تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٣٦

البوشنجي عن التوبة فقال : إذا ذكرت الذنب فلا تجد له حلاوة في قلبك. وروى جابر : أن أعرابيا دخل مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر» فلما فرغ من صلاته قال له علي رضي الله تعالى عنه : يا هذا إن سرعة الاستغفار باللسان توبة الكذابين فقال يا أمير المؤمنين ما التوبة؟ قال : اسم يقع على ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية وإذابتها في الطاعة كما ربيتها في المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته. وقال سهل بن عبد الله : التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة. وقال بعضهم : هي الندم على الماضي والترك في الحال والعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل. وعن أبي هريرة قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (١). وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة» (٢). وعن أبي موسى الأشعري : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله عزوجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» (٣). وروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله جعل في الغرب بابا عرضه مسيرة سبعين عاما للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها» (٤). وروى : «أن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (٥).

ولما كان القبول قد يكون في المستقبل مع الأخذ بما مضى قال الله تعالى تفضلا منه ورحمة : (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) أي : التي كانت التوبة منها صغيرة كانت أو كبيرة وعن غيرها فلا يؤاخذ بها إن شاء لأن التوبة تجب ما قبلها كما أن الإسلام الذي هو توبة خاصة يجب ما يكون قبله وروى أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان هو وراحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فآيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : «اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح» (٦).

(وَيَعْلَمُ) أي : والحال أنه يعلم كل وقت (ما تَفْعَلُونَ) فيجازي ويتجاوز عن إتقان وحكمة ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتاء الخطاب إقبالا على الناس عامة وهذا خطاب للمشركين ، وقرأ الباقون بالغيبة نظرا إلى قوله تعالى عن عباده وقال تعالى بعد (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ).

ولما رغب بالعفو زاد بالإكرام فقال تعالى : (وَيَسْتَجِيبُ) أي : يوجد بغاية العناية والطلب إجابة (الَّذِينَ آمَنُوا) أي : دعاء الذين أقروا بالإيمان في كل ما دعوا به أو شفعوا عنده فيه لأنه لو لا

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه حديث ٣٨١٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٥٠.

(٢) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٤٢ ، وابن ماجه حديث ٧٨ ، ١٠٨١ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٦١ ، ٥ / ٤١١.

(٣) أخرجه مسلم في التوبة حديث ٢٧٥٩ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٩٥.

(٤) أخرجه الترمذي في الدعوات حديث ٣٥٣٥.

(٥) أخرجه الترمذي في الدعوات حديث ٣٥٣٧ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٢٥٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٣٢ ، ٣ / ٤٢٥.

(٦) أخرجه مسلم في التوبة حديث ٢٧٤٧.

٦٤١

إرادته لهم الإكرام بالإيمان ما آمنوا ، وعدي الفعل بنفسه ولم يقل : «ويستجيب للذين آمنوا» تنبيها على زيادة بره لهم ووصلهم به (وَعَمِلُوا) تصديقا لدعواهم الإيمان (الصَّالِحاتِ) فيثيبهم النعيم المقيم (وَيَزِيدُهُمْ) أي : مع ما دعوا به لما لم يدعوا به ولم يخطر على قلوبهم (مِنْ فَضْلِهِ) أي : تفضلا منه عليهم ويجوز أن يكون الموصول فاعلا أي : يجيبون ربهم إذا دعاهم كقوله تعالى : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) [الأنفال : ٢٤] واستجاب كأجاب ومنه (١) :

وداع دعا يا من يجيب إلى الندا

فلم يستجبه عند ذلك مجيب

وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : معناه ويثيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله سوى ثواب أعمالهم تفضلا منه ، وروى أبو صالح عنه : «يشفعهم ويزيدهم من فضله» قال : في إخوان إخوانهم ثم أتبع المؤمنين بذكر ضدهم فقال تعالى (وَالْكافِرُونَ) أي : العريقون في هذا الوصف القاطع الذين منعتهم عراقتهم من التوبة والإيمان (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) بدل ما للمؤمنين من الثواب والتفضيل ولا يجيب دعاءهم وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ، فالآية من الاحتباك ذكر الاستجابة أولا دليلا على ضدها ثانيا والعذاب ثانيا دليلا على ضده أولا.

ولما قال تعالى إنه يجيب دعاء المؤمنين ورد سؤال وهو أن المؤمن قد يكون في شدة وبلية وفقر ثم يدعو فلا يظهر أثر الإجابة فكيف الجمع بينه وبين قوله تعالى (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) فأجاب تعالى عنه بقوله تعالى : (وَلَوْ) أي : وهو يقبل ويستجيب والحال أنه لو (بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ) لهم هكذا كان الأصل لكن قال : (لِعِبادِهِ) لئلا يظن خصوصية ذلك بالتائبين إذ لا فرق بين التائب وغيره (لَبَغَوْا) أي : طغوا (فِي الْأَرْضِ) أي : لصاروا يريدون كل ما يشتهون فيكثر القتل والسلب والنهب ونحو ذلك من أنواع الفساد ، قال خباب بن الأرت : فينا نزلت هذه الآية وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع وتمنيناها فنزلت ، وذكر في كون بسط الرزق موجبا للطغيان وجوه : الأول : أن الله تعالى لو سوى في الرزق بين الكل امتنع كون البعض محتاجا إلى البعض وذلك موجب خراب العالم وتعطيل المصالح ، ثانيها : أن هذه الآية مختصة بالعرب فإنه كلما اتسع رزقهم ووجدوا من ماء المطر ما يرويهم من الكلأ ومن العشب ما يشبعهم قدموا على النهب والغارة ، ثالثها : أن الإنسان متكبر بالطبع فإن وجد الغنى والقدرة عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية وهو التكبر وإذا وقع في شدة وبلية ومكروه انكسر وعاد إلى التواضع والطاعة ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : «بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة ومركبا بعد مركب وملبسا بعد ملبس» (وَلكِنْ يُنَزِّلُ) أي : لعباده من الرزق ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بسكون النون وتخفيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي (بِقَدَرٍ) أي : بتقدير لهم (ما يَشاءُ) أي : ما اقتضته مشيأته (إِنَّهُ) وقال تعالى : (بِعِبادِهِ) ولم يقل بهم لئلا يظن أن الأمر خاص بمن وسع عليهم أو ضيق عليهم (خَبِيرٌ بَصِيرٌ) يعلم جميع ظواهر أمورهم وبواطنها فيقيم كل أحد فيما يصلح له من صلاح وفساد وعدل وبغي.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لكعب بن سعد الغنوي في الأصمعيات ص ٩٦ ، ولسان العرب (جوب) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٥٥ ، وجمهرة أشعار العرب ص ٧٠٥ ، وتاج العروس (جوب) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ١١ / ٢١٩.

٦٤٢

روى أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جبريل عليه‌السلام عن الله عزوجل في حديث طويل وفيه يقول الله عزوجل : «ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه» (١) ، و«أن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك ، وذلك أني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير» (٢). وقرأ ما يشاء أنه نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية كالياء ولهم أيضا إبدالها واو أو الباقون بتحقيقهما وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفا مع المد والقصر والروم والإشمام.

(وَهُوَ) أي : لا غيره (الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) أي : المطر الذي يغاث به الناس وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وتشديد الزاي والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) أي : يئسوا من نزوله وعلموا أنه لا يقدر على إنزاله غيره ولا يقصد فيه سواء ليكون ذلك أدعى لهم إلى الشكر وقال تعالى : (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) أي : يبسط مطره كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) [الأعراف : ٥٧] وإن كان الأصل بنشره لأنه بين أنه غيث فقال رحمته بيانا وتعميما ، فينزل من السحاب المحمول بالريح من الماء ما لو اجتمع عليه الخلائق ما أطاقوا عمله ، فتصبح الأرض ما بين غدران وأنهار ونبات نجم وأشجار وزهر وحب وثمار وغير ذلك من المنافع الصغار والكبار فلله ما أعلى هذه القدرة الباهرة والآية الظاهرة ، فيخرج من الأرض التي هي من صلابتها تعجز عنها المعاول نجما هو في لينه ألين من الحرير وفي لطافته ألطف من النسيم ومن سوق الأشجار التي تنثني فيها المناقير أغصانا ألطف من ألسنة العصافير ، فما أجلف من ينكر إخراجه الموتى من القبور أو يحيد عن ذلك بنوع من الغرور (وَهُوَ) أي : لا غيره (الْوَلِيُ) الذي لا أحد أقرب منه إلى عباده في شيء من الأشياء (الْحَمِيدُ) الذي يستحق مجامع الحمد مع أنه يحمد من يطيعه فيزيده من فضله ويصل حبله دائما بحبله.

