفي هذا الكلام ، تقديمان ، يفيد كل منهما القصر :

أحدهما ـ تقديم الظرف ، أعني «بالاخرة». للقصر عليه. كما في قوله تعالى :(لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (٤) ، يعني : انهم يوقنون بحقيقة الاخرة. لا بما هو على خلاف حقيقتها. كما يزعم بعض اليهود.

وثانيهما ـ تقديم المسند اليه ، أعني «هم». وبناء الفعل عليه ، كما في قولك أنا سعيت في حاجتك ، يعني : أن الإيقان بالاخرة ، مقصور عليهم. لا يتجاوزهم الى أهل الكتاب.

وفي هذين القصرين ، التعريض ببعض أهل الكتاب ، وبما هم عليه من أمر الاخرة.

__________________

(١) أ : بنى.

(٢) أ : وقنت.

(٣) أ : المؤتدان.

(٤) آل عمران / ١٥٨.

١٣٠

(وفي شرح الآيات الباهرة (١) : قال الامام أبو محمد العسكري ـ عليه السلام ـ ثم وصف هؤلاء الذين يقيمون الصلاة ، فقال : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ، يا محمد! (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) ، على الأنبياء الماضين ، كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف ابراهيم وسائر «كتب الله» (٢) المنزلة على أنبيائه ، بأنها (٣) حق وصدق من عند «رب العالمين العزيز الحكيم» (٤). (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) ، بالدار الاخرة بعد هذه الدنيا ، يوقنون. لا يشكون فيها ، أنها الدار التي فيها جزاء الأعمال الصالحة ، بأفضل مما عملوا. وعقاب الأعمال السيئة ، «بمثل ما كسبوا» (٥)) (٦).

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) : الجملة في محل رفع ، ان جعل أحد الموصولين ، مفصولا عن «المتقين» ، خبر له. وكأنه لما قيل : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ، قيل : ما بالهم خصوا بذلك. فأجيب بقوله : الذين ـ الخ. والا ، فاستئناف ، لا محل لها. وكأنه نتيجة الأحكام والصفات المتقدمة ، أو جواب سائل قال للموصوفين بهذه الصفات : اختصوا بالهدى.

ويحتمل أن يكون الموصول الأول ، موصولا «بالمتقين» والثاني مفصولا عنه (٧). مبتدأ. «وأولئك» ، خبره. و «أولئك» ، اسم اشارة ، يشترك فيه جماعة الذكور والإناث. وهي هنا اشارة الى «المتقين» الموصوفين بتلك الصفات ، لا

__________________

(١) تأويل الآيات الباهرة / ٧.

(٢) المصدر : الكتب.

(٣) المصدر : فإنها.

(٤) المصدر : رب عزيز وصادق حكيم.

(٥) المصدر : بما كسبوه.

(٦) ما بين القوسين ليس في أ.

(٧) أ : منه.

١٣١

إلى ذواتهم المجردة. لأنه مأخوذ في حد اسم الاشارة ، أن يكون المشار اليه ، محسوسا ، أو في حكم المحسوس. وانما صار المشار اليه ، هنا ، في حكم المحسوس بإجراء هذه الأوصاف عليه وتميزه بها عما عداه. فيجب أن يكون ملحوظة في الاشارة. فاذن يكون قوله (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) كالبناء على المشتق.

ففيه اعلام بأن الأوصاف المذكورة قبل اسم الاشارة ، علة لكون المذكورين «على الهدى».

وكلمة «أولئك» ، يمد ويقصر ، والمد أولى.

وكلمة «على» هذه ، استعارة تبعية. وانما كانت استعارة ، لأنه شبه تمسك المتقين بالهدى ، باستعلاء الراكب على مركوبه في التمكن والاستقرار. فاستعير له الحرف الموضوع للاستعلاء ، كما شبه استعلاء المصلوب ، على الجذع ، باستقرار المظروف في الظرف ، لجامع (١). فاستعير له الحرف الموضوع للظرفية ، وانما كانت تبعية. لأن الاستعارة في الحرف ، يقع أولا في متعلق ، معناه كالاستعلاء والظرفية ـ مثلا ـ ثم تسرى اليه تبعيته ، كما حقق في موضعه. ولك أن تعتبر تشبيه هيئة (٢) منتزعة من «المتقي» و «الهدى». وتمسكه به بالهيئة المنتزعة ، من الراكب والمركوب واعتلائه عليه ، فيكون هناك استعارة تمثيلية ، تركب كل من طرفيها. أو تعتبر تشبيهه بالمركوب ، على طريقة الاستعارة ، بالكناية. وتجعل كلمة على قرينة لها.

