تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي

تراث الشيعة الفقهي والأصولي - ج ١

المؤلف:

مهدي المهريزي ومحمد حسين الدرايتي


الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-21-8
الصفحات: ٦٣٢

منها : مقام تصحيح هذا الاعتقاد وحجّيّة ما تحصّل له منه وتحصيل القطع بصحّته وحجّيّته بحسب الاعتقاد وفيه. وهو أيضا متأخّر عن السابق ومتفرّع على تحصّله ، كما ينبغي.

ومنها ، مقام التوطئة والتهيّؤ للإتيان بذلك في الخارج والعزم عليه. وهو أيضا متأخّر عن السابق ومتفرّع على تحصّله ، كما ينبغي.

ومنها : مقام الإتيان والعمل بذلك في الخارج. وهو أيضا متأخّر عن السابق ومتفرّع على تحصّله ، كما ينبغي.

ومن البيّن مدخليّة ما عدا الثامن من المقامات على سبيل الترتيب في صحّة المقام الأخير شرعا ، وعدم مدخليّة الثامن في صحّته أصلا ، ومدخليّته في وجوده من باب المقدّمة القطعيّة.

والسرّ في ذلك عدم مدخليّة التقليد والحيثيّة التقليديّة على سبيل التحقيق في الثامن ، كعدم مدخليّة ذلك في تحصّل المقام الأخير وتحقّقه الخارجي ، كما في المجتهد.

نعم ، للتقليد ـ بجميع مقاماته واعتباراته السبعة الاول وحيثيّته الملحوظة ولو حكما حال العمل ومع الإتيان بذلك على وجه المشروعيّة ـ مدخليّة في صحّتهما وصحّة المعمول به والمأتيّ به في الخارج ، وعدم انفكاك صحّة ذلك عن هذه الحيثيّة ولا عن لحاظها ولو حكما قطعا.

وممّا ذكر ظهر أنّ كلّا من المجتهد والمقلّد بالإضافة إلى المقامين الآخرين غير مخالف للآخر في عدم كونهما مقلّدا ولا مجتهدا ، وفي عدم مدخليّة الاجتهاد والتقليد فيهما ، بل متماثلان أو متّحدان في ذلك.

وظهر أيضا أنّ كلّا منهما بالإضافة إلى سائر المقامات عدا الأوّل منها غير مخالف للآخر في كونهما مجتهدا ولو حكما وفي مدخليّة الاجتهاد واعتباره فيها ، بل متماثلان أو متّحدان في ذلك.

٢٨١

وظهر أيضا أنّ كلّا منهما بالإضافة إلى المقام الأوّل ممتاز ومفارق عن الآخر ، ومخالف له في كون المجتهد مجتهدا غير مقلّد ، والمقلّد مقلّدا غير مجتهد ، وفي مدخليّة الاجتهاد المصطلح المقابل للتقليد المصطلح خاصّة واعتباره فيه بالإضافة إلى المجتهد ، ومدخليّة التقليد خاصّة واعتباره فيه بالإضافة إلى المقلّد.

ففي الحقيقة ، تمايز كلّ من المجتهد والمقلّد وافتراقهما من حيث هما كذلك ، إنّما هو في هذا المقام وباعتبار كون المرجع والمتّبع للأوّل هو الأدلّة المعتبرة المعروفة وما يستفاد منها بالشروط المعتبرة ، وللثاني هو المجتهد وما يستفاد منه من الأقوال والفتاوى بالشروط المعتبرة.

ومنها ظهر أيضا أنّ كلّا منهما في هذا المقام أيضا بالإضافة إلى تحقيق مرجعيّة المرجع ومتّبعيّة المتّبع وإثبات حجّيّتهما أيضا غير مخالف للآخر في كونهما مجتهدا ولو حكما ، وفي مدخليّة الاجتهاد واعتباره بهذا القدر فيه ، بل متماثلان أو متّحدان في ذلك ؛ فتأمّل.

كما ظهر أيضا أنّ العمل من حيث هو عمل ليس من الاجتهاد والتقليد بشيء ، بل هو أمر آخر بعدهما ، ومشروط صحّته بهما ، وهذا واضح بحمد الله لا خفاء فيه.

و[ المقدّمة ] الثانية : أنّه قد لاح عمّا مرّ في المقدّمة السابقة أنّه تعتبر في صحّة عمل المجتهد في الخارج الحيثيّة الاجتهاديّة ولحاظها حال العمل ولو حكما ، بأن يكون المجتهد حال العمل معتقدا ولو حكما بحكمه الشرعي المستفاد له من الأدلّة وبثبوته وبمطابقته لما هو المتعيّن في حقّه بحكمها ، ويعتبر في صحّة عمل المقلّد في الخارج الحيثيّة التقليديّة المركّبة ولو في التحليل العقلي من الحيثيّة الاجتهاديّة ، بالإضافة إلى ما يكون مجتهدا فيه ، والحيثيّة التقليديّة بالإضافة إلى ما هو مقلّد فيه له ، ولحاظها حال العمل ولو حكما ، بأن يكون حال العمل معتقدا ولو حكما بحكمه الشرعي المستفاد له من مفتيه الجامع للشرائط من القول والفتوى والاعتقاد ، وبثبوته وبمطابقته لما هو المتعيّن في حقّه بحكم ما هو المستفاد له من المفتي ، ودلّ على اعتباره وصحّته وصحّة

٢٨٢

العمل به.

ففي الحقيقة ، يكون المقلّد بالإضافة إلى المقامات السبعة الاول الثابتة للمفتي ، الملحوظة في صحّة إفتائه له ، وبالإضافة إلى نفس فتواه من حيث هي فتواه مقلّدا حقيقة ، وبالإضافة إلى المقامات السبعة الاول الثابتة له ، الملحوظة في صحّة عمله ، الصادر عنه بمقتضى فتواه مجتهدا ولو حكما.

وهذه العلّة عند التأمّل والتحقيق واضح لا خفاء فيه ولا إشكال يعتريه.

وإنّما الخفاء أو الإشكال في بادئ النظر في مقامات :

منها : أنّه هل يعتبر في صحّة العمل الصادر من المجتهد ـ الذي هو مقتضى اجتهاده ، من حيث كونه عاملا له بالاجتهاد في الخارج ـ شيء أزيد من الاعتقاد الخاصّ الحاصل له من اجتهاده بالحكم المتعلّق بهذا العمل واعتباره وملاحظته حال العمل ومعه ولو حكما ، أم لا ؟

المعتمد : هو الثاني ، ولعلّه لا خلاف فيه فيما أعلم ، بل ولعلّه موضع وفاق بينهم ، كما يلوح ، بل يظهر من أقوالهم وأفعالهم وسيرتهم. وهو الحجّة ، مضافا إلى العمومات السليمة عمّا يصلح للمعارضة ، المعتضدة أو المؤيّدة بالاصول وغيرها ممّا لا يخفى على الخبير المتأمّل.