(وَمِنْ آياتِهِ) أي : العظيمة على استحقاقه لجميع صفات الكمال (خَلْقُ السَّماواتِ) التي تعلمون أنها متعددة لما ترون من أمور الكواكب (وَالْأَرْضِ) أي : جنسها على ما هما عليه من الهيآت وما اشتملا عليه من المنافع والخيرات وقوله تعالى : (وَما بَثَ) أي : فرق ونشر يجوز أن يكون مجرور المحل عطفا على السموات أو مرفوعه عطفا على خلق على حذف مضاف ، أي : وخلق ما بث ، قال أبو حيان : وفيه نظر لأنه يؤول إلى جره بالإضافة لخلق المقدر فلا يعدل عنه (فِيهِما) أي : في السموات والأرض (مِنْ دابَّةٍ) أي : شيء فيه أهلية الدبيب بالحياة والحركة من الأنس والجن والملائكة وسائر الحيوانات على اختلاف ألوانهم وأصنافهم وأشكالهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم وأقطارهم ونواحيهم ، فإن قيل : كيف يجوز إطلاق الدابة على الملائكة؟ أجيب : بوجوه أولها : ما مر من أن الدابة عبارة عما فيه الروح والحركة والملائكة لهم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٠٢ ، وأحمد في المسند ٦ / ٢٥٦.

(٢) أخرجه ابن أبي الدنيا في الأولياء ١ ، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق ٢ / ٢٤٨.

٦٤٣

الروح والحركة ، ثانيها : أنه قد يضاف الفعل إلى جماعة وإن كان فاعله واحدا منهم ، ومنه قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] ثالثها : قال ابن عادل : لا يبعد أن يقال : إنه تعالى خلق في السموات أنواعا من الحيوانات يمشون مشي الأناسي على الأرض.

وروى العباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك العرش» (١) الحديث. (وَهُوَ) أي : لا غيره (عَلى جَمْعِهِمْ) أي : هذه الدواب من ذوي العقول وغيرهم للمحشر بعد تفريقهم بالقلوب والأبدان بالموت وغيره (إِذا) في وقت (يَشاءُ قَدِيرٌ) أي : بالغ القدرة كما كان بالغ القدرة عند الإيجاد من العدم يجمعهم في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينقذهم البصر.

ثم خاطب المؤمنين بقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ) أي : بلية وشدة (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أي : من الذنوب ، وقرأ نافع وابن عامر بغير فاء والباقون بالفاء لأن ما شرطية أو مضمنة معناه وأما من أسقطها فقد استغنى بما في الباء من معنى السببية ، فإن قيل : الكسب لا يكون باليد بل بالقدرة القائمة بها؟ أجيب : بأن المراد من لفظ اليد هنا القدرة وإذا كان هذا المجاز مشهورا مستعملا كان لفظ اليد في حق الله تعالى يجب حمله على القدرة تنزيها لله تبارك وتعالى عن الأعضاء ، واختلفوا فيما يحصل في الدنيا من الآلام والأسقام والقحط والغرق والمصائب هل هي عقوبات على ذنوب سلفت أولا ، فمنهم من أنكر ذلك لوجوه أولها قوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [غافر : ١٧] بين تعالى أن ذلك إنما يحصل يوم القيامة وقال تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٤] أي : يوم الجزاء وأجمعوا أن المراد منه يوم القيامة ثانيها : مصائب الدنيا يشترك فيها الزنديق والصديق فيمتنع أن تكون عقوبة على الذنوب بل حصول المصائب للصالحين والمتقين أكثر منه للمذنبين ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» (٢). ثالثها : أن الدنيا دار تكليف فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار تكليف ودار جزاء معا وهو محال ، وقال آخرون : هذه المصائب قد تكون أجزية على ذنوب متقدمة لهذه الآية ، ولما روى الحسن قال : لما نزلت هذه الآية قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله أكثر» (٣). وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : «ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى حدثنا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أصابكم من مصيبة الآية ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وسأفسرها لك يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله سبحانه وتعالى اكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله عنه في الدنيا فإنه أحلم من أن يعود بعد عفوه» (٤) وتمسكوا أيضا بقوله تعالى : بعد هذه الآية (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) وذلك تصريح بأن ذلك الإهلاك بسبب كسبهم.

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٢) تقدم الحديث مع تخريجه.

(٣) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٦ / ٩ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٨٦٧٠.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٨٥.

٦٤٤

قيل لأبي سليمان الداراني : ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم؟ قال : إنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم وقرأ هذه الآية. وأجاب الأولون بأن حصول هذه المصائب يكون من باب الامتحان في التكليف لا من باب العقوبة كما في حق الأنبياء والأولياء بل ذلك لزيادة درجات وفضائل وخصوصيات لا يصلون إليها إلا بها لأن أعمالهم لم تبلغها فهي خير من الله تعالى لهم ، ويحمل قوله تعالى : (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) على أن الأصلح عند إتيانكم بذلك الكسب إنزال هذه المصائب عليكم (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي : من الذنوب بفضله ورحمته فلا يعاقب عليها ولو لا عفوه وتجاوزه ما ترك على ظهرها من دابة قال الواحدي بعد أن روى حديث علي : وهذه أرجى آية في كتاب الله تعالى لأن الله تعالى جعل ذنوب المؤمنين صنفين ؛ صنف : كفر عنهم بالمصائب ، وصنف : عفا عنهم في الدنيا وهو كريم لا يرجع في عفوه ، فهذه سنة الله تعالى مع المؤمنين وأما الكافر : فإنه لا تعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافى به يوم القيامة.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي : فائتين ما قضى عليكم من المصائب (فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) ولا في شيء أراده سبحانه منكم كائنا ما كان (مِنْ وَلِيٍ) أي : يكون متوليا لشيء من أموركم بالاستقلال (وَلا نَصِيرٍ) يدفع عنكم شيئا يريده سبحانه بكم.

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))

٦٤٥

(وَمِنْ آياتِهِ) أي : الدالة على تمام قدرته واختياره ووحدانيته (الْجَوارِ) أي : السفن الجارية (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي : كالجبال قالت الخنساء في مرثية أخيها صخر (١) :

وإن صخرا لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

أي : جبل في رأسه نار شبهت به أخاها. روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استنشد قصيدتها هذه فلما وصل الراوي هذا البيت قال : قاتلها الله تعالى ما رضيت بتشبيهه بالجبل حتى جعلت في رأسه نارا» (٢). وقال مجاهد : الأعلام القصور وأحدها علم ، وقال الخليل بن أحمد : كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم.

فإن قيل : الصفة متى لم تكن خاصة بموصوفها امتنع حذف الموصوف فلا تقول : مررت بماش لأن المشي عام وتقول : مررت بمهندس وكاتب والجري ليس من الصفات الخاصة فما وجه ذلك؟ أجيب : بأن قوله تعالى : (فِي الْبَحْرِ) قرينة دالة على الموصوف ، فذلك حذف ويجوز أن تكون هذه صفة غالبة كالأبطح والأبرق فوليت العوامل من دون موصوفها ، وقرأ نافع وأبو عمرو بإثبات الياء وصلا لا وقفا ، وابن كثير وهشام بإثباتها وقفا بخلاف عن هشام الباقون بحذفها وقفا ووصلا وأمال الجواري محضة الدوري عن الكسائي وفتح الباقون.

(إِنْ يَشَأْ) أي : الله الذي حملكم فيها على ظهر الماء آية بينة سقط اعتبارها عندكم لشدة ألفكم لها (يُسْكِنِ الرِّيحَ) الذي يسيرها وأنتم مقرون بأن أمرها ليس إلا بيده ، وقرأ نافع بألف بعد الياء جمعا والباقون بغير ألف إفرادا (فَيَظْلَلْنَ) أي : فيتسبب عن ذلك أنهن يظللن أي : يقمن ليلا كان أو نهارا (رَواكِدَ) أي : ثوابت لا تجري (عَلى ظَهْرِهِ) أي : البحر (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : ما ذكر في حال السفن في سيرها وركوبها بما لا يقدر عليه إلا الله تعالى بدليل ما للناس كافة من الإجماع على التوجه في ذلك إليه خاصة والانخلاع مما سواه (لَآياتٍ) أي : على إحاطته سبحانه بجميع صفات الكمال (لِكُلِّ صَبَّارٍ) أي : على البلاء والشدة (شَكُورٍ) أي : على نعمائه وهو المؤمن الكامل يصبر في الشدة ويشكر في الرخاء فإن الإيمان نصفان ؛ نصف : صبر ، ونصف : شكر.

(أَوْ) أي : أو يشأ في كل وقت أراده (يُوبِقْهُنَ) أي : يهلكهن بعصف الريح بأهلهن (بِما كَسَبُوا) أي : أهلهن من الذنوب (وَيَعْفُ) أي : إن يشأ (عَنْ كَثِيرٍ) من ذنوبهم فلا يعاقب فينجيهم بعوم أو حمل على خشبة أو غير ذلك ، وإن يشأ يرسل الريح طيبة فينجيها ويبلغها أقصى المراد إلى غير ذلك من التقادير الداخلة تحت المشيئة.

وقوله تعالى : (وَيَعْلَمَ) قرأه نافع وابن عامر برفع الميم مستأنفا والباقون بالنصب معطوف على تعليل مقدر أي : ليغرقهم لينتقم منهم وليعلم (الَّذِينَ يُجادِلُونَ) أي : عند النجاة بالعفو (فِي آياتِنا) أي : يكذبون القرآن ، أي : علم ظهور للناس (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي : مهرب من العذاب وجملة النفي سدت مسد مفعولي يعلم أو النفي معلق عن العمل.