وتنكير «هدى» ، للتعظيم ، أي : هدى لا يبلغ كنهه ، ولا يقادر قدره. وكيف يبلغ كنهه (٣) وقد منحوه من عند ربهم. وأوتوه من قبله. أو للنوع.

__________________

(١) أ : لمجامع.

(٢) أ ، ر : هيئته.

(٣) ليس في أ.

١٣٢

و «من» ، للابتداء.

وقيل (١) : انما قال «من ربهم» ، لا «من الله» ، تنبيها على أن لكل أحد ، اسما خاصا من أحدية جمع الأسماء ، هو ربه. ومنه يصل اليه ما يصل. وليس لأحد ، أحدية جمع الأسماء ، الا للإنسان الكامل. فان ربه الخاص به ، هو الاسم (٢) الجامع. فمعنى قوله «من ربهم» ، أن لكل أحد ، هدى من ربه الخاص ، لا من غيره.

والنكتة في اضافة «الهدى» الى «الكتاب» أولا والى «ربهم» ، ثانيا ، ان المتقين قبل كشف حجب المظاهر ، عن نظر شهودهم ، كانوا يشاهدون «الهدى» ، عن مظاهر الاسم التي كان «ذلك الكتاب» واحدا منها. فلذلك أضيف اليه «الهدى» أولا. فلما تمكنوا في التقوى وتحققوا بالصفات الجارية عليهم ، كشف عنهم ، حجب المظاهر وشاهدوا فيها الظاهر. فلهذا أضيف اليه ، ثانيا. وهو ، أي قوله «من ربهم» ، اما في محل الجر ، صفة «لهدى». أو النصب على أنه حال من «هدى».

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥) : عطف على الجملة الأولى.

وأصل «الفلاح» ، القطع والشق. ومنه سمي الزارع ، فلّاحا. لأنه يشق الأرض. والزراعة : فلاحة. ومنه المثل ، الحديد بالحديد يفلح. بل كلما يشاركه في الفاء والعين ، يدل على ذلك المعنى ، نحو : فلق وفلذ وفلا وفلج (بالجيم).

و «المفلح» ، هو الفائز بالمطلوب. كأنه الذي انفتحت له وجوه الفوز والظفر. ولم يستغلق عليه.

وكرر اسم الاشارة ، للتنبيه ، على أن كل واحد من المسندين ، على انفراده ، يكفي في اثبات الفضيلة للمسند اليهم. فلا احتياج الى انضمام الاخر ، ليعد من الفضائل. بخلاف ما لو اقتصر على واحد منهما ، فإنه يمكن أن يتوهم حينئذ ،

__________________

(١) ليس في أ.

(٢) أ : اسم.

١٣٣

أن الفضيلة في الجمع بينهما ، لا في كل واحد.

و «هم» ، فصل. وفيه ثلاث فوائد وثلاث مذاهب.

أما الفوائد :

فالأولى منها ، الدلالة ابتداء (١) على أن ما بعده خبر. لا نعت. ولذلك سمي فصلا.

والثانية ، تأكيد الحكم لما فيه من زيادة الربط.

وقيل : تأكيد المحكوم عليه. لأنه راجع اليه. فيكون تكريرا له.

والثالثة ، افادة قصر المسند ، على المسند اليه.

فان قلت : ان هذا انما يتم إذا ثبت القصر ، في مثل «زيد هو أفضل من عمرو» مما (٢) الخبر فيه نكرة. والا فتعريف الخبر بلام الجنس ، يفيد (٣) قصره على المبتدأ.

وان لم يكن هناك ضمير فصل ، مثل زيد الأمير.

قلت : ندعي القصر ، في صورة النكرة ـ أيضا ـ فان قولك : «زيد هو أفضل من عمرو» ، معناه بالفارسية : زيد اوست كه أفضل است از عمرو. فعلى هذا ، قد اجتمع في قولك : «زيد هو الأمير» ، أمران يدلان على قصر المسند : أحدهما تأكيد للاخر ، تعريف المسند وضمير الفصل (٤).