ومنها : أنّه هل يعتبر في استقرار هذا الاعتقاد صدور العمل عن المجتهد بمقتضاه من الإفتاء والقضاء والحكم والإتيان به في الخارج ؟

المعتمد : لا ، ولعلّه أيضا ممّا لا خلاف فيه ، بل ولعلّه موضع وفاق ، بينهم.

فهو الحجّة لما مرّ.

مضافا إلى حكم العقل بعنوان القطع واليقين بعدم توقّف استقرار العلم على العمل بمقتضاه وبأدائه على فرض توقّفه عليه إلى الدور المحال الباطل بالضرورة ؛ فتدبّر.

ومنها : أنّه هل يعتبر في صحّة العمل الصادر عنه بقاؤه على هذا الاعتقاد ولو حكما ، فيدور صحّته مداره ، فبانتفائه انتفت الصحّة ؟

٢٨٣

المعتمد : نعم ، ولعلّه أيضا ممّا لا خلاف فيه ، بل ولعلّه موضع وفاق بينهم.

فهو الحجّة كما مرّ ، مضافا إلى ما دلّ على توقّف العمل الصحيح على العلم وبطلانه بدونه ، مع أنّ المفروض انتفاؤه ، ولذا لو تجدّد رأيه واعتقد باجتهاده المتجدّد خلاف ما اعتقده باجتهاده السابق تعيّن عليه العمل بمقتضى اعتقاده المتجدّد ولو كان بعد صدور العمل عنه بمقتضى اعتقاده السابق.

ومنها : أنّه هل يعتبر في صحّة العمل الصادر عن المقلّد ـ الذي هو مقتضى تقليده واعتقاده ، من حيث كونه عاملا له من حيث التقليد في الخارج ـ شيء أزيد من الاعتقاد الخاصّ الحاصل له من التقليد المعتبر في حقّه بالحكم المتعلّق بهذا العمل واعتباره وملاحظته حال العمل ومعه ولو حكما؟

المعتمد : لا ، ولعلّه أيضا ممّا لا خلاف فيه بينهم ، بل ولعلّه موضع وفاق بينهم كما يلوح ، بل يظهر من كلماتهم وأقوالهم وسيرتهم.

وهو الحجّة ، مضافا إلى ما مرّت إليه الإشارة.

ومنها : هل يعتبر في استقرار هذا الاعتقاد صدور العمل عن المقلّد في الخارج بمقتضاه؟

المعتمد : لا ، بلا خلاف صريح ظاهر أجده فيه فيما أعلم.

بل ولعلّه موضع وفاق بينهم كما لا يخفى على المطّلع على كلماتهم وسيرتهم.

وهو الحجّة ، مضافا إلى ما مرّت إليه الإشارة.

ومنها : أنّه هل يعتبر في صحّة العمل الصادر عنه بقاؤه على هذا الاعتقاد ولو حكما حيثما قلنا باعتباره بالإضافة إليه في صحّته ؟

المعتمد : نعم ، بلا خلاف ظاهر فيه فيما أعلم ، بل ولعلّه موضع وفاق بينهم.

فهو الحجّة ، كما مرّت إليه الإشارة ممّا دلّ على اعتباره في صحّة العمل الصادر عن المجتهد ، فلو انتفى هذا الاعتقاد تعيّن عليه الرجوع عنه وتحصيل الاعتقاد بهذا الوصف مجدّدا ، ولا يصحّ له البقاء على الاعتقاد السابق ، ولا العمل بمقتضاه ، كما

٢٨٤

مرّت إليه الإشارة سابقا لذلك ، مضافا إلى ما مرّ سابقا.

ولا فرق في ذلك بين صدور العمل عنه بمقتضى الاعتقاد السابق وعدمه ؛ لذلك.

ومنها : أنّ ما يصير به العامّي المكلّف مقلّدا ، ويتحقّق به حقيقة التقليد المصطلح ، هل هو العمل بقول الغير ، [ وهو ] المجتهد الجامع للشرائط ، كما عن النهاية وفي المعالم وغيرهما (١) ، أو الأخذ بقوله ، كما عن المقاصد العليّة (٢) ، أو قبوله كما في منية المريد وغيرها ، وعن شرح المبادي لفخر الإسلام وجامع المقاصد والمدارك والوافية (٣) ، أو ما يشمل العزم ، إمّا إلى الفعل والعمل خاصّة ـ كما قيل ـ وإمّا إلى القبول والأخذ خاصّة ، وإمّا إليهما ، أو شيء آخر غير ما مرّ ؟

أوجه واحتمالات.

والذي يقتضيه التحقيق : أنّ التقليد هو مجرّد المتابعة للغير ، سواء كان في الاعتقاد خاصّة ، أو في القول خاصّة ، أو في الفعل خاصّة ، أو في الاثنين منها ، أو في الجميع ، فمقلّد المجتهد لا يكون مقلّدا له إلّا بعد المتابعة له ، فإن كانت المتابعة له في الاعتقاد خاصّة ، كان مقلّدا له فيه خاصّة ، وإن كانت في القول خاصّة ، كان مقلّدا له فيه خاصّة ، وإن كانت في الفعل خاصّة ، كان له مقلّدا فيه خاصّة ، وهكذا.

ومن البيّن أنّ المتابعة لا تحقّق لها في الخارج قطعا إلّا بعد تحقّق التابع والمتبوع والتبعيّة وما فيه التبعيّة في الخارج ، وكما تنتفي المتابعة الحقيقيّة بعدم تحقّق كلّ من التابع والمتبوع في الخارج ، فكذا تنتفي أيضا بعدم تحقّق كلّ من التبعيّة وما فيه التبعيّة فيه ؛ ضرورة انتفاء الكلّ والمشروط بانتفاء الجزء والشرط من حيث هما كذلك ، فلو كان المتبوع أحد المفتيين لا على التعيين في حدّ ذاته وفي اعتقاد التابع أيضا ، لما

__________________

(١) حكاه عنهما في مفاتيح الاصول ، ص ٥٨٨ ؛ وهو في نهاية الوصول إلى علم الاصول ، الورقة ٣١٦ ؛ معالم الدين ، ص ٢٣٦.

(٢) المقاصد العليّة ، ص ٤٨.