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للخنساء في ديوانها ص ٣٨٦ ، وجمهرة اللغة ص ٩٤٨ ، وتاج العروس (صخر) ، ومقاييس اللغة ٤ / ١٠٩.

(٢) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٦٤٦

وقوله تعالى : (فَما أُوتِيتُمْ) خطاب للمؤمنين وغيرهم (مِنْ شَيْءٍ) أي : من أثاث الدنيا (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : القريبة الدنية لا نفع فيه لأحد إلا مدة حياته وذلك جدير بالإعراض عنه وعما يسببه من الأعمال إلا ما يقرب إلى الله تعالى (وَما) أي : والذي (عِنْدَ اللهِ) أي : الملك الأعظم المحيط بكل شيء قدرة وعلما من نعم الدارين (خَيْرٌ) أي : في نفسه وأشد خيرية من النعم الدنيوية المحضة لانقطاع نفعه فسماه متاعا تنبيها على قلته وحقارته ، وجعله من متاع الدنيا تنبيها على انقراضه وأما الآخرة فهي خير (وَأَبْقى) والباقي خير من الخسيس الفاني.

ثم بين تعالى أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان موصوفا بصفات الصفة الأولى قوله سبحانه وتعالى (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : أوجدوا هذه الحقيقة (وَعَلى) أي : والحال إنهم على (رَبِّهِمْ) أي : الذي لم يروا إحسانا قط إلا منه وحده بما رباهم من الإخلاص (يَتَوَكَّلُونَ) أي : يحملون جميع أمورهم عليه كما يحمل غيرهم متاعه على من يتوسم منه قوة على الحمل ولا يلتفتون في ذلك إلى شيء غيره أصلا لينتفي عنهم بذلك الشرك الخفي كما انتفى بالإيمان الشرك الجلي وهذا يرد على من زعم أن الطاعة توجب الثواب لأنه يتوكل على عمل نفسه لا على الله تعالى فلا يدخل تحت الآية.

الصفة الثانية قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) أي : يكلفون أنفسهم أن يجانبوا (كَبائِرَ الْإِثْمِ) أي : جنس الفعال الكبائر التي لا توجد إلا في ضمن أفرادها ويحصل بها دنس النفس فيوجب عقابها مع الجسم وعطف على كبائر قوله تعالى : (وَالْفَواحِشَ) وهي ما أنكره الشرع والعقل والطبع ، والكبائر كل ذنب تعظم عقوبته كالقتل والزنا والسرقة والفواحش ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال ، وقال مقاتل : ما يوجب الحد وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة النساء ، وقرأ حمزة والكسائي : بكسر الباء الموحدة قبل الياء الساكنة وهي للجنس فهي بمعنى قراءة الجمع ، كما قرأ الباقون بفتح الموحدة وألف بعدها وبعد الألف همزة مكسورة والأولى أبلغ لشمولها المفردة.

الصفة الثالثة : قوله تبارك وتعالى : (وَإِذا ما غَضِبُوا) أي : غضبا هو على حقيقته من أمر مغضب في العادة وبين بضمير الفصل أن بواطنهم في غفرهم كظواهرهم فقال تعالى : (هُمْ يَغْفِرُونَ) أي : هم الأخصاء والأحقاء بأنهم كلما تجدد لهم غضب جددوا غفرا أي : محوا للذنوب عينا وأثرا مع القدرة على الانتقام فسجاياهم تقتضي الصفح دون الانتقام ما لم يكن من الظالم بغي لأنه لا يؤاخذ على مجرد الغضب إلا متكبر والتكبر لا يصلح لغير الإله ، وفي الصحيح : «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله تعالى» (١). وروى ابن حاتم عن إبراهيم النخعي قال : «كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا إذا قدروا غفروا».

الصفة الرابعة : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا) أي : أوجدوا الإجابة لما لهم من العلم الهادي إلى سبيل الرشاد (لِرَبِّهِمْ) أي : الداعي لهم إلى إجابة إحسانه إليهم ، قال الرازي : المراد من هذا تمام الانقياد ، فإن قيل : أليس أنه لما جعل الإيمان فيه شرطا قد دخل في الإيمان إجابة الله

__________________

(١) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٥٦٠ ، ومسلم في الفضائل حديث ٢٣٢٧ ، وأبو داود في الأدب حديث ٤٧٨٥ ، ومالك في حسن الخلق حديث ٢ ، وأحمد في المسند ٦ / ٣٢ ، ١١٤ ، ١١٦ ، ١٣٠ ، ١٨٢ ، ٢٢٣ ، ٢٣٢ ، ٢٦٢ ، ٢٨١.

٦٤٧

تعالى؟ أجيب : بأنه يحمل هذا على الرضا بقضاء الله تعالى من صميم القلب وأن لا يكون في قلبه منازعة.

الصفة الخامسة : قوله سبحانه وتعالى : (وَأَقامُوا) أي : أداموا (الصَّلاةَ) الواجبة (وَأَمْرُهُمْ) أي : كل ما ينوبهم مما يحوجهم إلى تدبير (شُورى بَيْنَهُمْ) أي : يتشاورون فيه مشاورة عظيمة مبالغين بما لهم من قوة الباطن ولا يعجلون في أمورهم والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور.

الصفة السادسة ، قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي : أعطيناهم بعظمتنا من غير حول منهم ولا قوة (يُنْفِقُونَ) أي : يديمون الإنفاق في سبيل الله تعالى كرما منهم ، وإن قل ما بأيديهم اعتمادا على فضل الله تعالى لا يقبضون أيديهم كالمنافقين.

(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) أي : وقع بهم وأثر فيهم وهو التمادي على الرمي بالشر (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي : ينتقمون ممن ظلمهم بمثل ظلمه ، كما قال تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) سميت الثانية سيئة لمشابهتها للأولى في الصورة قال مقاتل : يعني القصاص وهي الجراحات والدماء ، وقال مجاهد والسدي : هو جواب القبيح إذا قال : أخزاك الله يقول : أخزاك الله وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي ، قال سفيان بن عيينة : سألت سفيان الثوري عن ذلك فقال : إن شتمك رجل فتشتمه أو يفعل كذا فتفعل به فلم أجد عنده شيئا ، فسأل هشام بن حجر عن ذلك فقال : الجارح إذا جرح يقتص منه وليس هو أن يشتمك وتشتمه وقد تكفلت هذه الجمل بأمهات الفضائل الثلاث ، العلم والعفة والشجاعة على أحسن الوجوه ، فالمدح بالاستجابة والصلاة دعاء إلى العلم وبالنفقة إلى العفة وبالانتصار إلى الشجاعة حتى لا يظن أن إذعانهم لما مضى مجرد ذل ، والقصر على المماثلة دعاء إلى فضيلة التقسيط بين الكل وهي العدل ، وهذه الأخيرة كافلة بالفضائل الثلاث فإن من علم المماثلة كان عالما ، ومن قصد الوقوف عندها كان عفيفا ومن قسر نفسه على ذلك كان شجاعا وقد ظهر من المدح بالانتصار بعد المدح بالغفران أن الأول : للعاجز ، والثاني : للمتغلب المتكبر بدليل البغي ، فإن قيل : هذه الآية مشكلة لوجهين ؛ الأول : أنه لما ذكر قبله (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) ، كيف يليق أن يذكر معه ما يجري مجرى الضد له وهو (الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) ، الثاني : أن جميع الآيات دالة على أن العفو أحسن ، قال تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة : ٢٣٧] وقال تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢] وقال تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩].

أجيب : بأن العفو على قسمين ؛ أحدهما : أن يصير العفو سببا لتسكين الفتنة ورجوع الجاني عن جنايته ، والثاني : أن يصير العفو سببا لمزيد جراءة الجاني وقوة غيظه وغضبه ، فآيات العفو محمولة على القسم الأول وهذه الآية محمولة على القسم الثاني ، وحينئذ يزول التناقض روي : «أن زينب أقبلت على عائشة تشتمها فنهاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها فلم تنته ، فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سبيها» (١). وأيضا فإنه تعالى لم يرغّب في الانتصار بل بين أنه مشروع فقط ، ثم بين أن مشروعيته مشروطة برعاية المماثلة بقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ثم بين أن العفو أولى بقوله تعالى : (فَمَنْ

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأدب حديث ٤٨٩٨ ، وأحمد في المسند ٦ / ١٣٠.

٦٤٨

عَفا) أي : بإسقاط حقه كله أو بالنقص منه لتحقق البراءة مما حرم من المجاوزة (وَأَصْلَحَ) أي : أوقع الإصلاح بين الناس بالعفو والإصلاح لنفسه ليصلح الله ما بينه وبين الناس فيكون بذلك منتصرا من نفسه لنفسه (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي : المحيط بجميع صفات الكمال فهو يعطيه على حسب ما يقتضيه مفهوم هذا الاسم الأعظم ، وهذا سر لفت الكلام إليه عن مظهر العظمة وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما زاد الله بعفو إلا عزا» (١)(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي : لا يكرم الواضعين للشيء في غير محله فيترتب عليهم عقابه.