ونوقش بأن تعريف المبتدأ بلام الجنس ، يفيد (٥) قصره على الخبر ، دون قصر الخبر عليه. وان كان مع ضمير الفصل. كقولك : الكرم هو التقوى ، أي : لا كرم

__________________

(١) أ : ابتداءه.

(٢) أ : ومما.

(٣) أ : بقيد.

(٤) أ : ضمير الفصل من عمرو.

(٥) أ : يقيد.

١٣٤

الا التقوى.

وأجيب بأن القول بافادة الفصل ، قصر المسند على المسند اليه انما هو على تقدير «أن لا يكون هناك معارض». كتعريف المسند اليه ، لافادة قصره ، على المسند ، في هذه الصورة.

وأما المذاهب :

فأحدها ، ان ضمير الفصل ، حرف. لا محل له. وفائدته ما مر.

وثانيها ، أنه اسم. لا محل له. وهو سخيف ، لأنه ليس له نظير في كلام العرب من اسم لا يكون له محل.

وثالثها ، أنه اسم ، مرفوع المحل. فعلى هذا يجوز أن يكون «هم» مبتدأ و «المفلحون» ، خبره والجملة خبر «أولئك».

و «اللام» اما للعهد ، أي : المتقون ، هم الذين بلغك أنهم يفلحون. واشتهروا بذلك. فإنهم حصة معينة من جنس المفلحين ـ مطلقا. واما للجنس ، أي : جنس المفلحين ، مقصور على المتقين. لا يتجاوزهم الى غيرهم.

والمبالغة في الثاني ، أتم. لأن قصر الجنس ، يستلزم قصر الحصة ، من غير عكس.

وهاهنا معنى (١) آخر ، أدق والطف. ذكرها الشيخ في دلائل الاعجاز. وهو أن تشير باللام الى حقيقة. ثم تصور تلك الحقيقة في الوهم ، بصورة تناسب ما يحكم بها عليه. ثم تحكم بالاتحاد بين تلك الحقيقة المصورة بهذه الصورة الوهمية وبين المبتدأ من غير ملاحظة الحصر ، من احد الجانبين. وانما اعتبرت الصورة الوهمية المناسبة لأن الحقيقة لو تركت على حالها ، لم يكن ادعاء كون المبتدأ ، متحدا بها مستحسنا مقبولا. فالمراد «بالمفلحين» على هذا المعنى ، جنس المفلحين مصورا

__________________

(١) أ : غير معنى.

١٣٥

بصورة وهمية ، يلائم المتقين يحكم بالاتحاد بينها وبين المتقين.

لا يقال : على هذا التقدير ، لم يتصور هناك حصر أصلا ، فكيف يستعمل فيه ضمير الفصل؟

قلنا : يجرد حينئذ لتميز الخبر عن النعت وتأكيد الحكم دون القصر.

فان قلت : قوله (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) جملتان مصوغتان لمدح المتقين ، فلم وقعت إحداهما بطريق القصر والحكم بالاتحاد والأخرى بدونه؟

قلنا : لظهور التلازم بين مسنديهما فقصر أحدهما في قوة قصر الأخرى.

وكذلك الحكم بالاتحاد في أحدهما في قوة الحكم بالاتحاد في الأخرى. وانما اختير ذلك في الجملة الاخيرة ، ليقع خاتمة صفاتهم على وجه أبلغ.

وفي التفسير المنسوب الى أبي محمد العسكري ـ صلوات الله عليه وعلى آبائه (١) ـ قال الامام ـ عليه السلام ـ ثم أخبر عن جلالة هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات الشريفة ـ فقال : «أولئك» ، أهل هذه الصفات ، «على هدى» ، بيان (٢) وصواب «من ربهم» وعلم بما أمرهم به. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الناجون مما منه يوجلون ، الفائزون بما يؤملون.

قال : وجاء رجل الى أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ فقال : يا أمير المؤمنين! ان بلالا كان يناظر اليوم ، فلانا. فجعل يلحن في كلامه. وفلان يعرب ويضحك من بلال.

فقال أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ : يا عبد الله! انما يراد اعراب الكلام وتقويمه لتقويم الأعمال وتهذيبها. ما ذا ينفع فلانا اعرابه وتقويمه لكلامه ، إذا كانت أفعاله

__________________

(١) تفسير العسكري / ٤٣.