(٣) منية المريد ، ص ٣٠٣ ؛ وحكاه عن شرح المبادي لفخر الإسلام في مفاتيح الاصول ، ص ٥٨٨ ؛ جامع المقاصد ، ٢ ، ص ٦٩ ؛ مدارك الأحكام ، ج ٣ ، ص ١٣٥ ؛ الوافية ، ص ٢٩٩.

٢٨٥

تحقّقت المتابعة ؛ إذ لا تحقّق له في الخارج ، كما هو المفروض ؛ فتأمّل فيه جدّا.

ومن البيّن أيضا أنّه لا يتحقّق التبعيّة من التابع بمجرّد مطابقة اعتقاد التابع وقوله وفعله لاعتقاد المتبوع وقوله وفعله ، بل لا بدّ فيه من ملاحظة التابع حيثيّة التبعيّة ، بأن كان قاصدا لها وعازما عليها ، ولذا يصحّ سلب اسم المتابعة حقيقة عرفا ولغة وعقلا عن المطابق الغير الملحوظ معه هذه الحيثيّة ، ويصحّ سلب اسم المتابعة كذلك عن مجرّد العزم على التبعيّة والقصد لها من دون أصلها ، ولا يصحّ إطلاقها حقيقة كذلك عليه.

وكذا لا يتحقّق ما فيه التبعيّة في الخارج أيضا إلّا مع تعيّنه وتشخّصه ؛ إذ الكلّي لا وجود له إلّا في ضمن الجزئي الحقيقي والفرد ، أو بوجوده.

مضافا إلى استلزامه بدون التعيّن والتشخّص لعدم تحصّل التبعيّة في الخارج ، الملزوم لانتفاء المتابعة رأسا ، واستلزامه للعزم عليها والقصد لها لو سلّم غير مقيّد ولا مثمر في صدق المتابعة الحقيقيّة حسبما عرفت.

ومن هنا ظهر أيضا أنّ التقليد الاعتقادي خاصّة بدون اعتقاد المقلّد مطابقا لاعتقاد المفتي لا يكون تقليدا ما دام كذلك ، وكذا التقليد القولي خاصّة بدون قول المقلّد مطابقا لقول المفتي أو اعتقاده لا يكون تقليدا ما دام كذلك ، وكذا التقليد الفعلي بدون فعل المقلّد مطابقا لفعل المفتي أو قوله أو اعتقاده لا يكون تقليدا له ، وهكذا.

كما ظهر أيضا أنّ المقلّد إذا بنى في الأحكام الكلّيّة المأخوذة من المفتي على ما أفتى بعمومه وعمل ببعض جزئيّاته ، لا يكون مقلّدا له في العمل خاصّة أو مطلقا ، بالإضافة إلى سائر الجزئيّات التي لم يعمل بها ، بل هو مقلّد له بالإضافة إلى ما عمل خاصّة ، دون غيره وإن كان عازما على المتابعة فيه قاصدا لها أيضا.

وهذا لعلّه من الوضوح بحيث لا حاجة له إلى البيان.

إذا عرفت هاتين المقدّمتين فاعلم : أنّ مجرّد الالتزام المذكور ليس من التقليد بشيء كما عرفت في مطاوي ما ذكر من المقدّمتين ، فلا معنى لأصل البقاء عليه ، فضلا عن وجوبه ؛ لعدم الدليل ، بل الدليل على عدمه قائم ، من الأصل أو الاصول والعمومات وغيرها.

٢٨٦

مضافا إلى الإجماع وغيره ممّا مرّ في محلّه على جواز الرجوع قبل العمل.

مضافا إلى الأدلّة الدالّة على صحّة التقليد ومشروعيّته ووجوبه على من كان التقليد وظيفته ولم يقلّد ، وعلى صحّة الرجوع إلى من شاء من المفتين مع التساوي في العلم والعدالة أو مطلقا على القول بعدم وجوب تقليد الأعلم والأورع.

وهذا لعمري واضح لا شبهة فيه ولا مرية تعتريه.

المسألة الثالثة عشر : لو ثبت شرعا عند المقلّد كون المفتي جامعا لجميع شرائط الفتوى والعمل بقوله ، صحّ له تقليده والعمل بفتواه ما لم يثبت شرعا عنده اختلال شيء من الشرائط المعتبرة في صحّة العمل بقوله وفتواه ، بلا خلاف ظاهر أجده فيه ، بل ولعلّه موضع وفاق بينهم ، كما يلوح من كلماتهم ويظهر من سيرتهم.

فهو الحجّة ، مضافا إلى الاستصحاب والعمومات الدالّة على عدم جواز نقض اليقين إلّا باليقين ، المعتضدة أو المؤيّدة بالعمومات النافية للعسر والحرج والضرر في الشريعة ، والدالّة على صحّة العمل بقول العلماء العارفين بالأحكام الشرعيّة ؛ فتأمّل.

المسألة الرابعة عشر : لو جنّ من قلّده المقلّد وعمل بفتواه ، واطّلع عليه المقلّد ، فهل يصحّ له البقاء حال جنونه أيضا ، فلا يجب عليه العدول مطلقا ، أو لا ، فيجب كذلك ، أم التفصيل : إمّا بين ما إذا كان زمان الجنون قليلا ؛ فالأوّل ، وكثيرا ؛ فالثاني. وإمّا بين ما إذا أمكن تقليد المفتي الجامع للشرائط ؛ فالثاني ، وغيره ؛ فالأوّل ؟

أوجه واحتمالات ، صار إلى ثانيها المحقّق الشيخ عليّ في حاشية الشرائع (١) .

ولعلّه الأحوط في الجملة ، أو مطلقا ، وإن كان تعيينه محلّ التأمّل ؛ نظرا إلى الاستصحاب والعمومات الدالّة على عدم جواز نقض اليقين إلّا باليقين ، المقتضية لصحّة البقاء على ما بنى عليه قبل الجنون ؛ ولعدم صلاحية الجنون للرفع والإبطال ، المؤيّدة أو المعتضدة بالعمومات أو الإطلاقات الدالّة على حجّيّة قول المفتي وفتواه ،

__________________

(١) حاشية الشرائع ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ، ج ١١ ، ص ١١٤.

٢٨٧

وبعدم بطلان ما صدر من العاقل حال العقل من الأفعال والأعمال والعقود والإيقاعات الصحيحة والشهادة والإقرار والحكم والقضاء بعروض الجنون.

مع أنّه لا دليل هنا على البطلان ووجوب الرجوع عدا ما يتوهّم من إطلاق اشتراط العقل في كلماتهم ، والأصل والاستصحاب والعمومات ، المقتضية لعدم صحّة التقليد والدالّة على عدم حجّيّة غير العلم ؛ وشيء منها لا يصلح للدلالة.