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ) أي : سعى في نصر نفسه بجهده (بَعْدَ ظُلْمِهِ) أي : بعد ظلم الغير له وليس قاصدا التعدي عن حقه ولو استغرق انتصاره جميع زمان التعدي (فَأُولئِكَ) أي : المنتصرون لأجل دفع الظالم عنهم (ما عَلَيْهِمْ) وأكد بإثبات الجار فقال تعالى : (مِنْ سَبِيلٍ) أي : عتاب ولا عقاب لأنهم فعلوا ما أبيح لهم من الانتصار روى النسائي عن عائشة قالت : «ما علمت حتى دخلت على زينب وهي غضبى ، فأقبلت علي فأعرضت عنها حتى قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : دونك فانتصري ، فأقبلت عليها حين رأيتها قد يبس ريقها في فمها ما ترد علي شيئا ، فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتهلل وجهه» (٢). واحتجوا بهذه الآية على أن سراية القود مهدرة لأنه فعل مأذون فيه فيدخل تحت هذه الآية.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ) أي : الطريق السالك الذي لا منع منه أصلا (عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) أي : يوقعون بهم ظلمهم تعمدا عدوانا (وَيَبْغُونَ) أي : يتجاوزون الحدود (فِي الْأَرْضِ) بما يفسدها بعد إصلاحها بتهيئتها للصلاح طبعا وعلما وعملا (بِغَيْرِ الْحَقِ) أي : الكامل لأن الفعل قد يكون بغيا وإن كانت مصحوبا بحق كالانتصار المقرون بالتعدي فيه (أُولئِكَ) أي : البعداء من الله تعالى (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم يعم إيلامه أبدانهم وأرواحهم بما آلموا من ظلموه.

(وَلَمَنْ صَبَرَ) أي : عن الانتصار من غير انتقام ولا شكوى (وَغَفَرَ) أي : صرح بإسقاط العقاب والعتاب بمحي عين الذنب وأثره (فَإِنَّ ذلِكَ) أي : الفعل الواقع منه البالغ في العلو حدا لا يوصف (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي : معزوماتها بمعنى المطلوبات شرعا. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من عبد ظلم مظلمة فعفا لله إلا أعزه الله تعالى بها نصرا» (٣).

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أي : الذي له صفات الكمال بأن لم يوفقه (فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍ) أي : يتولى أمره في الهداية بالبيان لما أخفاه الله تعالى عنه (مِنْ بَعْدِهِ) أي : بعد إضلال الله تعالى له ، وهذا صريح في جواز أن الإضلال من الله تعالى وأن الهداية ليست في مقدر أحد سوى الله تعالى وقال تعالى : (وَتَرَى الظَّالِمِينَ) موضع وتراهم لبيان أن الضال لا يضع شيئا في موضعه.

ولما كان عذابهم حتما عبر عنه بالماضي فقال : (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي : يوم القيامة المعلوم مصير الظالم إليه (يَقُولُونَ) أي : مكررين لما اعتراهم من الدهش وغلب على قلوبهم من الوجل (هَلْ إِلى مَرَدٍّ) أي : إلى دار العمل (مِنْ سَبِيلٍ) أي : طريق فيتمنون حينئذ الرجوع إلى الدنيا لتدارك ما فات من الطاعات الموجبة للنجاة.

__________________

(١) أخرجه مسلم في البر حديث ٢٥٨٨ ، والترمذي في البر حديث ٢٠٢٩.

(٢) أخرجه ابن ماجه حديث ١٩٨١ ، وأحمد في المسند ٦ / ٩٣.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٤٣٦ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ١١.

٦٤٩

(وَتَراهُمْ) أي : في ذلك اليوم والضمير في قوله تعالى : (يُعْرَضُونَ عَلَيْها) يعود على النار لدلالة العذاب عليها. ثم ذكر حالهم عند عرضهم على النار بقوله تعالى : (خاشِعِينَ) أي : خاضعين حقيرين بسبب ما لحقهم (مِنَ الذُّلِ) لأنهم عرفوا إذ ذاك ذنوبهم وانكشفت لهم عظمة من عصوه (يَنْظُرُونَ) أي : يبتدئ نظرهم المكرر (مِنْ طَرْفٍ) أي : تحريك الأجفان (خَفِيٍ) أي : ضعيف النظر يسارقون النظر إلى النار خوفا منها وذلة في أنفسهم كما ينظر المقتول إلى السيف فلا يقدر أن يملأ عينه منه ولا يفتح عينه إنما ينظر ببعضها ، ويصح أن تكون من بمعنى الباء أي : بطرف خفي ضعيف من الذل ، فإن قيل : قد قال الله تعالى في صفة الكفار أنهم يحشرون عميا فكيف قال تعالى هنا : إنهم (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ)؟ أجيب : بأنهم يكونون في الابتداء هكذا ثم يصيرون عميا أو أن هذا في قوم وذاك في قوم آخرين ، وقيل : ينظرون إلى النار بقلوبهم والنظر بالقلب خفي.

ولما وصف تعالى حال الكفار حكى ما يقوله المؤمنون فيهم فقال تعالى : (وَقالَ) أي : في ذلك الموقف الأعظم على سبيل التعيير لهم والتبكيت والتوبيخ والتقريع (الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أوقعوا هذه الحقيقة سواء كان إيقاعهم لها في أدنى الرتب أو أعلاها (إِنَّ الْخاسِرِينَ) أي : الذين كملت خسارتهم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بما استغرقها من العذاب (وَأَهْلِيهِمْ) بمفارقتهم لهم ، إما في إطباق العذاب إن كانوا مثلهم في الخسران أو في دار الثواب إن كانوا من أهل الإيمان (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : هو يوم فوت التدارك لأنه للجزاء لا للعمل لفوات شرطه بفوات الإيمان بالغيب لانكشاف الغطاء ، وهذا القول يحتمل أن يكون واقعا في الدنيا أو يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة وقوله تعالى : (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ) أي : الراسخين في هذا الوصف (فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) أي : دائم يحتمل أن يكون من تمام كلام المؤمنين وأن يكون تصديقا من الله تعالى لهم.

(وَما كانَ) أي : ما صح ووجد (لَهُمْ) وأغرق في النفي فقال تعالى : (مِنْ أَوْلِياءَ) أي : فما لهم من ولي لأن النصرة إذا انتفت من الجمع انتفت من الواحد من باب أولى (يَنْصُرُونَهُمْ) أي : يوجدون نصرهم في وقت من الأوقات (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : الملك الأعظم ، أي : لا في الدنيا بأن يقدروا على إنقاذهم من وصف الظلم ولا في الآخرة بإنقاذهم من العذاب (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أي : يوجد إضلاله إيجادا بليغا بما أفاده الفك على سبيل الاستمرار بعدم البيان أو بعدم التوفيق بعد البيان (فَما لَهُ) بسبب إضلال من له جميع صفات الكمال وأغرق تعالى في النفي بقوله سبحانه : (مِنْ سَبِيلٍ) أي : طريق إلى الحق في الدنيا وإلى الجنة في الآخرة.

ولما ذكر تعالى الوعد والوعيد ذكر بعده ما هو المقصود فقال تعالى : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) أي : أجيبوه بالتوحيد والعبادة فإنه الذي لم تروا إحسانا إلا وهو منه (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) هو يوم القيامة (لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي : الذي له جميع العظمة فإنه إذا أتى به لا يرده وإذا لم يكن له مرد منه لم يكن له مرد من غيره ومتى عدم ذلك أنتج قوله تعالى : (ما لَكُمْ) وأغرق في النفي بقوله تعالى : (مِنْ مَلْجَإٍ) أي : تلجؤون إليه (يَوْمَئِذٍ) أي : في ذلك اليوم وزاد في التأكيد بإعادة النافي وما في حيزه إبلاغا في التحذير فقال تعالى : (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي : إنكار لما اقترفتموه لأنه مدون في صحائفكم تشهد عليه ألسنتكم وجوارحكم.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا) أي : عن الإجابة فيما دعوتهم إليه (فَما أَرْسَلْناكَ) أي : بما لنا من العظمة