(٢) المصدر : وبيان.

١٣٦

ملحونة ، أقبح لحن؟ وما يضر بلالا لحنه في كلامه ، إذا كانت أفعاله مقومة ، أحسن تقويم ، مهذبة أحسن تهذيب؟

قال الرجل : يا أمير المؤمنين! وكيف ذلك؟

قال ـ عليه السلام ـ : حسب بلال من التقويم لأفعاله والتهذيب لها (١) أنه لا يرى أحدا نظيرا لمحمد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ثم لا يرى أحدا بعد محمد (٢) نظيرا لعلي بن أبي طالب. ويرى أن كل من عاند عليا فقد عاند الله ورسوله.

ومن أطاعه فقد أطاع الله ورسوله. وحسب فلان من الاعوجاج واللحن في أفعاله التي لا ينتفع معها باعرابه لكلامه بالعربية وتقويمه للسانه ، أن يقدم الأعجاز على الصدور والأستاه (٣) على الوجوه ، وان يفضل الخل في الحلاوة ، على العسل ، والحنظل في الطيب ، والعذوبة على اللبن. يقدم على ولي الله ، عدو الله (٤) الذي لا يناسبه بشيء (٥) من الخصال في (٦) فضله ، هل هو الّا كمن قدم مسيلمة على محمد في النبوة في (٧) الفضل (٨)؟ ما هو الا من الذين قال الله تعالى (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٩).

__________________

(١) أ : لما ، المصدر : بها.

(٢) المصدر : بعده.

(٣) أ : الاسناء.

(٤) ليس في أ.

(٥) المصدر : في شيء.

(٦) أ : من.

(٧) المصدر : و.

(٨) أ : وظاهر في الفضل.

(٩) الكهف / ١٠٤.

١٣٧

قال بعض الفضلاء : وإذا انتهى الكلام الى هاهنا ، فحري بنا أن نشير الى بعض بطون هذه الآيات ، فنقول : هذا كلام من باطن الجمع ، الى ظاهر الفرق.

يخاطب أكمل صورة ، أولا ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ومتابعيه ، آخرا.

فيقول : الم ، أي أقسم بالأول وذي الأمر والخلق أن «ذلك» الموجود المعلوم المشهود أعني العالم ، هو «الكتاب» الجامع لحروف وكلمات ، مخطوطة مرقومة في رق الوجود المنشور ، للدلالة على أسماء الله الحسنى وصفاته العلى.

ولا يزال الكتابة فيه ، دائمة أبدا لا ينتهي ، (لا رَيْبَ فِيهِ). لأن تلك الدلالة ، قطعية عقلية او كشفية ، لا مجال للريب والشك. فيها «هدى» للمشارفين على الترقي من الحجب المائعة ، عن التحقق ، بشهود الوحدة والكثرة (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) بغيب الهوية وسريانها ـ أولا ـ في الصور العلمية الباطنة ، التي هي الأعيان الثابتة.

ولها الأولية. وثانيا في الصور العينية الظاهرة ، التي هي الأعيان الخارجية. ولها الآخرية ، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن. وبعد الايمان بها يسلكون طريق الوصول الى شهودها في تلك الصور ، بوحدتها. فيقيمون الصلاة التي هي العبادة التامة الجامعة الموصلة الى شهود الجمعية الالهية ، بتحريك صلاتهم الروحانية والجسمانية ، للسير اليها والفناء فيها. «ومما» أفيض عليهم ، بعد الفناء ، من أنوار المعرفة وأسرار الوحدة ، يفيضون على من سواهم ، لجعلهم بالتربية والكمال ، مستعدين لفيضانها. و «الذين» يصدقون ، لصفاء استعدادهم (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وبما انزل الى الأنبياء والمرسلين من تلك الأنوار والأسرار ، حيث يفهمونها بلسان الاشارة عنك ، فيرغبون فيها ويسلكون للوصول اليها. «وبالاخرة» أي ، بعاقبة سلوكهم ومآل أمرهم ، الى فيضان تلك الأنوار والأسرار ، في أثناء سلوكهم ، لظهور آثارها ، متيقنون. (أُولئِكَ عَلى هُدىً) مشهود ، (مِنْ رَبِّهِمْ) الظاهر بالاسم