أمّا الأوّل : فلانصرافه إلى التقليد الابتدائي خاصّة ، كما لا يخفى على من لاحظ بعض تعليلاتهم.

وأمّا الثاني : فلأنّه لا يعارض الدليل ، بل مندفع به ، كما تقرّر في محلّه.

وأمّا الثالث : فإمّا لاندفاعه بما مرّ ، وإمّا لمعارضته بما هو أرجح منه من وجوه عديدة ممّا مرّ.

وأمّا الرابع : فلاختصاصه أو تخصيصه بالتقليد الغير المعتبر شرعا ، وما نحن فيه تقليد معتبر شرعا بحكم ما مرّ.

وأمّا الخامس : فلاختصاصه أو تخصيصه بغير العلم الغير المعتبر شرعا ، وما نحن فيه وإن كان غير العلم بذاته ، إلّا أنّه معتبر بالفرض ، مع أنّه ليس من العمل بغير العلم أيضا ، بل هو أيضا عمل بالعلم ولو حكما وبواسطة.

اللهمّ إلّا أن يناقش في جميع ذلك : أمّا الاستصحاب ؛ فلعدم صحّة جريانه هنا ، أمّا على تقدير كون المفتي المجنون بالفرض حال الصحّة قائلا بعدم صحّة البقاء على التقليد بعروض الجنون ، فواضح ؛ إذ مقتضى قوله هذا اختصاص صحّة العمل بقوله إلى وقت الجنون خاصّة ، وبطلانه به وبعده ، فلا معنى للاستصحاب حينئذ لنا ، مضافا إلى ما سيأتي.

وأمّا على تقدير كونه قائلا بصحّته ، وكذا على تقدير عدم كونه قائلا بشيء منهما ؛ لعدم اجتهاده في هذه المسألة وعدم ثبوته ؛ فلأنّ القدر المتيقّن الحاصل من صغرى وكبرى قياسه المصحّح لعمل المقلّد بقوله ـ ككبرى وصغرى قياس المقلّد المصحّح

٢٨٨

له العمل بقوله ـ إنّما هو ما قبل الجنون خاصّة ، فما بعده مندرجا تحت الأصل الأصيل والاستصحاب والعمومات المانعة عن التقليد والعمل بغير العلم ، خصوصا مع ملاحظة ما دلّ على عدم العبرة بقول المجنون ، خصوصا فيما إذا قلّد المقلّد المفروض لمن أفتى بالمنع والبطلان.

مضافا إلى ما يترتّب على الفتوى بالجواز وصحّة البقاء في مثل هذا المقام من المفاسد الآتي إليها الإشارة في بعض المسائل الآتية. وكيفما كان فالتوصّل إلى الاستصحاب هنا في غاية الإشكال.

ومنه يظهر أيضا ـ ولو في الجملة ـ ما في العمومات المشار إليها وغيرها ، وسيأتي بيانه عن قريب.

وبالجملة ، لو تمّ الاستصحاب والعمومات حجّة على صحّة البقاء ، كان القول بها متّجها ، وإلّا ـ كما لا يخلو من وجه بعد ما ستقف عليه ـ فالمصير إلى ما قاله المحقّق الشيخ عليّ ـ طاب ثراه ـ متيقّن جدّا ؛ فتفطّن.

المسألة الخامسة عشر : لو خرج من عمل بفتواه عن الإسلام ـ والعياذ بالله ـ أو عن الإيمان ، أو عن العدالة بعد العمل بها ، واطّلع عليه أيضا ، فهل يصحّ له البقاء فيما عمل بفتواه على ما كان عليه ، فلا يجب عليه الرجوع ، أم لا ، فيجب ، أم التفصيل بمثل ما مرّ ؟

أوجه واحتمالات ، صار إلى ثانيها المحقّق الشيخ عليّ ـ طاب ثراه ـ في حاشية الشرائع (١) .

وهو الأحوط ، بل ولعلّه المتعيّن ، لما سيأتي بيانه مفصّلا من الأصل أو الاصول والعمومات.

مضافا إلى ما مرّت إليه الإشارة ، من العمومات الدالّة على عدم صحّة الاعتماد على قول غير المؤمن العادل.

__________________

(١) حاشية الشرائع ( حياة المحقّق الكركى وآثاره ) ، ج ١١ ، ص ١١٤.

٢٨٩

وبذا ـ مضافا إلى ما سيأتي ـ يندفع الاستصحاب والعمومات المقتضية لصحّة البقاء على تقليده على تقدير اقتضائهما لها ؛ فافهم.

المسألة السادسة عشر : لو انحطّ المفتي عن درجة الاجتهاد والفقاهة ، فهل يصحّ لمن قلّده وعمل بفتواه قبل الانحطاط البقاء على تقليده له فيما قلّده وعمل به مطلقا ، فلا يجب عليه العدول ، أم لا ، فيجب كذلك ، أم التفصيل بمثل ما مرّ ؟

أوجه واحتمالات ، صار إلى ثانيها المحقّق الشيخ عليّ في حاشية الشرائع (١) .

وهو الأحوط ، بل المتعيّن ؛ لما سيأتي بيانه مفصّلا من الأصل أو الاصول والعمومات.

مضافا إلى ما مرّت إليه الإشارة من العمومات الدالّة على عدم صحّة الاعتماد على قول غير العالم والفقيه ، وعلى عدم صحّة الفتوى من غير العالم.

وبذا يندفع الاستصحاب والعمومات المقتضية لصحّة البقاء على تقليده على تقدير اقتضائهما لها ؛ فتذكّر.

المسألة السابعة عشر : لو مات المفتي ، فهل يصحّ لمن قلّده حال الحياة وعمل بفتواه حينئذ البقاء فيما قلّده على تقليده والعمل بفتواه ، فلا يجب عليه بموته العدول فيه مطلقا ، أم لا ، فيجب كذلك ، أم التفصيل بما إذا تمكّن من الآخر الحيّ الجامع للشرائط ؛ فالثاني ، وغيره ؛ فالأوّل ؟

أوجه واحتمالات.

صار إلى أوّلها جماعة ، منهم الشيخان الجليلان المعاصران ـ طاب ثراهما (٢) ـ وبعض الأعاظم من المشايخ ـ طاب ثراه ـ في جملة من تحقيقاته ، والسيّد السند العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه العالي ـ في المفاتيح وغيره (٣) ، وعزّاه البعض تارة إلى الفاضل المحقّق

__________________

(١) حاشية الشرائع ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ، ج ١١ ، ص ١١٤.