٦٥٠

(عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي : تقهرهم على امتثال ما أرسلناك به (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) لما أرسلناك به ، وأما الهداية والإضلال فإلينا ، وهذا كما قال الجلال المحلي : قبل الأمر بالجهاد (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا) أي : بالعظمة التي لا يمكن مخالفتها (الْإِنْسانَ) أي : بما جبلناه عليه من النقص وعدم التمالك (مِنَّا رَحْمَةً) قال ابن عباس رضي الله عنهما : نوعا من أنواع الإكرام من صحة أو غنى أو نحو ذلك (فَرِحَ بِها) أي : بتلك الرحمة وأفرد ضمير فرح نظرا للفظ الإنسان إشارة إلى أنه مطبوع على أنه ليس عليه إلا من نفسه ، ولو كان أهل الأرض كلهم على غير ذلك ونعمة الله تعالى عليهم ، وإن كانت في الدنيا عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادات الآخرة القطرة بالنسبة إلى البحر فلذلك سميت ذوقا ، فبين تعالى أن الإنسان إذا حصل له هذا القدر الحقير في الدنيا فرح به وعظم غروره ووقع في العجب والكبر وظن أنه فاز بكل المنى ووصل إلى أقصى السعادات ، وهذه طريقة من ضعف اعتقاده في سعادات الآخرة وجمع ضمير الإنسان في قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) باعتبار معناه (سَيِّئَةٌ) أي : شيء يسوءهم في الحال كالمرض والفقر والقحط (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي : قدموه وعبر بالأيدي لأن أكثر الأفعال بها (فَإِنَّ الْإِنْسانَ) أي : الآنس بنفسه المعرض عن غيره بما هو طبع له بسبب سيئة تضره (كَفُورٌ) أي : بليغ الكفران ينسى النعمة رأسا ويذكر البلية ويعظمها ولم يتأمل سببها وتصدير الشرطية الأولى : بإذا ، والثانية : بإن لأن إذاقته النعمة محققة من حيث إنها عادة مقضيّة بالذات بخلاف إصابة البلية وإقامة علة الجزاء مقامه ووضع الظاهر موضع الضمير في الثانية للدلالة على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعمة ، فإن كان في نعمة أشر وبطر ، وإن كان في نقمة أيس وقنط ، فهذا حال الجنس من حيث هو ومن وفقه الله تعالى جنبه ذلك كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن إن أصابه سراء شكر فكان خيرا ، وإن أصابه ضراء صبر فكان خيرا» (١).

لما ذكر تعالى إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بعدها السيئة أتبع ذلك بقوله تعالى : (لِلَّهِ) أي : الملك الأعظم وحده (مُلْكُ السَّماواتِ) كلها على علوها وتطابقها وكبرها وعظمها وتباعد أقطارها (وَالْأَرْضِ) جميعها على تباينها وتكاثفها واختلاف أقطارها وسكانها واتساعها (يَخْلُقُ) أي : على سبيل التجدد والاختيار والاستمرار (ما يَشاءُ) وإن كان على غير اختيار العباد لئلا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه ، بل إذا علم أن الكل ملك لله وملكه وإنما حصل له ذلك القدر إنعاما من الله تعالى عليه فيصير ذلك حاملا له على مزيد الطاعة.

ثم ذكر من أقسام تصرفه تعالى في العالم أنه يخص بعض الناس بالأولاد الإناث والبعض بالذكور والبعض بهما والبعض محروم من الكل كما قال تعالى : (يَهَبُ) أي : يخلق (لِمَنْ يَشاءُ) أولادا (إِناثاً) فقط ليس معهن ذكر (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) فقط ليس معهم أنثى ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : بتسهيل الهمزة الثانية كالياء وتبدل أيضا واوا خالصة ، والباقون بتحقيقهما وفي الابتداء الجميع بالتحقيق ، وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفا مع المد والتوسط والقصر ولهما أيضا تسهيلها مع المد والقصر والروم والإشمام.

(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) أي : الأولاد فيجعلهم أزواجا أي : صنفين حال كونهم (ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) أي : لا يولد له.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٢٩٩٩.

٦٥١

قال الرازي : وفي الآية سؤالات ؛ الأول : أنه قدم الإناث في الذكر على الذكور أولا ثم قدم الذكور على الإناث ثانيا فما السبب أي : فما الحكمة في هذا التقديم والتأخير؟ الثاني : أنه نكر الإناث وعرف الذكور ، وقال في الصنفين معا : أو يزوجهم ذكرانا وإناثا؟ الثالث : أنه لما كان حصول الولد هبة من الله تعالى فيكفي في عدم حصوله أن لا يهب فأي حاجة في عدم حصوله إلى قوله تعالى : (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) الرابع : هل المراد بهذا الحكم جمع معينون أو الحكم على الإنسان المطلق ثم قال : والجواب عن الأول : أن الكريم يسعى في أن يقع الختم على الخير والراحة فإذا وهب الأنثى أولا ثم أعطى الذكر بعدها فكأنه نقله من الغم إلى الفرح وهذا غاية الكرم ، أما إذا أعطى الذكر أولا ثم أعطى الأنثى ثانيا فكأنه نقله من الفرح إلى الغم ، فذكر الله تعالى هبة الأنثى أولا ثم ثنى بهبة الذكر حتى يكون قد نقله من الغم إلى الفرح فيكون أليق بالكرم ، قيل : من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر لأن الله تعالى بدأ بالإناث ، وأما تقديم ذكر الذكور على ذكر الإناث ثانيا فلأن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى والأفضل مقدم على المفضول ، وأما الجواب عن تنكير الإناث وتعريف الذكور فهو أن المقصود منه التنبيه على أن الذكر أفضل من الأنثى.

وأما قوله تعالى : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) فهو أن كل شيئين يقترن أحدهما بالآخر فهما زوجان وكل واحد منهما يقال له : زوج والكناية في يزوجهم عائدة على الإناث والذكور ، والمعنى : يجعل الذكور والإناث أزواجا أي : يجمع له بينهما فيولد له الذكور والإناث وأما الجواب عن قوله تعالى : (عَقِيماً) فالعقيم : هو الذي لا يلد ولا يولد له يقال : رجل عقيم وامرأة عقيم ، وأصل العقم : القطع ، ومنه قيل الملك عقيم لأنه تقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق ، وأما الجواب عن الرابع : فقال ابن عباس رضي الله عنهما : يهب لمن يشاء إناثا يريد لوطا وشعيبا عليهما‌السلام لم يكن لهما إلا البنات ويهب لمن يشاء الذكور يريد إبراهيم عليه‌السلام لم يكن له إلا الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا يريد محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان له من البنين ثلاثة على الصحيح القاسم وعبد الله وإبراهيم ومن البنات أربع زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة ، ويجعل من يشاء عقيما يريد يحيى وعيسى عليهما‌السلام ، وقال أكثر المفسرين : هذا على وجه التمثيل وإنما الحكم عام في كل الناس لأن المقصود بيان نفاذ قدرة الله تعالى في تكوين الأشياء كيف شاء فلا معنى للتخصيص ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله تعالى : (إِنَّهُ عَلِيمٌ) أي : بالغ العلم بمصالح العباد وغيرها (قَدِيرٌ) أي : شامل القدرة على تكوين ما يشاء.

ولما بين تعالى حال قدرته وعلمه وحكمته أتبعه ببيان أنه كيف يخص أنبياءه بوحيه وكلامه فقال تعالى:

(وَما كانَ) أي : وما صح (لِبَشَرٍ) من الأقسام المذكورة وحل المصدر الذي هو اسم كان ليقع التصريح بالفاعل والمفعول على أتم الوجوه فقال تعالى : (أَنْ يُكَلِّمَهُ) وأظهر موضع الإضمار إعظاما للوحي وتشريفا لمقداره فقال تعالى : (اللهُ) أي : يوجد الملك الأعظم الجامع بصفات الكمال في قلبه كلاما (إِلَّا) أن يوحي إليه (وَحْياً) أي : كلاما خفيا يوجده فيه بغير واسطة بوجه خفي لا يطلع عليه أحد إما بمشافهة كما ورد في حديث المعراج ، وإما بإلهام أو رؤية منام كما رأى إبراهيم عليه‌السلام في المنام أن يذبح ولده ، أو بغير ذلك سواء خلق الله تعالى في المتكلم قوة السماع له

٦٥٢

وهو أشرف هذه الأقسام أم لا ومن الثاني قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) [القصص : ٧] (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل : ٦٨] (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) [فصلت : ١٢] (أَوْ) إلا (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي : من وجه لا يرى فيه المتكلم مع السماع للكلام على وجه الجهر كما وقع لموسى عليه‌السلام (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) من الملائكة إما جبريل عليه‌السلام أو غيره.

تنبيه : ذكر المفسرون : أن اليهود قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا تكلم الله تعالى وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فقال : «لم ينظر موسى إلى الله عزوجل فأنزل الله تعالى (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً)(١) ، (فَيُوحِيَ) أي : الرسول إلى المرسل إليه أن يكلمه (بِإِذْنِهِ) أي : الله تعالى (ما يَشاءُ) أي : الله عزوجل ، وقرأ نافع برفع اللام من يرسل وسكون الياء من يوحي والباقون بنصب اللام والياء أما القراءة الأولى ففيها ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أنه رفع على إضمار مبتدأ ، أي : هو يرسل ، ثانيها : أنه عطف على وحيا على أنه حال لأن وحيا في تقدير الحال أيضا فكأنه قال : إلا موحيا إليه أو مرسلا ، ثالثها : أن يعطف على ما يتعلق به من وراء إذ تقديره أو يسمع من وراء حجاب ووحيا في موضع الحال عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه أو يرسل ، والتقدير : إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا.