١٣٨

الهادي في مظاهره ، لا يحتجبون بالمظاهر (١) عن الظاهر. و (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

الذين خرقوا حجب المظاهر. وشقّوها. فيشاهدون مشهودهم ، كفاحا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) لما ذكر خاصة أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم ، التي أهلتهم لاصابة الزلفى عنده وبيّن أن «الكتاب» ، «هدى» ولطف لهم ، خاصة ، قفّى على أثره بذكر أضدادهم. وهم العتاة المردة من الكفار ، الذي لا ينفع فيهم الهدى. ولا يجدي عليهم اللطف. وسواء عليهم وجود الكتاب وعدمه (٢) وإنذار الرسول وسكوته (٣).

وروي عن الامام الحسن العسكري ـ عليه السلام ـ (٤) في معنى الاية : انه لما ذكر المؤمنين ومدحهم ، ذكر الكافرين المخالفين لهم في كفرهم ، فقال : ان الذين كفروا بالله وبما آمن به هؤلاء المؤمنون ، بتوحيد الله تعالى وبنبوة محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وبوصية علي أمير المؤمنين ، ولي الله ووصي رسوله وبالأئمة الطيبين الطاهرين ، خيار عباده الميامين القوامين بمصالح خلق الله تعالى ، (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ ، أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) ، أي : خوفتهم أو لم تخوفهم أخبر عن علم بأنهم لا يؤمنون. انتهى كلامه ـ عليه السلام ـ.

ولم يوسط العاطف ، بين الجملتين ، لتباينهما في الغرض والأسلوب.

أما الغرض ، فلأن الغرض من الأولى ، بيان كون الكتاب ، بالغا في الهداية حد الكمال. ومن الثانية ، وصف الكفار بأنه لا يؤثر فيهم الانذار.

وأما في الأسلوب ، فلأن الطريق الأولى ، الحكم على الكتاب ، بجملة محذوفة المبتدأ ، موصولة بغيرها ، من ذكر المتقين وأحوال المؤمنين. وطريق

__________________

(١) ليس في أ.

(٢) أ : وعده.

(٣) أ : وسكونه.

(٤) تفسير العسكري / ٤٣ ـ ٤٤ ، باختلاف فيه.

١٣٩

الثانية ، الحكم على الكافرين ، قصدا بجملة تامة مصدرة بأن ، المشعرة بالأخذ في فن آخر ، لتجرد الأولى عنها. بخلاف قوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (١) لتوافقهما في الغرض والأسلوب. وهو ظاهر.

ويحتمل أن يقال : لما كانت النسبة بين المؤمنين والكافرين ، كمال المباينة ، وبين الكافرين والمنافقين ، على ما هو في شأن المنافقين ، كمال المناسبة ، قطع ما كان في شأن الكافرين ، عما كان في شأن المؤمنين وعطف ما كان في شأن المنافقين على ما هو في شان الكافرين ، تنبيها على تينك النسبتين.

و «أن» من الحروف التي شابهت الفعل ، في عدد الحروف. والبناء على الفتح. ولزوم الأسماء. وإعطاء معانيه والمتعدي ، خاصة ، في دخولها على اسمين ولذلك أعملت عمله الفرعي. وهو نصب الجزء الأول ورفع الثاني ، إيذانا بأنه فرع في العمل.

وقال الكوفيون : الخبر قبل دخولها ، كان مرفوعا بالخبرية. وهي بعد باقية مقتضية للرفع ، قضية (٢) للاستصحاب. فلا يرفعه الحرف.

ورد بأن اقتضاء الخبرية الرفع. مشروط بالتجرد ، لتخلفه عنها ، في خبر كان. وقد زال بدخولها فتعين اعمال الحرف. وفائدتها تأكيد النسبة وتحقيقها.

ولذلك يتلقى بها القسم ، ويصدر بها الاجوبة ، وتذكر في معرض الشك.

روي أن الكندي المتفلسف ، ركب «الى المبرد» (٣) وقال : اني أجد في كلام العرب حشوا ، أجد العرب يقول : عبد الله قائم. ثم يقول (٤) : ان عبد الله قائم. ثم

__________________

(١) الانفطار / ١٤.

(٢) أ : قضيته.

(٣) ليس في أ.

(٤) المتن ور : تقول.

١٤٠