(٢) انظر ما حكاه في مطارح الأنظار ، ص ٢٩٣ ، عن صاحب الفصول وشارح الوافية.

(٣) مفاتيح الاصول ، ص ٦٢٤.

٢٩٠

الشيخ سليمان البحراني وبعض المتأخّرين (١) ، واخرى إلى بعض المتأخّرين (٢) ، ومستقرب الآخر ، واسند إلى بعض فضلاء العصر (٣) .

وهو مختار كلّ من قال بجواز تقليد الميّت مطلقا.

وذهب إلى ثانيها المحقّق الشيخ عليّ في حاشية الشرائع ، وجماعة من فضلاء العصر (٤) ، وعزّاه السيّد السند العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه العالي ـ في المفاتيح إلى والده العلّامة (٥).

ولعلّه اللائح أو الظاهر من جميع من أطلق القول بالمنع وعدم الاعتبار بقول الميّت ، والتعليل بأنّ الميّت إذا مات سقط اعتبار قوله وصار قوله مثله ، وبعد انعقاد الإجماع مع خلافه حال حياته ، وانعقاده على خلافه بعد موته.

ويرشد إليه أيضا ما قاله جماعة ـ منهم المحقّق الثاني والشهيد الثاني (٦) والفاضل العماد الأمير محمّد باقر الداماد في كتابه شارع النجاة ، والمحقّق البهبهاني على ما حكي (٧) ـ من أنّ المجتهد إذا مات انعدم ظنّه ، وما سننقله من صاحب المعالم.

ونقل بعض الأصحاب القول الأوّل في جملة ما قاله العامّة من الأقوال في أصل مسألة اشتراط الحياة في المجتهد والمفتي ، وذكره مقابلا لسائرها.

وهذا القول لعلّه المعتمد لوجوه :

الأوّل : الأصل ، وتقريره : أنّ الحكم بصحّة البقاء على تقليد الميّت المفروض وحجّيّة قوله بعده حكم شرعيّ ، فيتوقّف على دليل شرعيّ ، وهو مفقود بحكم ما ستقف عليه ، فلا بدّ من الحكم بعدمهما ، كما هو مقتضى الأصل والقاعدة.

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار ، ص ٢٩٣.

(٢) المصدر.

(٣) أسند إليه في مفاتيح الاصول ، ص ٦٢٤.

(٤) حاشية الشرائع ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ، ج ١١ ، ص ١١٣.

(٥) مفاتيح الاصول ، ص ٦٢٤.

(٦) قال به المحقّق الكركي في حاشية الشرائع ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ج ١١ ، ص ١١٤ ؛ والشهيد الثاني في رسالته في الاجتهاد والتقليد ( رسائل الشهيد الثاني ) ج ١ ، ص ٤٣.

(٧) حكاه عنه وعن ميرداماد في مفاتيح الاصول ، ص ٦١٨ وص ٦٢١.

٢٩١

الثاني : الاستصحاب ؛ إذ لا شكّ ولا شبهة في أنّ كلّا من الحجّيّة والصحّة من الأحكام الشرعيّة ، ولا شكّ في كونهما حادثتين ومسبوقتين بالعدم الأزلي ، فلا بدّ من الحكم ببقائهما على الحالة السابقة اليقينيّة في هذه الحالة أيضا ؛ عملا بالاستصحاب ؛ لعدم ثبوت الواقع اليقيني ولا القائم مقامه.

ولك أن تقرّر الاستصحاب بطريق آخر ، هو أنّه لا شكّ في عدم الصحّة وعدم الحجّيّة بالإضافة إلى المقلّد بعد الموت وقبل التقليد ، والرجوع إلى المفتي الحيّ القائل بالصحّة ، فكذا بعده ؛ عملا بالاستصحاب ؛ فتأمّل.

الثالث : العمومات الدالّة على عدم جواز نقض اليقين إلّا باليقين على تقدير مغايرتها للاستصحاب بالتقريب المشار إليه ، خرج عنها المفتي الحيّ الجامع للشرائط ، بالإجماع وغيره من الأدلّة ، بقي الباقي ـ ومنه محلّ البحث ـ تحتها ؛ فتأمّل.

الرابع : العمومات الدالّة على عدم العبرة بالتقليد وغير العلم ، المؤيّدة أو المعتضدة بما مرّت إليه الإشارة من إطلاق الإجماعات المنقولة السالفة ، وإطلاق فتاوى المعظم وغيره.

مضافاً إلى ما أفاده في المعالم بقوله :

على أنّ القول بالجواز قليل الجدوى على اصولنا ؛ لأنّ المسألة اجتهاديّة ، وفرض العامي فيها الرجوع إلى فتوى المجتهد ، وحينئذ فالقائل بالجواز إن كان ميّتا ، فالرجوع إلى فتواه دور ظاهر ، وإن كان حيّا ، فاتّباعه فيها والعمل بفتوى الموتى في غيرها بعيد عن الاعتبار غالبا ، مخالف لما يظهر من اتّفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت مع وجود الحيّ. بل قد حكى الإجماع فيه صريحا بعض الأصحاب (١) . انتهى.

فإنّه كما ترى ظاهر الشمول لما نحن فيه أيضا ؛ فتأمّل.

الخامس : عموم قوله سبحانه : ﴿ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ (٢) بالتقريب المشار إليه سابقا ، خصوصا مع اعتضاده بالأخبار الكثيرة المتواترة ولو معنى الآمرة بأخذ

__________________

(١) معالم الدين ، ص ٢٤٢.

(٢) فاطر (٣٥) : ٢٢.

٢٩٢

ما وافق الكتاب وطرح ما خالفه ؛ فتنبّه.

السادس : عموم قوله سبحانه : ﴿ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى (١) بالتقريب المشار إليه سابقا ؛ فتفطّن.

السابع : أنّه لو صحّ القول بالجواز والصحّة الذي أفتى به المفتي الحيّ الجامع للشرائط ، للزم إمّا التناقض ، وإمّا أن لا تصحّ فتوى هذا المفتي الحيّ ولا اجتهاده ، إمّا مطلقا ، وإمّا بالإضافة إلى المسائل المخالف هو فيها للميّت الذي حكم بصحّة فتواه والعمل بها لغيره من المقلّدين ، واللازم باطل ؛ فكذا الملزوم.

أمّا بطلان اللازم : فظاهر ؛ لاستحالة التناقض ، للأدلّة الدالّة على صحّة اجتهاده وفتواه ، بالإضافة إلى غير هذه المسألة المفروضة ، مضافا إلى كون المفروض صحّتهما.