وأما القراءة الثانية : ففيها ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أن يعطف على المضمر الذي يتعلق به من وراء حجاب إذ تقديره أو يكلمه من وراء حجاب وهذا الفعل المقدر معطوف على وحيا ، والمعنى : إلا بوحي أو سماع من وراء حجاب أو إرسال رسول ، ولا يجوز أن يعطف على أن يكلمه لفساد المعنى إذ يصير التقدير : وما كان لبشر أن يرسل الله رسولا بل يفسد لفظا ومعنى ، وقال مكي : لأنه يلزم منه نفي الرسل ونفي المرسل إليهم ، ثانيها : أن ينصب بأن مضمرة وتكون هي وما نصبته معطوفين على وحيا ووحيا حال فيكون هذا أيضا حالا والتقدير : إلا موحيا أو مرسلا ، ثالثها : أنه معطوف على معنى وحيا فإنه مصدر مقدر بأن والفعل والتقدير : إلا بأن يوحي إليه أو بأن يرسل ذكره مكي وأبو البقاء (إِنَّهُ) أي : هذا الذي له هذا التصرف العظيم في هذا الوحي الكريم (عَلِيٌ) أي : بالغ العلو جدا عن صفات المخلوقين (حَكِيمٌ) يفعل ما تقتضيه حكمته فيكلم تارة بواسطة وتارة بغير واسطة إما عيانا وإما من وراء حجاب.

(وَكَذلِكَ) أي : ومثل إيحائنا إلى غيرك من الرسل (أَوْحَيْنا) بما لنا من العظمة (إِلَيْكَ) يا أفضل الرسل (رُوحاً) قال ابن عباس : نبوة وقال الحسن : رحمة وقال السدي : وحيا وقال الكلبي : كتابا وقال الربيع : جبريل وقال مالك بن دينار : القرآن ، وسمي الوحي روحا ؛ لأنه مدبر الروح كما أن الروح مدبر للبدن وزاد عظمته بقوله تعالى : (مِنْ أَمْرِنا) أي : الذي نوحيه إليك.

ثم بين تعالى حال نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل الوحي بقوله سبحانه : (ما كُنْتَ) أي : فيما قبل الأربعين التي مضت لك وأنت بين ظهراني قومك (تَدْرِي) أي : تعرف قبل الوحي إليك (مَا الْكِتابُ) أي : القرآن (وَلَا الْإِيمانُ) أي : تفصيل الشرايع على ما جددناه لك بما أوحيناه إليك وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان قبل النبوة قد كان مقرا بوحدانية الله تعالى وعظمته ، فإنه كان يصلي ويحج ويعتمر ويبغض اللات والعزى ولا يأكل ما ذبح على النصب لكنه لم يكن يعلم الرسل على ما هم عليه ،

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٦٥٣

ولا شك أن الشهادة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه بالرسالة ركن الإيمان ولم يكن له علم بذلك وكذلك الملائكة ، فصح نفي المنفي لفواته بفوات جزئه وقال محمد ابن إسحاق بن خزيمة : الإيمان هنا الصلاة لقوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] أي : صلاتكم ، وقيل : هذا على حذف ومعناه : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان حين كنت طفلا في المهد ، وقيل : الإيمان عبارة عن الإقرار بجميع ما كلف الله تعالى به ، وقال بعضهم : صفات الله تعالى على قسمين : منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقول ومنها : ما لا يمكن معرفته إلا بالدلائل السمعية فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته حاصلة قبل النبوة.

تنبيه : ما ؛ الأولى نافية والثانية استفهامية والجملة الاستفهامية معلقة للدراية فهي في محل نصب لسدها مسد مفعولين والجملة المنفية بأسرها في محل نصب على الحال من الكاف في إليك ، وفي الآية دليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن متعبدا قبل النبوة بشرع وفي المسألة خلاف للعلماء فقيل : كان يتعبد على دين إبراهيم عليه‌السلام وقيل : غيره والضمير في قوله تعالى (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) يعود إما لروحا وإما للكتاب وإما لهما وهو أولى لأنهما مقصود واحد فهو كقوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني الإيمان وقال السدي : يعني القرآن (نَهْدِي) على عظمتنا (بِهِ مَنْ نَشاءُ) خاصة لا يقدر أحد على هدايته بغير مشيئتنا (مِنْ عِبادِنا) بخلق الهداية في قلبه بالتوفيق فهذه لا يقدر عليها أحد غير الله تعالى ، وأما الهداية بالتبيين والإرشاد فهي قوله تعالى : (وَإِنَّكَ) يا أفضل الخلق (لَتَهْدِي) أي : تبين وترشد وأكده لإنكارهم ذلك (إِلى صِراطٍ) أي : طريق واضح جدا (مُسْتَقِيمٍ) أي : شديد التقوم وهو دين الإسلام.

وقوله تعالى : (صِراطِ اللهِ) أي : الملك الأعظم الجامع لصفات الكمال وقرأ سراط في الموضعين قنبل بالسين وخلف : بالإشمام أي : بين الصاد والزاي والباقون بالصاد الخالصة. ثم وصف سبحانه وتعالى نفسه بأنه مالك لما في السموات والأرض بقوله تعالى : (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا وعبيدا (أَلا إِلَى اللهِ) أي : المحيط بجميع صفات الكمال الذي تعالى عن مثل وند وهو الكبير المتعال لا إلى غيره (تَصِيرُ) أي : على الدوام وإن كانت في الظاهر في ملك غيره بحيث يظن الجاهل أن ملكها مستقر له.

قال أبو حيان : أخبر بالمضارع والمراد به الديمومة كقوله : زيد يعطي ويمنع أي : من شاء ذلك ولا يراد به حينئذ حقيقة المستقبل (الْأُمُورُ) كلها من الخلق والأمر معنى وحسا كما كانت الأمور كلها مبتدأة منه وحده وفي ذلك وعد للمطيعين ووعيد للمجرمين فيجازي كلا منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب ، وما قاله البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة حم عسق كان ممن تصلي عليه الملائكة ويستغفرون ويسترحمون له» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٢٣٩.

٦٥٤

سورة الزخرف

مكية وهي تسع وتسعون آية وثمانمائة وثلاثة وثلاثون كلمة وثلاثة آلاف وأربعمائة حرف.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) أي : الذي له مقاليد الأمور كلها فهو يعطي من يشاء وإن طال سؤله (الرَّحْمنِ) الذي نال بره جميع خلقه على حسب منازلهم عنده (الرَّحِيمِ) الذي يقرب إليه من يشاء زلفى وإن وصل في البعد إلى الحد الأقصى وقد تقدم الكلام على قوله تعالى :

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢))

(حم) والواو في قوله تعالى : (وَالْكِتابِ) أي : القرآن (الْمُبِينِ) أي : مظهر طريق الهدى وما يحتاج إليه من الشريعة عاطفة إن جعلت حم قسما وإلا كانت للقسم وقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ) أي : أوجدنا هذا الكتاب (قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي : بلغة العرب جواب القسم وهذا عندهم من البلاغة وهو كون القسم والمقسم عليه من واد واحد كقول أبي تمام (١) :

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٦٥٥

وثناياك إنها إغريض أي : طلع وبرد ، وقيل : كل أبيض طري ولآل توم وبرق وميض والتوم جمع تومة وهي حبة تعمل من الفضة كالدرة ، والوميض مصدر ومض أي : لمع لمعا خفيفا.

تنبيه : احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه ؛ الأول : أنها تدل على أن القرآن مجعول والمجعول هو المصنوع المخلوق ، الثاني : أنه وصفه بكونه قرآنا وهو إنما سمي قرآنا لأنه جعل بعضه مقرونا بالبعض وما كان كذلك كان مصنوعا ، الثالث : وصفه بكونه عربيا وإنما يكون عربيا لأن العرب اختصت بوضع ألفاظه في اصطلاحهم وذلك يدل على أنه مجعول والتقدير حم ورب الكتاب المبين ، ويؤيد هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا رب طه ويس ويا رب القرآن العظيم» (١). وأجاب الرازي عن ذلك : بأن هذا الذي ذكرتموه حق لأنكم استدللتم بهذه الوجوه على كون الحروف المتواليات والكلمات المتعاقبة محدثة وذلك معلوم بالضرورة ومن الذي ينازعكم فيه (لَعَلَّكُمْ) أي : يا أهل مكة (تَعْقِلُونَ) أي : لتكونوا على رجاء عند من يصح منه الرجاء من أن تفهموا معانيه وأحكامه وبديع وصفه ومعجز وضعه ونظامه فترجعوا عن كل ما أنتم عليه من المغالبة ولا بد أن يقع هذا التعقل فإن القادر إذا عبر بأداة الترجي حقق ما يقع ترجيه ليكون بين كلامه وكلام العاجز فرق.

وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ) أي : القرآن عطف على إنا أي : مثبت (فِي أُمِّ الْكِتابِ) أي : أصل الكتب وهو اللوح المحفوظ ، وقال قتادة : أم الكتاب أصل الكتاب وأم كل شيء أصله ، وقال ابن عباس : أول ما خلق الله تعالى القلم فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق فالكتاب مثبت عنده في اللوح المحفوظ كما قال تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج : ٢٢] ، فإن قيل : ما الحكمة في خلق هذا اللوح المحفوظ مع أنه تعالى علام الغيوب يستحيل عليه السهو والنسيان؟.

أجيب : بأنه تعالى لما أثبت في ذلك أحكام حوادث المخلوقات ثم إن الملائكة إذا شاهدوا أن جميع الحوادث إنما تحدث على موافقة ذلك المكتوب استدلوا بذلك على كمال حكمته وعلمه ، وقيل : المراد بأم الكتاب الآيات المحكمة لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) [آل عمران : ٧] والمعنى : أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم ، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بكسر الهمزة والباقون بضمها واتفقوا في الابتداء بالهمزة على الضم وقوله تعالى : (لَدَيْنا) أي : عندنا بدل من الجار قبله (لَعَلِيٌ) أي : رفيع الشأن في الكتب لكونه معجزا من بينها (حَكِيمٌ) أي : ذو حكمة بالغة أو محكم في أبواب البلاغة والفصاحة.

(أَفَنَضْرِبُ) أي : أنهملكم فنضرب أي : ننحي مجاوزين (عَنْكُمُ الذِّكْرَ) أي : القرآن وفي نصب قوله تعالى : (صَفْحاً) أوجه ؛ أحدها : أنه مصدر من معنى نضرب لأنه يقال ضرب عن كذا وأضرب عنه بمعنى أعرض عنه وصرف وجهه عنه قال طرفة (٢) :

اضرب عنك الهموم طارقها

ضربك بالسيف قونس الفرس

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٢) البيت من المنسرح ، وهو لطرفة بن العبد في ملحق ديوانه ص ١٥٥ ، وخزانة الأدب ١١ / ٤٥٠ ، والدرر ٥ / ١٧٤ ، ولسان العرب (قنس) ، (نون) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٣٧ ، ونوادر أبي زيد ص ١٣ ، وبلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٥٦٥ ، وجمهرة اللغة ص ٨٥٢.

٦٥٦

واضرب بفتح الباء أصله اضربن بنون التوكيد الخفيفة فحذفت النون وحركت الباء بالفتح ، والطارق ما يطرق بالليل والقونس : منبت شعر الناصية وهو عظم نابت بين أذني الفرس ، ثانيها : أنه منصوب على الحال أي : صافحين ثالثها أن يكون مفعولا من أجله وقيل غير ذلك (أَنْ) أي : أنفعل ذلك لأن (كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) أي : مشركين لا نفعل ذلك وهو في الحقيقة علة مقتضية لترك الإعراض ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر الهمزة على أن الجملة شرطية مخرجة للمحقق ومخرج المشكوك استجهالا لهم وما قبلها دليل الجزاء ، وقرأ الباقون بفتحها.

وذكر تعالى تأنيسا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتأسية وتعزية وتسلية قوله سبحانه وتعالى : (وَكَمْ أَرْسَلْنا) أي : على ما لنا من العظمة (مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) أي : في الأمم الماضية ثم حكى حالهم الماضية بقوله تعالى : (وَما) أي : والحال أنه ما (يَأْتِيهِمْ) وأغرق في النفي بقوله تعالى : (مِنْ نَبِيٍ) أي : في أمة بعد أمة أو زمان بعد زمان (إِلَّا كانُوا) أي : خلقا وطبعا (بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) كما استهزأ قومك بك فلا ينبغي أن تتأذى من قومك بسبب تكذيبهم واستهزائهم لأن المصيبة إذا عمت خفت.

تنبيه : كم خبرية مفعول مقدم ومن نبي تمييز وفي الأولين متعلق بالإرسال أو بمحذوف على أنه صفة لنبي.

(فَأَهْلَكْنا) أي : فتسبب عن الاستهزاء بالرسل أنا أهلكنا (أَشَدَّ مِنْهُمْ) أي : من قريش الذين يستهزؤون بك (بَطْشاً) أي : قوة وكان الأصل الإضمار ولكنه أظهر الضمير صارفا أسلوب الخطاب إلى الغيبة إقبالا على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسلية له وإبلاغا في وعيدهم (وَمَضى) أي : سبق في آيات الله (مَثَلُ) أي : صفة (الْأَوَّلِينَ) في الإهلاك وفي لك وعد للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعيد لهم مثل ما جرى على الأولين.

واللام في قوله تعالى : (وَلَئِنْ) لام قسم (سَأَلْتَهُمْ) أي : سألت قومك (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ) على علوها وسعتها (وَالْأَرْضَ) على كثرة عجائبها وعظمها وقوله تعالى : (لَيَقُولُنَ) حذف منه نون الرفع لتوالي النونات وواو الضمير لالتقاء الساكنين (خَلَقَهُنَ) الذي هو موصوف بأنه (الْعَزِيزُ) أي : الذي لا يغالب (الْعَلِيمُ) بما كان وما يكون.

تنبيه : هذا الجواب مطابق للسؤال من حيث المعنى إذ لو جاء على اللفظ لجيء فيه بجملة ابتدائية كالسؤال فكان الجواب هنا الله كما غيره من الآيات ، لكنه عدل عنه إلى المطابقة المعنوية مكررا للفعل تأكيدا لإغراقهم زيادة في توبيخهم وتنبيها على عظم غلطهم.

ولما تم الإخبار عنهم ابتدأ الأدلة على نفسه بذكر مصنوعاته فقال تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) ولو كان ذلك قولهم لقالوا لنا : (الْأَرْضَ مِهاداً) أي : فراشا قارة ثابتة كالمهد للصبي ولو شاء لجعلها مزلة لا ينبت فيها شيء كما ترون من بعض الجبال ، فالانتفاع بها إنما حصل لكونها واقفة ساكنة فإنها لو كانت متحركة ما أمكن الانتفاع بها في الزراعة والأبنية وستر عيوب الأحياء والأموات ، ولأن المهد موضع راحة الصبي فكانت الأرض مهادا لكثرة ما فيها من الراحات ، وقرأ الكوفيون بفتح الميم وسكون الهاء والباقون بكسر الميم وفتح الهاء وألف بعد الهاء (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي : طرقا تسلكونها وذلك أن انتفاع الناس إنما يكمل إذا سعوا في أقطار الأرض فهيأ تعالى تلك السبل ووضع عليها علامات ليحصل الانتفاع ولو شاء لجعلها بحيث لا يسكن في مكان منها كما جعل بعض الجبال كذلك ثم ذكر الغاية في ذلك فقال تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي : لكي

٦٥٧

تهتدوا إلى مقاصدكم في الأسفار وغيرها فتتوصلون بها إلى الأقطار الشاسعة والأقاليم الواسعة أو لتهتدوا إلى الحق في الدين.

(وَالَّذِي نَزَّلَ) أي : بحسب التدريج ولو لا قدرته تعالى الباهرة لكان دفعة واحدة أو قريبا منها (مِنَ السَّماءِ) أي : المحل العالي (ماءً) أي : لزرعكم وثماركم وشرابكم بأنفسكم وأنعامكم (بِقَدَرٍ) أي : بقدر حاجتكم إليه من غير زيادة ولا نقصان لا كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أغرقهم (فَأَنْشَرْنا) أي : أحيينا (بِهِ) أي : الماء (بَلْدَةً) أي : مكانا يجتمع فيه للإقامة يعتنون بإحيائه يتعاونون على دوام إبقائه (مَيْتاً) أي : كان قد يبس نباته وعجز أهله عن إيصال الماء إليه ليحيا به ، قال البقاعي : ولعله أنث البلد وذكر الميت إشارة إلى أن بلوغها في الضعف والموت بلغ الغاية بضعف أرضه في نفسها وضعف أهله عن إحيائه.

(كَذلِكَ) أي : مثل هذا الإخراج العظيم الذي شاهدتموه في النبات (تُخْرَجُونَ) من قبوركم أحياء ، والمعنى : أن هذا الدليل كما دل على قدرة الله تعالى وحكمته فكذلك يدل على قدرته على البعث والقيامة ، ووجه التشبيه : أنه جعلهم أحياء بعد الإماتة كهذه الأرض التي انتشرت بعدما كانت ميتة ، وقيل : بل وجه التشبيه أن يعيدهم ويخرجهم من الأرض بماء كالمني كما تنبت الأرض بماء المطر قال ابن عادل : وهذا ضعيف لأن ظاهر لفظ الإشارة الإعادة فقط دون هذه الزيادة.

ثم شرع تعالى في إكمال ما تقتضيه الحال من الأوصاف فقال عز من قائل : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ) أي : الأصناف المتشاكلة التي لا يكمل شيء منها غاية الكمال إلا بالآخر على ما دبره سبحانه في نظم هذا الوجود (كُلَّها) من النبات والحيوان وغير ذلك من سائر الأكوان لم يشاركه في شيء منها أحد وقال ابن عباس رضي الله عنه : الأزواج الضروب والأنواع كالحلو والحامض والأبيض والأسود والذكر والأنثى ، وقال بعض المحققين : كل ما سوى الله تعالى فهو زوج كالفوق والتحت واليمين واليسار والقدام والخلف والماضي والمستقبل والذوات والصفات والصيف والشتاء والربيع والخريف ، وكونها أزواجا يدل على أنها ممكنة الوجود في ذواتها محدثة مسبوقة بالعدم ، فأما الحق تعالى : فهو الفرد المنزه عن الضد والند والمقابل والمعاضد ، فلهذا قال تعالى : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) فهو مخلوق فدل هذا على أن خالقها فرد مطلق منزه عن الزوجية ، قال الرازي : وأيضا علماء الحساب يثبتون أن الفرد أفضل من الزوج من وجوه الأول : أن الاثنين لا توجد إلا عند حصول وحدتين ، فالزوج محتاج إلى الفرد والفرد هو الوحدة وهي غنية عن الزوج والغني أفضل من المحتاج ، الثاني : أن الزوج يقبل القسمة بقسمين متساويين والفرد لا يقبل القسمة وقبول القسمة انفعال وتأثر وعدم قبولها قوة وشدة فكان الفرد أفضل من الزوج ، ثم ذكر وجوها أخر تدل على أن الفرد أفضل من الزوج وإذا كان كذلك ثبت أن الأزواج ممكنات ومخلوقات وأن الفرد هو القائم بذاته المستقل بنفسه الغني عما سواه (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ) أي : السفن العظام في البحر (وَالْأَنْعامِ) كالإبل في البر (ما تَرْكَبُونَ) وحذف العائد لفهم المعنى تغليبا للمتعدي بنفسه في الأنعام على المتعدي بواسطة في الفلك ، والعائد مجرور في الأول أي : فيه منصوب في الثاني.