وأمّا الملازمة : فلأنّ مقتضى اجتهاده ـ المتوقّف عليه فتواه بالإضافة إلى سائر المسائل المخالف هو فيها للميّت المفروض ـ أنّ الحكم الشرعي المتعلّق بها إنّما هو ما أدّى إليه اجتهاده خاصّة ، دون غيره ، وأنّه الصحيح المعمول به والمعوّل عليه في حقّه وحقّ مقلّده في مقام العمل والإفتاء وغيرهما ، دون غيره ، ومقتضى تجويزه العمل بقول هذا الميّت وفتواه لهذا المقلّد والمستفتي والحكم بصحّتهما.

بالإضافة إليه : أنّ الحكم الشرعي المتعلّق بها إنّما هو ما أدّى إليه اجتهاد هذا الميّت وأفتى به ، دون غيره ، وأنّه الصحيح المعمول به والمعوّل عليه في حقّ هذا المقلّد والمستفتي في مقام العمل بالإضافة إليه ، وفي مقام الإفتاء بالإضافة إلى هذا المفتي نفسه ، وهل هذا إلّا تناقض واضح ، وهو المدّعى من الملازمة ولو في الجملة.

ومن البيّن أنّ الأمر حينئذ دائر بين الأخذ بالأمرين معا ، وبين طرحهما معا ، وبين الأخذ بالأوّل وطرح الثاني ، وبين العكس.

__________________

(١) يونس (١٠) : ٣٥.

٢٩٣

وبعد فرض عدم الأخذ بالشقّ الثالث ـ كما هو المدّعى ـ تعيّن الأخذ بواحد من الباقي الشقوق ، ويلزمه ما ذكرنا من الملازمة بعينها.

فإنّه إن اخذ بهما معا ، لزمه الحكم ببطلان أحد المقتضيين والحكمين المتناقضين ، وإلّا لزم اجتماع النقيضين في الفرض ، وهو باطل محال.

ويلزمه حينئذ بطلان ما دلّ على صحّة اجتهاده وفتواه أيضا مطلقا ؛ لاستلزامه المحال ، ومستلزم المحال محال باطل جدّا.

وإن طرحهما معا ، لزم ارتفاع النقيضين في الفرض ، وهو أيضا محال باطل ، ويلزمه أيضا بطلان ما دلّ على صحّة اجتهاده وفتواه أيضا كذلك ؛ لذلك.

وإن اخذ بالثاني ، أي تجويزه البقاء على تقليد الميّت وفتواه كذلك ، لزم أن لا يصحّ فتوى هذا المفتي الحيّ ، ولا اجتهاده بالإضافة إلى المسائل المخالف هو فيها للميّت المفروض.

ويلزم من ذلك ـ سيّما بعد ما ذكر من بطلان اللازم ـ تعيّن طرح الثاني والأخذ بالأوّل ، أي تجويز المفتي الحيّ العمل بما أدّى إليه اجتهاده بالإضافة إلى المسائل المخالف هو فيها للميّت المفروض وفتواه كذلك خاصّة ، دون غيره ، وهو المدّعى.

لا يقال : هذا إنّما يتمّ إذا كان فتوى المفتي الحيّ بصحّة البقاء على العمل بفتوى هذا الميّت بعنوان اليقين والانحصار ، بحيث لا يصحّ للمقلّد والمستفتي المفروض العمل بغيرها ، وأمّا إذا كان بعنوان التخيير وعدم الانحصار ، فيكون المقلّد والمستفتي مخيّرا بين الأخذ بفتوى الميّت المفروض ، وبين الأخذ والعمل بما أدّى إليه اجتهاد الحيّ المفروض بالإضافة إلى غير هذه الفتوى وسائر الوقائع والأحكام المخالف له فيها ، فلا ينحصر المعمول به والمعوّل عليه كذلك في الأوّل ، حيث يكون حينئذ من باب أحد فردي الواجب التخييري ، ومعه لا يلزم ما ذكر من الملازمة.

لأنّا نقول : هذا ـ كما ترى ـ فاسد ؛ إذ لا ينفكّ ما فرضنا عمّا ذكرنا ؛ نظرا إلى عدم انفكاك هذا التخيير ـ على فرض صحّة القول بالبقاء ـ عن التعيين عند التأمّل

٢٩٤

والتحقيق ولو في الجملة ، ويلزمه ما ذكرنا من الملازمة جدّا ؛ فافهم هذا ، فإنّه دقيق وبالتصديق حقيق.

الثامن : أنّ القول بصحّة البقاء لو صحّ لزم الفتوى من المفتي الحيّ المفروض بالإضافة إلى المسائل المخالف هو فيها : إمّا بما لا يعلم من الحكم الشرعي ، وإمّا بما علم عدم كونه حكما شرعيّا ، واللازم باطل ، فكذا الملزوم.

أمّا بطلان اللازم فواضح بعد ما مرّت إليه [ ... ](١) ظاهرا ، من المنع وعدم الصحّة فيما إذا كان الميّت المفروض قائلا بهما حال الحياة ، أو كان المقلّد المفروض مقلّدا في المسألة لمن أفتى بهما ، والصحّة والجواز فيما إذا كان قائلا بهما ، أو لم يكن قائلا بعدمهما ، أو كان المقلّد المفروض مقلّدا فيها لمن أفتى بهما أو غير مقلّد أصلا ؛ فتدبّر.

وإمّا لاتّفاق الفريقين ظاهرا على بطلان البقاء على تقليد الميّت المفروض من حيث هو ، وبدون التقليد لمن أفتى من المفتين الجامعين للشرائط بصحّة البقاء وعدم صلاحيته بذاته للحجّيّة والاعتبار قبله ، فكيف ينقلب الباطل بذاته وغير المعتبر في حدّ نفسه ـ كما هو المفروض ـ بالصحيح والمعتبر ، كما هو المدّعى ؟ !

مضافا إلى عدم الدليل المعتبر الدالّ على صحّة البقاء وجوازه أيضا عدا ما توهّمه الخصم من الوجوه الآتية ، مع ما فيهما من القصور والضعف عن الدلالة على ذلك ؛ فتبصّر.

ومن هنا ظهر الحال أيضا فيما لو لم يثبت من الميّت المفروض قول في المسألة أصلا ؛ فتذكّر.

حجّة القول الأوّل وجوه :

منها : الاستصحاب ؛ إذ لا شكّ أنّ الحكم الشرعيّ ـ من الوجوب والندب وغيرهما ـ قد تعلّق بالمكلّف بتقليده حال الحياة ، ولم يعلم كون الموت رافعا له ، فالأصل بقاؤه.

__________________

(١) في المخطوطة هنا سقط بقدر سطور.

٢٩٥

وبتقرير آخر : أنّ تقليد المقلّد قد صحّ في حال الحياة ـ كما هو المفروض ـ فالأصل بقاؤه بعد الوفاة أيضا.

وبتقرير آخر : إنّ المقلّد بعد التقليد والعمل بفتوى المفتي حال الحياة لا يجوز ولا يصحّ له العدول عنه فيما قلّده إلى غيره من دون سبب شرعيّ مجوّز للعدول ، ولم يعلم كون الموت سببا شرعيّا مجوّزا للعدول ، فيستصحب البقاء وعدم جواز العدول.

وبتقرير آخر : إنّ قول المفتي وفتواه حجّة شرعا حال الحياة ، ولم يعلم كون الموت مانعا عن الحجّيّة ، فتستصحب.

وفيه ما لا يخفى ، أمّا أوّلا : فلعدم جريان الاستصحاب بجميع هذه التقريرات هنا :

أمّا على تقدير عدم إمكان الوصول إلى المفتي الحيّ الجامع للشرائط ، فواضح ؛ إذ حجّيّة الاستصحاب إنّما هي بالإضافة إلى المفتي خاصّة ، والفرض عدم إمكان الوصول إليه ، فأين الاستصحاب النافع للمقلّد المفروض ؟

وكذا على تقدير عدم إمكان الوصول إلّا إلى المفتي الميّت ؛ إمّا لذلك ، وإمّا لعدم إمكان المصير إليه في ذلك ؛ للزوم الدور أو التسلسل أو غيرهما ممّا لا يخفى ، سيّما بعد ما مضى وسيأتي.

أمّا على تقدير إمكان الوصول إلى المفتي الحيّ الجامع للشرائط القائل بالمنع وعدم الصحّة ، فواضح أيضا كما لا يخفى.

وأمّا على تقدير إمكان الوصول إلى المفتي الحيّ الجامع للشرائط القائل بالجواز ، فكذلك ظاهر لا يخفى.

أمّا على تقدير كون المفتي الميّت المفروض قائلا بعدم جواز البقاء على تقليد الميّت فيما قلّده المقلّد ، وبعدم صحّته بعد موته ، فلوضوح اختصاص جميع ما افتي به وصحّته وحجّيّته في حقّه وحقّ مقلّديه بحال حياته خاصّة ، وعدم صحّته وعدم حجّيّته بعد وفاته أصلا ورأسا كما هو مقتضى فتواه ، ومعه لا معنى لجريان الاستصحاب هنا ؛ إمّا لتغيّر موضوع الحكم بالصحّة والحجّيّة من حيث هو موضوع ،

٢٩٦

وإمّا لانقضاء أمد الحكم بالصحّة والحجّيّة ، مع ثبوت كونه موقّتا بوقت حياة المفتي الجامع للشرائط ، ومنتهيا بانتهائها.

وأمّا على تقدير كون الميّت المفروض قائلا بالجواز وصحّة البقاء ، مع تقليد المقلّد المفروض لغيره الجامع للشرائط في هذه المسألة المفروضة من أفتى بالمنع وعدم الصحّة ، فكذلك ؛ لمثل ذلك بعينه.

وأمّا على تقدير كونه قائلا بالجواز وصحّة البقاء ، مع كون المقلّد أيضا مقلّدا له في ذلك ، أو لغيره ، مع موته أيضا ، أو غير مقلّد أصلا ؛ فلأنّه لا شكّ في اختصاص الحكم بالصحّة والحجّيّة بحال الحياة ، ويلزمه إمّا عدم الحكم بهما بعد الموت ، أو الحكم بعدمهما ، ومعه لا معنى لجريان الاستصحاب ، إمّا لتغيّر الموضوع ، وإمّا لانقضاء أمد الحكم ولو بالإضافة إلى هذه المسألة المفروضة ، ويلزمه ذلك بالإضافة إلى غيرها من المسائل أيضا كما لا يخفى على المتأمّل ، خصوصا في صغرى وكبرى قياس هذا المفتي ، والدليل الدالّ على كلّيّة كبراه وصحّتها ؛ إذ القدر المتيقّن المخرج عن تحت الاصول والعمومات وغيرها الدالّة على عدم الجواز وعدم الحجّيّة إنّما هو حجّيّة كلّ ما أدّى إليه اجتهاده وأفتى به ما دام كونه حيّا وكونه حكم الله في حقّه وحقّ من تبعه كذلك ، لا مطلقا ، وإلّا لما احتاج إلى ضميمة تقليد المفتي الحيّ القائل بالجواز وصحّة البقاء ؛ فتفطّن.

ومن هنا يظهر لك أيضا عدم جريان الاستصحاب هنا على تقدير كون المفتي الميّت المفروض مجهول المذهب والمختار والفتوى في المسألة المفروضة ، بحيث لا يثبت منه شيء أصلا ، لا الجواز والصحّة ، ولا عدمهما.

كما يظهر لك عدم جريانه هنا أيضا على تقدير عدم كون المقلّد المفروض مقلّدا في هذه المسألة المفروضة أصلا ، إمّا لمثل ما مرّ ، وإمّا بطريق أولى ، هذا.

مضافا إلى ما يرد أيضا على التقرير الأوّل للاستصحاب ، من المنع المتوجّه على التعلّق المدّعى ، وعلى عدم معلوميّة كون الموت رافعا له ، خصوصا بعد ملاحظة ما مرّ

٢٩٧

ويأتي إليه الإشارة ، من اتّفاقهم الظاهر على بطلان التعلّق بالموت ورافعيّته له ، مع قطع النظر عن التقليد في مسألة البقاء لمن أفتى به ؛ فتدبّر.

وعلى التقرير الثالث ، من المنع المتوجّه على عدم صحّة العدول وعدم جوازه حال الحياة كذلك أيضا ، لما قد عرفت سابقا من الجواز والصحّة بحكم الأدلّة المشار إليها ؛ فافهم.

وأمّا ثانيا : فلأنّ هذا الاستصحاب على تقدير صحّة جريانه هنا معارض بالمثل من الاستصحاب المقتضي لعدم حجّيّة غير العلم والتقليد بعنوان الخصوص ، أو العموم ، أو الإطلاق الشامل لما نحن فيه ، فلا بدّ في الترجيح من الرجوع إلى المرجّحات ، وهي مع هذا الاستصحاب جدّا ؛ لاعتضاده وتأييده بما مرّت إليه الإشارة.