وذكر الضمير وجمع الظهور في قوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) نظرا للفظ ما ومعناها : ولما أتم النعمة بخلق ما تدعو إليه الحاجة وجعله على وجه دال على ما له من الصفات ، ذكر ما

٦٥٨

ينبغي أن تكون من غايتها على ما هو المتعارف بينهم من شكر المنعم ، فقال دالا على عظم قدر النعمة وبعد غايتها وعلو أمر الذكر بحرف التراخي (ثُمَّ تَذْكُرُوا) أي : بقلوبكم وصرف القول إلى وجه التربية حثا على تذكر إحسانه للانتهاء عن كفرانه والإقبال على شكرانه فقال تعالى : (نِعْمَةَ رَبِّكُمْ) أي : الذي أحسن إليكم بنعمة تسخيرها لكم وما تعرفونه من غيرها (إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) أي : على ما تركبونه وذلك الذكر هو أن يعرف أن الله تعالى خلق البحر وخلق الرياح وخلق جرم السفينة على وجه يمكن الإنسان من تصريف هذه السفينة إلى أي جانب شاء ، فإذا تذكر أن خلق البحر وخلق الرياح وخلق السفينة على هذه الوجوه القابلة لتصرف الإنسان ولتحريكاته إنما هو من تدبير الحكيم العليم القدير عرف أن ذلك نعمة من الله تعالى ، فيحمله ذلك على الانقياد لطاعة الله تعالى وعلى الاشتغال بالشكر لنعم الله تعالى التي لا نهاية لها.

ولما كان تذكر النعمة يبعث الجنان واللسان والأركان على الشكر لمن أسداها قال عز من قائل : (وَتَقُولُوا) أي : بألسنتكم جمعا بين القلب واللسان (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ) أي : بعلمه الكامل وقدرته التامة (لَنا هذا) أي : الذي ركبناه سفينة كانت أو دابة (وَما) أي : والحال أنا ما (كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي : مطيقين والمقرن المطيق للشيء الضابط له من أقرنه أي : أطاقه قال الواحدي : كان اشتقاقه من قولك صرت له قرنا ومعنى قرن فلان أي : مثله في الشدة ، وقيل : ضابطين وقال أبو عبيدة : قرن لفلان أي : ضابط له والقرن الحبل ، ومعنى الآية : ليس عندنا من القوة والطاقة أن نقرن هذه الدابة والفلك وأن نطيقهما فسبحان من سخر لنا هذا بقدرته وحكمته.

روى الزمخشري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال : «بسم الله ، فإذا استوى على الدابة قال : الحمد لله على كل حال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون» (١). وروى أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح عن علي رضي الله عنه : أنه وضع رجله في الركاب وقال : «فقال بسم الله فلما استوى على الدابة ، قال : الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذه الآية ، ثم حمد ثلاثا وكبر ثلاثا ثم قال : لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقيل : مم تضحك يا أمير المؤمنين؟ قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل ما فعلت فقلنا : ما يضحكك يا رسول الله قال : إن ربك يعجب من عبده إذا قال العبد لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، ويقول : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري» (٢).

وروى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أردفه على دابة فلما استقر عليها كبر ثلاثا وحمد الله تعالى ثلاثا وسبح الله ثلاثا وهلل الله تعالى واحدة وضحك ، ثم أقبل عليه فقال : ما من امرئ مسلم ركب دابة فيصنع كما صنعت إلا أقبل الله عليه يضحك إليه كما ضحكت إليك» (٣).

__________________

(١) أخرجه مسلم في الحج حديث ١٣٤٢ ، وأبو داود في الجهاد حديث ٢٥٩٩ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٤٤٦.

(٢) أخرجه أبو داود حديث ٢٦٠٢ ، والترمذي حديث ٣٤٤٧.

(٣) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٦ / ١٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢٤٩٩٤.

٦٥٩

ولما كان راكب الفلك في خطر الهلاك وراكب الدابة كذلك أيضا لأن الدابة قد يحصل لها ما يوجب هلاك الراكب وكذا السفينة قد تنكسر فوجب على الراكب أن يذكر أمر الموت ويقول : (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا) المحسن إلينا بالأقدار على هذه التنقلات على هذه المراكب لا إلى غيره (لَمُنْقَلِبُونَ) أي : لصائرون بالموت وما بعده إلى الدار الآخرة انقلابا لا إياب معه إلى هذه الدار ، فالآية منبهة بالسير الدنيوي على السير الأخروي وأكد لأجل إنكارهم البعث.

ولما قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) بين أنهم مع إقرارهم بذلك جعلوا له من عباده جزءا كما قال تعالى : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ) الذين أبدعهم كما أبدع غيرهم (جُزْءاً) أي : ولدا هو لحصرهم في الأنثى أحد قسمي الأولاد ، وكل ولد فهو جزء من والده قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فاطمة بضعة مني» (١) ، ومن كان له جزء كان محتاجا فلم يكن إلها وذلك لقولهم : الملائكة بنات الله فثبت بذلك طيش عقولهم وسخافة آرائهم ، وقرأ شعبة : بضم الزاي والباقون بسكونها وهما لغتان وإذا وقف حمزة نقل حركة الهمزة إلى الزاي.

ولما كان هذا في غاية الغلط من الكفر قال مؤكدا لإنكارهم أن يكون كفرا (إِنَّ الْإِنْسانَ) أي : هذا النوع الذي هو بعضه (لَكَفُورٌ مُبِينٌ) أي : بين الكفر في نفسه مناد عليها بالكفر.

وقوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذَ) أي : أعالج هو نفسه فأخذ هو بعد المعالجة وهو خالق الخلق كلهم (مِمَّا يَخْلُقُ) أي : يجدد إبداعه في كل وقت (بَناتٍ) استفهام توبيخ وإنكار أي : فلم يقدر بعد التكلف والتعب على غير البنات التي هي أبغض الجزأين إليكم ثم عطف على قوله تعالى اتخذ ليكون منفيا على أبلغ وجه لكونه في حيز الإنكار (وَأَصْفاكُمْ) وهو السيد الكامل وأنتم عبيده أي : خصكم (بِالْبَنِينَ) اللازم من قولكم السابق.

ثم بين كون البنات أبغض إليهم بقوله تعالى : (وَإِذا) أي : جعلوا ذلك والحال أنه إذا (بُشِّرَ) أي : من أي : مبشر كان (أَحَدُهُمْ) أي : أحد هؤلاء البعداء البغضاء (بِما ضَرَبَ) أي : جعل (لِلرَّحْمنِ) الذي لا نعمة على شيء من الخالق ألا وهي منه (مَثَلاً) أي : شبها بنسبة البنات إليه لأن الولد يشبه الوالد ، والمعنى إذا أخبر أحدهم بالبنت تولد له (ظَلَ) أي : صار (وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أي : شديد السواد لما يعتريه من الكآبة (وَهُوَ كَظِيمٌ) أي : ممتلئ غما فكيف تنسب البنات إليه تعالى ، هذا ما لا يرضى عاقل أن يمر بفكره فضلا عن أن يتفوه به.

وقوله تعالى : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا) أي : على ما جرت به عوائدكم (فِي الْحِلْيَةِ) يجوز في من وجهان ؛ أحدهما : أن تكون في محل نصب مفعولا بفعل مقدر أي : أو تجعلون من ينشأ في الحلية ، والثاني : أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره أو من ينشأ جزء ولد أو جعلوه له جزأ ، والمعنى : أن التي تتزين في الحلية تكون ناقصة الذات لأنه لو لا نقصانها في ذاتها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحلية ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين أي : يربي ، والباقون بفتح الياء وسكون النون وتخفيف الشين ، وإذا وقف همزة وهشام أبدلا الهمزة ألفا ولهما أيضا تسهيلها والروم والإشمام ، ثم بين نقصان حالها بطريق آخر بقوله تعالى : (وَهُوَ) أي :

__________________

(١) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٧١٤ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٤٤٩ ، والترمذي في المناقب حديث ٣٨٦٩ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٣٢.

٦٦٠