ومع الغمض عنها ، فلا بدّ من التوقّف والمصير إلى الأصل ، ومقتضاه ما اخترناه كما لا يخفى ؛ فتدبّر.

وأمّا ثالثا : فلاندفاعه بما مرّت إليه الإشارة من العمومات الكثيرة وغيرها ، من الوجوه القويّة المعتضدة بالأصل وغيره ؛ إذ المقرّر في محلّه أنّ الاستصحاب لا يعارض ما عدا الأصل التعبّدي الابتدائي من سائر الأدلّة المعتبرة الظنّيّة العامّة والخاصّة كالقطعيّة ؛ فتأمّل.

وأمّا رابعا : فلانقطاع الصحّة بالموت ، كاندفاع الاستصحاب به ؛ نظرا إلى ظهور الاتّفاق على عدم صحّة البقاء بعد الموت في حدّ ذاته ، ومع قطع النظر عن التقليد في مسألة البقاء لمن أفتى به ؛ فتأمّل.

وأمّا خامسا : فلأنّه مع الغمض عمّا مرّ معارض بما هو أقوى وأرجح منه من وجوه عديدة ، من الوجوه السالفة الدالّة على الخلاف بالعموم والخصوص مطلقا ، أو في الجملة.

مضافا إلى أنّه ـ على تقدير سلامته عمّا مرّ ـ إنّما يتمّ فيما إذا انحصر التقليد والعمل بفتوى المفتي في الكلّيّات وبوصف الكلّيّة ، وأمّا لو صحّ التقليد والعمل

٢٩٨

بفتواه في الجزئيّات والوقائع الشخصيّة بعنوان الشخصيّة وقلّد المفروض للمفتي المفتى هكذا ، فلا يتّجه ولا يجري هذا الاستصحاب كما لا يخفى ، فيكون الدليل على فرض تماميّته أخصّ من المدّعى ؛ فلا بدّ من التفصيل في المسألة بما لا يقول به ظاهرا أحد الفريقين.

اللهمّ إلّا أن يتمّ بعدم القول بالفصل فيها المدّعى في كلام السيّد الاستاد ـ دام مجده ـ في المفاتيح (١) .

ولكنّه ـ كما ترى بعد ـ لا يخلو عن شيء ؛ فتأمّل.

ومنها : العمومات الدالّة على عدم جواز نقض اليقين إلّا باليقين ، بالتقريب المشار إليه في الوجه السابق ؛ بناء على مغايرتها له.

وفيه أيضا ما لا يخفى ، سيّما بعد ما مضى آنفا وسابقا

ومنها : ما تمسّك به السيّد السند العلّامة الاستاد ـ دام ظلّه العالي ـ في المفاتيح (٢) ، من أنّه لو وجب العدول لاشتهر ، بل وتواتر ، والتالي باطل ، فكذا المقدّم.

أمّا الملازمة : فلكونه من الامور العامّة البلوى وتوفّر الدواعي على نقلها ، ويلزمه بحسب العادة الاشتهار والتواتر.

وأمّا بطلان التالي : فلعدم اشتهاره وعدم تواتره ، كيف ؟ ونحن إلى الآن لم نسمع أنّ المقلّدين عدلوا دفعا أو تدريجا عن تقليد مجتهديهم بعد موتهم ، ولم نسمع أيضا أنّ الأئمّة عليهم‌السلام بعد فوت مقلّدي أصحابهم أمروا بالرجوع إلى غيرهم من أهل الفتوى من الأحياء.

وفيه أيضا ما لا يخفى :

أمّا أوّلا : فلمنع الملازمة ؛ لعدم كونه من الامور العامّة البلوى مطلقا ، حتّى في زمن المعصومين عليهم‌السلام : إمّا لعدم انفتاح باب الحيرة ، وانفتاح باب العلم بالإضافة إلى أصحاب

__________________

(١) مفاتيح الاصول ، ص ٦٢٤ ، وص ٦٢٥.

(٢) المصدر.

٢٩٩

الأئمّة عليهم‌السلام ، ولكون رجوع مقلّدي أصحابهم إليهم إنّما هو لأجل حصول العلم لهم عادة ، من قولهم بأنّ ما قالوه هو قول المعصوم عليه‌السلام.

وإمّا لأنّ حال أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام بالإضافة إلى تابعيهم ومقلّديهم في صحّة رجوعهم إليهم والعمل بقولهم كحال المجتهدين والفقهاء في زمن الغيبة بالإضافة إلى الرواة والأخبار المرويّة عنهم ، فكما لا يموت ولا يسقط الأخبار المعتبرة عندهم عن درجة الاعتبار بموتهم أصلا ، فيمكن أن يكون قول أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام بالإضافة إلى تابعيهم كذلك ، بل ولعلّ هذا هو الظاهر كما لا يخفى على المطّلع على الأخبار وسيرة أصحابهم وتابعيهم ، فلا يلزم أن يموت أقوالهم بموتهم بالإضافة إليهم ، ولا تسقط به عن درجة الاعتبار كما لا يخفى على أولي الأبصار.

ومن البيّن أنّ بعد ما احتملنا لا يلزم الاشتهار ولا التواتر المدّعى كما لا يخفى.

ولئن تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا كونه منها مماشاة ، فنمنع لزوم الاشتهار والتواتر من جهة اخرى ، هي أنّ العادة بذاتها وإن اقتضت الاشتهار والتواتر بالإضافة إلى الامور العامّة البلوى ، إلّا أنّها مشروطة بفقد المانع عن الاشتهار والتواتر وبفقد الرافع لهما ، وكلاهما في الفرض محتمل الحصول والتحقّق احتمالا مساويا ، بل راجحا ؛ نظرا إلى ما هو المشهور بين العامّة من جواز تقليد الميّت مطلقا ، أو في الجملة ، فيترجّح احتمال التقيّة والخوف المانعين عن الصدور والاشتهار والتواتر ، أو الرافعين لما صدر ، ولاشتهاره وتواتره.

مضافا إلى عدم انحصار المانع والرافع في احتمال الخوف والتقيّة والضرورة ؛ فتنبّه.

هذا بالإضافة إلى زمان المعصومين عليه‌السلام ، وأمّا بالإضافة إلى زمان المتشرّعة والفقهاء والمجتهدين في زمن الغيبة ، فكونه منها وإن كان مسلّما ، إلّا أنّه مع الغمض عمّا اشتهر بينهم ـ من عدم جواز تقليد الميّت وقولهم بأنّ قوله كالميّت ـ يمكن أن يكون عدم الاشتهار والتواتر لأجل ذهولهم عن هذه المسألة وعدم التفاتهم إليها ، كما هي

٣٠٠